الاثنين ١ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم جمال الجزيري

مأتم

العيون المجهدة العائدة من الحقول تترك نظراتها المثقلة تلقي بنفسها على أعتاب البيوت. وبالرغم من أن الرموش تكاد تنطبق على بعضها – ربما تريد أن تظل هكذا للأبد – إلا أنها تنفتح فجأة عندما تصل إلى (الرهبة) فلقد رصت دكك ما أنزل بها أحد مراتب أو (فراشيات).وتجمع عليها من وصل من الحقول بوجوه بائسة يلبد فيها الوجوم،سيستغرب الداخل، فلا اليوم يوم فرح في أحد البيوت، كما أن عادة الزواج تبدو أنها تحتضر في ذلك الوقت. لا شئ يستدعى التجمع الكثيف بهذا الشكل المنظم، كل ما يمكنك أن تراه في الأوقات العادية أن تجد رجلا سحب دكة من منضرته ووضعها أمام البيت في هذا الحر ليفضفض لجاره أو يسحبان أنفاس الشيشة معا وربما قدم ضيف فيجلسون يتناقلون الأخبار أو الهموم حتى تبدأ الأفواه في التثاؤب فيلملم كل منهم أطراف جلبابه و يمسي بالخير علي الآخر داعيا له براحة بال لا تأتي، و ربما يسحبون الراديو من البيت و يفتحونه بجوارهم ليسمعوا نشرة الأخبار من إذاعة مونت كارلو أو صوت أميركا.

لكن القادم لا يرى شيئا من ذلك،فقط الرجال مصطفون علي الدكك واجمون صامتون لا تكشف أفواههم إلا عن عبارات قصيرة قد لا تكون مسموعة، والتجاعيد التي تملأ الوجوه عمقا والتواء و كأنها حشرجة الموت. كما أن هناك جهاز تسجيل علي طرف إحدى الدكك وصوت عبد الباسط عبد الصمد منه عاليا رزينا رصينا وقورا حزينا يستحث الناس علي الصبر وعدم الجزع. ستدهش كثيرا عندما ترى ذلك. فلم يمت أحد بالقرية. فإذا مات أي شخص رجلا كان أم امرأة، طفلا كان أم شابا أم عجوزا، يلقي كل شخص ما بيده سواء أكان في الحقل أم ذاهبا إلي السوق أم إلي زيارة أي أحد بالقرى المجاورة، ويصطفون في الرهبة، يحضرون الكفن والعطور من و كان عبد الحميد الزهري في القرية المجاورة، يسخنون الماء و يغسلون الميت بعد أن ينادون في ميكرفون الجامع علي الميت.وعندما تكتمل مراسم تهيئة الميت للانتقال إلي داره الآخر، ويكون الغائبون قد حضروا ووصل الأقرباء من القاهرة أو الإسكندرية أو المدن الأخرى، يستوي الميت على الحسنية ليرتفع على الأكتاف التي تتبارى على الإمساك بأحد أطراف الحسنية الأربع وتود أن (تآجر) وتتملك عدة قراريط في الجنة لتنعم براحة لم ترها أو تر جزءا منها في حياتها الأولى. في الطريق (يآجر) آخرون طمعا في الملكية الخالدة ورضى الدائم.. يفتح الجامع ذراعيه لاستقبال من كان يوما ما يأتي ساجدا أو راكعا أو مصليا علي من سبقوه. وبالرغم من أن بعض الناس في الطريق كانوا يتقولون علية و يذكرون مالا يذكر عن الميت، فانهم يقفون خاشعين متمنين له حسن الثواب و(بشبشة) الطوبة تحت رأسه في مسكنه الجديد.

يستأنف المآجرون رزقهم القادم و يتبعهم الباقي داعين الله حسن المآب وقراريط أخرى، لا تتبع الجنازة خط محددا، فبالرغم من أن الطريق إلي (الجبانة)واضح و محدد، فالميت لا يسير فيه دوما فقد تقف الجنازة..، رغما عن أنف الجميع، أمام بيت عزيز، أو (تبرك) علي الأرض في انتظار حبيب تأخر،ولو تجمعت قوى الأرض كلها ما استطاعت أن تزحزحها عن مبركها. وقد تطير الجنازة بالمآجرين رغما عنهم تلهفا علي لقاء ملائكة مرحبين و إله رحيم كريم، وقد تتلكأ الجنازة مخافة المواجهة و الحساب الذي لا يترك شيئا.

عندما تفيق العين من شرودها، لا تجد أحدا قد مات ولا تجد حسنية أو كفنا، فقط تجد أولاد الحاج محمد رحمه الله بائسي الوجوه يكاد الدمع ينفطر من أعينهم، ولولا العيب، لتركوا دمعهم يهدر ويغرق الرهبة كلها. ماذا حدث؟ أينقصهم حزنا أو ضيقا أو ألما؟ سيميل على أحد الواقف في الطرف. ستنشق آهـة يمكن أن تفجر جبل أحد، جـاموستـهـم مـاتــت. جملة/ طلقة لا يمكن أن يحتملها أحد هنا، جاموسة يتيمة وحيدة تسند جدار بيت بأكمله، جاموسة تتخلى عن مسئوليتها في وقت كانت بطنها انتفخت وأوشت بقدوم (بطش) يمكن أن يحلب بسمات على الشفاه المتشققة الظامئة للابتسام. جاموسة تبخل بلبنها الدافئ الذي يشربه الصغار والكبار ويقتاتون على جبنه، جاموسة تنسحب في وقت لا يرضى أحد، حتى لو كان كافرا أو يهوديا، أن ينسحب فيه ويترك أفواها مفتوحة في انتظار المطر، وما هذا الزمن بصاحب مطر ولا تمر ولا لبن.

تتحرك الأيدي في بطء، في دفء، في فهم، تربت على أولاد الحاج محمد، يحسون بالأيدي، لكن شفاهم لا تتحرك بأي حرف أو كلمة، فقط العيون شاردة، ساهمة، تنظر إلي نقطة مظلمة في الغد يحاول أحد الجيران أن يخفف من وقع المصاب، فيقول "وحدوه" "لا إله إلا الله " تخرج من القلوب صادقة بالتأكيد، لكنها تترك بقايا حزن متجمدة علي القلوب لا يمكن أن تذيبها حرارة الصدق."ونعم بالله " يقولونها أخيرا بعد أن تتسرب إلي القلوب بقايا يقين كانت متوطدة في الدماء.

عندما يدرك أحد الجيران أن شدة الموقف بدأت تلين بطيئا، يدخل بيته و يخرج ببراد شاي كبير و بعض الأكواب، يبدأ في صب الشاي، يسقي أولاد الحاج محمد أولا ثم يوزع ما تبقي من أكواب علي من بجوارهم، يميل علي أذن ابنه و يهمس ببعض الكلمات. فينطلق و يدخل بعض البيوت. يعود بمجموعه من أكواب الشاي، و تبدأ الأكواب في الدوران علي الواقفين و الجالسين والمتكئين علي الحوائط، رشفات لا توحي بلهفة في الشراب ولكنها تحبس بعضا من قطرات الحزن المترسبة في قاع القلوب. ربما يدور شخص آخر بعلبة سجاير. يأخذ منه من يرغب، و يحجم شخصا آخر خوفا من الموقف أو احتراما له.

كل الوجوه بائسة، تمتنع حتى عن الكلام الجانبي، إلا زايغ أبو الدهب ذلك الممتلئ الريان مهندم الثياب، يمر بيده من آن لآخر علي كرشه المنتفخ،أو يعبث في شنبه الكثيف. لا تبان في وجهه علامات بؤس أو حزن، يحاول أكثر من مرة أن يتكلم مع من بجواره، لكن الموقف لا يحتمل الكلام، فيصده من يصده، و لا يعيره اهتماما من لا يرغب في الكلام، فيعود إلي العبث بشاربه، يخرج علبة سجائر من جيب جلبابه و يشعل عود ثقاب، فيخرج الدخان من فمه و أنفه كثيفا سريعا يدل علي شهية مفتوحة دوما، كما أنه ينادي علي الجار الذي يدور بأكواب الشاي و يطلب منه كوبا آخر، تنظر إليه العيون في غيظ،و بما في احتقار ربما، في سخرية ربما، لكن الموقف لا يحتمل الشجار أو حتى التوبيخ، فيشرب زايغ الشاي بصوت مرتفع و كأنه يحاول أن يصمت النظرات من حوله. أو يقول أنه لا شئ يهمه فلا هو يشرب اللبن و لا يأكل الجبن القديم، و لا توجد في (حوش) بهائمه جاموسة واحدة قد تموت، و انما حوشه ملئ بكل أنواع البهائم ما صغر منها و ما كبر، ما غلي و ما رخص، لا يهمه أن يحزن لموت جاموسة فلان، فبهائمه سليمة معافاة في حوشه لا يقربها مرض ولا تفرغ لها بطن، هنال من الأجراء من يعملون على راحة بهائمه وتقديم العلف أو البرسيم أو (الجراو) لها ليل نهار فلا يفرغ من أمامها (مخول) علف وتبن أو (ماجور) ماء.

يدور شاي آخر من عند جار آخر، يوزعه الشيخ عبد السلام إمام الجامع الكبير. يصب الشاي في الأكواب فيتلقفها ابنه ويوزعها على الجالسين: منهم من يخجل فيحاول أن يأخذ البراد ويصب بدلا عنه. لكنه يرجع يده قائلا: "الحاج محمد كان غالي علينا كلنا، افديك الساعة اللي احنا نخدم أولاده". فيعاود الصب ويكمل ابنه دورانه إلى أن يصل إلى سيد العبد، ممتلئ نوعا، متوسط الطول، شاربه قصير يشبه شارب الملك حسين الراحل، يرتدي جلبابا زاهيا ويلف العباءة على جسمه بالرغم من الجو الحار، يتربع على الدكة الخشبية ويمسك مسبحة في يده ينقل يده بين حباتها بالرغم من أنه يتكلم مع من يقف متكئا على الحائط بجواره، يمد يده في كبر كأنه ملك جالس على عرشه منتفخ البطن ملئ الذراعين فلا تصل يده إلى الكوب، يريد الكوب أن يصل إليه. تتهامس عليه بعض العيون، تدور كلمات في أحد الأركان.... هو نسي أصله ولا ايه!! دا كان عندنا عبد، يخدم علينا كلنا. صحيح اللي اختشوا ماتوا..

يرفع العبد كوب الشاي إلى فمه دون أن تهتم عيناه الزائغتان بالنظرات حوله. يرشف الشاي وكل قطرة تدغدغ داخله إحساسا بأنه صار من أكابر الناس، يجلس على الدكة بالرغم من أن هناك من لا يجد مكانا له على أية دكة من الدكك التي لا تستطيع أن تفسح مكانا لكل من يهل معزيا.

يفرفط سيد حبات المسبحة بين يديه بين يديه، عيناه تدوران شمالا، يمينا ثم شمالا، يتحرك لسانه كأنه جمل هائج انقطع لجامه أو كأنه سد طين في جانب مجرى الماء بين الغيطان يسد الماء عن حوض زرع لا يحتاج أن يسقى، وينهار هذا السد فيغرق الأرض ويفسد المحصول الذي كان من الممكن أن يخرج منه. يضع إصبعي يديه في المسبحة ويشدها، ينظر إلى الجالس بجواره مبتسما ابتسامة فيها قدر من المكر والمراوغة، ويقول له: "لو كان أولاد محمد عايزين يبيعوا قراطين من نص الفدان بتاعهم، أنا أشتريهم". ينظر إليه الآخر في سخط ولولا الموقف لقام ورفعه من على الدكة وخبطه على الأرض أو ذهب به إلى خرارة الطرمبة القريبة ومرمغه في المرميط. ينظر زايغ بطرف عينيه إلى سيد وابتسامة لا تصرح بشيء تعلو وجهه: "والله وبقيت تتكلم في الشرا يا أبو العبد". فيرد سيد ببجاحة تبدو معتادة: "الواحد معاه فلوس وهما مزنوقين، وأنا عاوز أشغل فلوسي". فينهض أحد الجالسين من أولاد الحاج محمد والغضب استوى في عينيه ولسانه: "مزنوقين ايه يا ابن الكلب، أنت نسيت أصلك ولا ايه، اللي بتتكلم عليهم دول أسيادك وأسياد اللي خلفوك يا عبد يا زربون".

ينكمش سيد في الدكة وكأنه عاد إلى وعيه وتراءى له ماضيه صورة حية أمام عينيه، فلا يملك إلا أن ينسحب من بين الجالسين تاركا وراءه عاصفة من الهمهمات والكلمات الساخنة.

  الواد ده نسي انه كان بيدور على بيوتنا بالقربة يملى الزيار ولا ايه!!

  باين عليه أكل أكلة سمينة النهاردة طلعت على نافوخه

  مادام الخشا مات يتبجح براحته

  وكمان قاعد مجصع على الدكة واللي جزمتهم أحسن منه واقفين متكين على الحيطة

  قال ايه ماسكلي سبحة وهو ما يعرفش يصلي

  يا عمي الواطي واطي ولو ركب حصان ورمح بيه في الحماد

تخبو حمرة الثورة في الأفواه قليلا فيعودون إلى صمتهم الوقور. قد يلتفتون إلى أولاد الحاج محمد دون أن يتفوه أحد منهم بأية كلمة ثم يعودون إلى صمتهم واجترار الأفكار التي يمكن أن تعصف ببلد بأكمله لو أتيحت لها الفرصة في الخروج والتعبير عن نفسها في طلاقة دون قمع أو ردع. لكنهم لا يستطيعون إلا أن يجتروها صامتين.

يقوم بعضهم ويتقدمون الواحد تلو الآخر إلى أولاد الحاج محمد، يسلمون عليهم سلاما رقيقا ناطقا مواسيا: "شد حيلك يا أبو محمد". "الشدة على الله يا عم الحاج". "خيرها في غيرها". "خدت الشر وراحت". "ربنا يعوضكم يا أبو محمد". "عليه العوض ومنه العوض يا خال". يبدو أن هذه الكلمات قد استلت بعضا من أكوام الحزن التي تراكمت فوق وجوه أولاد الحاج محمد، فها هم تنفتح أساريرهم قليلا وتبدأ أفواههم في الكلام وربما الثرثرة:

  أبو العبد عاوز يشترينا واحنا عايشين

فيرد عليه الشيخ عبد السلام

  قليل أصل يا أبو محمد، راح تعمله ايه

  وكمان شايفوش كان قاعد ازاي!!

  خفت أعمل عقلي بعقله، الواد يقل قلة أدبه

  دا لو كان اتكلم نص كلمة تاني، كنت قمت ضربته بالجزمة

يبدو أن هذه الكلمات قد امتصت قدرا من الغضب الذي كان يملأ العيون والأفواه. فلقد هدأ الكلام وبدأ الجمع يتفرق ويذهب كل إلى بيته. قام الشيخ وعزم على أولاد الحاج بالذهاب إلى بيته ليتعشوا معه، حالفا معظما أيمانه بكسر الهاء، فلا يملكون إلا أن يلبوا دعوته راضين وفي عيونهم قدر من خجل ليس بغريب عليهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى