الأربعاء ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥
بقلم رندة زريق صباغ

يوم التقيت السيدة فيروز في عمان

بدت لي المسافة بين البابين.. طويلة جدا.. فكنت اسير بخطى متثاقلة كأني جندي في طابوره العسكري- لا احرك ساكنا سوى قدمي اللتين تأخذانني خارج القاعة حيث تنتظرني امي واحدى صديقاتنا الفلسطينيات المقيمة في عمان!
خرجت من غرفتها كأن على رأسي الطير... صامتة- عابسة- متجمدة القسمات... متحجرة العينين... لا أجرؤ حتى على ان ارمش خوفا من ضياع اللحظة! لحظة لقائي بها- لحظة تقبيلي لها.. لحظة طلبت مني ايصال حبها واشواقها لاهل فلسطين...
مشيت كأني عمود من ملح وسكر جاف.. قابل للذوبان او الانكسار او حتى الانهيار بمجرد لمسة بسيطة فيملأ الارض بياضا ناصعا يمزج الحلو والحارق في آن فلا تقدر على التمييز بينها، فالتشابه الخارجي... مذهل!

في الردهة بين باب غرفتها.. وباب مخرج القاعة تجمع المئات من عشاقها ومحبيها. سألوني هل قابلتها؟! فلم أكلف نفسي حتى عناء الرد واكتفيت بحركة من عيوني وحاجبي مفادها بان لا! كأني خفت الا يصدقوني ان قلت الحقيقة! او ان يحسدوني ان صدقوني، والاهم انني ساضطر للاجابة على تساؤلاتهم! ماذا قالت؟ ماذا ترتدي؟ كيف تصرفت؟ هل ابتسمت؟ من كان معها؟ وما الى ذلك من اسئلة تذيب الذكرى الخاصة وتضيعها في هذا الزخام! فانها ذكرى خاصة بي.. لن اشارك بها احدا ولم افعل رغم مرور سنوات خمس على هذا اللقاء ولم انشر حرفا واحدا من الحوار القصير الذي اجريته معها فان خصوصيته وعبقه لي فقط... تعلمت منه امورا جديدة هامة لصقل الذات...

أخبئ الصورة الفوتوغرافية التي تجسد ذكرى حلم تحقق بين صفحات كتاب محبب الى قلبي لتحتفظ بعبقها مع الشعر بين الاحرف والكلمات، لم اضعها في اطار، لم اعلقها على الحائط، ولم اهتم بنشرها مع احد مقالاتي او تقارير الصحفية!
أيعقل انني فعلت كل هذا مع فيروز؟ بشحمها ولحمها بوقارها.. هيبتها.. ورهبتها.. سفيرتنا الى النجوم هي! وطالما هربنا مع صوتها الى هناك.. وكم من مرة اوصلنا هذا الصوت الملائكي الى ما فوق الغمام.. فوصلنا شرفة القمر.. واتكأنا على اريكته السماوية ننظر الى العالم من الاعلى! ونصغي احيانا لصمته الرهيب فنخافه، وننزل من جديد! كم من مرة ساهم صوتها فغي تنظيف ذواتنا... واخراجنا من بوتقة الكآبة والحزن... أفيمدّنا ببعض من فرح الذات والنشوة اللطيفة..!
دون ان نعي فاننا نتدثر بمخملية صوتها كلما امطرت الدنيا من حولنا وشعرنا بالبرد.. فيمدنا ببعض الدفء والحنان والامان! والكثير من الطاقة الايجابية النظيفة الضرورية للاستمرار الكريم...

طالما ظننت انها من عالم آخر انها مخلوق ملائكي مختلف، ولكن جاء لقائي بها ليؤكد صافعا انها انسانة عادية.. عابسة القسمات... دامعة القلب... موجوعة الروح...

جاء هذا اللقاء مذكرا انها نهاد حداد الانسانة.. والتي لا تجد متسعا لها.. وانها نهاد لا تزال صغيرة حبيسة بين الضلوع تنتظر فرصة لتكون هي.. فلا تجد!.. كانت في غرفتها متشحة بالسواد الذي يعكس بعض مناطق قاتمة من حياتها وذاتها... الامر الذي يشعرك بالغصة ليس في حلقك فقط.. بل في قلبك ايضا...

تحاول ان تتخيل اجندة يوم فيروز.. فلا تنجح! كيف تبدأ يومها الذي نبدأه نحن بصوتها؟ أي نوع من المخمل تحتاج لتتدثر به حين تمطر الدنيا من حولها؟

من يسمو بها ومعها الى النجوم حين تحتاج سفيرًا لذلك؟! من يلاطف روحها؟ من يمسح جراحها؟ من؟ من؟ ومن؟ أتراها قادرة على فعل ذلك لنفسها؟ ترى أتقدر فيروز ان تدثر نهاد حداد وتنطلق بها نحو النجوم؟! ام ان فيروز نسيت ام تناست نهاد؟ ام العكس؟!

التقيت فيروز وجها لوجه.. والحق اقول لكم.. تمنيت بعد ذلك "بكثير" ان حبذا لو لم افعل.. لبقيت في مخيلتي اكثر قوة.. اكثر اثرا وتأثيرا.. لبقيت صوتا مخمليا فقط- وسفيرة الى النجوم.. ومطربتي المفضلة!

التقيت فيروز لأتذكر انها نهاد.. تجيد الضحك لكنها تخافه على ما يبدو.. تخشى تداعياته واسقاطاته!
انها تجسيد لحال الوطن العربي المقموع القامع لذاته! ذكرني الالتقاء بها ان مبدعا او اكثر استغل سحر موهبتها محولا اياها وسيلة عظيمة لايصال ابداعاتهم بأرقى واحلى واجمل صورة...

تتمنى نهاد ان تصرخ قائلة لست من عالم آخر.. بل انا منكم ومثلكم.. فتتراجع بهدوء وتضيف ونذرت نفسي لكم!
اصبح الحديث بالنسبة لها وسيلة لاضرورية... فكثرته وتنميقه ليس من اهتماماتها.. وحتى ان فعلت فهي لا تجيده.. فهو اسلوب كل الناس لا يكفي ولا يفي بغرض من يجيد اساليب اخرى اكثر مصداقية ورقيا وروعة!! تكتفي بحب لبنان.. وفلسطين.. والوطن...
تكتفي بزرع الفرح الصغير في النفوس.. والانتماء في القلوب... والصدمة احيانا في العقول..!!

تغني للارض والوطن..
تغني للحياة والانسان...
تغني للحرية الذاتية.. الفكرية... الشعورية..
وهذا يكفيها... لكنه لا يكفينا على ما يبدو...
تغني هي للقمر.. وهو يضيء على الناس.. كل الناس، اما هم فيتقاتلون ويتحاربون فتُحبط وتقرر الابتعاد عنهم.. تهديهم صوتها وكلامها من بعيد علّهم يستفيقون! فيعتادون هذا الصوت يحفظون الكلام لكن لا.. يطبقون..!
اذكر لقاء اجريته مع الشاعر اللبناني هنري زغيب، فحين لم يذكر اسمها ضمن قائمة مطربيه المفضلين سألت بدهشة ادركت سذاجتها بعد ذلك، وفيروز أليست من مطربيك المفضلين؟ فأجاب: فيروز بالطبع.. لا انها ليست مطربتي المفضلة وليست احداهن! ازدادت دهشتي الساذجة! فسرعان ما استدرك مضيفا ان صوت فيروز حاجة يومية! تماما كما الماء والهواء والغذاء.. وفي كثير من الاحيان افضل دواء لأي داء يصيب المرء!

لملمت شظايا نفسي التي تناثرت خجلا.. وتمنيت ان وجهي لم يحمر من شدة الاحراج! فكيف لم أعٍ ذلك رغم اني ادركه تماما.. فان صوت فيروز حاجة يومية فعلا... قلت في نفسي غريب امر هؤلاء الشعراء فكيف يجيدون التعبير بما نشعر به ولا نجيد نحن ذلك.. فنشعر بالتقزم امامهم!!

من جهة ثانية اتساءل يوميا الا يصبح استهلاك الحاجات اليومية روتينا فاشلا نؤديه بلا تفكير وبلا انتقاء وبلا وعي؟ مما يفقد هذه الحاجة قيمتها اذا ما تناولناها بالشكل او الاسلوب اللاصحيح؟

افلا يجدر ان نأخذ استراحة ولو احيانا مما نحب لنشتاقه ويشتاقنا فنعود اليه ظمأى مقدرين ضرورته في ايامنا؟! وهكذا نضمن الا يتحول الى مبتذل مستهلك عند الجميع بنفس الشكل والطريقة والنهج؟!

اخاف على صوت فيروز ان يتحول لحاجة يومية عند الجميع، ان يصبح امرا عاديا يحبه الناس مع الايام لكثرة التعود العادي. مع ادراكي بأن حتى الحاجات اليومية العادية يختلف التعامل معها من شخص لآخر... من ذات لأخرى.. من وعي لآخر..!! الا اني اخشى على ميزة صوتها وتميّزه منا نحن! لذلك اقول لفيروز الغالية السامية: في عيد ميلادك الخامس والسبعين، (اقتبس من الشاعر نغيب) لست مطربتي المفضلة.. لكنك حاجة يومية راقية تساهم في صقل ذاتي وروحي وعقلي.. واعدك بألا استهين في بطقوس استقبالك وتلقي ما تبنينه لي من تداعيات بما يتلاءم مع مكانتك..
اعدك بألا استهلك صوتك بأنانية بشرية مقرفة.. او نهج رُعاعي مقيت.. كما يقول احد اصدقائي المميزين!
دمت لنا.. ودامت لك صحتك.. وصوتك...

وعسى ان تحظي بالفرح الصغير يوما.. فنرى بسمة على شفتيك! وعلى امل ان تحظي بالتكريم الوطني الذي يليق بك من قبل ان تغيبي مع ان حضورك العظيم سيمنع الغياب مهما طالت السنوات!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى