الجمعة ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم رياض كامل

نظرة إلى عالم محمد علي طه القصصي

لقد تمكن كبار الأدباء من خلق عالم أدبي يتميزون به دون غيرهم، فغدوا يحملون هوية يتجسد من خلالها الجنس الأدبي الذي يتعاملون معه. هذا العالم يحمل ختم الكاتب المبدع بيئة ولغة وفضاء، كما هو الأمر لدى الكاتب المصري نجيب محفوظ، على سبيل المثال، الذي صور بيئة الطبقة المتوسطة للشعب المصري، وغطى من خلال رواياته فئة من هذا المجتمع المتشعب ببيئاته وانتماءاته وتفرعاته. كما تمكن، برأينا، الكاتب حنا مينة أن يبني عالما خاصا لإبداعه الروائي، فصور شريحة اجتماعية سورية قبيل منتصف القرن العشرين وما بعده بقليل في صراعها مع الانتداب الفرنسي، من ناحية، ومع الطبقة البرجوازية التي تشابكت وتداخلت مصالحها ومصالح الفرنسيين من ناحية أخرى.

قال أحد كبار الروائيين والمنظرين (جوزيف كونراد) إن الأديب الناجح، فقط، هو القادر على خلق عالم خاص به، ونحن نرى أن الأديب المبدع محمد علي طه قد تمكن، بعد هذه التجربة الطويلة والغنية، من خلق عالم قصصي متميز ومتفرد به. فما هي أهم ملامح عالم الأديب محمد علي طه، وكيف تمكن من خلقه وإبداعه؟

أن تكون كاتبا جديرا بهذه التسمية عليك أن تكون واسع الاطلاع، بحرا في العلوم، قارئا نهما تقضي وقتا طويلا في معاشرة الكتب على اختلاف مواضيعها وانتماءاتها. محمد علي طه قارئ للأدب العربي القديم والحديث، عالم بالسير العربية والملاحم اليونانية والرومانية، قارئ للروايات الأوروبية الشرقية والغربية، مطلع على قصص وروايات أمريكا اللاتينية، غني في ثقافته الدينية بدءا من القرآن الكريم مرورا بالعهد القديم فالعهد الحديث، وقارئ للميثولوجية العالمية، ومطلع على عاداتنا وتقاليدنا ونوادرنا وحافظ حكاياتنا الصغيرة والكبيرة، يجمعها ويلملم خيوطها في ذاكرته ويوظفها كلها خدمة للهدف.

نشر الأديب محمد علي طه حتى الآن اثنتي عشرة مجموعة قصصية ابتداء من لكي تشرق الشمس (1964) وانتهاء بمدرس الواقعية السحرية (2015)، فضلا عن رواية واحدة هي سيرة بني بلوط (2004)، وإحدى عشرة قصة مخصصة للأطفال، وخمس مسرحيات. كما يواظب على نشر مقالاته في مواضيع عدة: اجتماعية، سياسية، ثقافية وتربوية في مواقع عدة ورقية والكترونية. أدرك منذ بداية تفتحه الأدبي أن الوعي الاجتماعي لا ينفصل عن الوعي السياسي، فوظف عددا لا بأس به من قصصه حول موضوع المرأة. وقد شهدنا تكثيفا ملحوظا لصالحها في المجموعتين الأخيرتين: في مديح الربيع (2012) و مدرس الواقعية السحرية، بعد أن دارت معظم قصصه، في المجموعات السابقة، في فلك الأرض والقرية. يبدو لنا أن التراجع الفكري والاجتماعي والسياسي يؤرق كاتبنا، وهو العالم بأن التحرر السياسي لن يتأتى دون التحرر الفكري ودون حصول المرأة على حقوقها الإنسانية، كما يليق بها. وهو مؤمن أن التنور الفكري سلاح يجب أن يشهر في وجه الجهل والتجهيل.

محمد علي طه كاتب جريء لا يجامل ولا يهادن، في جل ما كتب وفي جل ما نشر، في مجالي القصة والمقالة. جند قلمه وقصصه لمحاربة تجار الأرض ومقارعة الظلم، وحارب من أجل الحصول على الحقوق السياسية والقومية للأقلية العربية في البلاد. وأشهر قلمه في وجه تجار الدين الذين يستغلون مواقعهم ووظائفهم للنيل من المرأة وتقييد حريتها متنكرين بزي التقوى والورع. وأراه يذكرني برواد النهضة الفكرية في بدايات عصرنا الحديث، أولئك الذين أقلقهم وضع شعبهم العربي فتحدوا الفكر المتزمت ونادوا برفع الغبن اللاحق بالمرأة كخطوة هامة من أجل الانطلاق نحو مستقبل أفضل وبناء مجتمع مستنير يضع حدا للظلم والظلامية. كاتبنا، أيضا، قلق مما يمر به الشرق العربي، بالذات في السنوات الأخيرة سياسيا وفكريا، ومن عودة الفكر المتزمت إلى الواجهة فأخذنا نرى حضورا أكبر للمرأة وللقضايا الفكرية الاجتماعية وأوسع من ذي قبل، وخصوصا المرأة التي تخرج من البيت إلى العمل لتحتك بالعالم الأوسع، إذ ليس صدفة تصديه للاعتداءات على حرية المرأة تحت مسميات كاذبة لا تمت إلى الأخلاق بصلة.

كاتبنا، يسعى قاصدا متقصدا إلى إعطاء المرأة دورا هاما في مسيرة الشعب العربي الفلسطيني، عالما أن هناك منهجية مقصودة للنيل منها والانتقاص من دورها الذي لا يقتصر، برأيه، على الدور التقليدي المنوط بها في البيت. نذكّر في هذا السياق أن هناك أنواعا عدة من النساء اللواتي يعرضهن محمد علي طه في قصصه، وإن كنا هنا لسنا في خضم الخوض في هذا الموضوع الواسع والغني، إذ هناك المرأة الجدة والأم والزوجة والابنة والأخت، وهناك الفلاحة والقروية، وهناك المرأة التي تعنى بالدفاع عن أبنائها في وجه الجنود دون خوف أو وجل، وهناك المكافحة على الصعيدين السياسي والاجتماعي والفكري.

ولد محمد علي طه في قرية ميعار وانتقل عنوة للعيش في قرية كابول بعد النكبة لتصبح قريته التي يحبها ويقدرها، ولكنه على ما يبدو ما زال وجدانه يعيش في قريته الأولى رغم مرور السنين. وبالرغم من أن القريتين تتشابهان في التقاليد وفي العادات وفي المظهر والجوهر إلا أن قرية ميعار ما انفكت تعشش في مكان عميق هناك، وعلى ما يبدو فإنها لن تفارقه حتى آخر يوم في حياته، فقد صورها في العديد من قصصه وخصص لها روايته الوحيدة سيرة بني بلوط. وهو ينتقل في قصصه بين قرى ومدن عدة في بلادنا، من حيفا إلى الناصرة إلى شفاعمرو، وإلى قرى ومدن الضفة الغربية. ولكنه حين يصف أي مكان فإن قرية ميعار تطل علينا وعليه رافعة رأسها من بين السطور معلنة: "أنا ما زلت هاجسك أيها الأديب ومسكن أفكارك". قال علماء النفس وعلماء الاجتماع إن سنين التكون الأولى هي الأهم في حياة الإنسان نتلون بألوانها نحملها معنا عبر الزمان والمكان، مضيفين إليها العديد من تجارب حياتنا اليومية.

قارئ قصص الأديب محمد علي طه يشم فيها رائحة قرانا: ترابها ونبتها، يتعربش أشجارها، يركض في حواريها وأزقتها، يقطف ثمارها، يحصد قمحها وشعيرها ويسافر عبر نورجها مع أحلامه. نلتقي في قصصه بشخوص يحملون من عاداتها وتقاليدها حب الأرض والجيرة الطيبة، فيها صورة المختار والفلاح والعامل العائد أدراجه مساء. وفيها نساء يجتمعن "حول فنجان شاي" يتناقلن ويتبادلن أخبار القرية وحاراتها.

إن هاجس القرى المهجرة يسير إلى جوار الأدباء الفلسطينيين كظلهم لا يبرحهم لأنها سرقت من واقعهم فحفظوها في الذاكرة، وما انفكت جرحا نازفا يتكرر في العديد من الإبداعات الفنية على اختلافها. هذه القرى موتيف متكرر في الأدب الفلسطيني يأبى الأدباء أن تفر من بين أصابعهم كما يفر العصفور، فطعموا بها أدبهم وسردهم ونصوصهم الأدبية شعرا ونثرا ومسرحا. يتنقل محمد علي طه بين أمكنة عدة إلا أن عالم القرية يبقى الغالب على مجموع ما كتب، ومهما حاول أن يتمسك بتلابيب المدينة، خاصة حيفا التي يتكرر فضاؤها في عدد لا بأس به من قصصه، إلا أننا لا نرى عالم المدينة بشوارعها وعاداتها وتقاليدها ومصانعها وشوارعها العريضة الواسعة، ولا صراعاتها الطبقية البرجوازية بمفهومها الواسع. فعالم محمد علي طه هو عالم الفلاح والقرية والعامل والمدرس والجيران والمقاهي القروية.

يمتد عالم محمد علي طه الأدبي على مساحة زمنية واسعة بدءا من قصصه التي تناولت النكبة ما قبلها وما بعدها، فالنكسة وما بعدها وما قبلها، والانتفاضة الأولى فالثانية وأحداث الربيع العربي وخريفه الأخير. أبطاله يبيعون المناقيش في تل الزعتر وفي مخيمات اللاجئين، وفي مخيمات غزة والضفة، وأطفال يقارعون المحتل بالحجر والمقلاع. عالم متشابه في عاداته وتقاليده وفضائه ومحيطه ومأكله وملبسه ونباته وأشجاره وأزقته وحواريه ولغته الفلاحية، ونوادر قرانا وحكاياتها في السراء والضراء.

يختار محمد علي طه السخرية وسيلة للتعبير في معظم قصصه، وهي وسيلة لجأ إليها الكتاب والرسامون والنحاتون والشعراء منذ العصر اليوناني فالروماني، مرورا بالأدب العربي في عصوره الغابرة، والأدب الفرنسي ورائعة موليير البخيل، ومسرحيات الشاعر الإنجليزي شكسبير، وحتى يومنا هذا خدمة للمشاعر الإنسانية وتعبيرا عن الضيم اللاحق ببني البشر، وهي إحدى الوسائل المتكررة في الأدب الفلسطيني شعرا ونثرا ومسرحا ومقالة. تفرض السخرية على المؤلف أن يتزود بحس مرهف وبمهارات عدة في الحبك والبناء، وبغنى في اللغة الخاصة لكي يتمكن من أسر القارئ أو المشاهد.
كاتبنا يعتمد كثيرا على السخرية في جل كتاباته يوظفها عبر وسائل وطرق عدة، كالمبالغة في التصوير لدرجة أشبه بالرسم الكاريكاتيري يقض بها مضاجع الخصوم فيتحولون إلى دمى هزيلة تشفي غليل القارئ، فتبتسم وتضحك وتقهقه. وهو هازئ بارع، ووصاف ماهر لأدق التفاصيل، وأحيانا يلجأ إلى ما يشبه النوادر (انظر قصة الأمارات، أو المغفل أيضا في مجموعته الأخيرة)، فهو يسخر من الخصم ومن الذات ومن بعض العادات والتقاليد، كما في قصته الشتيمة من كتابه قبل الأخير في مديح الربيع التي يوظف بها عدة وسائل منها:

أسلوب الإطناب: وهو أسلوب برع فيه الجاحظ في كتابه البخلاء، والشدياق في كتابه الساق على الساق. يستطرد محمد علي طه ويطنب ويأخذ بيدي القارئ إلى عوالم عدة؛ عالم شباب اليوم وطيشهم وفهمهم الخاص للحياة، وعالم كرة القدم مستعرضا أسماء فرق عالمية وأمهر لاعبيها. فعرض نوادر وحكايات من نوادر أبناء شعبنا مسلمين ودروزا ومسيحيين وتحريفهم لبعض المفردات، دون تناسي الشتائم وأنواعها وألفاظها وابتكاراتها مقارنة بشتائم الروس حتى يصل أخيرا إلى الحدث الرئيسي الذي لا يتعدى زمن القارئ الذي يستغرقه حتى إنهاء قراءة القصة.

اللغة: على الكاتب أن يوظف اللغة بما يتلاءم مع المستوى الفكري للشخصيات. وبما أن الحدث يدور في مقهى رواده شباب اليوم، كما يسميهم الكاتب، فاللغة يجب أن تتجاوب مع البيئة ومع المحيط. لغة أديبنا غنية بمفرداتها الفصحى والعامية والشعبية، وفيها مزيج لمستويات لغوية عدة: لغة السرد التصويري الفصيح، اللغة القريبة من العامية التي تصور الحدث في طيشه ورعونته، مفردات عامية وأغان شعبية. يتحدث شخوص قصصه بلغتهم لا بلغة الكاتب وبالذات في هذه القصة: فهناك لغة الشباب الطائشين، لغة العقلاء، لغة الأم الخائفة على ولدها كي لا يرتكب حماقة، لغة الراوي السارد المشرف الكلي المعلق الذي يحرك الشخصيات والأحداث وفق ترتيب مدروس لتتم لعبة "الإيهام بالواقع"، وفتح باب "الفجوات" بهدف التشويق وجذب القارئ.

أسلوب النادرة: عرف عن العرب جمعهم لنوادرهم الغريبة المضحكة والهازئة والساخرة، ولنا على ذلك أمثلة عدة في المجامع العربية ولعل من أشهرها كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للإبشيهي. أما كاتبنا فقد برع في ذلك وله عدة قصص قصيرة يمكن أن نسميها "النوادر"، لكن لأديبنا أسلوبه الخاص والمميز. إنها نوادر فلاحية فلسطينية في بيئتها وزمكانيتها ومحيطها ولغتها. وبما أننا في خضم الحديث عن قصة الشتيمة المشار إليها أعلاه فإني أدعو القارئ للرجوع إليها والوقوف على حكايتها وأجوائها ولغتها وفرادتها. تدور أحداثها في مقهى قروي شعبي- مقهى "باب الحارة"- يمرحون ويضحكون وهم يشاهدون مباراة لكرة القدم لإحدى الفرق الأجنبية يتحيز، كل فرد من الحضور لفريقه. شعبان شاب منهمك في المشاهدة والتشجيع طلب من الحضور "هس" فاستفز هذا الطلب الشاب الأرعن كايد أبو دبوس، وبعد حوار قصير بينهما يشتم كايد أخت شعبان شتيمة غريبة في تركيبها ومضمونها: "يلعن كلسون أختك العفن" يطير الشرر من رأس شعبان يعدو مسرعا إلى بيته يحضر خنجرا يغرسه في صدر خصمه ابو دبوس، "وفيما كان الشرطيون يقودون الفتى شعبان مكبلا بالحديد اقترب منه أحد الشبان وقال معاتبا: فعلتها يا شعبان..

شتم أختي بسفالة..
ولكنك وحيد أبويك... لا أخ لك... ولا أخت لك... يا حمار..
صحيح. ولكن الناس لا يعرفون ذلك...
قال بصوت هامس قريب من الهمس" (نهاية القصة ص19)

إنها قصة واحدة من قصصه العديدة التي تشبه النادرة يسخر فيها بما يشبه المضحك المبكي فنجح، برأينا، في دغدغة مشاعر المتلقي وتقبل النقد اللاذع بسلاسة، لكونها أشبه بالنادرة، ولكون لغتها قريبة جدا من جو الحدث، وانتقائه مفردات شعبية شبابية تليق بمجموعة معينة من أبناء هذا الجيل، فضلا عن اختياره أسماء تحمل دلالاتها ليصل الهدف للمتلقين على اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية والعلمية.

محمد علي طه كاتب غزير في إنتاجه، يمتاز بدقة الوصف، يدخل في ثنايا التفاصيل، وصفه إيحائي يبدأه من الخارج، حتى يسحبك معه فتلج وإياه إلى الداخل بسلاسة وانسياب. يعتمد في ذلك على تكثيف الأفعال في وصف الخارج المرئي ممسكا بتلابيب القارئ كي لا يفلت من عقاله، تارة بالسخرية اللماحة، وأخرى بالسخرية الجارحة، وتارة باللغة الشاعرية.
عالم محمد علي طه هو عالم القرية العربية الفلسطينية بفضائها الواسع من أزقة وشوارع وحارات، ومن مأكل وملبس ومشرب، ومن طيور ونبات وحيوان. تتجلى فيها عادات القرية وتقاليدها في السراء والضراء. نرى أن لغته في غاية الغنى ينطبق عليها قول المنظر الكبير ميخائيل باختين ومن بعد المنظر بيير زيما اللذين قالا إن اللغة مربوطة بالزمكانية برباط عضوي من الصعب فصلهما عن بعضهما البعض. فالزمكانية تفرض على الكاتب أن يلائم اللغة لهذا المركب الفني الأدبي الهام. وهما اللذان رأيا أن هناك لغة للمثقفين وأخرى لغيرهم، بل وهناك لغة للنجارين والحدادين والحلاقين وغيرهم. وذهبا أبعد من ذلك حين قالا إن هناك لغة للصباح وللظهيرة وللمساء. وعليه فإنا نؤكد أن لغة محمد علي طه الأدبية هي لغة غنية في مفرداتها وفي ألفاظها وصورها وتشبيهاتها الفلاحية. وهو القادر على خلق صلة قرابة بين الشخوص ولغتهم على اختلاف انتماءاتهم الزمانية والمكانية والفكرية والثقافية.

نص الكلمة التي القيت في حفل تكريم الاديب محمد علي طه كانون الاول 2015- الناصرة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى