الاثنين ٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٥

عفوا يا وطني

المصطفى لحبيب

كيف تسألني الغفران يا وطني...، رميتني مهانا دليلا في قارعة الطريق، بضاعة رخيصة مُزْجاة لكل حقير متاجر في رزايا الآخرين، لكل نخاس مُرتزق يُخْصِيني عبدا، يبيعني غلاما بين حرائر أمسٍ أرداهن غدرك اليوم إماءً، جواري يسقين أربابهن من ماء وجوههن خمرا، أرحام مخصبة بنطف متفسخة قدرة، بطون مستأجرة، محشوة بأشباه إنسان.
كيف أعفو يا وطني...، وأنا ابنك المعاق وسط زحمةٍ من الإخوة العاطلين والأخوات العوانس، ضاق بنا بيت من صفيح، لا يليق سكنا للحيوان حسبك بالبشر، لفظْتني جريحا تتقاذفني غصات الزمن القاسي، أركب كل مطايا الموت، أجوب الآفاق كسيرا طريدا، علني أجد وطنا بديلا، يرحم إعاقتي، يؤويني في غربتي ويمنحني دفئا وهوية، وموقعا في جدارية خريطة، أنظر إليه بين أقراني بفخر فيرد بعضا من كرامتي السليبة، خٌضت البحر اللُّجي في ليل بهيم طويل غار فيه القمر، بعد أن ضاق بي المكان بما رَحُب، مركبي صندوق خشب مهترئ، شعاع أمل خافت امتطيته عساني أستعيد يوما بدولارات عجوز شمطاء متصابية بعض رضاك، أدمنت كل ممنوع وعاقرت كل محظور، صادرت مجبرا مكرها إحساسا بفحولة جارفة تملكني يوما، خصي أنا، تنسكت لأُسْكِتَ نداء الطبيعة في جسدي، لبست مُسُوح الرهبان، تَخَطَََّفتني من صومعتي وأخرجتني من خلوتي القسرية صقور كاسرة متمرسة على غسل الدماغ وسفك الدماء، أشعلت في دواخلي نار الانتقام، علمتني صناعة الموت، جابت بي عوالم شتى، قاتل غبي مأجور أنا، أبث الرعب حيثما حللت، مطارد أينما ذهبت، أبحث عن نهاية حكاية، راحة أبدية، أُكْتَبُ فيها بطل شهيد.

كيف أصفح يا وطني...، وأنا ألمس الغدر في نظراتك الحاقدة كلما حدَّقت في وجهي، تتلذذ بأوجاعي وترقص على جراحي، كل ذنبي أنني وطني غيور، مثقف فاشل، مجاز عاطل، باحث عن مصدر رزق...، تسلط زبانيتك لإذلالي، إيقاعات أحذيتهم اللعينة لم ولن تفارق تقاسيمها جسدي ومخيلتي ما حييت، يسحقني جبروتك كلما استضفتني في سراديبك المظلمة، َأسِيرُ تخبطك وسوء تدبيرك، سجين ماضيك وحاضرك، لقيط فسادك ولعنة إفسادك أنا، أتغذى في كل يوم بل في كل خفقة ألم ونبضة قلب على مشاعر الحقد والكراهية، ألم تعلم أن أقبح الظلم ظلم الأب لابنه وأبشع الجفاء جفاءه، لم ضاق صدرك يا أمي بوجودي لماذا تبيعيني بثمن بخس خشية إملاق، تموت الحرة وابنها في حضنها، ترضعه إن جف الثدي ونضب الضرع دما عادما، تطعمه عوض كسرة الخبز اليابس جمرا حارقا، تسقيه إن شح الماء وعز سما قاتلا، تخنقه، تأكله، تتركه وراءها مجرد جيفة مشوهة عفنة تعافه الضباع قبل السباع الضواري ثم تسلم روحها، لا تتركه سبيا للآخرين، غريزة الأمومة تمنع عنه ذل اليتم وهوان الحرمان.

كيف تسألني المودة اليوم...، وأنا المتعب التائه الجاحد بكل القيم، السافر من كل الوصايا والتعاليم، أخذت من كل فساحة ديني الركوع في غير صلاة ومن وحي وطني استلهمت عيش النَّقيِصَة والصَّغاَر، ترعرعت في الشوارع والدروب الخلفية الشاذة، الملطخة بدنس النسيان والجريمة بعد أن أوصدت أبوابك دوني، تعلمت كل أنواع الحقد والكراهية والسادية، صرت جانحا، قاطع طريق، سكيرا عربيدا، خِرِّيج أعرق السجون والمعتقلات بدل أكبر الجامعات والمعاهد، سفير عنف ومُصَدِّر إرهاب عوض ضيف سلام ونزيل أمن وأمان، أعرف أني أسلك الصراط المعوج الخطأ، عذري أنني أجافيك كما جافيتني وأعاقبك كما عاقبتني، أنتحر قربانا لقصة بؤسي.

دعنا للزمن يا وطني...، هو وحده الكفيل بتضميد الجراح ورفع الحرج، حسبي منك اليوم أن تراجع أوراقك المبعثرة، وتلم شعتك، فلي إخوة صغار أخاف أن يسلكوا دربي وينهجوا نهجي فأتعذب لمصيرهم الأسود عذابين، وأذوق غصة سكرات الموت بحسرتهم مرتين.

المصطفى لحبيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى