الثلاثاء ٧ تموز (يوليو) ٢٠١٥
بقلم فاروق مواسي

الشعراء والنرجسية

الأدب في اختزال التعاريف ذاتي أنوي شخصاني، يمثل الموقف والحياة.
وإذا لم يكن كذلك كان هشًا تذروه الرياح.... وكأنه لم يكتب بالأمس . والشعر أولاً وقبلاً هو التكثيف للمشاعر الذاتية والمنطلق الشخصي، ولذا اتُّهم أصحابه بالنرجسية، وكأن النرجسية – في هذا التفسير – سبـّة ومعرّة.

بيد أن استعمال مصطلح ( النرجسية ) لا يشي بالتقليل من شأن من نتهمهم بها، فهذا مذيع معروف قد استعمل المصطلح في برنامجه الثقافي في التلفزيون فقال: “ الشاعر نرجسي بطبعه... “

وهذا نزار قباني يكتب أسود على أبيض:

“ .... أيامي مع حورية الشعر لم تكن كلها أيام شهر عسل. كانت أحوالنا تشبه أحوال البحر مدًا وجزرًا وصحوًا ومطرًا وطقسًا جميلاً وعواصف مجنونة ... وكنت مشغولاً بأوراقي وكتاباتي ونرجسيتي“ (الناقد – عدد آذار 1990، ص5).

فالمذيع الذي أكد نرجسية الشعراء ونزار قباني لا يحمّلان التعبير أية دلالات سلبية.

ويبقى السؤال: إذن، لماذا هذه الظلال السلبية في دلالة ( النرجسية )؟

أسأل ذلك بعد أن طلب مني أحد المستمعين في برنامج (معلم في الأستوديو) أن أوضح له معنى المصطلح، والله يعلم إن كان في سؤاله بعض مكر قصده أحدهم، فجاء السائل ووضعه بين أذني.

والآن لا بد من العودة إلى النبع:

نرسيوس في الأسطورة اليونانية فتى وسيم الجمال، خلب قلوب العذارى، ومنهن إيكو التي لم يبادلها حبا بحب. فحكمت عليه ربة الجزاء والحساب أن يتعذب كما تعذبت عشيقاته، وذلك بأن يفتتن بجمال صورته في الماء، فذوى جسده تدريجيًا وهو يتلاشى لهفة وشوقًا إلى صورته. وعندما ذهبت عرائس الماء تطلب رفاته لم يكن هناك إلا نرجسة مطرقة ترنو إلى الماء.

من هنا فما زلنا نرى زهر النرجس أبدًا مفتوح العينين لا يشبع من النظر إلى خياله على حوافي مجمعات المياه.

أدخل الدكتور (هافلوك أليس) أستاذ الأبحاث الجنسية هذا المصطلح إلى دائرة علم النفس التحليلي- بمعنى افتنان المرء أو إعجابه المتناهي بجسده- حتى إنه يعجز عن إقامة علاقات عاطفية مع غيره، فيؤْثر أن يشبع رغائبه بطرق غير سوية.

ووقف عباس العقاد في دراسته عن أبي نُواس على النرجسية عند هذا الشاعر فرأى فيها:

“ شذوذ دقيق يؤدي إلى ضروب شتى من الشذوذ في غرائز الجنس وبواعث الإخلاص“ ( أبو نواس ص 33 ) ثم وقف على تفريعات النرجسية من (اشتهاء ذاتي) و (توثين ذاتي) و (تشخيص) و (ارتداد).

في العام نفسه (1953) الذي صدر به كتاب العقاد صدر كتاب د. محمد النويهي (نفسية أبي نواس) الذي عمد فيه كذلك إلى مصطلحات علم النفس مطبقًا إياها على شعر الشاعر.

غير أن طه حسين احتج على الكاتبين في مقالته: “بؤس أبي نواس“ - التي أعيد نشرها في كتاب (خصام ونقد):

أولاً- لأننا نخرج من ميدان تخصصنا المشروع فنقحم أنفسنا في موضوع لم نتعمقه ولم نتخصصه، ونكون مجرد مقلدين لأشياء لا نفهمها ولا نتقنها.
وثانيًا لأننا لا نستطيع أن نفحص أجسام الموتى أو نحلل أشخاصهم، ولا نستطيع أن نحلل منهم إلا كلامهم وكلام الناس عنهم.
(انظر الرد الرائع على طه حسين الذي كتبه النويهي في كتابه المذكور ص198).

لنعد إلى موضوعنا:

إن الشاعر متهم – غالبًا – بتمجيد ذاته، بينما هو في الواقع يتقصّاها ويتقرّاها. وما دامت القصيدة لا تُحقق إلا باستقبال الجمهور لها فإن عدوى النرجسية لا بد واقع على المتلقي.
بعبارة أخرى- إنها نقل من المبدع إلى المبدع إليه، والقارئ الذي لا يجد أنا ه -هو- في القصيدة لا يحقق نرجسية ما، وبالتالي ينعدم التواصل والتماثل.
وإذا اعتبرنا الشاعر زعيمًا أدبيـًا فإن الأدبي والسياسي يرغبان في كسب عواطف الناس وتأييدهم. الأول يهمه العواطف العميقة الأصلية، ويقتنع بالميسور من ضحك الجمهور أو دموعه، وحسبه ذلك. بينما الثاني (السياسي) لا يعنيه أن تكون عواطف الناس ضحلة أو زائفة، نبيلة أم كليلة، المهم أن تؤيد نرجسيته لبناء شخصيته هو.

فشتان بين نرجسية الفنان الذي يحب ذاته ويصهرها ويقدمها للآخرين، وبين نرجسية السياسي الذي يهمه انا ه أولاً وأخيرًا.

حاور (بيتر فرستراتن) محرر مجلة (علم الجمال) – عدد تموز – كانون الأول 1965 – سارتر، فقال المحرر:
“ نرجسية الشعر هي إذن نرجسية مضاعفة لا أكثر ولا أقل. نرجسية لا تتعلق بالمؤلف وحده بل بالقارئ أيضًا. فالقارئ يقيم مع الشعر على أساس هذا الغرض علاقة مماثلة لعلاقة الشاعر حين يكتب. ومن هنا يكون التواصل قد نُحّي جانبًا إذا جاز التعبير، ما دام الشعر في كلا المنظورين ينتج لحساب عجب الذات بالذات“ .
يجيبه سارتر: “هذه على ما أعتقد حقيقة الشعر، وعلى الأقل منذ ظهور الرومانسية“.
فرستراتن: “ إن نظرتك إلى الشعر هي إذن تنتقص من قدره“.
سارتر: “بل هي نظرية وصفية“ .

فرستران: “ لكن بمقدار ما نستخدم فكرة النرجسية فكرة اللاتواصل أو فكرة الوسيط الجمالي الأكبر بين الوجدانات لتحديد وظيفة الشعر فإن في هذا الاستخدام موقفًا سلبيًا، فكيف تتصور في هذا الحال خلاص الشعر“؟
سارتر: “خلاص الشعر إنما في أن يوجد نثر إلى جانبه “.

(انظر نص الحوار في كتاب سارتر - دفاع عن المثقفين، ص 233)

نخلص إلى القول إن النرجسية في الأدب في مفهومنا اليوم تختلف عن النرجسية في علم النفس، ولنزار قباني ما يشفع له وهو يعتز بنرجسيته، وليست النرجسية سُـبّـة.

من كتابي أدبيات (مواقف نقدية)- ص 78- 82.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى