الاثنين ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

النقد ممارسة أم إبداع؟!!

النقد فن من الفنون المؤثرة في كشف الأشياء،والحكم عليها، والناقد المؤثر لابد له من موهبة، وخبرة إبداعية ومرجعية ثقافية واسعة؛ بالإضافة إلى عمق الرؤية،وعمق الحساسية الجمالية، أو لنقل الخبرة الجمالية؛والنقاد هم الذين يطورون الإبداع،ويرفعون أسهمه الإبداعية بنجاح،ولهذا احتفى به القدماء منذ القدم؛ والنقد القديم على سذاجته وانطباعه الحدسي رفد النقد الحديث، لكن السؤال المطروح أين وصل النقد العربي الحديث،؟ أين موقعه في حركة الإبداع المتسارعة؟ هل واكب النقد الإبداع أم تخلف عنه؟ ومن هم النقاد المؤسسين الذين أغنوا حركة النقد العربي؟ وأسهموا في دفع عجلة النقد إلى الأمام؟!!.

هذه الأسئلة المطروحة تدفعنا إلى طرح الكثير من الرؤى النقدية والمفاهيم الرؤيوية، وفق ما يلي:

1-النقد مرجعية إبداعية:

لاشك في أن النقد مرجعية إبداعية تتفتق بين الحين والآخر؛تبعاً لذخيرة المبدع، وثقافته المعرفية،وهذه الخبرة تتنامى تدريجياً،وتتفتق بمقدار موهبة الناقد، ورؤيته، وأحكامه النقدية المؤسسة على وعي معرفي، وخبرة إبداعية راقية في الكشف، والاستدلال، والتمحيص؛ومن أجل أن تتنامى هذه المرجعية لابد من روافد إضافية تزيدها منها: الثقافة المتطورة، والحساسية الجمالية، والموجة الرؤيوية التي تنبثق من صميم المعرفة، والتشوف الرؤيوي المتوهج على ما هو جديد ومبتكر؛ ولهذا؛ لا غنى عن هذه المرجعية في ثراء تجربة الناقد وغناها.

2-النقد حساسية جمالية:

لاغرو أن يكون النقد حساسية جمالية،وإرادة واعية تتحسس الأشياء،وتتشوف جوهرها من خلال حسن الاستشفاف الجمالي،وحسن الرؤية،وعمق مخزونها الإبداعي؛ فالإبداع في أسمى تجلياته ثورة جمالية، وحساسية جمالية مرهفة، لا يمكن الوصول إليها إلا عبر مدلول جديد،وعين ناقدة مبدعة تستشف ما خلف الكلمات؛والناقد الرائي المتميز هو الذي يخلق النص من جديد؛ و يتغور أعماقه،ويستخلص ما هو خبيء في باطنه؛وبتقديرنا:

إن أية قراءة نقدية موضوعية ناجعة تنطلق من النص ذاته دون علاقة بما سواه. شريطة الجودة والإتقان؛سواء أكانت محلقة برؤاه أم مثبطة لها. فهي قراءة ناجعة تشكل إضافتها لا محالة،وما نقصد ب(القراءة الناجعة) القراءة التي ترقى بالنص،وترتقي به؛ أما القراءة المثبطة فهي ليست القراءة التي تقلل من شعرية النص أو تقيده؛وإنما ما نقصده هي القراءة التي تتصيد الجوانب اللاشعرية في النص لإظهارها وإبرازها،والكشف عنها لتحريض الشاعر أو المبدع فيما بعد أن يتجاوزها إلى أعمال أخرى أكثر نضجاً وإبداعاً وعمقاً من الأولى حتى هذه القراءة وإن رامتها الظنون ستصب في المحصلة في مصلحة العملية الإبداعية ذاتها، ودائرة التأويل الناجع المثمر الذي لب مسعاه الخلوص بنتائج موضوعية ،ورؤى حقيقية تدخل عمق النص،لتفيد القارئ والمبدع في آن، بأحكام موضوعية ترقى بالنص،والمبدع ،والمتلقي.

3-النقد مكاشفة دائمة:

النقد حركة نصية رؤيوية واعية؛ وهو مكاشفة دائمة ، فالناقد ليحقق قراءة نقدية مهمة عليه أن يحيا مع النص ؛ أن يعيش طقوسه، وأجواءه الإبداعية؛ أي على الناقد أن يتحسس مناخات النص الإبداعية، ويعاود قراءة النص من جديد ، ويخطئ الناقد حين يقدم قراءة نهائية أو قراءة أحادية ؛وأغلب القراء الفاشلين أو التقليديين أولئك الذين يعتمدون قراءة واحدة أو قراءة أحادية؛ أو نهائية للنص؛ظناً منهم أنهم قد حققوا القراءة الناجعة أو القراءة الفاعلة المنتجة لجمالية النص؛ فالقراءة الناجعة هي القراءة اللامنتهية أو القراءة اللامكتملة؛ وهي القراءة القابلة للمحو التغيير، أو هي التي تتقبل المحو التغيير؛ أي هي القراءة التي يمكن أن تتطور،وبمكن أن تتغير. أما القراءة المنتهية التي يركن إليها أصحابها فهي القراءة المائتة التي لا تضيف أو لا تقبل الإضافة؛لذلك معظم كتاباتي النقدية تبقى في حوار وانفتاح وتصادم وتناقض،وإضافة ومحو، فأنا لا أؤمن بناقد كامل؛ أو دارس مبدع لا يأتيه الباطل من بين يديه؛ فالناقد الحقيقي هو المتغير في قراءاته، هو الذي يضيف،ويغير ويتغير في كل مرة يطالع النص أو ينفذ إليه؛وأغلب الدراسات النقدية الهشة هي التي ظن أصحابها أنها منتهية ؛ولذلك أنا ضد مقولة النص المكتمل أو النص المنتهي، وضد مقولة دراسة منتهية،وكثيرا ما عدلت قراءاتي النقدية وحذفت منها؛ لدرجة المحو أحياناً؛ ففي كتابي الموسوم ب(ظواهر أسلوبية في شعر بدوي الجبل)رغم ما حظي من اهتمام نقدي محوت كل ما فيه في كتابي(جمالية الخطاب الشعري عند بدوي الجبل)،ورجعت محوت هذا الكتاب بكتابي الثالث(بدوي الجبل بلاغة القصيدة وتشكيلها البصري) ثم محوت هذا الكتاب بكتاب رابع هو(مستويات الإثارة الشعرية في شعر بدوي الجبل) الذي صدر عن دار علاء الدين دمشق(2015)؛وربما يأتي يوم وتتغير قراءتي فأعيد عملية المحو تلك مراراً وتكراراً، تبعاً لتطور أدواتي وقدراتي النقدية ؛ ولذلك الناقد الذي يظن أن رؤيته منتهية أو مكتملة هو ناقد عنين عقيم عاجز عن ارتياد النص وفك جموحه.

وهذا ما فعلته في قراءاتي النقدية لتجربة الشاعر العراقي الكبير حميد سعيد ؛ فقد اشتغلت كتابي الأول عن تجربته وهو(مسارات الإبداع الشعري) ثم عدت فمحوت كل ما فيه لأنجز أهم قراءة نقدية لي في مشروعي الطويل الذي دام (15)عاماً وهو (فضاءات جمالية في شعر حميد سعيد) لم استطع محوه أو حتى تجاوزه ،وهذا دليل عدم تطور أدواتي النقدية ؛وأخاف أن تكون شاخت رؤيتي أو تحجرت أدواتي ؛ ولهذا أنا أجاهد أن أمحو هذا العمل بأهم منه،ولهذا أعيش مع نصوصه كثيرا، وأعيش طقوسها وآمل النجاح في تخطيه وتجاوزه؛وكل ما يهمني ليس الطنين الإعلامي أو الهرطقة الدعائية لما أكتب؛وإنما ما يهمني أن تتطور رؤيتي وأدواتي؛ لهذا أضحك حتى الإعياء من أولئك الذين ينتقدون كتاباتي في عامي(2006-2009)؛ وأذكر منهم أحمد ويس، والبروفسور علاء وغيرهم لأن هذه المرحلة اعتبرها تمرينات نقدية،وهي هوامش قرائية ليس إلا؛وهم يطبلون ويزمرون للإقلال من شأن ما كتبته فيما بعد؛ بقصد عدواني إجرامي بحت.

ولا أبالغ في قولي أنا أبتهج وأفرح عندما أجد دراسة نقدية تمحو ما كتبت أو تقفز فوق ما كتبت، وأفرح أكثر إذا كان صاحبها شاباً، أو ناقداً واعداً؛أشعر أن النقد السوري أو النقد العربي بخير؛ لكن ما يؤلمني أن الكثير من النقاد يعيشون الجهل النقدي الحقيقي،ويركنون إلى ما وصلوا إليه؛ إن النقد يشيخ ويهرم إن وقف عند حد معين ؛ والناقد يدفن نفسه بيديه إن ركن إلى المستوى الذي وصل إليه؛ولهذا رغم قوة أعدائي في الحقل النقدي وما نالوه من درجات علمية لم يحققوا نصرهم علي ولم يستطيعوا محو كتبي بإبداعاتهم لأنهم ركنوا إلى ما وصلوا إليه واعتمدوا التشهير الفاضح على النت ، ولهذا خسروا الرهان خسروا أبهة أسمائهم لأنها شاخت وتحجرت أدواتهم النقدية وتخشبت؛هؤلاء ماذا سيقدمون للنقد السوري سوى الطنين؛ إن ما يقتل الناقد حقيقة الركون إلى المناصب والألقاب(أستاذ نظرية النقد والأدب جامعة حلب.. البرفسور فلان جامعة دمشق)، هذه الأسماء لا ترفع الدراسة قيد أنملة؛ المبدع هو الذي يقدم دراسة نقدية غير مسبوقة.. ويتجاوز سابقيه بأشواط؛ أما أن يكرر ويجتر ما قيل في حقل التنظير فلن يقدم شيئاً مهماً ولن يتطور... هم أرادوني وراءهم وأنا جريت أمامهم ، لهذا هم تخلفوا ،وأنا مضيت!!

هم استعانوا ببريق الألقاب لترويج كتاباتهم نجحوا في لفت انتباه السذج؛ وأنا استعنت باسمي العاري وجهدي الدؤوب،فنجحت،ووصلت، وأعمل بجهد أن أمحو ما وصلت إليه بأعمال نقدية أكثر قيمة وأهمية وإبداعاً؛ولهذا؛ لن أركن إلى ما وصلت إليه لأن النقد مكاشفة دائمة وحركة متجددة كما دورة الحياة,ومن يظن أنه وصل فليعلن موته كمبدع، وناقد، وأديب.

ولا أخفي القارئ أن إطراء البعض على بعض أعمالي يحملني مسؤولية مضاعفة أن أعمل جاهداً لتطوير أدواتي وهذا ما عمدت إليه الآن، أو أشتغل عليه في كتابي ربما الأهم في مسيرتي القادمة وهو(الفكر الجمالي عند شعراء الحداثة)؛ولا أخفي القارئ أيضاً مدى المرارة التي نلتها من قبل أعدائي بعدما سلبوا مني درجة الدكتوراه،في عام 2007. بتآمر مشرفي سعد الدين كليب، في تلك المرحلة المريرة التي تجاوزتها،وآمل أن أتجاوزهم فكراً وإبداعاً جمالياً يرقى فوق ما كتبوا وما سطروا؛.. إنهم الآن – بالنسبة لي مجرد أرقام علي تجاوزها وهذا حافزي الآن؛وانتصاري القريب بمشيئة الله.
4- النقد إبداع أومنظور إبداعي متطور:

يخطئ من يظن أن النقد تحليل نصي، أو أحكام نقدية، أو مجموعة رؤى، واستنتاجات درسية.. النقد رؤيا واكتشاف،باختصار: النقد إبداع على إبداع، أو إبداع فوق الإبداع، هو خلق نصي جديد،ولهذا يختلف النقد كدراسة عن النقد كإبداع، من فهم النقد دراسة لا يفهم حقيقة النقد ولا جوهر العملية النقدية، إن القارئ النقدي المبدع هو الذي يخلق النص من جديد بأدواته ورؤاه، إنه يحيي فيه بذرة الإبداع التي جفت بعد إخراجها من تربتها. إنه يمنحها بريقها الآسر ،وينفث فيها من نفثات روحه لتحيا من جديد. على الناقد أن يعيد هذه البذرة إلى تربتها بنبضه وإحساسه الجمالي، ليحيا النص من جديد،وينتشي في ثوبه الإبداعي الجديد.

5- النقد ممارسة ومتابعة وحراك رؤيوي متواصل:

لقد سبق أن قلنا: إن النقد السوري يحتضر،ولا أبالغ أن من أسباب احتضاره ضعف الممارسات التطبيقية ، أو بالتحديد عقم الدراسات التطبيقية مقارنة بالدراسات التنظيرية التي تصول وتموج وهي أشبه بالفرقعات الكاذبة والهرطقات الفارغة التي لا تغني ولاتسمن من جوع؛ وهنا أقول إن النقد ممارسة وأدوات الناقد تضمر إن لم تتطور ، ولهذا ينبغي على الناقد أن لا يغيب عن الممارسة إطلاقاً؛ فالممارسة تسهم في تنشيط الإبداع،وتسهم كذلك في تطوير الأدوات النقدية ،ومن ثم تحريك الرؤية للبحث عن مستجدات، وأعود وأكرر مراراً وتكراراً: إن براعة الاكتشاف وعمق المكتشفات لا تأتي إلا بعد طول مران وتجريب،وبهذا يحفظ الناقد أدواته من الصدأ والتقادم الزمني ويضمن للغته النقدية سموها ورشاقتها وسلاستها الإبداعية الرائقة.

وفي الختام:

لا تنفصل الممارسة عن الإبداع في حقل الكشف النقدي ، فالممارسة شرط من شروط الإبداع ،ولا يمكن أن تتحقق قراءة نقدية ناجعة أو مبدعة دون ممارسة جادة وحقيقية ومجتهدة ودؤوبة تروم الفرادة والكشف والإبداع ؛وهذا ما قصدناه في مقالنا الكاشف المتواضع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى