الأربعاء ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة من المغرب
بقلم زكرياء أبو مارية

الخيزرانة

عندما اخترقت إهانته أذنيَّ لتستقر في صدري محركة فيه ذرائع الثأر والانتقام، كان لا يزال تفكيري غضا لأفهم أن عودي الطري لا يمكن أن ينافس متانة خيزرانتة لوقت طويل.

كنت في ذلك اليوم أيضا منشغلا عن التلاوة بسرحاني المعتاد عندما باغتني صفيرها بقربي محضِرا إيّاي من أحلامي الدافئة، شيء ما كان في كل مرة يبدد أعماقي في العراء القارس والموحش حتى إنها لترتعد، ربما انقطاع الأسباب المفاجئ بيني وبين عوالمي المتخيلة، وربما إحساسي بالسقوط في معصية الرجل الذي لم يكن يفتأ والداي ينصحانني باحترامه لأنه مقدس.
 عفوا، ما كنتش منتبه.
 ومن علمك بأن الحضور هو الوجود جسدا بغير روح تعي التلاوة؟
ظللت محملقا فيه وصمتي يكاد يفصح عما أخذ يدور في تصوري، ولعل ابتسامتي الجانبية جعلته يقف على أعتاب قصدي، خاطبني بنفس عربيته المتبجحة والخيزرانة تتحرك بين يديه مهددة:
 لا يكون إلا نفس الشيطان الذي علمك خبثك.

ونهاني أن أعود للابتسام من جديد مشيرا إلى أنه كان يقصد والديّ هذه المرة أيضا، ولأنه هو نفسه علمني أن والديّ كانا الأقدس بعد الله والرسول، فقد تجرأت طالبا منه أن يكفرعن إهانته باعتذار.
كنت أعرف أن طلبي كان قاسيا ليقبل بطوب السكر أو حفنة الشاي مقابلا كالعادة، ولذلك قايضته بتلبيتي هذه المرة لرغبته المزمنة في معرفة محتوى شرودي دائما في حضرة التلاوة، قال إن حيلتي لا تنطلي عليه حتى وأنا قد أغلب بها الشيطان بعينه، وأضاف مداريا خلف تفكهه فضوله الذي كان أقوى من نباهته أنه قد يسمح بانهزامه أمامي حتى لا يبدو أشطر من شيطان:

 اللّي دار راسه في النخالة ينقبه الدجاج.
وأجابني إلى طلبي على اعتبار أن فلوسا مثلي لا يمكن أن يكون انتصاره مؤذيا؟

أخبرته أنني كنت منشغلا بالتفكير في أمر العقاب الذي تناله في كل مرة يداي حتى وهما لا تتواطئان مع تفكيري بالتدوين مثلما قرأت أن الفارابي كان يفعل ليشاطر الناس حلمه بتشييد مدينة فاضلة، وهددني أن ما قد يستحق العقاب هكذا هو رأسي الذي ترك الفقه ليروغ إلى الفلسفة.
 ولا رأسي قلت له.

وطالبني بمرشح فاقترحت الخيزرانة.

ضجت الحلقة بالضحك، فأخرسها بضربة من كفه على قفا أقرب طالب منه، سرى تيارها من واحد إلى آخر حتى وصلني، فاستطردت متمتما بتفسيري أن الخيزرانة هي أصل انشغالي لا يداي أو رأسي، وربما أوحت له هندسة فكرتي بامتداد اتهامي إلى رأسه هو بما أنه كان الأصل الأول للعقاب الذي كانت تنزله الخيزرانة بيدي، فخانت شفتيه ابتسامة صغيرة، ثم وصلني منه سؤال كان أشبه بالاعتراف المتمنع:
 من أنت حقا غير ما أنت عليه من غياب؟

تسلل كبدء تراجع منه عن إهانته، ولم أتوقع أن تكون له بقية قاسية وأنا أجيبه: تلميذك، ففي غمرة تصوري أن تلك رصاصة رحمة أطلقتها نحوه في الصميم صدمني ارتداد سلاحي في يدي، وأنا أعترف أخيرا في نظره بالأهم ضمن كل تلك المجادلة، وفهمت من لهجته معنى أن أكون أنا الطالب وليس هو، فاتخذت المسافة الكافية لتلقي العقاب من خيزرانته المتربصة، ولم يغنه مع ذلك استسلامي عن جعله يبرّح بهزيمتي معلنا أن سلطته سبقت فهمي وشجاعتي:
 هات يديك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى