الاثنين ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم رامية نجيمة

هل تتذكّر الطريق إلى المزرعة؟

أخيراً وبعدَ طولِ عَناء، نجَح الزَّوجان في الفِرار مِن الحبس الذي قضيا فيه سنواتٍ مُتتابعةٍ مِن الأعمال الشاقّة والتعذيب المتواصل.. كانت رحلة الهَرب مُضنية. سارا خلالَها حتى انهدّ الجسد. ولما قَدّرا أنَّهما قد صارا بعيدين عن أعيُن جلادِهما.. ركنَا إلى فيئ شَجرة كثيفَة الأغصان..

لاهِثةً، سألَت أمُّ صابِر زوجَها، وقد تبدّت لها الخُضرة المُحيطة أكبَر مِن أن تُحيطها العَين:

أتعتِقد يا أبا صابر أنّ أمرَنا الآن سيَنصلِح؟ أقصِد، هل سنكون بخير؟
وجاءَ جوابُ أبي صابر مُتقطِّعا كأنفاسِه:

ولِم لا؟ ألَم نتَحصّل أخيراً على ما أرَدناه؟ لقد صارَت الحُريّة واقعاً بعد أن كانت حُلماً صَعب المَنال!
نعَم، لكن كيفَ سنُدبِّر عيشَنا.. ماذا سنأكل؟ أينَ سنعيش؟ ومَن سيُعيلنا؟
قلَّب أبو صابر ناظريه في العُشب الأخضر.. والأشعة الدافئة، والثمارِ المُتدليّة من علياء الشجر.. ثم قال بنَبرة مُفكِرّ:
سنأكُل العُشب، ونَنام في الخَلاء الواسِع الذي صارَ مِلكَنا وحدَنا! سنأكُل ونَنام متى شِئنا وحيثُما شِئنا، سنَعيش كالملوك، سيتسنى لنا الإمساكُ بزِمام أمورِنا... هل نسيتِ أنّنا قد تخلّصنا مِن قَيدنا وصِرنا أحراراً؟ ! ألا تفهمين؟ ! إننا أحرارٌ أحرار!
نعم، ولكنّي أُفكِّر، كيفَ سنتصرَّف إذا ما باغتَتنا الرياحُ والأمطَار، أو تسلَطّ علَينا الجَفاف والحَرّ !
ألقى أبو صابر، نظرة مُتأملة على الفَراغ المُحيط به، وقال كمَن اكتَشف لتوِّه أمراً جللا:
الآن تُفكّرين يا عزيزتي؟ الآن تُفكِّرين؟ وأين كان تَفكيركِ حين كنتِ تُشنِّفين آذانَنا صُبح مَساء بكلامِك عن النضال، والتمرّد على الظُلم، والسّعي إلى الحرية، حتى لو كلَّفتنا حياتنا؟ أين كان تَفكيرُكِ حينئذٍ؟ إلهي ! لماذا لَم تلفتي نظري إلى هذا قَبل أن نهجُر المَزرعة؟ !

أعترف أنّي كثيراً ما ألحّيتُ عليكَ وعلى باقي أصحابِنا بضرورَة الفِرار، أعترِف أنّي أردتُ الحريّة، والعَدالة، وأنّي لَم أخطّط للأمرِ بعناية؛ لكني، وبعدَ أن صِرتُ في الخارج، قد تبيّنتُ أنّ الأمرَ ليسَ بيَسير... المُطالبة بالحريّة وتمنّيها شيء، لكنّ تحمُّل تبعاتِها شيءٌ مُختلِفٌ تَماماً، ثمّ إنَّه يَكفيني شَرفاً أنّي ناضلتُ، وفتّحتُ العيون على الحقيقة؛ ثم لا تنسَ أنّ خُطّة الفِرار مِن المَزرعة ما كانت لتنجَحَ لولا أنّي أحكمتُ تَدبيرها!
يالكِ مِن مغرورة ! خُطَّة الفِرار التي صَنعتِها لَم تنجَح لأنّها كانَت مُحكَمة، إنّما كانت تلك ضربةُ حظٍّ ساهَم في نَجاحِها غباءُ المُزارع وسوءُ تقديرِه !

شهِقت أمُّ صابِر وقالَت والرذاذُ يتطايَر من فَمِها:

المُزارِع غبيّ؟ غبيّ؟ كيفَ تجرؤ؟ بل كيفَ صوَّر لكَ عقلُك الصغيرُ هذا أنّ المُزارِع يُمكن أن يكونَ غبيا؟ هل نسيتَ مَن يكون؟ هل نسيت؟ هذا الذي تُسمّيه غبيّا أيُّها الغبيّ الكَبير يَستطيعُ القيامَ بأشياء مُبهرة نَعجَز نحن عَن إتيانِ جُزء يسيرٍ منها !

قطَّب أبو صابر حاجبيه، وقال مُستفسِرا:

لا أفهَم؛ أشياء مُبهرة مِثل ماذا؟ !
كَعقدِ طَرفَيْ الحَبل ثمّ فَكّ عُقدَته، وخَلطِ مأكولاتٍ مُتعدِّدة في قِدر، ووضعِها فوقَ النار لتَنبعِث منها رائحةٌ غَريبة، ناهيكَ عن إشْعال النار، وصُنع زريبةٍ مِن القَصب، ودَفن بُذورٍ في الأرض ثُم إرغامُها على النموّ والتوالُد... هذه بضعُ أمثلةٍ عن الإنجازات العظيمة التي يَستطيع المُزارع إتيانَها !
صَمت أبو صابر قليلا، ثمّ قال بعدَ تَفكير:
_في الحقيقة لَم يسبِق لي أن رأيتُ مخلوقاً يُحسن فِعل هذه الأشياء المُبتكَرة غيرَ المُزارع وابنه، وزوجَته ومَن هُم على شاكِلتهم.. لكنّي أعتقد أنّ كلَّ هذا الذي ذكرتِه ليسَ مِن الذكاءِ في شيء !
صمَتت أمُّ صابر، وتمنَّت في هذِه اللَّحظة لو أنّها كانت مِن بني البشر حتى تَستطيع ضَرب كفّ بكفّ !

لكنّ أبا صابر أردَف مُوَضِّحا:

كلُّ ما نجَح المُزارع في صُنعِه مِن الأشياء البَديعة التي ذكرتِها وغيرِها، لَم يصنَعها بفِعل ذكائه، بَل بفَضل المُرونة التي يتمتّع بها جسدُه دوناً عن أجسادِ ما تبقّى من الخلائق.. قارِني بينَ جَسدِه وأجسادِ من هم على شاكِلَتنا... إنّنا كلُّنا نمشي على أربعٍ عدا المُزارع وأقرانه. إنَّه لا يحتاج إلى أكثَر مِن قَدمين ليستطيعَ الوُقوفَ والمَشي، وهذا يجعلُه قادراً على استِخدام قَوائِمه الأمامية في أعمالٍ أُخرى؛ كَربط العُقدة وحلّها، وطَبخ المأكولاتِ المتنوّعة، والزراعة، وإضرام النار أيضاً... فهذه كلُّها أمورٌ تحتاج إلى يَدين مَرنَتين وماهِرتَين، كلُّ واحدة منها مزوّدةٌ بأصابِعَ طويلةٍ ونَحيفة قادرةٍ على التِقاط الأشياء مَهما كانت دقيقةً، ثمّ إعادة تشكيلِها بما يُناسِب المَصلحة... وحدَه من يمتلك المرونَة يستطيعُ إخضاع غيره مِن الخلائق، ومن ثمّة يصير بإمكانه أن يحكُم، لا حظيرة واحدة فحسب، بل قرية كاملة بما فيها!
أصغَت أمُّ صابر، وهي مَفتونةٌ بهذه العَبقرية التي لَم تتخيّل أن يتفتّق عنها ذهن زوجها في يوم من الأيام !
يا لذَكائِك يا عزيزي ! كيفَ لَم يخطُر هذا الأمرُ ببالي مِن قبل.. حقّا أنا غبيّة !

أومَأ الزوج برأسِه مَزهواً وأردَفت الزوجة:

نعم، صدَقت. إنّ مَن يمتلِك الأجسادَ المَرنة، والأصابِع النحيفة الطَويلة، يَستطيع استغلالَ الكائِنات الأخرى حتى لَو فاقَته قوّةً وذكاءً... كتِلك الشاحِنة المِسكينة مَثلا، إنّها على الرّغم مِن ضَخامَتها وقوَّتِها، تخشى المُزارعَ وتعمَل له ألفَ حساب. حتى إنّها لا تجرؤ على الكلامِ في غِيابه مَع أنّها اكبر حيوانٍ في المَزرعة، ومع ذلك لمَ تسلَم مِن الأذى، إذ لا يتوانى سيّدنا الجائِر عَن الانحِشار في جَسدها كلَّما رغِبَ في ذلك !

صاح أبو صابر:

المزارع إنسان مُؤذٍ بالفِعل، وظُلمه لنا تجاوَز كلَّ الحُدود، لكنَّنا بالرغم مِن كلّ شيءٍ نحتاج إليه، لأنّنا لولاه لَن نستطيع تدبُّر عيشِنا، وقد يكون مآلنا أن نموتَ برداً أو جوعا؛ أو أن نُصبح وجبة هانِئة للضّباع !
هل تعلَم يا أبا صابر؟ بالرَّغم مِن كلِّ ما سَبق ذِكره، هناكَ شيءٌ لا أفهَمُه؛ شيءٌ يعبَث بخَلايا عقلي ويؤرِّقُني: كيف عاشَ أجدادُنا قديماً في البَراري بلا سيِّد ولا وليّ؟ وهذِه المخلوقات التي تملِك زِمام أمرِها الآن، كيف أمكنَها العيشُ وحدَها في هذا العالَم المُوحِش المَليئ بالوحوش دون حاجة إلى أحَد المُزارعين؟ ما الفرقُ بينَنا وبينَهم؟ فيمَ يختلِفون عنا؟ !
وأنا مِثلُك أيّتُها العزيزة... وأنا مثلُك يُحيِّرني هذا الأمرُ كثيرا، فأفكّر وأفكّر ولا أكاد أجد لَه جوابا. لكنّ الشَيء الأكيدَ والمؤكَّد الآن، هو أنّه يتوجّب علينا أن نعود الآن إلى المزرعة، قبل أن يكتَشِف سيّدُنا فِرارَنا ويعاقِبنا على فِعلَتنا شرّ عِقاب.. ولنَبتهِج لأنّ سيِّدنا قلَّما يَمتطينا، فبالأحرى أن يحشُر نفسَه داخِلنا كما يفعَل مَع الشّاحنة المِسكينة !
هزّت الأتانُ رأسَها بالمُوافَقة، وسألت:

خبِّرني يا زوجي العَزيز، هل تتذكّر الطريق إلى المزرعة؟
أومَأ الحمار برأسِه أن نَعم. ثمّ سارَ وزوجته تَتبعه تاركَين وراءهُما صدَى نهيقٍ يقطَع صمتَ الخلاء: هيي هاا..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى