الأحد ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥
شعرية المتغير الأسلوبي في قصائد
بقلم عصام شرتح

من أوراق الموريسكي لحميد سعيد

لاشك في أن البحث في المتغيرات الأسلوبية يختلف من مجموعة شعرية لأخرى، بل من قصيدة لقصيدة أخرى؛ وهذا يعني أن قيمة المتغيرات الأسلوبية متفاوتة في شعريتها، ومستوى إثارتها؛وعنصر جاذبيتها، ومستوى تحفيزها،وقوة مثيرها اللغوي، وطالما أن بحثنا سيكون في مجموعة(من أوراق الموريسكي)لحميد سعيد؛ فهذا يعني أننا سنخوض في غمار قصائد شعرية شهدت ثورة في المنازع الأسلوبية، والمتغيرات المبتكرة في شكل القصيدة ، ومستوى حراكها الفني، وتكثيفها الرؤيوي في إنتاج الدلالات، وتنشيط الرؤى،وتحفيز منتوجها الدلالي؛ ولعل أبرز المداخل الأسلوبية إلى هذه القصائد،المكوِّن الرؤيوي الذي تدور حوله، من دلالة على الاغتراب والإحساس بالفقد واللوعة والغياب،إلى دلالة على المطاردة والقلق الوجودي والواقع المأزوم وصورة الإنسان المعذب؛فلغة قصائد هذه المجموعة مشبعة بالمعاناة، والثقل الوجودي، والإحساس بالمطاردة والعذاب، وقد جَسَّدَ الشاعر في هذه المجموعة مختلف الرؤى الدرامية، والمواقف الوجودية المحتدمة؛وإزاء هذا الاحتدام توالدت الكثير من المتغيرات الأسلوبية المرافقة لهذه الحالات والمواقف المحتدمة؛التي تجسدت في نزعتها الدرامية ، وجدلياتها الرؤيوية الحادة ، ومواقفها الشعورية المحتدمة.
ولعل أبرز المتغيرات الأسلوبية التي ساعدت على إبراز شعرية هذه القصائد التضاد الفني الموحي في الرؤى والمواقف الاصطراعية الحادة بين الزمنين الماضي المشرق، والحاضر السوداوي القاتم/أو المؤلم ؛ وهذا ماجعل حركة القصائد تنزع هذه المنازع المحتدمة في جوانبها الرؤيوية كلها. وقد خصصنا المداخل البؤرية التالية للوصول إلى النقاط المفصلية في قصائده لترقى أعلى المستويات؛وهي:

شعرية المتغير الأسلوبي للأسطورة أو الرموز الصوفية:

تعد الأسطورة الرحم الرؤيوي الخصب في تحفيز القصائد الشعرية في عالمنا الشعري المعاصر؛ نظراً إلى ما تحمله الأسطورة من مؤثرات تغني الفضاء الرؤيوي لحركة هذه القصائد؛ وتكون بمثابة الحامل الدلالي للكثير من الرؤى، والمواقف،والمؤثرات الوجودية؛ولاغنى لفضاء القصيدة الحداثية عن هذا المحرِّك الأسلوبي في إغناء القصيدة، وتنامي رؤيتها الشعرية؛ومضاعفة مردودها الدلالي ، ولايكاد يخلو بحث في الشعر أو الشعرية دون التطرق لهذا الجانب المهم في الخلق الفني/ الشعري على وجه التحديد؛حتى أن الكثير من الباحثين يجمعون على أن الشعر والأسطورة نشأا توأمين في الخلق الوجودي؛ وخير من أشار إلى هذه الناحية الشاعر والناقد السوري خليل موسى؛ إذيقول" الشعر والأسطورة نشأا في رحم واحدة، وهما توأم. ولاغنى للشعر الحقيقي عن الحلم والأسطورة؛ وهذا ما ذهب إليه السياب في العدد الثالث من مجلة شعر.. ولكن صلة الشعر بالأسطورة بدأت في لبنان قبل الأقطار العربية الأخرى.. عند الشعراء التموزيين.. وقبل ذلك عند شفيق معلوف في (عبقر)، وإذا عدت إلى مجموعات الشعر الرومانسي لأبي شبكة وصلاح لبكي ويوسف غصوب دُهِشتَ لاستخدام الأسطورة مضموناً وشكلاً واستلهاماً قبل حركة الحداثة؛ ثم جاء الشعراء العراقيون فتلقفوها لنشاط الحركة النقدية، وخاصة الأكاديمية عندهم، وكذا شأن شعر التفعيلة الذي بدأ في بلاد الشام مع نسيب عريضة وخليل شيبوب ثم أصبحنا نقرأ اليوم أن بدأ مع قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة مع أن قصيدة(النهاية) لنسيب عريضة قبلها بعشرات السنين لكن حركة النقد في سورية ضعيفة أو متسامحة"(1).

وهذا يعني أن الأسطورة والشعر يؤثر كل واحد منهما بالآخر؛ ويغني حركته الدلالية والرؤيوية؛ وحتى الفنية/ أو الجمالية؛ ولو دققنا في قصائد مجموعة(من أوراق الموريسكي) لوجدنا أن الجو العام لحركة القصائد لا تغيب عنها الملامح الأسطورية إطلاقاً، صحيح أنها لاتشير إلى أسطورة بعينها، لكنها تحتفي بالأحداث، والرؤى، والمواقف الأسطورية التي سرعان ما يدركها كل من له أدنى علاقة بالشعروالشعرية؛ وتعد قصدته الموسومة ب(القصيدة المقدسية)خير دليل على ذلك، نظراً إلى طقسها الأسطوري /الصوفي العام الذي تخطه، كما في قوله:

لحجارتها
لغةٌ
وُلدت في ظلال النبوّاتِ
واكتهلتْ في نصوص السماءْ
فإن فَتَرَ الوحيُ .. نادتْهُ
أقبِل .. ومدَّتهُ بالعنفوانْ
هي أوَّلُ معجزةٍ .. وحدَّت بينَ طيف القراءاتِ
ثُمَّ تكونُ ..
آخرَمعجزةٍ .. تتنازعُ فيها القراءاتُ
في كلِّ منعطفٍ موكبٌ .. يتغنى بما قيلَ فيها
وفي كلِّ معترَكٍ كوكبٌ .. يتعَثَّرُ بالشكِ ..
في مايقول الرواةْ
للمليكة بين المدائن .. أو للرسولةِ بين البلادْ
ولروحٍ بها ..
والذي كان فيها ..
يُصلّي العُفاةْ"(2)

إن القارئ يلحظ منذ البدء الجو الصوفي / الأسطوري للقصيدة ، من حيث الإيحاء، والشفافية، والرؤية، وعمق المنظور الشعري، والطقس الوجودي العام الذي تشي به القصيدة،فالشاعر ابتدأ بالطقس الصوفي في عشقه لبغداد، وولعه بها حدَّ الأسطرة، ولم يقتصر الشاعر على الإيحاء بالرمز الصوفي عبر الكلمات والرموز الصوفية التالية:( ظلال النبوءات – طيف القراءات-أول معجزة- آخر معجزة- للمليكة بين المدائن-للرسولة بين البلاد"، وإنما عمد إلى تكديس الرؤى والمواقف والصور الصوفية ذات المنزع الأسطوري؛ وهذا ينم عن موقف ثابت، ورؤى صوفية شعورية موحدة. والملاحظ على المستوى الفني اعتماد الشاعر تقنية التوازي الفني، وهذه التقنية ارتبطت بالدلالة، ليدل الشاعرمن خلالها على موقفه المتوازن الثابت الذي لايحيد عنه ؛ مؤكداً مقدار حبه وتقديسه لتراب بغداد لدرجة الأسطرة والتصوف المطلق المسكون بحالة الوله، والعشق التام،لكل زاوية أو ركن من أركانها؛ ومن هذه المتوازيات الفاعلة نأخذ قوله:
[ في كلِّ منعطفٍ موكبٌ .. يتغنى بما قيلَ فيها]=التوازي النسقي

[ وفي كلِّ معترَكٍ كوكبٌ .. يتعَثَّرُ بالشكِ ..]=التوازي النسقي.

إن التوازي قائم بين هذين التركيبين ، وهو توازي الصيغة أو توازي الأنساق؛ فالشاعر يدرك تماماً أن التوازي عندما يكون خارجاً من عمق الرؤية وصميمها ومقوِّمها الوجودي فهو يتجاوز نطاق الشكل/ أوالمظهر الخارجي ، ليسهم في إنتاج الدلالة ، وتحريضها من جذورها ؛ وهذا ما عمد إليه، لكن قد يسأل سائل ما ماعلاقة التوازي با الأسطورة أوالأسطرة، بالجو الصوفي العام الذي تشي به القصيدة؟! ، نقول: إن الأسطورة حاضرة في المضمر الخفي من الدلالات، والأنساق اللغوية المتوازية/ أو المتشاكلة، في حين أن الطقس الصوفي ماثل بقوة في كل كلمة، أو جملة في الأنساق الشعرية ؛ وما حضور الأنساق المتوازية إلا لتحفيز الرؤية ، وتعزيز مدلولها؛ واللافت على المستوى الرؤيوي تنوع المتغيرات الأسلوبية التي تشي بها القصيدة، وهذه المتغيرات ، عضَّدت الرؤية الصوفية ، ونشَّطت البنى الصوفية بمناخ أسطوري تتنفسه القصيدة؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:

"إنَّها
النجمةُ المضيئةُ حيث يكون الأُفولْ
الحَصانُ الرَزانُ البتولْ
أُمُّنا ..
بِكْرُ ملاحِمنا .. وقصيدتنا والنشيدُ الجليلْ
لأريج البيوتِ العتيقةِ فيها ..
أناشيدُ محفورةٌ في البيانْ
وملحمَةٌ ..
بدأت منذُ كانَ الزمانْ
وتبقى مباركةً ..تتجلى على عرشها الأرجوانْ
حيثُ كنّا .. تكونُ
وحيثُ تكونُ ..نكونْ
إنَّ الذين يرَونَ مفاتِنها .. في البياناتِ .. لايفقهونْ"(3).

إن القارئ سرعان مايدرك الطقس الصوفي الأسطوري، وهذا الطقس هو مايحرك الفضاء الرؤيوي للقصيدة؛ ومن الرموز/ والدلائل المرجعية الدالة على ذلك نأخذ مايلي:" النجمة المضيئة- الحصان الرزان البتول- بكر ملاحمنا- النشيد الجليل- أناشيد محفورة في البيان"؛ وهذا يعني أن هالة التقديس للفضاءات البغدادية، وأرجائها ، ومواضعها كلها قد نقلت القصيدة من طقسها الصوفي الظاهر ؛ وهو المدلول السطحي القريب إلى مناخ الأسطوري؛ وهو الفضاء الرؤيوي البعيد، ولانبالغ إذا قلنا: إن الشاعر رغم ولعه بالأول (الجو الصوفي/ تملك الحالة الصوفية)؛ فإنه قصد الوصول –في المحصلة – إلى الفضاء الرؤيوي الآخر وهو الأسطورة ، ليثبت للقارئ أن حبه وعشقه لبغداد يرتقي فوق ذرى التصوف إلى فضاء الأسطورة ، وعالمها التقديسي الذي يتعدَّى أفق الخيال، ويصل إلى فضاء رؤيوي عميق، وهذا ما دلل عليه بصريح العبارة في قوله:

"ومَن يدَّعون إنَّ الأساطيرَ مهرُ بكارتِها ..
كاذبونْ
إنَّها لحظةٌ .. أبدَعتها العروبةُ ..
فابتعدَتْ في السُرى ..عن ممالكَ موهومَةٍ ..
وتواريخَ غائبةٍ ..لن تكونْ
إنَّها لحظَةٌ ..أبدعتْها العروبةُ واستوطَنتْها . .
فَعنْ أيِّ أسطورةٍ يبحثونْ ؟
أيُّها المسجد ُ الذي كان قبل الزمانِ ..
ترآى لمن سيكونْ
وصلّى على أرضه الأنبياءُ ..من قبل ما يولدونْ
وكانت فلسطينُ .. سجّادةً في السماوات والأرضينْ
من عبيرٍ وطينْ"(4).

إن أبرز مايثير المتغيرات الأسلوبية في القصيدة المقدسية هذا الانتقال من متغير أسلوبي إلى آخر ، من نداء إلى استفهام ، ومن تعجب إلى نفي، ومن نفي إلى إثبات ، لإبراز الحراك الرؤيوي في الرؤى الصوفية؛ وتعزيز درجة احتدامها وشدتها على ذات الشاعر؛ وهذا مأظهره الشاعر عندما عبَّر بصريح العبارة على أن حبه لبغداد يفوق الحالة الشعورية إلى الأسطرة، من خلال قوله:

"ومَن يدَّعون إنَّ الأساطيرَ مهرُ بكارتِها ..كاذبون"، فالشاعر أراد أن يؤكد منظوراته الرؤيوية ، وفق مسارين متضافرين ؛هما التصوف، والأسطرة، وكل موحيات القصيدة ، ومتغيراتها تصب في أتون هذين المسارين ؛ ولا نبالغ إذ نقول: إن المتغيرات الأسلوبية تتنوع في القصيدة بمقدار تشعب رؤاها وكثافة منظوراتها الرؤيوية ، وحراكها الشعوري، وأفق متغيرها الفني ؛ فالكثير من المبدعين ، يظنون أن الثبات على موقف واحد أورؤيا واحدة يجعل نصوصهم واضحة ، ومكنوناتها عميقة الإيحاء والتأثير ، وهذا موقف مغلوط ينافي حقيقة الشعر وبذرة الشعرية ؛ فالذي يغني حركة القصائد وفنيتها تنوع متغيراتها الرؤيوية ، وأساليبها الشعرية ؛ فالمعنى الواحد والرؤية الواحدة نقيضة الشعر ونفيضة الشعرية ؛ فالشاعر كتلة من المتغيرات النفسية والشعورية المتوالدة على الدوام ؛ فهي لاتستقر على حال أو موقف؛ وهذا مايجعل الشعرية ماثلة في حراكها الدائم ومنظورها المتغاير دوماً، ولانبالغ إذا قلنا : إن حميد سعيد نوّع في حركة الدلالات، والرؤى الشعرية ، وكثف من ذكر المواضع والمدن في قصائد هذه المجموعة ليدل على شدة المغيرات الرؤيوية والوجودية التي مر بها في أيامه الراهنة، وحجم الضيق والاغتراب الذي يعيشه في عالمه الوجودي منفياً عن العراق وأهلها وذكرياتها الجميلة التي لاتنسى؛ فالشاعر دمج مشاعره الفردية بهمه الوجودي ، وهمه الوجودي بهمه القومي بحراك شعوري محتدم اقتضى تنوعاً في الرؤى، والأساليب، والمتغيرات الفنية؛ فما بغداد إلا فلسطين، وما فلسطين إلابغداد بإحساس شعوري واحد ومعاناة وجودية عميقة واحتراق باطني مشترك:

وكانت فلسطينُ .. سجّادةً في السماوات والأرضينْ من عبيرٍ وطينْ"؛وبهذا الإحساس الشعوري؛ عضدد الشاعر مواقفه ورؤاه الصوفية ومقتضيات متغيراته الأسلوبية ؛ بما يحقق لها الانفتاح والشفافية والعمق ، وهذا مانستدل عليه في قوله:

" في كتابٍ مضيئٍ ..قرأنا وصيَّة أشجارِها
وأناشيدَ أحجارِها
والمراثي التي خطَّها الظاعنون . .
وتبقى ..
كما أبدعتها العروبةُ .. من لغةٍ أودعتْها القصيدةُ ..
بعضَ شمائِلها ..
لاأخالُكِ إلاّ كما أنتِ .. من صلواتٍ ونورْ
وما ترَكَ الغاصبونَ على صفحات كتابِكِ مايَسطرونْ"(5).

إن أبرز ما يحرك الرؤى الصوفية كثافة المتحولات النصية التي تثيرها الأنساق الشعرية؛ وهذا يدلنا على أن تراكم الرؤى الصوفية هو الباعث الأساس على تنوع المتغيرات الأسلوبية ذات المنزع الصوفي؛ وهذا يعني أن الجو الأسطوري الذي تثيره القصيدة المقدسية مبعثه الحراك الشعوري/ والإحساس بالعظمة، والتقديس إزاء العراق؛ ومن هذا المنطلق، نلحظ عمق الرؤى الصوفية، ومحركاتها الشعورية ، كما في قوله:" وصية أشجارها- أناشيد أحجارها-صلوات ونور-يسطرون"؛ ومن يدقق في كل مفردة من هذه المفردات نلحظ عناها بالدلالات الصوفية، كا(لتوق، والأنس، والطمأنينة ، والراحة النفسية)؛في جو ملحمي أسطوري غاية في العظمة والتقديس للعراق، كما في قوله:

"انتظري .. ويكون النشور
أنتِ عَلَّمتِنا ..أن يكون الحوارْ
بينَ جارٍ وجارْ
وليس مع المُفترينَ على وردِنا والذمارْ
لاأخالُكِ إلاّ كما كنتِ ..
من جنَّتين اثنتين .. تُقبلينْ
السُرى والقيامة ..
أما الذين .. يُريدونَ أنْ توغلي في الكهانةِ ..
أو توغلي في المهانةِ ..
فانتبذي دونهم .. وطناً ساحراً ..
واصعدي في معارجكِ ..اقترني باليقينْ
لاأخالُكِ ..إلاّ كما ستكونين "(6).

إن القارئ الحصيف يدرك أن الجو الصوفي هو المحرك لكل الرؤى الكاشفة الدالة عن عمق مقصودها، ومراميها البعيدة؛ ومن الدلائل المرجعية الكاشفة عن عمق شجاها الروحي وأنسها الصوفي، وحالة الوله المطلقة التي وصل إليها بعد معاناته وصبابته الروحية وحنينه المشبوب المفردات الدالة على ذلك:" اقترني باليقين- اصعدي في معارجك- تقبلين.. السرى والقيامة"؛ومن هذا المنطلق؛ يمكن القول: إن أبرز محفزات الرؤية الصوفية المتغيرات الأسلوبية التي ولدتها في النسق الشعري؛ والجو الأسطوري المضمر الذي أظهرته هذه القصيدة، مما يدلل على البعدالماورائي العميق لسيرورة قصائده الصوفية؛ وهذا مايحسب له في شعرية متحولاتها الأسلوبية.

شعرية المتغير الأسلوبي للمشاهد والرؤى السريالية:

إن قارئ قصائد(من أوراق الموريسكي) يدرك إيقاع متغيرها الأسلوبي المكتظ بالرؤى والمشاهد السريالية المكثفة؛ وهذا له شرعيته الرؤيوية، ومنطلقه الوجودي المؤثر، فالشاعر يعيش حالتين متناقضتين /أو موقفين رؤيويين مصطرعين، موقف التقديس للماضي والتعلق به حد الأسطرة والتصوف، وموقف الاتضاع والهشاشة والاغتراب الوجودي المنسلخ عنه حدَّ التقزز، والقرف، والاحتجاج ؛ ومابين هذين الموقفين تتراوح الذات في قلقها/ وصورها الكابوسية المرعبة ، وأخيلته المحمومة رفضاً ونفياً واحتجاجاً؛ وإزاء هذه الرؤى المحتدمة كان من الطبيعي أن تتنوع المتغيرات الأسلوبية إزاء هذه المشاهد، وتفرز هذا الكم من الرؤى السريالية الهذيانية ، تنفيساً عن هذه المشاعر الاغترابية الجارحة التي يعانيها الشاعر في وجوده، وتجسدت أكثر ماتجسدت في قصائد الديوان قي قصيدة (أحوال الموريسكي) التي كانت المثال الرؤيوي المحتذى بكثافة الرؤى الاحتجاجية الرافضة، والتطلع إلى فجر الخلاص؛ وهذا ما تشي به هذه القصيدة، ومقاطعها كلها، وأول ماندلل عليه منها هذا المقطع:

"حيثُ لااسم لي..
كنتُ أبحثُ عَنّي
وعمّن أكادُ أُضيِّعُها.. بعدَ أنْ ضَيَّعتني
وعن أَثرٍ .. لاحَ لي أو توهمتهُ..
وعَثرتُ بما كنتُ أَحسبهُ ظلّها..
فَجفتني
حيثُ لااسم لي..
سأُقيمُ بلاداً كما في الأساطيرِ
أُخرجُها من فضاءاتِ ماكانَ..
أُطلِقُها..
فتكونُ بَيني وبَيني"(7).

إن الشاعر يبحث عن وجود جديد، وهذا الوجود سواء تعلَّق بوجود ماضوي مشرق يستعيد كل ماكان أم وجود مجازي/ أو متخيل يلغي كل مفاسد الحاضر وعقمه وجفافه؛ وهنا، تتزاحم الرؤى الكابوسية بين أحلام وردية لاملتقطة وواقع اغترابي مأزوم ومتصدع ؛ ولهذا، يبحث عن عوالم أسطورية خيالية تنعش شهوته الوجودية، وتلقي بأثقال رؤاه السريالية القاتمة أو المشبعة بالحرقة والأسى والضياع إلى هاوية التلاشي والأسى والاحتراق، في فضاءات سحيقة ليس لها قرار؛ وعلى هذا النحو يطالعنا الشاعر بمتغيرات أسلوبية في حركة البنى والدلالات، لرصد كثافة الرؤى الكابوسية المأزومة التي ترصد أحواله الاغترابية الجريحة وصداها المتوتر المأزوم.وهنا يرصد أحواله الاغترابية البائسة، من خلال رمز الموريسكي المطارد/ أو المعذب، حيث يبحث عن مدينته الضائعة التي ضاع منها كل شيء، ولم يبقَ له بصيص من أمل وسط تفسخ القيم وتدني المثل وانهيار المجتمع؛ وهذا مانلحظه في قوله :

"حيثُ لا اسم لي
رحلَ النَحلُ
واعتزَلَ النَخْلُ
واستوطَنَتْ في البلادِ الضِباعْ
كُلُّ شيءِ يُباعْ
. . . . . .
. . . . . .
كُلُّ شيءِ يُباعْ
أَقراطُ شبعاد.. حُقُ الذرور.. مِرآتُها..
وغُلالاتُها وعَباءاتُها..
عُرِضَتْ حيثُ تفتحُ أسواقَها .. قَينُقاعْ"(8).

إن تصوير المظاهر الموبوءة في مدينة الشاعر الجديدة دفعه إلى تنويع الأساليب والرؤى الشعرية، ففي مدينة الشاعر الجديدة كل شيء فيها يباع أورهين المزيادة والمبيع، وهذا يعني أن مدينته الحاضرة فقدت معالم نضارتها وصفائها وطهارتها أصبحت موئلاً للفساد والضياع والتشظي والانهيار؛ لم تعد كسابق عهدها مزهوة بالخصوبة والنضارة والجمال، أصبحت رهينة ضياعها ومظاهر اتضاعها ؛ إنها موئل الضغينة والفساد والدمار والانهيار؛ ومن هذا المنطلق؛ نوَّع الشاعر في أساليبه الشعرية؛ وكثف رؤاه، ومنظوراته الوجودية السريالية ؛ عبر إيقاع المكاشفة؛ و تكريس التشويه والبشاعة ومعظم مظاهر الفساد والانحلال؛ وهذا يدلنا أن تنوع المتغيرات الأسلوبية من الإنشاء إلى الإخبار، وبالعكس، جاء ارتداداً فنياً بقصد رصد الواقع الموبوء، ومظاهره الفاسدة، ومرتكساته الوجودية المأزومة ؛ وهذا يدل على إغراقه في النزعة السريالية، وتكريس مظاهر البشاعة الوجودية.ومن أهم المظاهر السريالية إبراز الرؤى المحتدمة والمشاعر المتناقضة، كما في قوله:

قالَ لي..
بعدَ أنْ، سرقَتْ ريحُها.. كُلَّ ما خبّأته رياحي
لماذا سأشكو؟
ولِمنْ ؟
أَتُصَدّقني.. إنْ قصصتُ عليكَ رؤيايَ..
إذْ جاءني البحرُ يسألني عن مياهٍ.. ليغسلَ قمصانَهُ
وعن فندقٍ رخيصٍ..
وعن مطعمٍ يتغاضى أصحابُهُ .. حينَ لاأستطيعُ دفعَ حسابي
أَتُصَدّقني ؟!
فَتَخَيَّلتُ بحراً فقيراً..
تَجيءُ به موجةٌ متصابيةُ..وتَحُطُّ به في اليبابِ"(9).

إن الإحساس المرير بالبشاعة الوجودية، وتكريس مظاهره من شكوى، وفقر، وضياع، وذل، وانكسار دلالة على حرقة اغترابية ؛ فالموريسكي المطارد هو ذات الشاعر المعذبة الحالمة بالتغيير؛ وأقسى مظاهر الاغتراب الحرقة المريرة من جراء الواقع المأزوم المناقض لمايتمناه الشاعر، أو يحلم به، ولهذا، بدا الإيقاع السريالي ضرورة فنية مقصودة لرصد مظاهر البشاعة الوجودية ، ومنعكساتها كافة؛وما أحوال الموريسكي إلا الوجه السريالي ؛للتعبيرعن حرقة الواقع ومرارته،وماتنويع المتغيرات الأسلوبية من نفي إلى إثبات، ومن تعجب إلى استفهام إلا دلالة على كثافة الرؤى الاغترابية؛ ومنازعها الوجودية المتناقضة.

ولعل أبرز محفزات الرؤية السريالية عند حميد سعيد، تنويع أساليبها وطرائقها الوجودية،وهي تقوم على قلقلة وجودية/ لكل ماهو مألوف أومدرك، إنها نزوع إلى إبراز صخب الرؤيا؛ وامتدادها الزمني ؛فسريالية قصائد حميد سعيد في هذه المجموعة سريالية شعرية-إن جاز التعبير-إنها نابعة عن مدركها الفني قبل مثيرها العاطفي؛ وهذا مايجعل سرياليته مُخَفَفَة بعض الشيء، وليست مغرقة في العبث، والتشظي، والتشويه المطلق كسريالية أدونيس؛ أو نزيه أبوعفش أوفايز خضور، إن سرياليته مرجعها حرقة داخلية واغتراب مرير؛ وماتنوع المتغيرات الأسلوبية في هذه القصيدة إلا دلالة على رؤية عميقة وإحساس وجودي شامل، وللتدليل على ذلك نأخذ المقطع التالي:

فاجَأَتني حديقةُ بيتي الذي كانَ..
إذْ تَبِعَتني إلى النومِ
ليس سوى حطبٍ في فراشي
أُجَمِّعُ ماكان من شجرٍ.. وثمارٍ..
كُلٌ يعودُ إلى حقلهِ
وأظلُّ وحيداً كما زهرة الصبار
إذ أكملَتْ نخلةُ الغريب أوراق هجرتِها..
وسترحَلُ..
حينَ تَمُرُّببستانِ أمِّ البنين.. وقد كانَ
لَنْ تجدَ البلَحَ الذَهَبيَّ المُتاحَ للعابرين..
لانخلةُ الغريبِ.. ولا.."(10).

إن الشاعر لايغالي بسرياليته، إنه يخفف من غلوائها، وذلك؛ ليحقق منتوج الرؤية بمصداقيتها، وعمقها، ونبضها الشعوري المقاوم؛ فالذكرى والغربة تشعل نيران فؤاده؛ من حنين لمنزله الذي كان؛ وحنين لأيامه، وذكرياته الماضية عبر مؤولات لغوية دالة بعمق عن إحساسه الاغترابي المأزوم، كما في المؤولات التالية(نخلة الغريب- زهرة الصبار-حديقة بيتي)؛ فالشاعر يضع القارئ في صلب المقاومة والمواجهة والصمود؛ فهو رغم كل الأوجاع والأسقام سيقاوم ؛ ويعود إلى وجه الحياة كما كان ، فالموريسكي الغائب حاضر في ذات الشاعر، وسيعود الموريسكي إلى أندلسه الذي أبعد عنها كما حال الشاعر الذي سيقاوم حتى النهاية، لتحقيق هذه الغاية ؛وما زهرة الصبار إلا الرمز المقاوم ،للتمسك والتشبث إلى اللحظة الأخيرة بالأرض والوطن؛ والإيمان بحق العودة مهما طال الزمن ؛ وتوالت الأيام ؛ لابد من قدوم فجر جديد يؤذن بالخلاص، والعودة إلى الديار، والاستئناس بتلك الأماكن المفتقدة؛ وتحثث معالمها وذكرياتها التي كانت.
واللافت أن الشاعر في سرياليته يتوجه إلى تحريك الجمادات، ومحادثة الطيور، لتشاركه معاناته ولحظات اغترابه؛ وهذه اللحظات بقدر ماهي مريرة في وقعها على نفسه بقدر ماهي كاشفة عن رغبته في تخطيها إلى أفق جديد وفجر روحي متجدد، إذ يقول:"

في الصباح.. يُراقِبُني الهدهدُ الحذِرُ..
هلْ كانَ يَعْرِفُني؟!
وهل هو مَنْ كُنتُ حاولتُ.. إذْ كُنتُ طِفلاً..
أَنْ يُشاركني فطوريَ ؟!
أمْ من سُلالته ؟
وهل كنتُ طفلاً؟
تَمَنَّيتُ لو تعلَّمتُ من لغة الطيرِ.. شيئاً..
لَحدَّثَني عن بساتينَ بِيضٍ .. عَلَقْتُ بها
ونساءٍ..
مازلتُ أَذكُرُ مَكْرَ انزياحِ العَباءاتِ..
عَمّأ يُخبِّئن من ثمرٍ ناضجٍ .. بانتظار القطاف"(11).

إن رغبة الشاعر في تنويع رؤاه من خلال تحريك جميع من حوله لمشاركته أحاسيسه،ومشاعره ورؤاه دفعه إلى تنويع متغيراته الأسلوبية؛لتحقيق مقصوده ورؤاهاالسريالية، لاسترجاع كل لحظاته السابقة وزمن طفولته، وزهو صباه؛ وهذا يؤكد رغبة الشاعر في تنويع أساليبه، ومنظوراته الوجودية بكل ماتحمله من رؤى، وأطياف اغترابية مريرة؛لإبراز عمق المعاناة، والإحساس الشعوري المرير في لحظات اغترابه وحنينه إلى الطقوس، والعادات، والمشاهد العراقية في زمنه الماضي ؛ ومحاولة التقاطها أو استرجاعها ولو كانت أطيافاً أو أشباحاً لاتبين.
وكما قلنا من سابق: إن تنويع المتغيرات الأسلوبية في قصيدة(أحوال الموريسكي) جاءت نتيجة كثافة الرؤى الاغترابية ذات المنزع السريالي؛ فالشاعر سريالي معتدل؛لايبالغ في التشظي حدَّ التلغيز والتعقيد ، ولايتخفف حدَّ البساطة والألفة؛ وهذا مانلحظه في محاكته للأشياء من حوله؛ وكانها شخوص حية يشاركها معاناته ومشاعره الداخلية؛ كما في قوله:

"لأقُل.. إنّني تَعَلَّمتُ من لغة الطيرِ.. شَيئاً..
ولأقُلْ.. إنَّ هذا الهدهدَ الذي يُراقِبُني..
هو مَنْ كُنتُ حاولتُ أنْ يُشاركني فطوري..
إذْ كُنتُ طفلاً..
أتساءَلُ.. هلْ كُنتُ طفلاً ؟!
وأسألهُ أَيُهذا المُتَّوَجُ بالسحرِ.. ماذا لديك؟
وعَمَّن تُحدثني؟
أَجئتَ تُشاركُني جَليدَ مُعتَزَلي..
أَمْ حرائقَ أسئلتي ؟
وأنا في هذه المدينةِ.. لستُ الذي عَرفتَ من قبلُ..
قُلْ لي.. لماذا تُراقبُني ؟!"0(12)

إننا نلحظ تنوعاً ملحوظاً في الانتقال في المتغيرات الأسلوبية، من السؤال إلى الاستفهام ، ومن الشك إلى اليقين ، أو من النفي إلى الإثبات، ومن المخاطب إلى المتكلم ، ومن المتكلم إلى الغائب ، لرصد حالة الاحتدام الشعوري ووقع الذات المغتربة/ أو المطاردة؛ فهو يريد من كل الأشياء من حوله أن تشاركه جراحاته الاغترابية ، وأناته الوجودية المحمومة بالأسى والحرقة الداخلية؛ وهذا يعني أن إشراك الطير في معاناته ومشاركته مغزل أسئلته المحمومةعلى شفاه الغربة والمرارة والانكسار دليل نزوع سريالي إلى إبراز قلق الذات وإحساسها الوجودي بالوجاعة والعذاب ؛ فالإنسان المطارد أو المعذب بحاجة ماسة إلى إشراك من حوله في عذاباته ليخفف عنه ثقل الأوجاع ووطأتها على ذاته القلقة المغتربة؛ وهذا المنزع هو منزع سريالي يكشف معاناة الذات وحرقتها الوجودية. ولانبالغ إذا قلنا: إن سريالية حميد سعيد في هذه المجموعة نابعة من ضرورة فنية،ومن مقتضيات شعورية عميقة تتطلبها الرؤية المبثوثة بكل حراكها الوجودي أوالنفسي؛ أو الرؤيوي. وهذا مايجعل المتغير الأسلوبي ناتجاً عن مقتضى فني/ مقصدي مخصوص، وليس مجرد شكل لاعلاقة له بجوهر الرؤية من الصميم.

وماينبغي القول أخيراً: إن من يتتبع قصيدة (أحوال الموريسكي) سرعان مايدرك متنوعها الأسلوبي، وإيقاعها السريالي ؛ وماذكرناه آنفاً هو غيض من فيض ؛ فمن أراد أن يكشف المزيد فما عليه إلا مطالعة مقاطعها كلها، سيقف على رؤى اغترابية متنوعة، وأساليب بؤرية مكثفة، تنم عن وعي مقصدي، وحساسية شعورية، ومهارة إبداعية فائقة في تحريك كل مايثير بنى القصيدة من العمق.

شعرية المتغير الأسلوبي للحدث الدرامي أو الموقف الدرامي:

لاشك في أن قيمة المتغير الأسلوبي تتوقف على جوهر الرؤية الشعرية ؛ وهذا الجوهر بدوره هو المحرك للشعرية ، والباعث على نشاطها وحراكها الشعوري؛ وأبرز محركات الشعرية الاحتدام والاصطراع الدرامي بين الشخصيات، والموقف الدرامي الذي تشكله الأحداث الشعرية حتى في حالة غياب الشخصيات؛ وهذا القول –بغاية الأهمية – فليس من الضروري توافر الشخصيات في القصيدة حتى تتخذ طابعها الدرامي؛ وإنما قد تغيب الشخصيات ، وتكون القصيدة ذروة في الحركة الدرامية والتوتر الدرامي ؛ وهنا نوافق الباحثة جميلة عبد الله العبيدي في دراستها لهذا البعد الدرامي في شعرحميد سعيد، إذ تقول:" ولا شك في أن حركة القصيدة هذه بين الثبات والتحوّل تنطوي في حساسيتها على بعد درامي في فعالية التموّج بين الثبات والتحول التي لا تتوقف عند حدود الحركة الإيقاعية المجردة بل حركة الفعل والفكرة والحدث الشعري(13).
فالقصيدة هي في جوهرها صراع بين وجوديين/ أوعالمين متناقضين؛ ولا تستقر القصيدة المبدعة على جانب وجودي دون آخر، إنها تمثل حركة الوجود في اصطراعه الحقيقي وثنائياته المتضادة؛ ولانبالغ إذا قلنا : إن قصائد حميد سعيد في مجموعته(من أوراق الموريسكي) هي ذرورة في الاحتدام والحركة الدرامية دون أن نلحظ أي جانب من حوانب الاصطراع الدرامي بارزة للعيان إلا ماندر؛ وهذا يعني أن الدرامية ماثلة في المواقف، والرؤى، والأحداث التي تبثها القصيدة؛ وليس في حركة الشخصيات وعالمها الوجودي؛ أي إن الدرامية ماثلة في العالم الوجودي لشخصية الموريسكي؛ وليست في ذات الموريسكي بعينها ؛ فالاصطراع الدرامي ، وإن خرج من باطن الشخصية من إحساسها الوجودي واحتدامها الشعوري فإن المنعكس التوتري خارج عن نطاق الذات، منبعث من العالم الوجودي المأزوم الذي يعيشه الشاعر؛ وهذا يعني أن منطلق النزعة الدرامية مرتد من الخارج إلى الداخل، وليس العكس؛ صحيح أن شخصية الموريسكي مطاردة معذبة ، لكن هذه المطاردة ليست مبعثها الشخصية ذاتها؛ وإنما مبعثها الواقع الاغترابي المرير الذي عاشته؛ وشتان مابين واقع تختاره وتعيشه،وهو واقع مثالي يحلم المبدع خلقه، وبين واقع ظالم مرير يُفرَض عليك قسراً؛ إن شخصية الموريسكي المعذبة هي شخصية الشاعر المغتربة التي عانت ماعانته من نفي، وظلم، واستلاب ؛ وما الحركة الدرامية في قصائد هذه المجموعة إلاحركة الذات المغتربة إزاء الواقع المرير المستلب الذي تعيشه هذه الشخصية.
ولو دقق القارئ في شخصياته المثالية (المعري- المهدي بن بركة- الشنفرا- الموريسكي) وغيرها من الشخصيات؛ لأدرك أن جوهر مثاليتها نابع من اصطراعه مع الواقع المتفسخ الموبوء الذي تعيشه هذه الشخصيات ، بكل ماتمثله من جوانب الاصطراع بين:[ (الخير/الشر)؛و(العدل/الظلم)؛و(الموت/الحياة)،و(الذات / الآخر)]، وللتدليل على قيمة المتغيرات الأسلوبية في السياقات الدرامية نأخذ قصيدته(من أحوال الموريسكي) أنموذجاً، لإبراز الملمح الدرامي في قصائد هذه المجموعة؛ وخير مانمثل به قوله:

"ليس لي لغةٌ..
أستطيعُ بها وصفَ ماكانَ
أو ما أشاهدُهُ .. حينَ أغدو وحيداً
مذْ تركتُ القُرُنفُلَ.. مُكْتَئِباً
صرتُ شيخاً..
وما عُدتُ أَفتَحُ نافِذَة يدْخُلُ النومُ منها..
 
إلى حيثُ كُنتُ أقيمُ..
ولا حُلُمٌ.. يتخطّى الفضاءَ النُحاسيَّ..
ينزِلُ بيتي..
وما أتَخَيَّلُ من زمنٍ نَثَرَتْهُ الثواني..
على صَفَحاتِ كتابي
. . . . . .
. . . . . .
لَمْ أَعُدْ أَتَذَكَّرُ ما كانَ بينَ الحديقَةِ والبيتِ..
منْ أُلفَةٍ
لَمْ أَعُدْ أَتَذَكَّرُ أَلوانَ لوحةِ آلَ سعيد في الصالةِ المغربيَّةِ *
أو لوحةَ الغَجَرِ الداخلينَ في الأخضرِ.. في غرفة الضيوفِ"(14).

لابدَّ من الإشارة إلى مقولة سابقة ونؤكدها في هذا المقام وهي: إن القصيدة الدرامية ليست حركة اصطراعية حادة بين الشخصيات؛ وإنما قد تكون رؤى متوترة أو مجرد أحاسيس وخلجات روحية محمومة تضعك في طقس درامي أو ملحمي دون أن نلحظ هذا الإيقاع بارزاً في حركة الدلالات ورؤاها الباطنة؛ ومنعكساتها على الشخصيات أو الأحداث المبثوثة في ثنايا القصيدة؛ وهذا مانلحظه في سياق القصيدة وجوها الإيحائي العام؛ ولودققنا في المقول الشعري السابق لأدركنا الخلفية الدرامية المحمومة التي تعيشها شخصية الموريسكي المطاردة في زمنها الاغترابي المرير؛ وهنا يضعنا الشاعر في طقس درامي تشي به رؤاه وأحاسيسه الداخلية المصطرعة؛ فالشاعر يعاني ومعاناته ماثلة بين جانبين متضادين أو مصطرعين ؛ جانب وجودي ماضوي يموج بالحيوية، والخصوبة، والإشراق؛ وهذا الجانب تمثله ذكريات حنينه إلى بيته، وحديقة منزله، وذكرياته المشرقة بالأمل، والخصوبة، والحياة؛وكل مايمت إلى ماضيه المشرق الخصيب بصلة؛ وجانب قاتم يمثله الواقع الاغترابي المرير الذي يعيشه الموريسكي المطارد/ أو الشاعر المعذب؛ في رحلة عذاباته الوجودية المأزومة ومواجعها الداخلية؛ وهنا تزداد حدة الصراع الدرامي المعتمرة في قرارة ذاته الباطنة المأزومة ؛ إذ بدأ الشاعر يفقد بريق هذه الذكريات شيئاً فشيئاً؛ ويفقد إثرَهَا نبضه الوجودي الدافق بالحيوية والحياة؛ وبدأ يعاني من تلاشي هذه الذكريات؛ فلم يعد باستطاعته التقاطها؛ نظراً لشدة المطاردة، وكثافةالاجتراحات الاغترابية المريرة التي يعانيها ، ولايستطيع الصمود أمامها ؛ أوحتى مواجهتها في ظل هرمه،وانكساره الروحي وإحساسه بالعجز،وهنا ، وإن غابت المفردات المتضادة والثنائيات الضدية فإن ما عوضها الاحتدامات الشعورية والرؤى المكثفة؛ التي أظهرت حالة التوتر الشعوري بين التمسك بالذكرى إلى حد الالتصاق، وهروبها التدريجي من بين أصابعه إلى غير رجعة ، وما أقسى أن تُنْزَع من المرء لحظات تعطشه للحياة بالتدريج، ويقف المرء عاجزاً أمام هذا الحراك المدمر صوب الهاوية. ولايستطيع إيقافه أو الهروب منه؛ وهذا يدلنا أن كل مقطع من هذه القصيدة يضعنا أمام هذه المعادلة الوجودية المحتدمة في قرارة ذاته المغتربة المتوترة؛ ولا نبالغ إذا قلنا : إن جلَّ الاحتدامات الشعورية تعود إلى البنى الدرامية التي تبثها الذات في قلقها واغترابها الوجودي. وهذا يعني أن تنوع المتغيرات الأسلوبية هو ناتج حتمي، أو حصيلة حتمية لهذا الاحتراق والتوتر الداخلي الذي تعيشه الذات الشعرية المغتربة أو القلقة في عالمها الوجودي المرير؛يقول الشاعر:

" كُنْتُ احتَفظتُ في دُرجِ مكتبتي..
بقصائدَ مَخْطوطَةٍ .. للحُصَيريِّ **
أَينَ هي الآن َ؟
هلْ غادرَتْ سُفُنُ الشعراءِ.. مَوانِئَها الضَيِّقهْ؟
لَمْ أَعُدْ أَتَذَكَّرُ..
أَيُّ القصائدِ تلحقُ بي وتُشارِكُني الليلَ..
وأَيُّ القصائدِ..تَهجُرُني مُذْ يَحِلُّ المساءْ ؟
. . . . . .
. . . . . .
سَأُحاوِلُ أنْ لا أَرى أَحداً
وأُقيمُ بعيداً عن النومِ.. كيْ لاأَرى حُلُماً في منامي
وأُحاولُ..
أَنْ لا أرى صفحات الوفيّاتِ.. في صحفِ الصباحِ..
كَيْ لا أُضيف إلى مُعجمِ الراحلينَ .. أَسماءَ أُخرى
وأَنسى ضجيجَ المدينةِ.. كيْ لاتضيع القصيدَةُ..
كانتْ الريحُ..
تدعو المياهَ في آخرِ الليلِ..
إلى جَنَّةٍ وارِفهْ
فَتُفارِقُ شطآنها .. وتُفارِقُني..
وأَظَلُّ قريباً من العاصفهْ"(15).

إن قارئ هذا المقول الشعري لابد وأن تستوقفه الكثير من الرؤى، والأحاسيس، والمشاعر، وتواجهه الكثير من المتغيرات الأسلوبية التي تبدأ بالانتقال من الحركة الفعلية إلى الصيغ الاسمية؛ ومن الصيغ الاسمية إلى الحركة الفعلية ، ومن الإنشاء إلى الإخبار، ومن الإخبار إلى الإنشاء، ومن الاستفهام إلى النفي ، ومن النفي إلى الاستفهام ، لرصد التوتر الداخلي، وذرورة الحالة الدرامية المكثفة التي تعيشها الذات الشعرية في لحظات اغترابها، واحتدامها الشعوري المرير؛ ونزعتها الدرامية المُبَطّنة التي تعيشها الذات الموريسكية المطاردة أو الملاحقة، وهنا يحاول الشاعر أن يسترجع كل ذكرياته ومعظم أشيائه التي تركها قبل أن يغادر مرغماً المكان مطارداً، لقد ترك قصائده وأشياءه الخاصة، وغادر مخنوقاً بحسرة مريرة ، وفيض من الأحاسيس الجارحة التي تعتصر كيانه، وتدمي مقلتيه حزناً وأسىً على الكثير من أشيائه التي لا تقدر بثمن ، وأهم شيء هو الوطن الذي لاتعوضه عنه جميع الأوطان ، ولاتسد خواءه الروحي جميع الأماكن والبلدان، وما أشد حاجة المرء في هذه اللحظات إلى من يفضي له بمعاناته، ويفشي بأساه واحتراقه الوجودي؛وعندما لايجد المرء البديل أو الخلَّ الوفي يرتد إلى ذاته الداخلية بغصات اغترابية مريرة، وأنَّات شعورية محمومة، وأنفاس مخنوقة، أوأنات وزفرات متقطعة،لقد ترك أشياءَه، وأصحابه وأسماء أصدقائه الراحلين وقبورهم التي تعيد له الكثير من الذكريات، وتمنحه الكثير من الشجن والحزن على مابقي له من أطيافهم من بريق سرعان ما تبدد وتلاشى؛ وعلى هذا النحو من التوتر والاحتدام الشعوري يعيدنا الشاعر إلى بؤرة الحدث الدرامي في الأحداث، والرؤى، والمشاعرالمحمومة التي تفيض بحسرات لاتنتهي ، وتفيض برؤى مصطرعة بين ماكان عليه ، وما غدا إليه حاله الآن من تشتت، وضياع ، وانكسار؛ وسط صخب المدينة الجديدة، ومظاهرها الموبوءة المتفسخة، وهنا تبدو النزعة الدرامية ماثلة في الرؤية المكانية بين مدينته المشرقة بالسكينة، والهدوء، والاطمئنان الروحي، ومدينته الجديدة المطارد إليها بما تضج من صخب، وغوغاء، وفساد، واتضاع، وشتان ما بين المدينتين؛ وشتان ما بين الرؤيتين؛ ومن هذا المنطلق؛ تتأسس حركة القصيدة في بؤرها الدلالية على تكريس كل مظاهر الحركة الدرامية وتوترها دون أن نلحظ كثافة الشخصيات الدرامية أوحتى إبراز ملامحها؛ فالشاعر لايعنيه احتدام الشخصيات بقدر مايعنيه احتدام الرؤى ،وحركة المشاعر المصاحبة لتوتر الرؤية أو الحدث الشعري المجسد؛ وهذا مانستدل عليه من مقاطع هذه القصيدة بعينها؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:

في انتظار.. ما لَمْ أَكنْ أَتَذكَّرُه
كُنْتُ أُصغي إلى ما يُقالُ لَهُ....
لَمْ أَعُدْ أَتَذَكَّرُ.. ماذا يُقالُ له !
ورأيتُ.. ما يُشبِهْ البلادَ التي تخيَّلتُ..
لَمْ أَتخيَّلْ بلاداً
وأَسعى.. كما نملةٌ إلى بيتها.. أَتَخَيَّلُ بيتي
أُحاولُ أَن أَتَذَكَّرَ ما كانَ في البيتِ..
من كُتُبٍ ولُقىً وتماثيلَ..
من صُوَرٍ وخُطوطٍ.. ومن شَجَرٍ
يومَ كانت النخلةُ البابليةُ..
تستبدلُ الرُطَبَ الجَنِيَّ.. بضحكة جارتها الصاخِبهْ
كًلَّما مَررتُ بمقْبَرَةٍ..
عادَني.. ما يُعيدُ إليَّ الشجى
مَن سأسأَلُ عنها..
ومَن ذا الذي سوفَ يسألُ عنّي؟
أتوقَّف عندَ القبورِ القصيَّةِ..
أبحثُ عن بعض شاهدةٍ.. علَّني أُكْمِلُ ما تآكَلَ منها
وأقرَأُ ماغابَ عَنّي
أُجمِّعُ.. من صفحاتٍ مُغَيَّبَةٍ
ما يُعيدُ إلى الموت.. ماكانَ من عِفَّةٍ
ويُعيدُ إلى المقبرَهْ
سَمْتَها.. حيثُ تجتمعُ العائلهْ"(16).

إن القارئ سرعان مايدرك تنوع المتغيرات الأسلوبية، وهذه المتغيرات ناتجة عن قلقلة شعورية، وإحساس درامي مشهدي مأزوم ؛ فالشاعر، هنا، لايرسم المشاهد، والأحداث رسماً فوتوغرافياً/ أوملتقطاً بعدسة مونتاجية؛ وإنما يقوم برصد ما يعتري في داخله من مشاعر؛ ويبثها بحرقة شعورية ؛فتأتي المشاهد متحركة بحركة الداخل والمشاعر المصطهجة من أعماق أعماقه، وهذا يعني أن المشاهد محتدمة من حرقة ماتمثله من توتر، ورؤى مشهدية متوترة، خاصة عندما يتذكر أثاث منزله ، ويستحضر الكثير من أشيائه المتبقية ، وكأن كل شيء مفتقد هو قطعة من فؤاده، وفلذة من فلذات كبده المحترقة أسىً وحزناً ومرارةً، ولعل هذا الإحساس بالفقد والمرارة يرافق الذات في قلقها وتوترها الوجودي واصطراعها المأزوم؛ خاصة عندما يمر بالمقبرة متذكراً أسماء من رحلوا وآثار قبورهم الباقية شاهداً؛ ودليلاً على عمق المصاب وشدة مضاضة الرحيل، وهنا يصل الشاعر إلى ذرورة التوتر الدرامي حين يقف الشاعر على حافة القبور متسائلاً: هل ثمة من سيذكرني ؟؟ وكيف سيذكرني إذا ما دفنت في أرض بعيدة عن موطني؛ وفي عالم مدني صاخب مسكون بالضجيج والضوضاء؟! وفي خضم هذه الأسئلة الصاخبة المتوترة تتنوع المتغيرات الأسلوبية، وتزداد أساليبها ودرجة تباعدها من نفي إلى إثبات، ومن استفهام إلى تعجب ، ومن متغير أسلوبي اسمي إلى متغير أسلوبي فعلي؛ ومن متغير شرطي إلى متغير إخباري؛ وهكذا دواليك ، حتى تتمظهر الرؤى الاغترابية الدرامية بكامل احتدامها حرقتها واصطراعها الوجودي، وأساها الجريح.
وماينبغي قوله والتأكيد عليه:

إن قمة التوتر الدرامي التي تظهرها القصائد الموريسكية تتبدى في إحساسها المحتدم، ورؤاها المتضادة، أو المصطرعة، وكثافة متغيراتها الرؤيوية وعمق ماتصيبه من رؤى ودلالات تدلل عليه؛ وهذا يعني: أن القيمة الفنية للبنى الدرامية تتبدى من حركة الباطن وشدة وقع الحالة المحتدمة في قرارة ذاته العميقة ، خاصة إذا أدركنا أن وقع الحالة الشعورية والنبض الاغترابي الجارح، وشدة وطأة ذاته المغتربة المعذبة قد عضدت من حراك البنى الدرامية في القصيدة ؛ وزاد من توترها وإحساسها المحتدم ؛ وهذا ما جعل المشاهد الدرامية متحركة بإيقاعين: لغوي/بصري، وإيقاع شعوري مكثف بالرؤى، والمداليل والرؤى الاغترابية، ولعل مايؤكد ذلك كله قوله:

" رُبَّما ستكونُ لي لغةٌ..
أَستطيعُ بها وصفَ ما سيكونْ
كُلُّ شيءٍ ذوى.. الحدائقُ والماءُ والضحِكُ الأبيضُ..
لمْ يبقَ إلاّ الظنونْ
رُبَّما .. أَجِدُ المُعْجَمَ المُغَيَّبَ..
حتى إذا ماكتبتُ إليها..
ستَفهَمني وتُشارِكُني في المتونْ
رُبّما.. ستُرافِقُني ، حيث أبدو كما ظنَّ بي شُرُطيُ الحدودِ..
مُلتبِساً
رُبَّما.. تفتحُ البابَ لي.. فأراها..
ويُرَحِّبُ بي.. ماؤها وبساتينها وقراها"(17).

إن الإحساس الاغترابي الذي رافق الذات الموريسكية عبّر عنه الشاعر بإيقاعات درامية على مستوى كثافة المشاعر، والرؤى، واحتدامها،وهنا أراد الشاعر أن يُجسِّد رؤاه المصطرعة بإيقاعين متوترين: إيقاع الأمل بالعودة رغم ضبابة اليأس المطبقة على بصيرته؛ وإيقاع المكاشفة المريرة للواقع الموبوء الذي يعيشه في مدينته الصاخبة المترامية بشتى مظاهر البشاعة والاتضاع؛ولهذا؛ أراد أن تنتصر رؤيته التفاؤلية على قرار القصيدة الأخير؛ليحلم بالعودة إلى الفضاءات البغدادية بكل مظاهر جماليتها، وأنسها، وإشراقها، وصفاء مائها،وينابيعها الرقراقة، وبساتينها، وحدائقها الغنَّاء؛وهذا يدلنا أن الروح التفاؤلية لاتغيب عن فضاءات القصائد الموريسكية، لأن هذه الرؤية نابعة من شخصية الشاعرالجسورة المقاومة التي تأبى الانكسار والاستسلام ؛ وليست من الشخصية الموريسكية المقنعة فحسب، وكلما تغور القارئ في المتغيرات الأسلوبية والبنى الدالة في مستبطنات هذه القصائد كلما استطاع أن يلتقط هذه القوى الباطنية الجسورة التي تمتلكها الذات الشاعرة في واقعها حتى في ظل الاحتدامات الدرامية المتوترة في الرؤى وحركة المشاعر؛ وهذا يدلنا -أخيراً -أن الحركة الدرامية هي معطىً فني من معطيات إثارتها وضرورة فنية من محفزاتها الشعورية ومضامينها العميقة.

شعرية المتغير الأسلوبي للأمكنة والمسميات والمواضع:

إن قارئ قصائد مجموعة(من أوراق الموريسكي) يلحظ احتفاءها اللامسبوق بالأماكن، والمسميات، والمواضع ؛ وهذا إن دل على شيء فيدل على أثر الأمكنة في تأسيس رؤيته الوجودية الاغترابية، ولانبالغ إذ نقول: في تأسيس رؤيته الوجودية بشكل عام؛ فهو يعي أن المبدع لاينفصل عن الأماكن التي يعيشها ؛ لأن هذه الأماكن تمثل المرتع الخصب للكشف عن الكثير من الرؤى والمضمرات النصية التي تضمرها القصائد في مستواها الوجودي، والتأملي، والفكري؛فكم من القصائد الحداثية لايتم الكشف عنها إلا من خلال الفضاءات الرؤيوية التي تفتحها الأمكنة، وكم من النقاد والباحثين قد تطرقوا لما أسموه شعرية المكان؛ وخلص الكثيرون منهم إلى مكتشفات لامسبوقة في هذا المضمار النصي.وهنا لانقصد الكشف عن شعرية الأماكن بقدر مايهمنا الكشف عن شعرية المتغيرات الأسلوبية المرتبطة بحركة هذه الأماكن ؛ فالأمكنة الساكنة(الصامتة) أو الفيزيائية لاقيمة لها في المضمار الفني؛ وإنما القيمة المثلى للأمكنة الشعرية؛ أو الأمكنة المتخيلة التي تثير الشعرية؛ ولانبالغ إذنقول : إن الأمكنة في قصائد هذه المجموعة من مفاتيحها الرؤيوية المهمة التي تحفز شعريتها، وتستثيرها جمالياً؛ وللتدليل على شعرية المتغيرات الأسلوبية لفضاء الأمكنة والمواضع سنأخذ قصيدة(الثلاثية المغربية)للتدليل على شعرية الأمكنة والمتغيرات الأسلوبية المرتبطة بها، وأول ما نأخذه منها المقطع التالي:

" لم يَنْسِني البحرُ الذي فارقتُهُ ..
في ليلةٍ بيضاء ..
ودَّعنا الصباحُ
كنّا سَهِرنا ..والرباطُ معي ونَجمتُها المضيئةُ
يومَ كنتُ ..
وها.. أعودُ إليهِ .. مُنطفِئاً
خَشينا أن سيرحل ..بعد أن رحَلتْ
ولكنّي الرحَلتُ ..
وأقامَ حيثُ تُقيمُ ..
كم حدَّثتُ عنها ..
" لكِ يا مّنازلُ في القلوبِ منازلُ "
شاركتِني بيتي وزهوَ قصائدي .. والأغنياتْ
انزلتُ بو رقراق .. بابلَ ..في الضِفاف البيضِ *
فاعتنَقَ الفراتْ
وتَساءلَ النخلُ الذي رافقتُهُ طفلاً ..
ورافَقني ..
أأنتَ من الرباط ؟"(18).

إن أول ما يلفت القارئ في هذه القصيدة احتفاؤها المثير بالأمكنة؛والمسميات، والمواضع؛ وهذا الاحتفاء مخصوص بعناية؛فالشاعر لايكترث بالرؤية اكتراثه في تحريك الأمكنة، وخلق شعريتها؛ ليس شعرية توصيفية كما هو معهود عند الكم الوافر من الشعراء الذين يحتفون بالمكان بوصفه حقلاً وصفياً لتكريس المشاهد، وإكسابها فضاءها المكاني، وإنما يوظف الأمكنة بوصفها بؤرالحنين إلى الأزمنة الماضية؛ فالمكان هنا ليس وصفاً، وإنما هو شعور، وومض، وإحساس؛ وشتان ما بين المكانين أوبين المكان الوصفي والمكان الشعوري الروحي الذي يفيض من صبابة الروح وخلجاتها الشعورية، ولهذا، أول مانلحظه في المقول الشعري السابق أن المكان فيه نبض دافق وإحساس وشعور، إنه روح متحركة؛ ومادام كذلك فهومكان شعري؛ وليس مكاناً وصفياً مادياً أوجامداً؛ ولانقصد بالجمود عدم الحراك ؛ وإنما ساكن في فضائه الشعري ومساحته الرؤيوية التي شغلها؛ ومن يدقق في المسميات المكانية بعمق يدرك أن المكان فيها خلجات روحية وذكرى وأحلام لاتنتهي، وللتمثيل على ذلك نرصد المسميات المكانية التالية:( البحر- الرباط- الفرات- النخل-الضفاف البيض-أبورقراق- المنازل)، إن هذه الأماكن لاترتبط بحيز وصفي بقدر ارتباطها بحيز روحي؛ فالموريسكي المطارد لايحتفي بالمكان وصفاً؛ وإنما يحتفي به روحاً، وشعوراً بالانتماء؛ وشتان ما بين المكان الزائل المرتحل والمكان الذكرى والانتماء والوجود؛ وهذا الالتزام بالأماكن هو التزام بوجوده وانتمائه؛ فما نهر بورقراق في المغرب إلانهر الفرات في العراق ؛كلاهماعربيان؛ ويصبان في مصب عروبي،وهذا يدلنا: أن الموريسكي في معاناته ومملكته الضائعة هوالشاعرنفسه ابن الفرات الذي أُبْعِدَ عنوة عن الأجواء العراقية كما أُبْعِدَ الموريسكي عن الأندلس، ولهذا، كرر المقولة الشهيرة من البيت الشهير:( " لكِ يا مّنازلُ في القلوبِ منازلُ ")؛وهذا القول المضمن جاء مؤكداً ماقلناه: إن الأماكن والمسميات في القصائد الموريسكية هي انتماء وذكرى ووهوية وجود، وليست مجرد مسميات وصفية بلاستيكية لاقيمة لها.
والملاحظ - على المستوى الفني أو ماأسميناه بالمتغيرات الأسلوبية المرتبطة بحركة الأماكن- أن الشاعر عمد إلى تجسير الرؤية وتكثيف مدلولها؛بالانتقال من متغير أسلوبي إلى آخر، بما يحقق إثبات قيمة هذا المتغير الأسلوبي فنياً من خلال الانتقال من النفي إلى الإثبات ؛ معلناً انتماءه المكاني وتمسكه بها ؛ هذا من جهة ؛ ومؤكداً هويته الوجودية، وإحساسه بالانتماء من جهة ثانية؛ وهذا ما برهن عليه في جلَّ مقاطع القصيدة ؛ كما في قوله:

"ما عادَ لي بيتٌ
أأبدأُ مرةً أخرى ..أرى ما لايراهُ الآخرونَ ..
أُغافلُ الصحراءَ .. ذات ضُحىً
وأوهمها بأن الغيث آتْ ؟ !
وأقيمُ فرضاً في الفلاة
ادعو إليه .. الوحشَ والشجرَ البعيدْ
والطيرَ والنملَ
الذينَ حَببتُهم من قبلُ ..
ما عادوا يقيمونَ الفروضَ البيضَ ..واعتكفوا ..
أَعودُ . .ولستُ مؤهلاً للقولِ .
لكنّي أرى البحرَ المقيم
فهل يكونُ هو الدليل ؟
وهل سيمنحني بلاداً ..
ام سيغفلني ..
لأبحثَ عن مُقامْ ؟ !"(19).

إن الشعور بالمكان والإحساس به هو ما يحقق عمق الرؤية ؛ وعمق مدلولها الرؤيوي؛ فالشاعر-هنا- لايبحث عن مكان جغرافي بقدر ما يبحث عن مكان روحي يسكنه بعيداً عن وحشة النفي والاغتراب؛ ولهذا، يبحث الشاعر عن مكان يلملم فيه جراحات اغترابه؛ يلقي عليه أعباء جراحاته وعذاباته الداخلية؛ إنه المكان المطارد الذي يطارده الموريسكي ولا يلتقيه؛وهو المقام الآمن الذي يرتضيه ويتمناه؛ ومن هذا المنطلق؛ فإن بحث الشاعر عن المكان؛ هوبحث دائب ومستمر؛ وبحثه عن الأماكن هو بحث عن التاريخ والشخصيات وكل مايتعلق بماهية الوجود؛ وهذا مانلحظه في قوله:

"جاء َبالفلواتِ من الفلواتِ.. وأسكَنَها الأرصِفَهْ
وأقامَ مضارِبَهُ.. وسيتبعهُ الآخرونَ..
كأنَّ الشوارعَ إرثُ قبيلتهِ..
وهو سيِّدُها والكفيلُ بها
في حقيبتهِ..
مُدُنٌ ظلَّ يحمِلُها وبلادٌ.. وماكتبَ الناسُ
قال الشَريفُ المَدينَّيُ..
كُنتُ أراهُ ..
برفقَةِ روسو وبودلير والشَنْفَرى.. وابنِ خلدونَ..
والمُتنَبّي.. وَ..
قالَ الحريزي..
رافقتُهُ في شوارع بغدادَ.. باريس.. وهرانَ..
كنّا معاً..
في دمشْق وبيروت.. ثُمَّ افترقنا
على موعدٍ..
ولكِنَّنا ما التقينا"(20).

إن القارئ سرعان مايدرك أن تنوع المسميات من شخوص، وأمكنة،ومواضع؛ هو لإبراز الملمح الشعوري المحتدم،والحرقة الاغترابية ؛ فعلى الرغم من تنوع المسميات، واختلاف المواضع، والأمكنة؛ فإن ما يجمعها هو الحرقة، والمكابدة، والاغتراب؛ فكل شخصية ترتبط بزمن وجودي إبداعي خاص؛ وهذا الزمن هوالزمن المشترك بين جميع الشخصيات المثالية المبدعة؛ ومن هذا المنطلق؛ يمكن أن نعد بحث الموريسكي عن بلاد ليسكنها؛ أويرتادها في عوالم مطاردته القاسية، هوبحث عن ذاته المعذبة المغتربة في وجودها وعالمها المتصدع المأزوم؛ والموريسكي الذي يبحث عن بلاد جميلة يبني به مجده الغابر هوذات الشاعر الطموحة التي تبحث عن كيانها الوجودي الجديد؛ وما تكديس المسميات التالية:" الشريف المديني- روسو- بودلير- الشنفرى- ابن خلدون- المتنبي- الحريزي" وأسماء الأماكن" بغداد- باريس- وهران" إلا لتأكيد أهمية المسميات والمواضع في تأسيس هويته الوجودية وإحساسه الوجودي المثالي؛ ومانظرته المثالية هذه إلا من أجل البحث عن هويته ووجوده الحر الإبداعي الحقيقي الذي يبحث عنه في كل الأماكن التي يرتادها أويأوي إليها.

والملاحظ تنوع المتغيرات الأسلوبية المتعلقة بالأماكن؛ ومن المسميات العامة إلى المسميات الخاصة؛ ونلحظ الانتقال من المساحة الفراغية (النقط الفراغية) إلى سواد الكتابة، ليدل على خواء الأماكن بعد رحيله عنها؛ ومانالها من وحشة، وخراب، ودمار، وخواء؛ وهذا ماندلل عليه في قوله:

ينوءُ بحمل البلادِ التي علَّمتْها الرمالُ..
ما لمْ يُعَلِّمها البحرُ..
في حِبْرهِ المُضيئ..
تغدو على غيرِ ما كانَ منها..
انتَظَرْتُكَ..
في الفندق الجزائريِّ في الشانزلزيه.. طَويلاً
وهاتَفْتُ أصحابنا
لَمْ أَجِدْ أَحداً
فهَلْ رَحَلوا.. مُذْ رحَلْتَ ؟
غابَ المَجازُ.. عن وردة الكتابةِ..
انتَظَرْتُكَ..
في خَيْمَةٍ أتَوَهَمُها.. حينَ أساَلُ عنْكَ..
سألتُ التي انتزعتْها الهوامشُ من سحرها البَدَويِّ..
ذَوى وردُها
وامَحّى المتنُ.. في ما كَتَبْتَ لها .. وكَتبْنا
فما سمِعَتْني
. . . . . . .
. . . . . . .
لِمَنْ ستؤؤلُ الرياحُ التي شاركتْنا الأقاويلَ..
او نازَعَتْنا الأَقاويلَ ؟!
لن نَدَّعيها..
ولَنْ نَدَّعي ..ما ادعاه من أوغلوا.. في ...."(21).

إن حالة الفقد والخواء التي يعيشها الشاعر جسَّدَها في الفراغات وعلامات التنقيط؛ وهذا يعني أن الأمكنة فارغة أو تجسدت حالة الخواء بالأمكنة كحالته الاغترابية المريرة وإحساسه بالفقد والضياع؛ودليلنا حتى الحبيبة التي صاحبته في ليله الطويل غادرته ؛ وخلفت وراءها خيوطاً من الزوال، أوأطيافاً من الذكرى أوفراغات لامتناهية في مدها واسغراقها الروحي العميق ؛ ولعل أكثر مايثير الحركة الشعورية في القصيدة هذا المد الفراغي الذي يتخلل الجمل الشعرية؛ لبث مشاعره الاغترابية الموحشة في جميع الأماكن والمواضع حتى الصفحة الشعرية باتت تشي بحالة الفقد والخواء التي يعيشه؛ وهذا يؤكد حقيقة بغاية الأهمية؛ وهي أن الشاعر مولع في خلق الجو الدرامي المتوتر رغم إحساسه بحالة الفقد والخواء ؛ وكأن الذي يبحث عنه غير مستعاد أو ملتقط، ولهذا؛ تبدو الأمكنة لديه مرتحلة أو مطاردة كذاته المغتربة المعذبة؛ هذه هي نظرة الشاعر للأمكنة في قصائده؛بل نظرة الشاعرلوجوده وعالمه وواقعه المعيش.

شعرية المتغير الأسلوبي للجو الرؤيوي العام:،

ما من شك في أن لكل قصيدة طقسها الفني الخاص، ومناخها الرؤيوي المميز، وفضاء متخيلها الإبداعي المثير؛ ومتنفسها الروحي الذي تستنشقه من مخزونهاالباطني العميق؛ وما من مبدع حقيقي يؤسس قصائده إلا على وعي مقصدي بالمتغيرات الأسلوبية،وفواصلها المؤثرة في التحفيز النصي؛وهذا يعني بالتأكيد أن لكل قصيدة مبتكرها الأسلوبي/ الفني الخاص،الذي يرتقي بالقصيدة ومناخها الرؤيوي العام؛ ومن يطلع على قصائد (من أوراق الموريسكي) لحميد سعيد يلحظ أن لكل قصيدة مسارها الفني /والرؤيوي الخاص ؛ وإن كان يجمعها خيوط رؤيوية مشتركة؛ كا المطاردة وصورة الإنسان المعذب ، وصورة الخراب والفقد والضياع الوجودي، والاغتراب الرؤيوي في الزمان والمكان؛ والإحساس بالارتحال الدائم؛ والغياب؛ وكأن شعريته تنبع من مساحة الغياب والبياض الفراغي الذي يحمل صورة المحو والفقد والضياع على زمن قد تلاشى بريقه وانتهى.

ولعل أبرز مثال فيما يخص المتغير الأسلوبي للجو الرؤيوي العام قصيدة(الخوف والقصيدة) التي يستحضر فيها شخصية المعري؛ بوصفها تمثل الجو الرؤيوي العام؛ للمغترب أو صورة الإنسان المعذب؛ وفي هذه القصيدة لايحتفي الشاعر بالشخصية المعرية بوصفها شخصية أدبية جامدة لها قدسيتها وكيانها الخاص؛ إنه يستحضر هذه الشخصية بوصفها الشخصية الرائية ؛ أو الشخصية المفكرة التي تملك الرؤيا والبصيرة؛ والشاعر باستحضاره لهذه الشخصية محاوِراً ؛ وموجهاً خطابه لها مباشرة وجهاً لوجه ينقلها من الجمود إلى الحركة؛ أي ينقلها من ماضويتها الساكنة أو المعهودة إلى أفق المحايثة والمعاصرة؛ وهذا يجعل الجو الرؤيوي العام مفتوحاً على كل الاحتمالات، والمواقف، والرؤى الوجودية؛ منها الحنين، والذكرى للعراق، ومائها، ونخيلها، وحيوانها وجمادها؛وأول مانستدل عليها في هذه المحاورة الفنية الكاشفة:

أوقفني الشيخُ وقد سَمِعني .. أُغنّي
على مَقامِ الصَبا..
وردْنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ
وزُرْنا أَشرفَ الشجرِ النَخيلا
سَأَلني .. أأنتَ من بغداد ؟
قلتُ.. بَلى
كَلفنا بالعراقِ ونحنُ شَرْخٌ
فَلَمْ نُلْمِمْ بهِ إلاّ كُهولا
وبعدَ صمتٍ طالْ
سَأَلني عن ماء بغدادَ وعن نخيلها..
فَما أَجَبْتُ
أَدْرَكَ الشيخُ.. شجى الروحِ
وقالَ لي مواسياً..
وزلنا بالغليلِ وما اشتفينا
وغايةُ كلِّ شيءٍ أنْ يَزولا"(22).

إن قارئ المحاورة الفنية الكاشفة مع الشخصية المعرية؛سرعان مايدرك المنتوج الفني/ الإيحائي الذي تشي به هذه المحاورة بإيقاع فني كاشف عن شدة الولع بالعراق؛ وشدة كلفه به حدَّ الإعياء؛ فالشاعر ضمَّن أقوال المعري الشعرية في نسيج قصيدته، ليكون تفاعله معها فكراً وموقفاً؛ وهذه هي القيمة المثلى في استحضار الشخصية التاريخية والتفاعل معها؛ ولعل أبرز منتوج هذا التفاعل أن الشاعر يوجه خطابه لها وجهاً لوجه مؤكداً تفاعله معها؛ ممايدل على شدة البروز والحضور الذي تمثله هذه الشخصية في مجريات الأحداث الحاضرة، فهي العين الرائية التي تشف عن مظاهر الشوق والحنين إلى العراق؛ وهذا الكلف رافق الشخصيتين معاً شخصية المعري التي تتلمذت على أيدي الكثير من الفقهاء في العراق؛ بجامع الشوق والحنين إلى كلا الزمنين؛ فالشاعر يحن إلى أيامه الماضية، وسنينه المشرقة بالعزة والكبرياء. والمعري يحن إليها بوصفها منبع الفكر والتلمذة؛ وما أجمل اللحظات التي يسترجع فيها المرء ذكرياته الطفولية وسني عمره الزاهية بالعلم والخصوبة والجمال.وهذا ماجعل المحاورة هادفة،تشي بأكثر من رؤية، وموقف؛ ومن هذا المنطلق؛ فإن تنوع المتغيرات الأسلوبية كان الناتج الذي أفرزه الجو الرؤيوي العام للقصيدة؛ وهذا الناتج يتضح أكثر فأكثر كلما أوغلنا في ثنايا القصيدة؛واستقصينا أبعادها؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:

"كأنني وجدتُ في مَعَّرة النعمان
ما ضيَّعتُ من أسئلةٍ .. وما فارقتُ من بلدانْ
كأنني اقتحمت مَحبسينْ
مُعتذراً للشيخِ عمّا كانْ
مُذّاك..
لم ينفتحُ المغلقُ.. كلُّ قائلٍ مُعتكِفٍ في ما يقولُ
لايرى..
سوى ما خطَّ في أوراقهِ
وما مَحا.. من صُحُفٍ أُخرى
وما انتهى إليه من مَعانْ
كلُّ ناقلٍ.. يُحيطُ كَونهُ الضيِّقَ بالأقنانْ
ويَدَّعي إمامة َ الزمانْ"(23).

هنا، يندمج الشاعر بالشخصية المعرية؛ وفي اندماجه بها يدمج الواقعين والزمنين معاً؛ وهذا مايجعل الواقعين مشتركين؛ وكأنهما واقع واحد منذ زمن المعري إلى الآن زمن الضياع، والغربة، والاحتراق؛ فكما كان المعري رهين محبسيه؛ فإن الشاعر رهين محبس الغربة الوجودية والنفي؛وماضوية الأمس الذي كان؛ والتوق لاسترجاعه، أو التقاطه مهما كلفه ذلك من أثمان ؛وهذا ماجعل المتغير الأسلوبي ناتجاً للجو الرؤيوي العام الذي تبثه القصيدة، ومن يدقق في سيرورة المقاطع الأخرى ستتكشف أمامه الرؤى وتتضح المعطيات؛ والمؤثرات الوجودية، كما في قوله:

وأنتَ..
في فَضاء ما افترضتَ من أسئلةٍ
مازلتَ في اللحظةِ..في كلِّ سؤالٍ..
شاهِداً..
يَدخُلُ في ما قالَ.. كلُّ ما يُقالُ من أسئلةٍ
نأَت عن الزوالْ
كأنني وجدتُ شيخيَ الجليلَ بانتظاري
يَفتَحُ بابَ دارهِ لي.. بعد أن فَقدتُ داري"(24).

هنا؛ يفتح الشاعر بوابة السؤال مع المعري؛ وهذه البوابة مفتوحة على أشدها؛ فكما أن المعري انتهج مبدأ الشك في فلسفته الوجودية ؛ وفتح بوابة التساؤلات للوصول إلى الحقيقة فإن الشاعر فتح باب التساؤل، ليصل إلى الحقائق، والحقائق التي وصل إليها مدرك بها مسبقاً، وما الأسئلة إلا دليل استهجان وتعرية للواقع المتفسخ الذي أودى بالعراق إلى الهاوية والدمار؛ وكأن الشاعر وجد عزاءه ومصابه في شخصية المعري ليفتح بابه لاستقباله؛لأنهما عاشا الاغتراب ذاته والعزلة ذاتها والغربة الاجتماعية ووالوجودية بعينها؛ وهذا ما جعل المتغيرات الأسلوبية التي أفرزتها القصيدة من إثبات إلى نفي ؛واقعاً رؤيوياً لايحيد عنه الشاعر في الكشف عن رؤاه الوجودية وزفراته الاغترابية المريرة.
ومن المتغيرات الأسلوبية التي تثيرها التي تثيرها قصيدة ( الخوف والقصيدة) المتغير الأسلوبي البصري الذي يأتي متواشجاً مع الجو الرؤيوي العام الذي تثيره القصيدة من

دلالة على الاغتراب، والقلقن والاختلاف بين الزمنين الزمن القديم الذي عاشه المعري وزمن الشاعر الذي هو زمن الموريسكي المطارد بجامع المواجهة بين(الخوف/ القصيدة )؛ إذ يقول:

"يُشرِكُني في ما يرى..
تقتربُ القصيدةُ البيضاءُ من أصابعي..
تَدخُلُ اوراقي..
كما الرياحُ في فضاءِ الشجَرِ الثقيلِ..
خِلسَةَ..
يقولُ لي.. اقتَنصْها
وقُلْ لها.. كُلَّ الذي تُريد أنْ تقولَ..
لاتَخفْ
فليس من وشيجةٍ تجمعُ بين الخوفِ والقصيدةْ
. . . . . .
. . . . . .
لكنني أخافْ
من شوكِ أحلامي ومن ثمار لُغَتي..
ومن فضاء القولْ
وليسَ لي من قوَّةٍ أو حَولْ
فقال..
ليسَ من وشيجةٍ تجمع بين الخوف والقصيدةْ"(25).

إن القارئ يستطيع أن يتحثث الأفق الرؤيوي للقصيدة من خلال شعرية المتغيرات الرؤيوية التي تواكب الفضاء الرؤيوي العام الذي تبثه القصيدة؛بالانتقال من متغير أسلوبي؛ من متغير النفي إلى متغير أسلوبي الإثبات؛ ومن متغير الإثبات؛ إلى متغير النفي؛ وهنا؛ تبدو المحاورة مع الشخصية المعرية بغاية الالتحام، والمفاعلة، والالتصاق؛ وهذا، يقرب الشخصية المعرية من ذات الشاعر لتسكن روحه، ونبضه، وإحساسه الوجودي؛ وكأن المشهد الذي جسده في المناورة لالتقاط المشاهد بتركيز ودقة، من مشهد حي ملتقط بعدسة مونتاجية تقرب الأحداث والرؤى، من عين المتلقي إلى مشهد أكثر حيوية وحراكاً من المشهد؛ فالمشهد على مايبدو يجسد تردد الذات بين (المواجهة/ والانسحاب)؛ بين( الإقدام/ والإحجام )؛ بين (الاغتراب/ ومحاولة كسر حاجز الاغتراب بالصمود والمواجهة والثبات)؛وهذايدلل على أن البعد الرؤيوي العام الذي تمثله القصيدة حافل بالمتغيرات الأسلوبية؛ بل إنه ناتج لها؛ وإفراز من إفرازاتها الرؤيوية.

ولا يخفى على القارئ الحصيف شعرية المتغيرات الأسلوبية ذات المناخ الرؤيوي العام؛ فالشاعر يحاور الشخصية المعرية؛تارة بالحديث إليها؛ وتارة بالحديث عنها ؛ وتارة بالحديث على لسانها؛ تبعاً للمناخ الرؤيوي العام الذي يرمي إليه؛ حتى أنه يلتحم بالرؤى، والمواقف الوجودية لهذه الشخصية؛ ليكون علماً من أعلام شخصياته في رسالة الغفران؛ وهذا يعني التحامه بالشخصية موقفاً، ورؤية كما أشرنا سابقاً؛ يقول الشاعر:

"وجئتُ طامعاً.. في أن أكون من أصحابك المُبَجَّلينَ..في رسالة الغُفرانْ
تُدْخِلُني مُدْخَلَ مَن أدخلتهُ الجنانْ
فقال لي..
تغيَّر الزمان..تَغيَّر الزمان.. تغيَّر الزمانْ
. . . . . .
. . . . . .
بتُّ ليلتي..
تُحيطُ بي أسئلتي..
في الفجر.. كنتُ في قيامَةٍ أُخرى
بعيداً عن معرّة النعمانْ"(26).

إن هذه المحاورة بقدر ما تحمله من الدعابة بقدر ماتثيره من عمق والتحام في إصابة مقصودها؛ فالشاعر ما قصد أن يحاور المعري دون رؤية أو فاعلية؛ وإنما قصد أن يخلق الجو الرؤيوي العام؛ من جراء هذه المحاورة، ليكشف عن رؤاه العميقة وأحاسيسه الوجودية الاغترابية المحتدمة وجوداً وإحساساً وزمناً ومكاناً؛ وتأسيساً على هذا؛ تنوعت الرؤى؛ وتنوعت المتغيرات الأسلوبية في التعبير عنها. لخلق المناخ الرؤيوي العام ؛ وهو الموقف الوجودي المصطرع الذي يعيشه المعري والموريسكي الغائب والشاعر المحاوِر؛ وكأن الأزمنة قد التقت والمواقف اتحدت؛ والشخصيات التحمت بواقعها ومصيرها المشترك.

ومن أراد أن يتأكد من غنى الفضاء الرؤيوي العام لقصيدة (الخوف والقصيدة ) فماعليه إلا أن يستقصي رؤاها ومداليلها المفتوحة، التي تشي بأكثر من موقف، ورؤية، ودلالة؛ ومن أجل هذا نلحظ كثافة المتغيرات الأسلوبية لمواكبة هذا التشعب الرؤيوي العام في فضاء القصائد الموريسكية؛ ومن ضمنها هذه القصيدة.

شعرية الاقتضاء البصري وبلاغة البياض:

لاشك في أن القصائد المعاصرة بدأت تغامر في فضاءاتها البصرية مغامرتها بالفضاءات التشكلية في شكل القصيدة وبنائها الفني؛وهذا جعل لكل قصيدة مقتضاها البصري الذي من خلاله تنتج الدلالة؛بل تسهم في إنتاج الدلالة؛وكم من القصائد لاتتحقق كامل شعريتها؛ ولاتشف عن معناها إلاعبر مقتضاها البصري الذي يفوق في بعض الأحيان مثيرها الصوتي أو اللغوي،وقد أشارت الباحثة خلود ترمانيني إلى مقولة دقيقة فيما يخص هذا الجانب تحديداً:" يحتل البياض مساحة واسعة في الصفحة الشعرية الحديثة؛ إذ إن استخدام السطر الشعري بدلاً من الشطرين، وطريقة رص الكلمات والجمل الشعرية القائمة على انفراجات واسعة بين السطور الشعرية؛ كل هذا يترك مساحات بيضاء توحي بالصمت والهدوء؛ ومن هنا؛ فإن البياض الذي يعني صمت الشاعر يقابل السكتة في الموسيقا... وبذلك؛ يأخذ البياض/ الصمت في النص الشعري معناه من السياق الذي يرد فيه؛ والموقف الوجداني الذي يعيشه الشاعر؛ فيصبح الصمت/ البياض أسلوباً تعبيرياً لا يقل أهمية عن الكلام الشعري"(27).

ووفق هذا التصور الفني الدقيق؛نقول: إن بلاغة البياض لاتقل عن بلاغة السواد في الكثير من المواضع الشعرية؛ خاصة حين يأتي هذا البياض من بواعث الرؤية الشعرية؛ بل تكون الرؤية الشعرية ذاته من دواعيه ومقتضياته الرؤيوية؛ ولاتستطيع القصيدة الإفشاء بكثير من الدلالات والرؤى إلا من خلال هذا المقوم الشعري الذي لايستهان به؛ ولايمكن الاستغناء عنه؛ وخير ما نمثل لهذا البعد البصري/ الفني في قصائد (من أوراق الموريسكي) قصيدته الموسومة ب( زمن آخر للموريسكي) التي تحتفي بشعرية البياض احتفاءها بشعرية السواد؛ وهذا ماسندلل عليه في هذه الرقعة البحثية الضيقة؛ وخير مانمثل به منهاقوله:

"يرتابُ مما خبَّأَ الولدُ الحيِّيُ..
في نفسهِ..
ويُعيدُها في غَفْلَةٍ مما تعوَّدَ أن يقولَ..
لكي يرى ماكانَ.. في أوراقِهِ الأُولى
ويسمعُ ماتوارى من مقولات الحقولْ
يُريبُهُ..
ظمَأُ المياهِ وما ادعتْهُ الريحُ من دِعَةٍ
وما أخفى من الليلِ.. الأفولْ
يرتابُ من مدُنٍ تَشكُّ به.. وأُ خرى تَدَّعيهِ
تُريهْ..
فِتْنَتَها..
لتَحْمِلُهُ إلى مَحْوٍ يَطولْ
. . . . . .
. . . . . ."(28).

إن القارئ الحصيف يلحظ البعد الرؤيوي المتناغم مع المدالبصري للأسطر الشعرية؛وهذا يدلل على أن للاقتضاءات البصرية دورها المؤثر في تحفيز الرؤية الشعرية؛ خاصة إذا أدركنا أن هذه الاقتضاءات ترتبط بالحركة الشعورية المصاحبة لذات الشاعر؛ وبما أن الشاعر يعاني من حرقة داخلية وإحساس شعوري متصدع؛وغربة مريرة؛ فإن أشد مايعانيه حالة الضياع التي يحسها، ويعيها بالانتقال من مدينة إلى أخرى، فلايستقر له قرار؛ ولايحط له رحال؛ إنه مطارد من مكان إلى آخر؛ ولكن كلما غادر مكاناً أحس بمحو جديد وحرقة مريرة تضعه في أتون الغربة، والضياع، والغياب تارة، والإحساس بالقلق الوجودي إزاء كل مغادرة لإحدى الأماكن؛ والإحساس بمحوٍ وجوديٍّ جديد؛ يشعره بالفقد والغياب؛ وقد رافق لحظة المحو الشعري هذه مداً نقطياً متتابعاً؛ دلَّل عليه بعد لفظة(يطول)؛ ليؤكد أن لحظة المحو مستمرة وأثرها مايزال ممتداً إلى مالانهاية؛ وكأن زمنها مفتوح لامتناهٍ؛ والشاعر- بهذا المقتضى البصري- يربط الشكل البصري بالدلالات النفسية التي تضمرها القصيدة؛ وتتضح أكثر فأكثر كلما تغورنا فضاءات القصيدة؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:

"ضاعَ الدَليلُ..
وتغيَّبَ الحُلُمُ الجميلُ
. . . . . .
. . . . . .
في غير موعدِهِ..
سَرى الشَجَرُ المُريبُ
أَوَ كان يتبعُهُ إلى.. ماكانَ يَحْسَبُها خيامَ بني أبيه؟!
وقد رآها..
في ريبَةٍ مما يُحيطُ بها.. ومما أنبتَ الحجرُ الغريبُ
. . . . . .
. . . . . .
ضاعِ الدَليلُ.."
وتغيَّبَ الحُلُمُ الجميلُ
. . . . . .
. . . . . .
في غير موعدِهِ..
سَرى الشَجَرُ المُريبُ
أَوَ كان يتبعُهُ إلى.. ماكانَ يَحْسَبُها خيامَ بني أبيه؟!
وقد رآها..
في ريبَةٍ مما يُحيطُ بها.. ومما أنبتَ الحجرُ الغريبُ
. . . . . .
. . . . . ."(29).

إن القارئ يلحظ بوضوح المقتضيات البصرية التي تثيرها القصيدة بفضاء متغيرها الأسلوبي؛وهذه المقتضيات البصرية تنبع من رحم الرؤية؛ وصلب الدلالة؛ فهي متنفس الشاعر في التعبير عن حالة التيه والضياع الممتدة في هذا العالم الوجودي؛ وكأن حالة التيه، والمحو، والضياع ملازمة للذات الموريسكية في رحلة عذاباتها الوجودية، وحالة المحو والغياب المرافقة؛ وقد عبر عنها الشاعر بصرياً بهذا الكم الفضفاض من النفط المتتابعة بخط مستقيم من جهة ؛ والنقط المتقطعة التي تظهر بين الكلمة والكلمة؛ والجملة والأخرى؛ من جهة أخرى؛ ممايدل على حالة من التيه مستمرة ، وحالة الضياع والاغتراب ممتدة زمنياً؛ وكأن نيرانها الكاوية مازلت تقض مجعه كلما حاول النسيان بالهروب إلى الحلم والأمل الجميل، وقد أتى المد النقطي المتتابع بعد قوله:( تغيب الحلم الجميل...) كاشفاً عن حرقة مريرة وأسىً جارحٍ ؛ وهذا دليل (رؤيوي-بصري) على حالة الأسى والزفرات الممتدة المحترقة على لحظات تلاشي الحلم، وضياع الأمل الجميل باستعادة أو التقاط تلك الأزمنة المبهجة والأمكنة المستحبة، وكأن كل شيء يؤذن بالغياب والرحيل الأبدي. وهذا ماجعل الشاعر يعيش في دوامة الشك والريب، هل يمكن أن تُستَعاد تلك الأيام أوتُلتَقَط في ظل هذا الواقع الاغترابي المرير،والدوامة التي لاتنتهي؛مؤكداً ذلك بصرياً بهذا الامتداد النقطي المتتابع والحرقة المريرة.

ولعل أبرز ماتدلل عليه القصيدة من تلاحم متغيرها الأسلوبي بمقتضاهاالبصري قوله:

" في هذه الفلواتِ..
تَنْفَتِحُ المتاهاتُ..
القِراءاتُ المُضيئةُ.. أطفأتْ سُرُجَ الكلامْ
ومضتْ إلى الممحوِّ من صفحاتها..
لِتَلُمَّ..
ما أتمنتهُ يوماً في مُدَوَّنةِ المرايا..
قبل.. أن يدنو من المَمْحّو من صفحاتها البيض..
الظلامْ
ماذا سيقرأُ .. إن هذا المحْوَ ما أبقى..
على رُقُمِ البلادْ
من شمس حِكْمَتِها..
وأسلَمَها .. إلى المُدُنِ الرمادِ
. . . . . .
. . . . . ."(30).

إن أبرز ما يحاوله الشاعر إبراز الملامح الشعورية العميقة؛في بث رؤاه الاغترابية المريرة؛ من خلال المد النقطي المتتابع ؛ وهذا المشير البصري، الذي يثيره الشاعر هو لتحفيز الرؤية الشعرية؛وتعميق مدلول الذات في سعيها المرير صوب إثبات كينونتها وواقعها الوجودي، أمام سطوة المحو/ أو الغياب لكل ماكان من ذكريات، وملامح، وأخيلة، وظلال. سواء أكانت للأزمنة الماضية، أو للأمكنة التي مازالت محفورة في القلب والذهن؛ولعل هذا المد البصري(النقطي المتتابع) يشير إلى حالة الفقد، والمحو، والغياب التي يتحثثها الشاعر كلما غادر مكاناً أوترك موضعاً؛ وارتحل مرغماً إلى آخر؛ وهذا مايجعل الفراغ معشعشاً في ثنايا قصائده كحالة شعورية لاتكاد تخلومنها أية قصيدة من قصائده الموريسكية، للتعبير عن حالة الخواء، والعزلة، والفقد، والضياع، والمحو، والغياب التي يعيشها الشاعر في زمنه الوجودي الراهن، ومتغيراته الكثيرة دون أن يجد بصيص خلاص أو بارقة أمل، للخلاص من هذا الواقع المرير.
وماينبغي قوله:

إن المتغيرات الأسلوبية المرافقة لحالة البياض/ أوالمقتضيات البصرية تدخل في صلب إنتاج الدلالة ؛ وصميم الرؤية وهذا ماأشرنا إليه منذ البدء لنؤكد أن شعرية المتغيرات الأسلوبية ترتبط بالمقتضيات البصرية؛وتشكيلها البصري ؛ فالسواد لا قيمة له في مضمار القصيدة الحداثية بمعزل عن بياضها الذي يشي بالكثيرمن المواقف، والرؤى المسكوت عنها في الباطن النصي؛ وكم من القصائد مفاتيحها الرئيسة هذه المقتضيات ؛ وما تثيره من موقف؛ وما تبثه من رؤى، ودلالات مضمرة في الباطن النصي, وهذا مايدركه كل من خاض في الشعر والشعرية قارئاً ومبدعاً؛موثراً ومتأثراً بها من قريب أوبعيد.
نتائج أخيرة

إن شعرية المتغير الأسلوبي للأسطورة/ والرموز الصوفية تتبدى بالانتقال من المتغير الاسمي إلى المتغير الفعلي، والانتقال الحاد بين الضمائر من المتكلم إلى الغائب، ومن المخاطب إلى الغائب؛ وهذا التنوع في الحركة بالالتفات بين الضمائر لرصد حالة الاحتدام الشعوري وواقع المطاردة والاغتراب التي يعيشها الموريسكي مجسداً في ذات الشاعر؛ ممايدل على حركة دائبة وإحساس وجودي بالتشبث بالمكان ومن ضمنها الولع بالفضاءات البغدادية لدرجة التصوف والأسطرة. وهذا ما احتفت به (القصيدة المقدسية) من تنوع في حركة الرموز والجو الأسطوري العام الذي تشي به ممايدل على رغبة وتمسك وتقديس لكل مايذكره بهذه الأجواء أوترتاد على خاطره؛ وهذا ما أضفى على القصيدة بعداً صوفياً وأسطورياً في الآن ذاته.
إن شعرية المتغير الأسلوبي للمشاهد والرؤى السريالية تتبدي في الانتقال في المتغيرات الأسلوبية من رؤية إلى رؤية؛ ومن موقف إلى آخر؛ وهذا يدل على انتقال في حركة المشاهد من مشهد جزئي إلى مشهد مركب، وهذا ما يحقق للقصيدة حرالها الشعوري ومتغيرها الرؤيوي الفاعل من موقف وجودي إلى آخر.

إن شعرية المتغير الأسلوبي للحدث الدرامي أو المشهد الدرامي تتبدى في الجو الاصطراعي على صعيد الاحتدام الداخلي بين المواقف والرؤى والأحداث الجزئية؛ التي تعتصر شخصية الموريسكي المطاردة؛ وهذا يعني أن بذرة الدرامية مبعثها تناقض الواقع، واتضاعه، وهشاشته؛ ومنعكساته على الذات الشعرية توتراً واحتداماً؛ ومن ثم تأتي المتغيرات الأسلوبية لرصد حركة المشاعر المحتدمة بكل مثيراتها ومحركاتها الداخلية.
إن شعرية المتغيرات الأسلوبية للأمكنة تدلل على أن للأمكنة طقوسها ومثيراتها الخاصة في القصائد الموريسكية،فهي تظهر مدى تعلق الشاعر بالأمكنة كهوية وجودية،وبذرة انتماء؛ وليست الأمكنة حيزات فيزيائية ؛ وإنما هي خلجات روحية،تؤكد شجنه الجارح وحنينه المشبوب بالوله والتوق والاغتراب.

إن شعرية المتغير الأسلوبي في القصائد الموريسكية تنعكس على الجو الرؤيوي العام الذي تشي به الحركة الدلالية لهذه القصائد؛ وهذا يدل على أن المناخ الرؤيوي العام للقصائد الموريسكية مناخ اغترابي تجمعه صورة الإنسان المعذب؛ الذي افتقد المكان؛ وخصوبة الزمان؛ وماعاد يملك إلا خيوط الأمل الواهية بالعودة وفجر الخلاص؛ دون أن يجد ماهومبشر لذلك فيعود إلى شعرية المحو والإحساس بالفقد والضياع.

إن تنوع المتغيرات الأسلوبية التي تشي بها القصائد الموريسكية تشي بالفقد والاغتراب ؛ وقد دلل الشاعرعلى ذلك بالمقتضيات البصرية التي شكلت مرتكزاً بؤرياً للدلالة الاغترابية والإحساس بالمحو، والغياب، عبرالشكل البصري ومقتضاه النقطي قبل سواد الكتابة ؛ وهذا يدلل على شعرية البياض/ وشعرية منتوجها الإيحائي في القصائد الموريسكية؛ وتعد قصيدة(زمن آخر للموريسكي) خير دليل على ذلك.

الحواشي:

شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، دار الأمل الجديدة، ص
سعيد، حميد،2012- من أوراق الموريسكي؛ دار أزمنة، الأردن، ط1، ص
المصدر نفسه، ص11-12.
المصدرنفسه، ص13.
المصدر نفسه،ص14.
المصدر نفسه،ص16.
المصدر نفسه،88
المصدرنفسه، ص89.
المصدر نفسه،ص90
المصدرنفسه،91.
المصدر نفسه،ص92.
المصدرنفسه،93.
العبيدي، جميلة عبد الله،2015- البنية الدارمية في شعرحميد سعيد، رسالة ماجستير، مخطوطة،ص 204.
سعيد، حميد،2012- من أوراق الموريسكي، ص،57-58.
المصدر نفسه، ص59-60.
المصدر نفسه، ص61-62.
المصدرنفسه،ص65.
المصدر نفسه، ص28-29.
المصدرنفسه،ص33-34.
المصدر نفسه،ص35-36.
المصدرنفسه،ص37-38.
المصدر نفسه،ص78-79.
المصدر نفسه،ص80-81.
المصدرنفسه،ص81.
المصدر نفسه،ص82.
المصدر نفسه،ص85-86.
ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، أطروحة دكتوراة ، مخطوطة جامعة حلب،ص215-216.
سعيد، حميد،2012- من أوراق الموريسكي، ص 67.
المصدر نفسه، ص69.
المصدرنفسه،ص 73-74.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى