الخميس ١١ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم صادق جواد سليمان

من حاضر التطرف إلى مستقبل التوسط

من حاضر التطرف إلى مستقبل التوسط عنوان هذا الحديث، وعنده أتوقف قليلا لأتساءل: ترى ماذا يحتمل هذا العنوان من قراءات؟ أنقرؤه على أن حاضرنا مشحون بالتطرف، لكن، كسياق طبيعي، كل تطرف ينتهي إلى توسط؟ في هذا الاستقراء ركون إلى تلقائية الصيرورة، لذا نفي للزومية التدخل. أو نقرؤه على أن حاضرنا مشحون بالتطرف، لكننا نأمل أن يتلاشى التطرف قبل بعيد ؟ هنا تعلق بأمل دون تبادر لعمل. أم نقرؤه على أن حاضرنا مشحون بالتطرف، وذلك يرتب علينا أن نعمل لأجل نبذ التطرف وانتهاج المنهج الوسطي في عموم أدائنا الفردي والوطني والدولي؟

أنا مع القراءة الأخيرة المتسقة مع هدف هذا المؤتمر: أن لا غنى عن فكر نير وعمل منظم لأجل إزالة التطرف وإرساء الخطاب والمسلك، فرديا ووطنيا وعالميا، على المنهج الوسطي، أي لا بد من انتهاج الوسطية كمبدأ وممارسة. ذلك أن ليس من طبع التطرف أن يزول تلقاء نفسه، كما وأنه لا يزول بمجرد أن نتمنى زواله. إنه، إن ترك، يولد تطرفا مقابلا، ثم يغذي كل منهما الآخر ضمن حلقة مفرغة. عديدة هي الحالات في التاريخ، قديما وحديثا، تنبئ أنه عندما يترك التطرف في التعامل البشري دون لجم، فإنه هكذا يتفاقم ويستفحل حتى يسري للوسط فيوهنه، وقد يفتك به.

ما معنى التطرف وأين نرصده؟ مع أن التطرف كمسلك بشري ذميم نرصده في سلوك الأفراد والأمم عبر العالم، ممارَسا ما بين الدول وما بين الديانات، ما بين الفئات ضمن الدولة الواحدة وما بين المذاهب ضمن الدين الواحد، إلا أن تناولي للتطرف في هذا العرض يأتي في نسق ما نرصد منه في الواقع العربي الإسلامي بوجه عام، من منطلق أن استصلاح النفس أبدى على استصلاح الغير، بل وأن استصلاح الغير لا يحمل مصداقية ولا ينشأ تكليفا ما لم يقترن باستصلاح النفس كأمر أول وأساس.

ابتداء لننظر إلى مصطلح التطرف، ومصطلحات مماثلة للتطرف في الدلالة، كالغلو، الإفراط،، التعصب. بنظري مهمٌ جدا أن نتعرف على المصطلحات ومدلولاتها كما هي شخصت وشرحت في أدبيات الثقافة العربية الإسلامية. ذلك أدعى لفهمنا مضامينها ولمسنا تأثيراتها على نحو أوفى وأدق. بعد ذلك لننظر إلى مصادر التطرف، وما شابه التطرف، في الواقع العربي الإسلامي الراهن. أخيرا لننظر كيف يمكن أن يكون التحول من التطرف إلى التوسط باعتماد المنهج الوسطي فكرا وخطابا ومسلكا على صعيد الفرد والوطن والعالم.

التطرف من الطرف، والطرف هو آخر الشيء، أكان من عاليه أو سافله أو جوانبه، كما في الآية: أفلا يرون أنا تأتي الأرض ننقصها من أطرافها ... الدلالة هنا أن التناقص قد يبدأ من الأطراف، كما مثلا في التصحر. وقد يحدث التناقص هكذا في جسم حيوان إو إنسان عندما ينشأ مرض في طرف منه ثم يسري في الأعضاء الحيوية في وسط الجسم، فيودي بالجسم كله. وقد يحصل التناقص في أهلية الإنسان عندما يتطرف تصرفه إزاء أمر ما، فإن لم يستدرك ويكبح هذا الجموح، تطبع تصرفه على التطرف في سائر الأمور. وقد ينشأ التناقص في المجتمع عندما تتطرف فئة قليلة صاخبة فيه، ثم بفاعلية جارفة تجر كثيرا من الناس إلى التطرف، أو التحمس للتطرف، وتوصم الوسطية بجبن وخذلان.

التطرف في النسق السياسي-الاجتماعي الذي نحن بصدده يعني أخذ طرف محدد من قضية ما دون الاحتفاء بالقضية ككل. المتطرف من موقعه لا يستوعب القضية بكليتها، لذا لا يُعنى بها ككل. رؤيته مبتورة وهمه مختزل. وهو إذ يتصرف من هكذا رؤية وهمٍّ محدودين يغفل عما للقضية من أبعاد متشعبة واعتبارات شتى تستدعي الحكمة أخذها مجتمعة بشكل موضوعي ومتوازن كي تتكامل المعالجة فلا يأتي الحل المنشود منقوصا، مفرطا، أو مفرّطا في القضية من أي جانب هام. ثم إذ يتطبع التطرف لديه يصبغ عموم تعامله مع القضايا المتعاطاة بين الناس.

الشيئ يعرف بضده، وضد التطرف التوسط، أو الوسطية التي يؤتى لها بممارسة الاعتدال. الوسطية تعني التمحور وعياً في وسط القضية، حيث الرؤية عريضة، والفهم شامل، والواقع ملموس من مختلف أبعاده، وحيث الاهتمام بالقضية لا يأتي منصبا على جانب محدد منها مع إهمال جوانب أخرى هامة بل ربما هي الأهم.

الوسطية مفهوم قرآني تطرق له عدد من الأخوة المشاركين قبلي، مع ذلك يجدر تكرار ذكره. خاطب القرآن المجيد الأمة المسلمة الناهضة بقوله: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا. المعنى الموسع هنا كما استقرؤه: بما بصرتم به من رشد واسقامة، وما لقنتم من مبادئ صلاح وقيم بناء، أصبحتم مستوعبين الشأن البشري عامة، وصرتم على بينة من أسباب نهوض الأمم وارتكاسها، وبذلك أضحت لكم أهلية أن تشهدوا على سائر الأمم مدى التزامها بتلكم المبادئ والقيم، حثها عليها، وتنبيهها بالقصور إذا ما وقع منها قصور. طبعا لم تعد للأمة الإسلامية أهلية هذا الدور الوسطي في عصرنا هذا، فهي، كما تعملون، جيدا، في ذاتها قد ابتلت بالقصور.

في موقع آخر، يصف القرآن الكريم شخصا أكثر عدالة بين قومه بأوسط قومه. يأتي المعنى في سياق قصة: أن قوما من قلة ثرية وكثرة فقيرة تعاونوا على استصلاح أرض وزرعها على أن يتقاسموا محصولها بالتساوي. قام الفقراء بجل جهد الحرث والزرع والسقي. لكن الأثرياء بيتوا غدرا. حين الحصاد، على غفلة من الفقراء، سارعوا لينهبوا المحصول كله. لكنهم وجدوا المزرعة خاوية قد أتلفتها ريح عاصف. فتحسروا، وندموا على ما بيتوا من ظلم. هنا يروي القرآن الكريم: قال لهم أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ( لولا تمجدون الله فتقسطون ). قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين. فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون. قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين. عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها، إنا إلى ربنا راغبون.

كما التضاد بين التطرف والتوسط، كذا التضاد بين المغالاة والاعتدال. المغالاة هي المبالغة في قضية ما لدرجة إفقاد المُغالي مصداقيته، فلا يُعاد يُعتد بقوله وإن صدق، ولدرجة إفقاد القضية اعتبارها، فلا يُلتفت لها بجد وإن كانت لها جدارة. المغالي، بذلك، يبخس نفسه قدرها، يضر بالقضية من حيث يريد نفعها، وينفر الناس عنها من حيث يريد استمالتهم لها. لاحظ الإمام علي ظاهرة الغلو هذه فيمن أفرط في حبه من الناس وفيمن أفرط في بغضه، فقال بحكمته المعهودة: هلك في رجلان: محب غال (مغال) ومبغض قال (هاجر). وجاء القرآن الكريم ينهى عن الغلو في الدين في خطاب لأهل الكتاب: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل. أذكر أنني عندما استشهدت بهذه الأية في مؤتمر دولي قبل سنوات، للتدليل على أن القرآن ينهى عن الغلو في الدين، رد علي أحد المشاركين أن هذا الخطاب موجه إلى أهل الكتاب. فرددت: نعم، ولكن المسلمين غير مستثنين. وأضفت أن من أدب القرآن قوله: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون. وقلت أنه لا يأتي في القرآن ندب إلى صلاح أو زجر عن فساد إلا ويكون أفقه الناس أجمعين.

إلى جانب التضاد بين التطرف والتوسط، وبين الغلو والاعتدال، هناك التضاد بين الإفراط والاقتصاد. الإفراط هو الإكثار من الشيء حتى العبث، أي إهدار المورد عبثيا لحد الإضرار بالنفس وبالآخرين. الاقتصاد هو تصريف المورد قصد تحقيق منفعة، ومن ثم قصد صيانته، إنمائه، واستهلاكه على نحو رشيد، خاصا كان المورد أو ملكا عاما للناس. الإفراط يحدث عن جهالة أو حماقة أو بطر، أو بتلكم مجتمعة. الاقتصاد يمارس بحصافة النظر وبالتبصر في عاقبة الأمور. يشير القرآن المجيد إلى ذلك بقوله: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ( لوأنهم ساروا على سبل الصلاح المبينة لهم وحياً ) لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ( لعمهم الرخاء ) منهم أمة مقتصدة ( رشيدة القصد في نظرها ومسلكها ) وكثير منهم ساء ما يعملون.

أخيرا، هناك التضاد بين التعصب والصفح. التعصب هو التحزم ضد الآخر، فردا أو جماعة، بمبرر أو بدون مبرر. الصفح هو التعامل مع الآخر بسماح حتى حيث يكون الآخر قد أخطأ أو أساء. في القرآن يُدعى النبي ليعفو ويصفح، ويُذكّر بأن الله يحب المحسنين. يقول القرآن: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وإن الساعة لآتية، فاصفح الصفح الجميل. وإلى واليه المنتدب إلى مصر، وجل أهل مصر بعد لم يدخل الإسلام، يعهد الإمام علي عهدا مفصلا يكتب له فيه: وأشعر قلبك الرأفة بالرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتي علي أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تريد أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. نعم، لقد لاحظ ابن خلدون أن العصبية تمكّن من استجماع القوة والاستيلاء على السلطة. نعم لا يزال هذا صحيحا حيث الفئوية تتنفذ أو الطائفية تسود. أما حيث تكون المواطنة هي الإطار الجامع على صعيد التكافئ بين المواطنين، وتكون مبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان هي المرتكز والمحتكم، فإن الأمة تقرر أمرها وتدير شأنها جماعيا من خلال مؤسساتها المنتخبة من أهل الوطن الواحد، نساء ورجالا، دون غبن أو تمييز.

أين أرصد سلبيات التطرف والغلو والإفراط والتعصب في الواقع العربي الإسلامي المعاش؟ من حيث أنظر، أرصدها منشأً لدى مَصدرَيها الأكبر: خطاب الدولة في بعضه من جانب، وخطاب الدين في بعضه من الجانب الآخر: منهما معا أرى سريان هذه السلبيات طردا في خبرتنا المعاصرة.

الدولة تتطرف حينما باسم الوطن، وبمبرر ضمان أمنه واستقراره — وهو مبرر أصيل ووجيه في حد ذاته لكنه مرارا ما يستغل بإغراض — يعلي الرهطُ الحاكمُ في الدولة همَ بقائه في الحكم على مهمة ضمان سلامة الوطن وصيانة حقوق المواطنين على أساس التكافئ أمام القانون. مدفوعاً هكذا بنزعة الاستئثار بالسلطة والاستدامة فيها، يتطرف الرهط الحاكم فَيَسُن امتيازات سياسية واجتماعية ومالية بناء على نسب وولاء. بذلك يعطَل عاملُ الكفاءة ويُجحَف باستحقاقات المواطنة المتكافئة بين الناس. بذلك أيضا يُوهَن الوئامُ الاجتماعي ويُعطَب الاقتصاد.

عندما هكذا يغدو التشبث بالسلطة الأولويةَ الأولى لدى أي رهط حاكم فإنه وطنياًً يحيد عن الوسطية والاعتدال والاقتصاد والصفح. إنه يتطرف في همّ البقاء في الحكم. إنه يغلو من حيث إعلاء قدر نفسه، دونما جدارة، على قدر سائر المواطنين. إنه يفرط في إنفاق المورد العام، ويفرط في أداء الواجب الوطني. وإنه يتعصب ويتعسف ضد من يعترض عليه. بذلك هو يولد في المقابل تطرفا وغلواً وإفراطا وتعصبا لدى المعترضين. بالنتيجة، بين الحاكم المحتكر للسلطة، والخصم المحاول انتزاع السلطة منه بكيد أو بعنف، تُهدر المصالح، تُبعثر الإمكانات، تهمَش المبادئُ والقيم، وتُسام الأمة خسفاً في طموحها الحضاري.

المصدر الآخر للتطرف والغلو والإفراط والتعصب هو الخطاب الديني في بعضه. التطرف في بعض الخطاب الديني مسموع ومقروء. أصحاب هذا الخطاب قلما يرون جدارة للاجتهاد الإنساني في مجال تنظيم الشأن البشري وترشيده خارج ما ينظّرون و يعرضون حسب فهمهم للدين. إنهم يكادون لا يرون الأفق الجامع بين البشر بحكم الفطرة التي فطر الله الناس عليها أجمعين. إنهم لا يستوعبون، أو ربما يتجاهلون، أن الحال الجامع بين الناس أعمق وأعظم وأعم من الحالات المفارقة بينهم، كالثقافة والدين والعرق والجنس والموطن.

من موقع التطرف ما عاد أصحاب مثل هذا الخطاب الديني يثمنون الخبرة الإنسانية المتطورة التي منها اليوم هم، كغيرهم من سائر الناس عبر العالم، مستفيدون، بل وعليها معولون في تحقيق أهم احتياجات الحياة، دنيوية ودينية، مادية وروحية. بذلك تراهم قد حازوا عن محور الوسطية: المحور الذي يطالب بإعطاء كل ذي حق حقه، وإقرار فضل كل ذي فضل: المحور الذي يستوعب الشأن البشري ككل، يثمنه ككل، يُعنى به ويرعاه ككل: المحور الذي دعيت الأمة الإسلامية أن ترتكز فيه وتنطلق منه اتساقا مع المنطق القرآني الذي يرى الوسطية وحدها المؤهلة لأيما أمة أن تشهد على سائر الأمم، ووحدها المؤهلة للأمم أن تسهم إسهاما متميزا في تطوير الحال الإنساني للأمثل: معرفةً، ومعاشاً، وتعزيزاً لكرامة الإنسان، واستمتاعاً بطيبات الحياة.

في الخطاب الديني في بعضه، إلى جانب التطرف، قدر من غلو وإفراط وتعصب. فيه قدر من غلو من حيث إعلاء ما يُعرض فيه حول طبيعة الكون وظاهرة الحياة، وحول مقومات الشأن الإنساني في الحياة... إعلائها فوق ما يُعرض من فهم ونظر خارج طروحات الدين. فيه قدر من إفراط من حيث إضفاء صحة مطلقة على المقال الديني حتى حيث لا يحتمل المقال مثل هذا الإطلاق. وفيه قدر من تعصب من حيث صد أفكار ومناهج تبتكر في خبرة الآخرين حتى حيث تكون تلك أجدى وأجدر في الوفاء باستحقاقات المواطنة المتكافئة واستحقاقت كرامة الإنسان. أما الوسطية والاعتدال والاقتصاد والصفح، من حيث هي أضداد التطرف والغلو والإفراط والتعصب، فقليلا ما، بل نادرا ما، ألمس ندبا صادقا إليها، أو تأكيدا حقيقيا عليها، في غالب الخطاب الديني.

خطاب الدولة في بعضه، والخطاب الديني في بعضه، كلاهما، على ما أرى، مصدر قدر من تطرف وغلو وإفراط وتعصب، ومنهما معا تسري سلبيات جمة في واقعنا المعاش. لذا، بنظري، كلا الخطابين يستدعي المراجعة والتقويم. بنظري أيضا، أن التقويم ينبغي أن ينطلق من منطلقات إنسانية حضارية: من فكر نير يعتمد في أدق وأعمق وأعم اجتهاداته ثلاثيَ المعرفةَ المحققة، المنطقَ العقلي، والمعيارَ الخلقي، في عملية تدبير كافة أمور الحياة. الإسلام يشكل مصدرا رئيسا للتوضح حول هذه المفاهيم، ومعينا مستديما للاستبصار. إلى جانب الإسلام يوجد اجتهاد إنساني يجدر أن لا يستصغر قدره ولا يهمش عطاؤه، وقد أنتج معارف ونظما عمقت ووسعت مدارك الإنسان وتطورت خبرته الحياتية عالميا ­­— وهي لا تزال — إلى آفاق لا يحدها سقف.

في عملية تقويم خطاب الدولة، إلى جانب تأكيد أهمية استتباب الأمن والاستقرار وبناء اليسر الاقتصادي، لا بد من القول أنه إجحاف بحق الأمة، وهو ظلم للنفس في الوقت ذاته، أن يصر أيما رهط حاكم في أوطاننا على مسك السلطة مدى الحياة. بنظري، من الأجدر والأوفى كرامة للحاكم والمحكوم بسواء أن يحقق طموح الريادة في أوطاننا، لمن يوجد لديهم هذا الطموح، عن طريق اختيار الناس لهم بشكل موثق ومحقق من خلال صناديق الاقتراع.

في علمية تقويم الخطاب الديني، إلى جانب تأكيد أن الأمة الراجحة في عقلها الجماعي تثمن تراثها، تتبصر به، تستلهم حكمته، تتزود منه، لا بد من القول أن على الأمة أيضا في الوقت نفسه أن تفعّل اجتهادها المعرفي وتبني عليه، أن تطلق إمكانات الإبداع والتطوير المودعة في طياتها دون حد، وأن ترسي وضعها الوطني على دستورية تتكفل بإقامة العدل وتحقيق المساواة وصون كرامة الإنسان. عليها أن تنجز ذلك لأجل أن تحيا حياة ثرة طيبة، لتستبق الخيرات، لترتقي صُعُدا أرقى فأرقى مع كل جيل. عليها أن تنجز ذلك أيضا لأجل أن تمكن نفسها من إسهام نافع ومتواصل مع سائر الأمم في تحسين حال الإنسان في كل مكان.

أستخلص إذن: نعم، لنا عربيا وإسلاميا، إذا شئنا، أن نتجاوز التطرف إلى الوسطية، الغلو إلى الاعتدال، الإفراط إلى الاقتصاد، التعصب إلى الصفح... ثم، إذا شئنا، أن نرود حركة عالمية تدعو وتعمل لأجل تبني الوسطية خطابا ومسلكا في عموم التعامل ضمن وبين الدول والديانات. لكن لتحقيق ذلك لا بد لنا ابتداء، عربيا وإسلاميا، أن نبصر اجتهادنا بفكر نير ونسند عملنا بإخلاص و إتقان...لا بد لنا من أن نرتكز في الوسطية فكرا وخلقا، ويكون ارتكازنا استراتيجيا ومستديما، وليس تكتيكيا أومرحليا كرد فعل أو بحكم ظروف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى