الأربعاء ٢ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

الاغتراب الأسلوبي في شعر حميد سعيد

تمهيد:

لاشك في أن الاغتراب الأسلوبي من أهم الأشكال الاغترابية التي شهدتها بنية القصيدة الحداثية المعاصرة التي ارتقت بفضاءاتها النصية إلى آفاق رؤيوية عميقة من الإثارة، والتحريض الجمالي،ولا نبالغ في قولنا: لقد شهدت القصائد الحداثية في الآونة الأخيرة متغيراتها الأسلوبية المبتكرة، ذات الإثارة، والتحريض، والتكثيف الجمالي، وقد يتساءل القائل: ما هو المقصود بالاغتراب الأسلوبي؟!! وهل ثمة اغتراب أسلوبي بالمعنى الدقيق للكلمة؟!! وهل ثمة فرق بين الاغتراب الأسلوبي، والاغتراب الفني، أو الجمالي؟!!.

ومتى يكون الاغتراب اغتراباً أسلوبياً؟!! ومتى يكون اغتراباً فنياً؟!! ومتى يكون اغتراباً جمالياً؟!! .. هل ثمة تداخل في هذه الأشكال الاغترابية التي شهدتها بنية القصائد الحداثية مع بعضها بعضاً،ومتى يكون الاغتراب الأسلوبي اغتراباً فنياً أو جمالياً؟!!. وهل يتحول الاغتراب الأسلوبي إلى اغتراب تجريدي، أو سريالي يقوم على التشظي،وبعثرة المداليل، والتغريب اللغوي؟!!.

بادئ ذي بدء نقول: إن الاغتراب الأسلوبي قد يتقاطع مع الكثير من أشكال الاغترابات الفنية الأخرى التي ترقى أعلى المستويات في الإثارة، والتحفيز الفني،وقد يرتقي الاغتراب الأسلوبي إلى مصافي الإبداع الحقيقي جمالياً، أي يرتقي درجة من الجمالية، والإثارة الشعرية،وعندئذٍ، يتحول الاغتراب الأسلوبي إلى اغتراب جمالي، وقد يؤدي إلى العكس تماماً، فيكون الاغتراب الأسلوبي شكلاً من أشكال الفوضى، والعبث اللغوي الساخر باللغة، وعلائقها الفنية، أي يقوم على البعثرة، والتشظي والتلاشي بمعنى (الفوضى الهذيانية اللامحسوبة لحركة الأنساق اللغوية)، وقيمها اللا جمالية، وهذا يعني أن الاغتراب الأسلوبي اغتراب تحولي، متغير، قد يتحول إلى اغتراب فني، أو اغتراب جمالي، أو اغتراب لغوي، أو اغتراب تجريدي، أو اغتراب عبثي هذياني يقوم على فوضى الدلالات، وعبث المداليل،وتشظي الرؤى، والمؤثرات الاغترابية، ولذلك، يعد مبحث الاغتراب الأسلوبي من أصعب أنواع المباحث التي تخوض في هذه الموضوعة الشائكة خاصة عند تجربة شعرية أحادية أو واحدة ،وبتقديرنا إن قيمة هذه الدراسة ستثمر مستقبلاً عندما تطال كوكبة من التجارب الشعرية المعاصرة على اختلاف توجهاتها ورؤاًها،وبتقديرنا:إن تعدد الأساليب الشعرية، وتنوع المؤشرات الاغترابية التي يظهرها الشاعر حميد سعيد على مسار امتداد تجربته زمناً،طويلاً، جعلتنا نخوص في هذه التجربة البحثية،نظراً لتعدد الأساليب التي تظهرها نصوصه الشعرية ، بالانتقال من رؤية إلى أخرى ، وأسلوب إلى آخر، ومن محفز جمالي جزئي إلى محفز جمالي كلي،وهذا كان له أبلغ الأثر في خوض تجربتنا النقدية في هذا الشق البحثي الصعب أو العسير.
وبتقديرنا: إن الاغتراب الأسلوبي متنوع، ومتحول،ومتعدد الطبقات، والمستويات ضمن التجربة الإبداعية الواحدة،ولذا، فإن القيم الجمالية التي تثيرها بعض النصوص الإبداعية متنوعة، بتنوع الأساليب التي تظهرها النصوص الشعرية،وتعدد طبقاتها، ومستوياتها الإبداعية، ومحمولاتها الدلاليةعلى المستويات كافة،ومن هذا المنظور، فإن الاغتراب الأسلوبي هو المؤثر الأساس في تنويع شكل القصيدة وتنويع فضاءاتها الهندسية أو البصرية على بياض الصفحة الشعرية.
أشكال الاغتراب الأسلوبي في شعر حميد سعيد:

يعد الاغتراب الأسلوبي من أبرز أشكال الاغترابات الشعرية تأثيراً في تجربة حميد سعيد لاسيما إذا أدركنا أن الاغتراب الأسلوبي من محفزات الرؤية النصية في قصائده، فالأسلوب الممتع أو المشوق فنياً هو الأسلوب الذي يحاول الشاعر أن يثير- بوساطته- القارئ جمالياً، وتركيزاً دلالياً؛ مفعلاً الرؤية الشعرية، وكاشفاً عن مخزونها النفسي والدلالي بعمق، وإيحاء ،وشاعرية؛ ومن البديهي أن الأسلوب المشوق جمالياً هو أكثر الأساليب أثراً وتأثيراً في المتلقي، لأن الشاعر لا يخلق النص المعضل الذي ينفر القارئ،ويبعده عن مسار التلقي الجمالي الناجع،و بقدر ما يوفق الشاعر في خلق النص الجمالي المؤثر، بقدر ما يسمو شعرياً في رؤاه وأساليبه الفنية، وإلا لا قيمة للنص الشعري على اختلاف طبقاته،ومستوياته، وقيمه الأسلوبية مهما تنوعت واختلفت رؤاه، إن لم يتضمن قيماً جمالية، أو محفزات فنية ترقى بهذا الأسلوب عما سواه؛ ووفق هذا التصور، فإن كل ما يرتقي بالشعرية يقع ضمن دائرة الإثارة، أو الاستثارة الجمالية التي ترقى بالنسق الشعري، وتزيد فواعله الجمالية، إثارة وتحريضاً نصياً في حيز الرؤية، ومدلولها النصي المراوغ.
ويعد الاغتراب الأسلوبي من أكثر أشكال الاغترابات الأخرى أثراً وتأثيراً في قصائد حميد سعيد؛ لأنه يتحكم في شكل القصيدة وتوجهاتها الدلالية، وهذا ما وعاه حميد سعيد بقوله:" يتشكل أسلوب الشاعر أي شاعر،ليس عن طريق المصادفة،وإنما من خلال تمثل عميق لما قرأ،وما سمع، وما حفظ، وما أعجب به من قراءات"(1).
وللبحث في جوانب هذا الاغتراب وأثره وتأثيره قي قصائده سنعمد إلى البحث في الجوانب التالية:

الاغتراب الأسلوبي بالمناورة الاستهلالية/ والمناورة الختامية:

لاشك في أن الاغتراب الأسلوبي المؤثر هو الاغتراب الذي يلجأ إلى المناورات الاستهلالية والمناورات الختامية، تلك المناورات التي تملك قيمتها المهمة في إبراز فنية القصيدة، وإحكامها جمالياً، فالحركة الحداثية اليوم تعد كل خروج على نظام الألفة والمعتاد في التشكيل الشعري قيمة حداثوية مؤثرة، شريطة أن يملك هذا الخروج، والانتهاك قيمة جمالية ما تسهم في تشعير القصيدة،إكسابها رؤية جديدة، ومدلولاً فنياً رؤيوياً محدداً ضمن المضمار النصي.
وبتقديرنا: إن تطور الوعي النقدي والجمالي عند الكثير من مبدعينا، قد أسهم –بشكل ملحوظ- في إغناء القيم الجمالية التي تولدها الأشكال الأسلوبية الجديدة في السياق الشعري،ولا غنى – بمنظورنا- عن القيم الجمالية المبتكرة التي تثيرها بعض الأساليب الشعرية في الفواتح، والاستهلالات النصية، وقد سبق أن أشرنا إلى أن المناورة الاغترابية الأسلوبية الناجعة هي التي يعتمدها الشاعر في قلقلة النسق الشعري جمالياً، بوساطة المباغتة الأسلوبية الصادمة التي ترتقي بشعرية الدفقة الاستهلالية في القصيدة، وترتقي بأسهمها الإبداعية،والشاعر المبدع حقاً هو الذي يحرك النسق الشعري عبر مناورته الاستهلالية الناجعة في تحقيق بلاغة ما في رفع قيمة الرؤية الشعرية جمالياً، محققاً أعلى درجة من الاستثارة والفاعلية الجمالية، وقد أدرك الناقد الجمالي(سوبرفييل)"أن الوسائل الفنية للشعر غير واضحة،ولا يمكن فهمها،كما أنه لا يمكن تعليمها"(2)،

وهذا يدل دلالة قاطعة على أن لكل فن مناورته الإبداعية الخاصة، وطريقته في خلق أدواته، وأساليبه الشعرية المؤثرة ،ولهذا فإن قيمة جمالية في نص إبداعي ما قدتكون قيمة سلبية في نص آخر،وهكذا ، فالفن لا يعلم ،وإنما يخلق خلقاً بالموهبة الخلاقة والممارسة الفعالة،، ويعد الاغتراب الأسلوبي بالمناورة الأسلوبية في الفواتح النصية في قصائد حميد سعيد من أواصر حركتها الجمالية، ومحركاتها الإبداعية، لاسيما عندما تأتي مكثفة بالرؤى، والدلالات المحتدمة، كما في قوله:

بعدَ أنْ نفدَتْ خمرتي"
واستباحَ الخليون أسرارها والخُمارْ
وانتبذت مكاناً.. قصياً.. قصياً .. قصياً
وصار الرمادُ أخي..
والنديمُ الغبارْ
فاجأَتني عطاياكَ
شمسٌ مبجَلةٌ .. وطيورٌ محجلةٌ
وندى من يديك .. يبلل روحي
أيهذا السرورُ المضيء
صَيبٌ.. ووعودٌ تجيءْ"(3).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الاغتراب الأسلوبي بالمناورة الاستهلالية- في قصائد حميد سعيد- يهبها قوة في الدلالة، وترسيخاً للموقف، أو الرؤية الشعرية المقصودة،وهذا يعني أن مثل هذه المناورات الأسلوبية تملك شرعيتها من قوة الدلالة، وفواعل الرؤية المجسدة، بارتباطها بهذه المناورة، أو تلك،ولهذا،تتنوع قنوات الرؤية الشعرية في قصائده بفواعل قوة المناورة وتفعيلها لباقي البنى الداخلة في لبنة القصيدة، وتشكيلها الفني ؛وهنا ،نلحظ فاعلية المناورة الاستهلالية في بث الحالة الصوفية بدافعين شعوريين هما: (الذات) بوصفها منبع تدفق الحالة الصوفية،والآخر(الذات العليا) في تمثلها الروحي المطلق، ومحرق التوجه المحرقي المخصوص، وبناءً على هذا، تنبع قوة المناورة بهذا الائتلاف والجناس الذي جاء محركاً لفواعل المناورة الأسلوبية على المستوى الجمالي، كما في المجانسة الداخلة في صلب الرؤية وعمق الحالة الشعورية:(شمسٌ مبجلة= طيور محجلة)،واللافت أن المناورة الأسلوبية جاءت مشفوعة بعمق الحالة، وفاعلية الرؤية الصوفية المحمومة بالتوق، والوله، والصبابة الروحية (وندى من يديك يبلل روحي)،وهنا،تتعضد قيمة المناورة الأسلوبية في بوتقة الرؤية الصوفية بكامل توقها واصطهاجها الشعوري،وهذا التفاعل كان مصدره الأساس الدفقة الاستهلالية المحرضة للرؤية الصوفية ،والباعثة لقوة دفقها وهيجانها الروحي،وهذا يعني أن المناورة الأسلوبية ارتبطت بجوانب دلالية،ارتبطت بالرؤية الجوهر التي طرحتها القصيدة،وللتدليل على ذلك أكثر نورد قوله:

بعدَ أنْ نفدَتْ خمرتي"
واستباحَ الخليون أسرارها والخُمارْ
وانتبذت مكاناً.. قصياً.. قصياً .. قصياً
وصار الرمادُ أخي..
والنديمُ الغبارْ"

إن قيمة المناورة الأسلوبية جمالياً تتبدى في هذا الائتلاف والتمازج بين قوة الحركة الرؤيوية (واستباح الخليون أسرارها والخمار- والنديم الغبار)،وقوة الرؤية الاغترابية التي تجسد حالة التيهان، والسكر الروحي، والنشوة المطلقة،بدافع روحي اغترابي متوتر ماثل في حركة الروح ونزوعها إلى الانعتاق من هذا الواقع إلى الصفاء والنشوة الروحية ،وقد ارتد هذا الإحساس والشعور الاغترابي إلى الشكل اللغوي والمناورة الاغترابية الفاعلة في ترسيم الحالة الشعورية ووقع الروح، وانبثاقها وسموها المطلق.

والمناورة الاغترابية الفاعلة في قصائد حميد سعيد كما تكون فاعلة ومؤثرة في الفواتح النصية تكون فاعلة ومحركة للنسق الشعري في الفواصل والقفلات النصية، وهذا ما يجعل شعريته تعتمد التكامل في حركتها الجمالية على مستوى الموجهات، والدوافع والمحرضات الأسلوبية الاغترابية لتشتغل على أثر من مثير أسلوبي، أو محرض أسلوبي،وهذا ما نلحظه في هذه الفاصلة النصية:

"حتى .. انتظرتُكِ
كان أصحابي يقيمون المآتمَ.. وانتظرتُكِ..
أو يقيمون المآدبَ..
قلتُ : لا
جاءت.. وها أنذا أراها
وانتظرتُكِ.. تَدخلين مواسمي.. واقتادَكِ التفاحُ..
من غيبوبة الماضي.. إلى غاب الحضورْ
كوني .. أكونُ
تحررت سفني وعاد إلى الصبا..
حُلُمي ومائي"(4).

لابد من الإشارة بداية إلى أن المناورة الاغترابية الأسلوبية الفاعلة في الفواصل النصية- في قصائد حميد سعيد – تعتمد على قوة الدلالة المرتبطة بها،والقرار الرؤيوي النهائي الذي تستقر عليه،ومقدار ما وصلت إليه الرؤية من بلاغة، وقوة في التركيز؛ وقد قلنا من سابق: إن سر نجاح القفلة النصية يكمن في الترابط، والتفاعل، والتلاحم الذي يربط القفلة النصية في النسيج اللغوي للقصيدة،تبعاً لتوجهات الشاعر،وخبرته المعرفية في ربط الأنساق الشعرية، بما يحقق لها التكامل، والنضج الإبداعي؛وهاهنا،عمد الشاعر إلى المناورة الأسلوبية الناجعة في إثارة القارئ، بهذا الجو الصوفي الهادئ الذي يهدهد الروح بصفاء، وسهولة، ونقاء الشكل اللغوي(وانتظرتُكِ.. تَدخلين مواسمي.. واقتادَكِ التفاحُ..من غيبوبة الماضي.. إلى غاب الحضور)؛وقد اعتمد الشاعر قوة الحركة الرؤيوية الصوفية لتشي بحالة من التأمل، والاستغراق، والصبابة، والنشوة الروحية ،وكأن الموجة الصوفية استكانت إلى هذه القفلة لتشي بكامل الحالة الصوفية، ونبضها الدافق،ولابد من التأكيد أن فاعلية المناورة الأسلوبية امتدت من الشكل اللغوي إلى الشكل الدلالي، لتخلق وقعها المؤثر في قوله:( كوني.. أكونُ.. تحررت سفني وعاد إلى الصبا.. حلمي ومائي)؛وهذه المناورة رغم بساطتها التشكيلية جاءت ذات فيض في الرؤية، وفيض في الدلالة، لتكون مناورة موفقة أسلوبياً في إثارة القارئ، لتكون خاتمة القصيدة، وقرارها النهائي المؤثر الذي سكنت إليه.

وبتقديرنا : إن الاغتراب الأسلوبي – بالمناورة الأسلوبية الفاعلة- من محركات القصيدة عند حميد سعيد – التي تقف على الفاصلة الأسلوبية، والتشكيلية المؤثرة التي تشعرن القصيدة، وتصوغ وقعها الجمالي المؤثر.

ووفق هذا التصور،نخلص إلى نتيجة مؤداها وهي: يمتاز الشاعر الحداثي المتطور عن غيره من الشعراء بقوة المثير الأسلوبي، والمحفز الجمالي والرؤيوي الذي يدفعه لخلق ممانعته الأسلوبية، وشكله الأسلوبي الإبداعي المميز.وبهذا المقترب يقول نسيم الخوري:" فالشاعر القديم مثلاً يتوسل باللغة المتآلفة(المنسجمة)، أي أن الشاعر القديم يكتب كما يتكلم مما يجعل لغته نسقية، بمعنى أنها ذات شكل وتعبير واحد. وعند قراءة الأشعار القديمة يثيرنا التوافق التام للجمل والأوزان، أما في الشعر الحديث فالأمر مختلف تماماً، إذ يلزم الشاعر ألا يكتب كما يتكلم، فهو يفرغ الكلمات من محتوياتها المعتادة،ويستبدل اللغة المكتوبة بلغة جديدة، لغة خاصة بالشاعر ملازمة له، على عكس ما ساد في الماضي. حين كان الشاعر هو (ما يتكلم) اللغة اليومية،وبهذا المعنى يكون الشاعر أكثر أهمية من الشعر. إنه الجوهر والمعيار"(5).
وبهذا المقتضى الرؤيوي ،نقول: إن الاغتراب الأسلوبي بالمناورة الأسلوبية – في الفواصل والفواتح النصية- في قصائد حميد سعيد- من مؤثرات الرؤية الشعرية، ومنبع ثقلها الفني، لاسيما عندما تتواشج الفواعل النصية في بؤرة الحركة النصية،ومحركتها النصية الكاشفة عن عمق ما تبثه من إيحاءات على مستوياتها كافة.

وصفوة القول:

إن الاغتراب الأسلوبي بالمناورة الأسلوبية يحقق للقصيدة درجة قصوى من التكثيف والإيحاء خاصة عندما تتفاعل الرؤى، والمؤثرات النصية ضمن القصيدة،ومن هذا المنطلق، يمكن القول: إن أية مناورة أسلوبية ناجحة لابد من أن تعتمد البكارة،والجدة،والمتغير الأسلوبي البالغ الإثارة والتحريض، وهذا ما يجعل من كل مناورة أسلوبية قفزة نوعية في التكثيف،والإبداع المثير.ودليلنا أن حميد سعيد وفق في الوقوف على الفواتح النصية الناجحة أسلوبياً في تحفيز قصائده،وهذا ما ينطبق كذلك على قفلاته النصية،وهذا يدل على شعرية مخصوصة بقوة المثير الأسلوبي، وقوة المحرض الجمالي الذي يجعله يقف على المفاصل المحرقية الحساسة في إثارة الشعرية.

2-الاغتراب الأسلوبي بالمتغير الأسلوبي:

ما من شك في أن الاغتراب الأسلوبي بالمتغير الأسلوبي من فواعل الرؤية النصية في بنية القصيدة الحداثية التي اعتمدت مختلف التقنيات، والأساليب الفنية في إيصال رؤيتها، بكل ما تحمله من فيوضات عاطفية، وشحنات نفسية تواكب حجم المتغيرات التقنية المتسارعة، و من البديهي إزاء هذا الحشد المترامي من الرؤى، والأحاسيس، والانفعالات أن ينوع الشاعر الحداثي في الشكل الأسلوبي لهذه القصائد بالعبث، والتنويع في فواعلها الأسلوبية و المؤثرات الجمالية في إيصال رؤيته للمتلقي بكل حراك شعوري، ونبض روحي متوتر،و لذلك، يعد الاغتراب الأسلوبي من بوادر حركة الحداثة التي اعتمدت هذا التنوع في الأساليب، بما يواكب الرؤية الشعرية المكثفة، والحركة الدرامية المتشعبة في بنية القصيدة الحداثية الملحمية أو الدرامية؛ التي اختلفت متغيراتها، ومفرزاتها المعرفية بشكل لا حد له، وقبل الخوض في غمار هذا الشق البحثي في قصائد حميد سعيد لابد من أن نبين مقصودنا بهذا النوع من الاغتراب،وهو الاغتراب الأسلوبي الذي يجعل مرتكزه المتغير الأسلوبي المفاجئ في حركة القصيدة، بانتقالها من متغير أسلوبي إلى آخر،تبعاً لكثافة الرؤية، وتشعبها في القصيدة.

وبمنظورنا: إن الاغتراب الأسلوبي بالارتكاز على بلاغة المتغير الأسلوبي من أبرز الفواعل النصية الجمالية المحركة للقصيدة الحداثية، وقلقلتها لما هو راكد وساكن في التجارب الشعرية، لدرجة نقول معها: إن المتغير الأسلوبي حقيقة إبداعية، يعيها المبدع ذاته في عملية الخلق الشعري، ودليلنا أنه ما من شاعر مبدع، يملك رؤية شعرية مميزة، وبصمة إبداعية خاصة، يركز على أسلوب محدد، أو منظور متواتر، أو شكل مقنن مقيس من سابق، وإلا لاضمحلت تجربته، واندثرت إبداعياً تحت ركام المكرور أوالمستهلك، وهذا يعني أن الشاعر المبدع حقيقة لا ينسج قصيدته على منوال واحد، أو طريقة معينة؛وإذا ما فعل ذلك أصبحت شعريته مطردة،وأسلوبه متواتراً،وهذا، ينافي حقيقة الشعرية، وبذور الشاعرية في مهدها الإبداعي الحقيقي.

وبتصورنا: إن الاغتراب الأسلوبي شكل اغترابي لا يقل قيمة، ولا أهمية عن الاغتراب الفكري،وهذا الاغتراب لا ينفصل عن باقي الأشكال الاغترابية التي تدخل الكتابة الشعرية في صميمها،وهذا يعني – بالتأكيد- أن المتغير الاغترابي الأسلوبي شرط جوهري من شروط الإبداع الرؤيوي المتطور، ولهذا، لا ينفصل الإبداع في جوهره عن هذه الحركة، ومن أجل ذلك، لا يسمو الإبداع بأساليب معتادة، وأدوات تقليدية مكرورة مستهلكة،وإنما يسمو بالمبتكرات الأسلوبية، والطرائق الإبداعية الجديدة التي تخوله أن يسطر إبداعه،ويرتقي به فنياً،وبهذا الصدد، يطالعنا الفنان التشكيلي(ديلاكروا) بمقولة جد صائبة ألا وهي:"أن الشيء الوحيد الذي اعتبره –بالنسبة لي أكثر حقيقة هو هذا السراب الذي ابتدعه في لوحاتي المصورة، أما الباقي فما هو إلا بمثابة رمال تتحرك"(6).

وهذا القول يدلنا على أن للإبداع طقوسه الاختلافية، وأطيافه الإيحائية،فما قد يبدو سراباً للمتلقي في اللوحة له دلالاته،ومؤثراته في الذات المبدعة،وهذا الشيء الذي لا يمكن إنكاره في الحقيقة الإبداعية.
ووفق هذا التصور، أدرك حميد سعيد قيمة المتغير الأسلوبي في البرهنة على شكل اغترابه الأسلوبي، سواء في شكل القصيدة، أم في رؤاها، وعمقها الفني، وحراكها الشعوري، ومن هنا ،نلحظ تنوعاً في متغيرات قصائده على المستوى الأسلوبي، والرؤيوي، والفني، والدلالي،وكل هذه المستويات متعاورة لديه في تشكيل القصيدة ،وإبراز ملمحها الجمالي الخاص،وللتدليل على فاعلية الاغتراب الأسلوبي بكثافة المتغيرات الأسلوبية نورد المقتطف التالي:

"كًلَّما مَررتُ بمقْبَرَةٍ..
عادَني.. ما يُعيدُ إليَّ الشجى
مَن سأسأَلُ عنها..
ومَن ذا الذي سوفَ يسألُ عنّي؟
أتوقَّف عندَ القبورِ القصيَّةِ..
أبحثُ عن بعض شاهدةٍ.. علَّني أُكْمِلُ ما تآكَلَ منها
وأقرَأُ ماغابَ عَنّي
أُجمِّعُ.. من صفحاتٍ مُغَيَّبَةٍ
ما يُعيدُ إلى الموت.. ماكانَ من عِفَّةٍ
ويُعيدُ إلى المقبرَهْ
سَمْتَها.. حيثُ تجتمعُ العائلهْ
. . . . . .
. . . . . ."(7).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الاغتراب الأسلوبي بالمتغير الأسلوبي- في قصائد حميد سعيد- يهبها فاعلية التعبير عن الرؤى، والدلالات المكثفة التي تفيض في النسق الشعري، الذي يتضمنها،وهذا يعني أن كل متغير أسلوبي يشكل نوسة في الدلالة، كما هي النوسة في الإيقاع،وهذا دليل أن كثرة المتغيرات الأسلوبية في القصيدة يدل على كثافة الرؤى، والمنظورات، والمؤثرات الإبداعية؛ وهنا، في زخم الرؤى الاغترابية التي يحتفي بها المقتطف الشعري السابق – نلحظ دلائل الحرقة، والأسى الشعوري إزاء الاغتراب الشعوري، والوجودي، والإحساس بالفقد، والموت، والرحيل، التي يعانيها الشاعر؛وكأن كل متغير أسلوبي، بالانتقال من السؤال، إلى التعجب، إلى الحركة الفعلية، إلى الحركة الاسمية،هو لتمثيل الحالة الشعورية المحتدمة بكل صخبها وصداها الداخلي ؛وكأن الشاعر يراكم في داخله كل مشاعر الغربة، والحرقة، والإحساس بالارتحال،والفقد، لدرجة لا مثيل لها،وهنا، يأتي التنوع نابعاً عن حراك شعوري اغترابي حزين محمل بالأسى، والوجاعة، والحرقة، والانكسار الوجودي، وهكذا، جاءت المتغيرات الأسلوبية، ارتدادا شعورياً عما يستبطنه الشاعر في قرارة ذاته الداخلية من أحاسيس، ورؤى محتدمة، غاية في الكثافة، والتحفيز النصي الذي يمتد بحرقة، وأسى جارح عبر المد النقطي المفتوح ليكون المتغير البصري انعكاساً للمتغير الأسلوبي في التعبير والتنفيس الشعوري عما يعانيه من دلالة الحرقة،والألم، والشوق إلى بيته وموطنه، وكل ما تفيض به الأمكنة من دلالات ومعانٍ جارحة في أعماقه؛ومن هنا يمكن القول: إن الاغتراب الأسلوبي بالمتغير الأسلوبي يحرك النسق، ويزيد فاعلية الرؤية الشعورية المحتدمة في قرارة أعماقه الداخلية, وكأن المتغيرات الأسلوبية هي نقل صريح لما يعتمر في الباطن الشعوري، من قلق، واغتراب، وحسرة اغترابية مريرة، تصعد على السطح اللغوي، عبر تراكم المتغيرات الأسلوبية الفاعلة في المحرق النصي.

ووفق هذا التصور،نقول إن الاغتراب الأسلوبي بالمتغيرات الأسلوبية، يعد قوة تحفيزية في رصد المتحركات البؤرية الشعورية في القصيدة،ولهذا، تتفاوت فاعليتها من نص لآخر،ومن مقطع شعري لآخر ضمن القصيدة ،تبعا لحجم هذه المتغيرات في التكثيف، والتشعير النصي،وهذا القول يؤكده لنا المقتطع الشعري التالي:

"اقتربي .. يا مَن كنتِ معي لأكونْ
اقتربي .. يا مَن كنتِ معي حيث أًكونْ
اقتربي .. سأكونْ
اقتربي .. يتعافى الرملُ وتنزلهُ جناتٌ وعيونْ
اقتربي .. تـُبعث ليلى .. ويعود العقلُ إلى المجنونْ
أُناديك .. اقتربي
تبتعدينْ
أبحث في أرضك عن ماءٍ .. عن طينْ
نملٌ شرسٌ وخيولٌ نافِقة ،وعقارب حمرٌ وصلالْ
هذي الأطلالْ
أسرار الوعدِ الأول ِ تغفو في بستان قريش .. تدخلُ ليل الفتنة ِ ..
يوقظها المطرُ الناعمُ حين تنامْ
وتداعبُ فتنتـَها الأحلامْ
في جلوتها .. يَتجلى جمرُ مفاتنها
وتعيدُ إلى الشيخ ِ .. صباهُ"(8).

لابد من الإشارة بداية إلى ناحية مهمة فيما يخص الاغتراب الأسلوبي، بالمتغيرات الأسلوبية –عند حميد سعيد – أن قيمة هذه المتغيرات تتبع قوة الرؤية، ومستوى تفعيلها للحدث، والمشهد الشعري،وبمقدار كفاءة الشاعر في اقتناص الرؤى العميقة، وبثها بقوة الدوافع الشعورية، والمتغيرات الأسلوبية، بقدر ما تحقق لغته الشعرية الفاعلية، والدهشة، والقوة التأثيرية؛ وهذا يعني أن القوة الدافقة في أية قصيدة يكمن في مخزونها الرؤيوي الفاعل، وحراكها الأسلوبي الناجع على مستوى متغيراتها، ومحركاتها الشعورية،وهذا ما يضمن لها القوة، وفاعلية الحركة التعبيرية؛ وهنا، يضعنا الشاعر في لجلجة الحدث، وعمق الرؤية في المقتطف الشعري، إذ ينوع الشاعر في المتغيرات الأسلوبية، من الحركة الفعلية إلى الاسمية، ومن الصيغ الاسمية إلى النداء، ومن ثم الأمر،ومن ثم تواتر الصيغ الفعلية في عدد من الأسطر الشعرية،وهذا التتابع دليل احتدام المشهد، وحراكه الشعوري المتتابع ،وكأن كل شيء من حوله متحرك،وهذه الحركة الدائبة دليل بحث الشاعر عن وطن في اغترابه ،هذا الوطن الذي نأى عنه، وابتعد، ومازال في حركة دائبة من البحث المستمر عن كيانه،ووجوده وهويته، بعدما تلاشت دون أن يحصل شيئاً سوى اليباب،ولهذا؛ راكم الشاعر المسميات، وكثف من حركة العطف المتتابعة، للإلمام بكامل متغيرات الحدث الشعري، والإحاطة بتمام اللوحة المشهدية التي رسمها لحركة الأشياء،وهذا ما جعل الاغتراب الأسلوبي ناجعاً في الإحاطة بتفاصيل المشهد، بتمامه وكماله،وهذا ما يؤكد لنا :أن الاغتراب الأسلوبي بالمتغيرات الأسلوبية من فواعل نواتج الدلالة، وبل من فواعل الكشف عن منعرجات الرؤية، وتشعبها، للإحاطة بمجرياتها من كل الجوانب.

وتأسيساً على ما تقدم يعد الاغتراب الأسلوبي بالمتغيرات الأسلوبية من نواتج الحركة الشعرية، وكثافة الرؤية، ومدلول الحدث، وعمقها في الصميم. ولهذا، فإن شعرية الاغتراب الأسلوبي تحددها القيم الجمالية التي تثيرها المتغيرات الأسلوبية في السياق الواحد،وبمقدار كثافة الحدث، وتنوع المشاهد في القصائد الدرامية، أو القصائد التي تعتمد الدراما، وكثافة المتغيرات الأسلوبية، بؤرة تفعيلها النصي، بقدر ما ترقي قوة هذه المتغيرات في تفعيل الرؤية، وتعميق فاعلية نشاط الأحداث في المشهد الشعري الدرامي، الذي تحركه هذه المتغيرات، وترتقي به، ومن أراد أن يبحث في هذا الجانب تحديداً فما عليه إلا أن يطالع مجوعة القصائد التالية :قصيدة:( الخوف والقصيدة)و( من أوراق الموريسكي)و(زمن آخر للموريسكي) ومجموعة قصائد(غابة الرماد). سيجد لا محالة كثافة المتغيرات الأسلوبية، تبعاً لكثافة الرؤى، ودراميتها في مثل هذه القصائد ،التي تشتغل على غابات كثيفة من الرؤى، والمداليل الاغترابية المصطرعة، والمحتدمة على مستوى صورها الجزئية، وصولاً إلى مشهدها النصي العام.

وبتقديرنا : إن ينابيع الإثارة الشعرية- التي تفرزها بواعث الاغتراب الأسلوبي في قصائد حميد سعيد – تعد منشطات رؤيوية خلاقة تحقق تكامل القصيدة لديه على مستوييها الدلالي واللغوي.

الاغتراب الأسلوبي بالمقتضى الأسلوبي الفني :

لاشك في أن الإبداع مجموعة مقتضيات فنية، وأشكال أسلوبية،وهذه المقتضيات تخلقها النصوص الإبداعية،حسب مؤثرات رؤيوية ونفسية وشعورية تتحكم في المبدع لحظة الخلق الفني، أو حسب قوة الضاغط الإبداعي لحظة التشكيل النصي،وقبل أن نخوض غمار الشق البحثي في هذا الجانب تحديدا لابد من تبيين مقصودنا بالمقتضى الأسلوبي ،ونعني به: قوة جاذبية بعض الأنساق لبعضها البعض فنياً أو جمالياً أو أسلوبياً، تبعاً لمقتضيات بؤرية تفرضها طبيعة كل تجربة شعرية على حدة ،وكل قصيدة،وكل نسق شعري متضمن فيها، وباختصار، شعرية اقتضاء الجمل لبعضها البعض فنياً أو أسلوبياً، بما يحقق لها قوة الدلالة،وعمق الرؤية الشعرية بوساطة الارتباط الفني المثير،وذلك تبعاً لفاعلية المقتضى الأسلوبي واستحواذه على مقتضاه البلاغي الأسلوبي المؤثر في تغير مجريات القصيدة.
ويعد هذا الاغتراب الأسلوبي بالمقتضى الأسلوبي البليغ أو الناجع من مثيرات القصائد الحداثية المحلقة في شكلها اللغوي،وحراكها الجمالي الفني،ولهذا، تتوقف درجة فاعلية المقتضى الأسلوبي فنياً ،تبعاً لما يحفزه مقتضاه داخل النسق الشعري،من حيث: (التكثيف،والعمق،والإيحاء،والمباغتة الفنية)، ولا نبالغ في قولنا: إن المقتضى الأسلوبي تفرضه القصيدة في جزئية من جزئياتها،لقلقة النسق،وتحريكه فنياً؛وهذا، بالضرورة يتبع خصوصية الرؤية،وبؤرتها الشعرية المكثفة، الممركزة للحدث، أو الموقف الشعري.

ولا نبالغ في قولنا:

إن الاغتراب الأسلوبي بالمقتضى الأسلوبي البليغ من أهم الأشكال الاغترابية شاعرية في قصائد حميد سعيد على المستوى الأسلوبي، ذلك أن قصائده تحتفي دائماً بمبتكراتها الإسنادية، ومقتضياتها الأسلوبية الجاذبة للشعرية في شكلها البلاغي المؤثر، وأسلوبها البليغ، وللتدليل على فاعلية المقتضيات الأسلوبية، وقيمها الجمالية المؤثرة، نأخذ القول الشعري التالي البليغ بإغترابه الأسلوبي ومقتضياته الفنية البليغة،كما في قوله:
"لابثين فيها .. غير أنكِ ما لبثتِ..

أكنتِ تقترفينَ فضحَ تكتمِ الأحلامِ..
عرَيت الكلامْ..
معاً رأيتكِ.. كنتِ أعطيتِ الشذى وطناً وأعطيتِ الثمارْ
قيافةً أُخرى
وأعطيتِ المحبين .. اليقينْ
معاً رأيتُكِ.. وافترقنا .. ثم كُنا
وعدٌ يلمُ لنا الدقائقَ.. أو يلمٌ لنا القرونْ
معاً.. رآنا القيمون على الطقوسِ..
معاً.. رآنا العابرونْ"(9).

بادئ ذي بدء،نشير إلى أن الاغتراب الأسلوبي بالمقتضى الأسلوبي البليغ من مثيرات الحركة النصية في قصائد حميد سعيد، فمثل هذه القصائد تحتفي بالمتغيرات الأسلوبية احتفاءها بالشكل اللغوي الفني المثير المحرك للشعرية،وهنا، نلحظ أن المتغير الأسلوبي يخدم الرؤية الاغترابية ،ويصب في بوتقتها،وهذا المتغير يبدأ من الجزء النصي،وصولاً إلى الكل، وهذا ما أثاره على صعيد الدوال الجزئية الماثل على صعيد العبارة:( تقترفين فضح تكتم الأحلام- عريت الكلام- أعطيت الشذى وطناً- وأعطيتِ الثمار قيافةً أخرى)؛فكل متغير أسلوبي يحمل في طياته نفثة اغترابية شعورية حارقة تجوب في فضاء التصوف، والارتحال إلى ملكوت الوله، و التوق، والسمو المطلق،ومن هذا المنطلق يمكن القول: إن الاغتراب الأسلوبي بالمقتضيات الأسلوبية تتحد مثيراته، بتفاعل هذه المقتضيات، وتضافرها في النسق الشعري،وهذا ما يضمن لها درجة من الحنكة ،والألفة، والدهشة ،والمتعة الجمالية، فالمقتضى الأسلوبي يرقى بمقتضاه الفني المؤثر،وهذه المقتضيات الأسلوبية، متفاعلة، إحساساً، ورؤية مع نبض الحالة الشعورية، وإيقاعها الصوفي المحموم الذي يخرج من عمق الذات، واغترابها، وإحساسها الصوفي الدافق.

وثمة ملحوظة مهمة فيما يخص الاغتراب الأسلوبي بالمقتضى الأسلوبي البليغ،وهو أن شعرية المقتضيات قد تنشأ من التنافر والصدام بين التراكيب ،تبعاً لحساسية الشاعر، وجدله الوجودي، فليس من الضرورة أن تحتفي المقتضيات الأسلوبية بشكل دائم بالمتشابه، والمؤتلف، والمتشاكل في النسق الاقتضائي الشامل لمقتضاه، وإنما قد تقوم على التنافر، والاختلاف، والتضاد بين المقتضيات الأسلوبية ضمن النسق،وهذا دليل أن الاغتراب الأسلوبي، بجدلية المقتضيات، من شعرية الحرمة النصية في قصائد حميد سعيد على مستوى الاغتراب الأسلوبي، وهذا يتبع – بالدرجة الأولى- الحركة النصية – في إثارة الرؤية الدرامية، وتمثيلها بعمق أمام المتلقي.

ومن القصائد الدالة على فاعلية الاغتراب الأسلوبي بالمقتضيات الأسلوبية المتضادة، أو ذات العلائق الجدلية قصيدة ( تخطيطات بالفحم والدم على جدران المتحف العراقي) ومنها نختار المقتطف الشعري المطول التالي:

وحشٌ خرافيٌ يلِمُ دورة الزمانْ"
في لحظةٍ غُيِبَ عنها الله والإنسانْ
وكان عبد الله والنخيلُ والقباب الخُضْر والنَهران..
في مضارب الأقنانْ
أهذه الغيبوبةُ السوداءُ .. بغداد ..
وهذا الموتُ.. بغداد ؟!
لماذا وقفت في حَرَم التاريخ.. حتى جاءها القاتل من مأمنها..
ماذا سيبقى لك.. إنْ لم تصعدي من عثرات العالم السفليِ..
من نار الأساطير إلى نور المقاصير..
وماذا يُلهِمُ العشاقَ.. إنْ لم تغسلي بالضحكِ الأمطار ..
ماذا يُلهِمُ العشاق ؟
. . . . .
. . . . . .
تتساقط الأحلامُ.. مثل تساقط الأوراق
تزدحم الشوارعُ بالعناكب.. بالحراب وبالترابِ
حتى كأن الموت.. يَختِلُ وردها والشوكَ..
من ماتَ العَشيَةَ .. دون أن يدري لماذا مات في هذي العَشيَةِ
لا يُثابُ ولا يُعابُ ..
وكأن كل يدٍ تُمَدُ إلى بهائك..
أو تَوَدُ ..
يدُ العذابْ"(10)

لابد من التنويه بداية إلى أن الاغتراب الأسلوبي بالمقتضى الأسلوبي البليغ، ليحقق إثارته الدرامية لابد من خلق الصدام الشعوري، أو تمثيل الاحتدام الشعوري، أو الرؤيوي الذي يفور من عمق هذه المتقتضيات ،مفعلاً النسق بالجدل، والاحتدام الشعوري القلق، وهذا ما يحسب للمقتضيات المؤثرة في تفعيل مجرى الرؤية، وتعميق مخزونها، ومضمونها الجمالي، أو بعدها الدرامي الشعري الصادق الذي ينقل الاحتدام الاغترابي الدرامي المتوتر من الأعماق،وهذا ما يحسب لبقية الأنساق الشعرية.وهنا ، نلحظ فاعلية المقتضيات الأسلوبية، في تفعيل الرؤية الاغترابية في الأنساق الشعرية، وإظهار طابعها الشعوري الدرامي، في تمثيل المشهد الدموي الدرامي الذي حدث في العراق،فكل البنى الجزئية هي فواعل اقتضائية مهمة تساعد في الكشف عن حدة التوتر والصراع الذي تعانيه الذات في قلقها واحتدامها الشعوري المرير،كما في المقتضيات الأسلوبية المحركة لباقي الأنساق،وإكسابها رؤية عميقة في الكشف، والاصطراع الداخلي، كما في الأنساق المحتدمة التالية(تتساقط الأحلام .. مثل تساقط الأوراق- تزدحم الشوارع بالعناكب.. بالحراب وبالتراب- نار الأساطير- نور المقاصير)؛ إن هذه المقتضيات الأسلوبية تفعِّل الرؤية الشعرية، وتبعث القوة الدافقة في تمثيل المشهد الدرامي،عبر التساؤلات الاغترابية الجريحة، أو المتصدعة لتبين حالة الذهول والاستغراب التي أل إليها الشاعر،وكأنه لا يصدق ما يرى،ولا يتوقع ما حدث:(أهذه الغيبوبةُ السوداءُ .. بغداد . وهذا الموتُ.. بغداد ؟!"،هذا على المستوى الجزئي. أما على المستوى الكلي، فإن كل ما يحرك النسق الشعري يقع ضمن دائرة الاغتراب الأسلوبي بالمحفزات والمحركات الأسلوبية المؤثرة في مجرى الأحداث واحتدامها في المشهد الرامي، وهذا يعني أن المقتضيات الأسلوبية تحرك الرؤى،وتكسبها فاعلية قصوى من الإيحاء،ودليلنا أن الاغتراب الأسلوبي لا يقع ضمن المقتضيات اللغوية و مستتبعاتها النسقية فحسب، وإنما يقع كذلك ضمن اللقطات والمشاهد و الصور واللقطات، وهذا ما يكسب المشاهد دراميتها،فوسط الدماء، والمشاهد المأساوية الدامية المحتدمة تطالعنا اللقطات المضادة إلى النقيض دائرة الفرح والتفاؤل والأمل الذي تبثه الدوال التالية:( وماذا يُلهِمُ العشاقَ.. إنْ لم تغسلي بالضحكِ الأمطار .. ماذا يُلهِمُ العشاق)، وهذا الاحتدام يدلنا على أن الاغتراب الأسلوبي بالمقتضيات الأسلوبية من محركات الدلالة، وبواعثها الرؤيوية في القصيدة،وهذا ما يضمن شعريتها في الإثارة والتحفيز والحراك الرؤيوي على مستوى المقتضيات اللغوية من جهة، والمقتضيات المشهدية من جهة ثانية، ،وهذا ما يكسب القصيدة دراميتها وتناغمها الفني.

الاغتراب الأسلوبي بالمماحكة الأسلوبية أو الزوغان الفني:

ما من شك في أن الاغتراب الأسلوبي بالمماحكات الأسلوبية البليغة من مولدات الشعرية في كثير من القصائد الحداثية التي تعتمد دهشة المناورات، والمماحكات الأسلوبية المحفزة للشعرية، والخالقة لمولداتها، ومثيراتها الفنية،ونقصد ب( المماحكة الأسلوبية الناجعة): قدرة الأنساق الأسلوبية على خلق الأنساق المماحكة فنياً،من حيث البكارة، والدهشة، والجدة، والمباغتة النصية،وبمقدار ما تكون المماحكة الأسلوبية جديدة ومبتكرة في نسقها بمقدار ما تثيره في النص،وغالباً ما تكون المماحكة الأسلوبية المحرضة للشعرية مماحكة تصويرية لا سيما إذا أدركنا أن المماحكة عبر الصورة هي أكثر بروزاً وامتشاقاً لشعرية النسق، مقارنة بغيرها من المماحكات الأسلوبية الأخرى كاللغوية والصوتية،وغيرها؛ وهذا يعني أن الاغتراب بالمماحكة الأسلوبية، والزوغان الفني يحقق للقصيدة فاعلية الرؤية، وفاعلية المظهر الأسلوبي الجذاب الذي يحرك الشعرية،ويبعث فيها الخصوبة، والحيوية، والحراك الفني المؤثر؛ وبتقديرنا: أن شعرية الاغتراب الأسلوبي تتوقف على شعرية المماحكات الأسلوبية الناجحة،ولا نبالغ في قولنا: إن شعرية أية مماحكة أسلوبية ناجعة تتعلق بالقوة البلاغية التي تثيرها في النسق الشعري،سواء في مظهرها البصري، أم في مظهرها الصوتي، واللغوي والنسقي. وهذا يقودنا إلى القول: إن حساسية المبدع الجمالية أو الفنية هي وراء أية مماحكة أسلوبية ناجعة في السياق، وهي التي تتحكم في تحفيز القدرة الإبداعية لدى المبدع على البناء الفني المثير؛ ووفق هذا المنظور، فإن المماحكة الأسلوبية الناجعة هي مناورة تشكيلية فاعلة، لإبراز جمالية الأسلوب لدى الشاعر، وقدرته على المباهاة الفنية في نسقه الإبداعي الذي يشكله، وفقاً لما يعتمر في داخله من رؤى، وأحاسيس،وهكذا، يصبح الشاعر مرهوناً لمخيلته الوهاجة،ومباهاته اللغوية،ومماحتكه الأسلوبية التي ترتقي بالنسق الشعري،وتضمن له قدراً من المباغتة، والمتعة الفنية.

وغالباً ما تأتي المماحكات الأسلوبية فاعلة في التحفيز النصي،مكثفة حركته الجمالية،وهذا ما نجده في قصائد حميد سعيد التي تحتفي بإيقاعاتها التصويرية المماحكة في شكلها وحركتها النصية، كما في قوله:

"لا البحرُ القريبُ
زَمَنٌ مُريبٌ
رحل الذين تُحبُّهمْ..
مُـتحفِّزاً.. بينَ القصيدةِ والقصيدةِ..
ظلَّ ينتظِرُ الغروبُ
بَرُدَتْ أصابعُهُ.. وصارَ قَميصُه الذهبيُّ..
مِن حَجَرٍ..
أكنتَ تُقيمُ حيثُ يُـقيمُ ..أم هَرَّبتَ وردكَ..
للنجومِ وحدائِقٌ ليليَّةٌ.. لاوردَ فيها
كُنّا نُفاجئها..
فتقطف ما يجودُ به المدادْ
ثمراً..
تَدلّى ذاتَ أغنيَةٍ .. على شجر الرمادْ"(11)

بادئ ذي بدء؛ نشير إلى أن الاغتراب الأسلوبي - بالمماحكات الأسلوبية في قصائد حميد سعيد- ليس ترفاً لغوياً،بقصد المماججة، والمباهاة اللغوية ، وإنما لخدمة الرؤية الشعرية، والتكثيف النصي،وبتصورنا: إن الرؤية الخلاقة التي يملكها الشاعر وراء هذه المماحكات التي تعزز شعرية الرؤية ،وترفع درجة سموقها النصي،وهنا، بدت المماحكات الأسلوبية المغتربة في إيقاعها الجمالي ماثلة في تحريك الرؤية الاغترابية،كما في قوله:(تَدلّى ذاتَ أغنيَةٍ .. على شجر الرمادْ)،ودليلنا: أن إسناد الشجر إلى الرماد فيه من قوة الإيحاء، والتأثير،والشاعرية، ما يحرك الرؤية الشعرية للدلالة على احتراق أحلام الموريسكي بالكامل بالعودة إلى مدينته الضائعة التي ما عاد من بريقها وزمنها الجميل سوى ذكريات مهترئة، وأحاسيس مريرة،تنم على عقم، وتصحر،وأسى، وضياع،فالبلاد التي حلم بها ضاعت، و احترقت، ولم يعد من بريقها سوى ذرات الرماد المتناثرة هنا وهناك، دون أن يحصل منها شيئاً ، أو ينال من بريقها الذي كان سوى الخيال وذرات الرماد المتلاشية في غياهب الحرقة والضياع .

هذا على مستوى الرؤى الجزئية، والاستعارات الخلاقة ،وممانعاتها الأسلوبية الموقظة؛ أما على مستوى التلاحم النصي فنلحظ أن الشاعر يبث زفراته الاغترابية ملتحماً بشخصية الموريسكي ليغدو هو وهي شخصية واحدة فكما يحلم الموريسكي بالعودة إلى الأجواء الأندلسية يحلم الشاعر كذلك أن يعود إلى الفضاءات البغدادية،مستعيداً تلك الأجواء وبريقها الماثل أمام عينيه ،ولهذا، يسقط اغترابه الداخلي على الشكل اللغوي بوساطة تكثيف الاستعارات الحارقة المشبوبة بمظاهر الشوق والحنين ، و اقتناص الممانعات الأسلوبية الخلاقة التي تحرك الشعرية، وتزيد إيقاعها الجمالي وفواعلها الرؤيوية المؤثرة.

والملاحظ أن المماحكات الأسلوبية الممانعة تحرك الرؤية الشعرية في متون قصائده الشعرية؛ لكن ليس على حساب إيقاعها الرؤيوي الدلالي المفتوح، وهذا يعني أن الشاعر يختار الممانعة الأسلوبية الفاعلة في تعزيز اغترابه الرؤيوي والشعوري في الموضع المناسب، والمكان اللائق لتحفيز الشعرية وتبيين عناصر استثارتها وتـأثيرها في القصيدة،،وهذا يضمن لها بلاغة الرؤية، و عمق التأثير،كما في قوله:

"وحشُ الكوابيس ..

ينهشُ حنجرةَ البلبلِ المضيءِ .. ويغصبُ شجوَ الحمامْ"(12).

لابد من التنويه بداية إلى أن الاغتراب الأسلوبي من محركات الرؤية الشعرية في قصائد حميد سعيد ،وهذه المحركات ليست ماثلة بتمامها على المستوى الكلي فحسب، و إنما على المستوى الجزئي كذلك،وهذا التكامل يشعرن الرؤية بكليتها، وجزئيتها في الآن ذاته،وهنا،نلحظ الوقع الاغترابي الجريح، أو المتصدع الذي ولدته مثل هذه الأنساق الشعرية في السياق، بوساطة المماحكة الأسلوبية الفاعلة في تحريك الرؤية الاغترابية الحارقة، كما في قوله( ينهشُ حنجرة البلبل المضيء،)،وهو يريد بذلك أن يبين قسوة الانتهاك التي تطال الأبرياء في العراق الشقيق، ومرارة الاغتراب التي تطال معظم الأشياء والمظاهر الجمالية في الفضاءات العراقية، ومن ضمنها البلابل، والطيور التي تدل على قمة البراءة، والجمال، فهي على الرغم من مظاهر براءتها لم تسلم من بطش القتلة والسفاحين، والمحتلين وقد عضد فاعلية هذه الدلالة الاغترابية بقوة اقتضائية فاعلة في قوله:(يغصبُ شجو الحمام)،وهو يريد أن يؤكد فداحة الانتهاك، والممارسات القمعية التي تواجه المواطن العراقي،على يد الفئات الظالمة من استعمار، واحتلال، وتسلط السفاحين أولئك الذين يغتالون كل شيء جميل،بما في ذلك مظاهر البراءة، والخصوبة، والجمال كافة،و بهذه الممانعة الأسلوبية الفاعلة شعرياَ ورؤيوياً يحرض المثيرات الاغترابية، سواء بالشكل الدلالي، أم بالشكل اللغوي، عبر المماحكات الأسلوبية المشتعلة عمقاً، ودلالة، وفاعلية.
وصفوة القول:
الاغتراب الأسلوبي بالموجهات الأسلوبية:

لاشك في أن لكل نص شعري موجهاته الأسلوبية الخاصة به،وهذه الموجهات هي التي تتحكم في سيرورته الإبداعية، وتتحكم في محفزاته النصية، ولذلك، فإن توجه الشعرية المعاصرة إلى الحفر في جميع البنى الفاعلة في المضمار النصي جعل الشاعر المعاصر يشتغل بجد على كل ما يثير الشعرية، من قريب أو بعيد؛ إن بالموجهات الشعورية، وإن بالموجهات، والمؤشرات الأسلوبية التي تؤدي فعلها الإبداعي الإنتاجي في هذا الشكل الأسلوبي،أو ذاك،ومن هذا المنطلق، فإن المغريات النصية التي تشتغل عليها القصيدة المعاصرة، مؤسسة- بالدرجة الأولى- على كل ما ينتج الفواعل النصية، من موجهات شعورية، أو أسلوبية، أو بصرية؛ تتخذ هذا الشكل دون ذاك ،وهذه الرؤية دون تلك، وقبل خوضنا الغمار البحثي في هذا الجانب تحديداً لابد لنا من تبيين مقصودنا: ب( المُوَجِّهات الأسلوبية) ونعني بها:مجموعة القوى، أو المحرضات الأسلوبية الفاعلة التي توجه النسق الشعرية، صوب اختيار أساليب معينة، للتعبير عن الموقف الشعري، بفاعلية، وعمق، بما يستثير اللذة الجمالية،ويخلق المتعة الفنية بهذا الشكل الأسلوبي أو ذاك،وهذا يعني أن الموجهات الأسلوبية موجهة بعناية من المبدع إلى المتلقي، لتخليق الشعرية،وتوليد الاستثارة الجمالية بالنسق الشعري، بما يدلل على شعرية الرؤية،وعمق ما تشي به الموجهات الأسلوبية من حياكة فنية،وإثارة لغوية للعناصر البؤرية المشكلة للقصيدة.

والحق يقال: إن الموجهات الأسلوبية تعمل داخل مختبرات النفس المبدعة ،ويظهر أثرها جمالياً، تبعاً لخبرة المبدع الجمالية،وطريقة التعبير الفني، أو الجمالي في التعبير عنها. ولهذا ، فإن اختيار المبدع لأسلوب من الأساليب، أو شكل لغوي خطي من الأشكال اللغوية، يكون مخصوصاً بعناية، وليس مجرد صوغ مجاني لا قيمة له، أو معنى؛ ومن أجل ذلك، فإن قوة الموجهات الأسلوبية، والدوافع الجمالية لا تتحدد فاعليتها ،إذاً، إلا بمقدار ما تحققه من ترابط، ومباغتة، ودهشة تعبير،وهذا قلما يتحقق إلا بالنصوص المبدعة ذات المستوى الفني الرفيع.

ويعد الاغتراب الأسلوبي بالموجهات الأسلوبية من محركات البنية الدلالية، والفنية، والإيقاعية في قصائد حميد سعيد التي تشتغل بتقنياتها مجتمعة في بث هذا الاغتراب الجارح على المستويات كافة،ليكون الاغتراب النصي في حركتها جزءاً من شاعريتها، ومضمونها الدلالي ،كما في قوله:

"كانَ يبحثُ عن مومياء طفولته ..
كانَ يبحثُ عن مومياء صِباهْ
كان يبحثُ عن مومياء حبيبتهِ..
كان يبحثُ عن مومياء القصائد ..
عن مومياء الحدائقِ .. عن مومياء الشَجَرْ
كان يبحثُ عن مومياء الأغاني التي رافقتهُ
إلى أمسيات مواعيدهِ..
كان يبحثُ عن نفسِهِِ..
فرأى مومياءَ حرائقِهِ..
ورأى مومياءَ الرمادْ"(13)

لابد من الإشارة بداية: إلى أن الموجهات الأسلوبية- في قصائد حميد سعيد- قد تكون لغوية،أو إيقاعية، أو صوتية، أو دلالية، أو فنية، وذلك تبعاً لما يقتضيه النسق الشعري من مؤثرات،وما يضمره من مثيرات تتحكم في تشعيره، وإبراز تخليقه الفني، وبمقدار ما يراوغ الشاعر في موجهاته الأسلوبية بما يخدم الرؤية الشعرية،ويستثير الموقف الشعري بمقدار ما ترقى شعرية القصيدة، وترتقي مثيراتها الأسلوبية، وتكاملها الفني. وهذا ينقلنا إلى حقيقة شعرية شبه مؤكدة،ألا وهي : إن الموجهات الأسلوبية- في القصيدة- تظهر بوضوح من خلال تعدد الأساليب،واختلاف المثيرات الأسلوبية من صوتية، إلى دلالية، إلى إيقاعية، إلى لغوية، إلى تركيبية، إلى بصرية، وهنا؛ نلحظ فاعلية الاغتراب الأسلوبي في النسق الشعري، بما يحقق شعرية الرؤية؛ ويخلق محفزات التشكيل وفق ما يلي:( مومياء الحدائق- مومياء الشجر- مومياء الأغاني)؛وهنا تبرز الموجهات الأسلوبية ماثلة في الضغط على صيغة واحدة، تحقق اقتضاءها الفني، في التعبير عن حالة شعورية مأزومة تبدت في تحجره الوجودي، وإحساسه بالضياع؛ والبحث المترامي عن وجود جديد، وكينونة جديدة في ظل ضياع الهوية والوطن، وبالمقابل ، فإن الموجهات الأسلوبية تمثل نقطة إثارة القصيدة، حين تستثير الخيال،بأساليب تصويرية مباغتة تخدر رؤى المتلقي، وتدجن تفكيره،مستسلماً لسطوتها الجمالية،وقوة تأثيرها الفني، على شاكلة المقتطع الشعري:
"أَغلَقتُ بابي واستعنتُ بزائري .. الوهمِ الجميلِ..

وقلتُ ماذا لو تكون معي؟! وقلتُ .. تكونُ..
لكني سأكذبُ كذبةً سوداءَ..
حتى لا أغارُ .. ولا أُثارْ
وأدعي ما لمْ يَكُنْ بيني .. وبين قصيدتي ..
وأقولُ..
أشواكُ الكآبةِ من قبيل القولِ..
أَزجُرُها وأشكوها إليها.. أو أَشكُ..
معاً.. تُطَهِرُنا مياه المزن .. من أخطائنا الأولى
ومن أحلامنا الأولى .. ومن حَسَكِ الفضولْ"(14).

بادئ ذي البدء،نشير إلى أن الاغتراب الأسلوبي بالموجهات الأسلوبية من فواعل الحركة الجمالية، وبواعث النواتج الدلالية في بنية القصيدة عند حميد سعيد؛ فهو يوجه تشكيلاته اللغوية؛ تبعاً لأساليب جمالية تشتغل كمحركات بؤرية في تحفيز الرؤية الشعرية، وتحريكها من جوهرها الرؤيوي، ومحرقها الفني.وهنا؛ نلحظ أن الموجهات الأسلوبية موجهات جمالية ترتقي حيز الاستعارة الموجهة أو المحركة للنسق الرؤيوي الشعري، عبر فيض من الاستعارات الموجهة بفنية ودهشة جمالية، كما في الاستعارات الفاعلة أسلوبياً بما يثير الدلالات، ومحركاتها الصوفية بالوله، والتوق،والتملي الجمالي:( أشواك الكآبة- حسك الفضول- الوهم الجميل)،والملاحظ أن هذه الموجهات ليست غوغائية الدلالة أو فوضوية الرؤية، وعبثية المنظور، إنها بنى فاعلة محركة لسيرورة الرؤى الصوفية المصطهجة بالوله والتوق،وهي فاعلة في توجيه الرؤية،وإبراز ملمحها الرؤيوي البارز في القصيدة.

ولو دققنا في مجريات الرؤية الصوفية ومستتبعاتها الصوفية من قلقلة، واحتدام،وإحساس عاطفي وحس جمالي، لأدركنا فواعل هذه الأنشطة الرؤيوية ،وقدرتها على الولوج رحم الرؤية النصية من صميمها،فالشاعر يعيش حالة من النشوة، تراوده بالإضافة إلى ذلك مشاعر المكابدة ،والشقاء للوصول إلى اليقين،والتملي المطلق، وهذه لذة النشوة التي يرنو إليها المتصوف، في سعيه الدؤوب للالتصاق والتوحد بالمطلق.وقد كان حميد سعيد معتدلاً في تصوفه،وهذا ما صرح به قائلاً"0 لابد من ذكر أمرين وراء نزوعي الصوفي ، أما الأول فقد حاولت باستمرارأن أفيد من لغة الصوفيين ، فهي لغة شعرية بامتياز ، حتى حين لا نجد شعراً صوفياً في الشعر العربي، بمستوى شعرية هذه اللغة، بينما نجد في الشعر الفارسي أو الأذري– نسبة إلى أذربيجان – كما اطلعنا عليه مترجماً، نماذج شعرية عالية.

بينما، نجد في النثر الصوفي العربي، غنى، في قاموسه وبنياته وإشراقاته، كانت وستظل مصدراً مهماً من مصادر إغناء الشعرية، وهذا ما حاولت الاشتغال عليه في قصيدتي.

أما الأمر الثاني، إن في مكوناتي ما يشبه النزعة الصوفية، تقترب بي من التقشف والبذل والحرية والمحبة والتواضع، من دون أن أدخل مدخل الفكر الصوفي وشطحاته وتطرفه وعجائبية طقوسه وانحرافاتها .
لكن كل ما ذكرت، لا بد أن يثري الدلالات الجمالية في القصيدة وينوعها "(15).وبهذا الحس الصوفي الشفاف عضد حميد سعيد رؤيته الشعرية، بفواعل رؤيوية أسلوبية تزيد مؤثرات الاغتراب الجمالية، وترتقي درجة من القوة في توجيه الدلالات، وتحفيزها جمالياً.
ومن هنا، فإن اغتراب الشاعر الأسلوبي تبدى في هذه النزعة إلى تفعيل الموجهات الأسلوبية صوب المراكز الحساسة ضمن العبارة، مفعلاً التركيب الشعري، الذي اقتضاها أو تضمنها، وهذا التوجه الأسلوبي المخصوص هو ما يغربن العبارة الشعرية، ويرتقي بها فنياً وجمالياً،وللتدليل على فاعلية الموجهات الأسلوبية أكثر، نورد قوله:

"يا أنتِ يا منْ كنتِ مملكتي وكنتِ مليكتي.. اقتربي.
عسى أن تنقلي وجعي إلى شوكِ الفيافي
كنتُ انتظرتكِ في مسراتِ الكتابةِ.
في قراءاتي. وفي ألقِ اعترافاتي"(16).

لابد من الإشارة إلى ملمح بارز في الاغتراب الأسلوبي،وهو أن فواعل الاغتراب الأسلوبي ليست دائماً موجهة إلى الشكل الشعري؛وإنما قد تكون موجهة إلى بؤرة الدلالة، ومركز حساسية الرؤية الشعرية، ولذلك، فإن الموجهات الأسلوبية موجهات متنوعة،منها موجهات إيقاعية، مؤسسة على خلق التناغم الصوتي،والتجنيس التقفوي، كما في قوله:[مليكتي= مملكتي]،وموجهات تركيبية مثيرة تملك قوة العاطفة ،ودفق الخيال،والحس الجمالي في ترسيم العبارة الشعرية،وتشكيلها بأناقة تصويرية، بوساطة مؤزرة المسند للمسند إليه،وتفعيل دهشته الإسنادية المراوغة،كما في الأنساق التالية:[شوك الفيافي- مسرات الكتابة- ألق اعترافاتي]؛وهنا،تتحدد درجة الشعرية، تبعاً لهذه الموجهات الأسلوبية في التشكيل،وما تملكه من تشويق، وإثارة في تشكيلها، فالقلقلة النسقية التي أثارتها الترسيمة الإسنادية التالية:[ ألق اعترافاتي] جاءت مؤثرة في تفعيل الترسيمات النسقية الأخرى:[شوك الفيافي= مسرات الكتابة]؛ إذ إن الشاعر يعاني من قلق وحيرة إذا ما أفضى لمحبوبته بحبه،وأفشى لها عن شوقه،ووجعه من جراح هذا الحب المشبوب، فتنتابه مشاعر القلق،والخوف من خسران عذوبة هذا الحب، ووهجه، وجماله الذي يصل حد التصوف، والوله المطلق، فيخاف إذا ما أفصح لها عنه في سره، أن يخسر حرارة ودفق هذا الحب،وتقطع المحبوبة (الأنثى الكمال) حبل ودادها له بعد أن وصل في حبها حد الإدمان. وهكذا، تأتي الموجهات الإسنادية مركَّزة أسلوبياً، لخلق المتعة الجمالية،والتعبير الفني الصادق عن موجهاته الشعورية المحتدمة في أعماقه؛ تدليلاً على عاطفته المصطهجة، وعمق مخزونه الإبداعي.

وصفوة القول: إن الاغتراب الأسلوبي- بالموجهات الأسلوبية في قصائد حميد سعيد- يقوم على تحريض البنى الاستعارية، والتصويرية، والعلائق اللغوية الإسنادية المتشاكلة التي ترفع وتيرة الحساسية الجمالية في العبارة، أو الجملة لتكون هذه الموجهات الأسلوبية فواعل بؤرية فنية نشطة ترفع شعرية العبارة جمالياً،والرؤية الشعرية عمقاً، وبلاغة، وقوة تعبير، وإيحاء،وهذا ما يضمن لها فاعلية الاستثارة، والتأثير بالقوى الفاعلة التي تتضمنها هذه الموجهات الأسلوبية في نسقها الشعري.

الاغتراب الأسلوبي بالممانعة الأسلوبية:

إنه لمن المعلوم إلى درجة كبيرة جداً أن الاغتراب الأسلوبي- بالممانعة الأسلوبية - من المرتكزات الفنية والأسلوبية التي لجأت إلها الحركة الإبداعية في شعرنا العربي المعاصر، وهذا الوعي الفني بالممانعات الأسلوبية، وقيمتها، وأثرها في تفعيل الرؤية الشعرية هو الذي دفع الكثير من النصوص الشعرية إلى الارتقاء فنياً، فوق مستويات التلقي الساذج أو البسيط للنصوص الشعرية الإبداعية المؤثرة في عالمنا العربي المعاصر، فالاغتراب الأسلوبي بالممانعة هو مفصل مهم في الكشف عن مفاصل الإبداع في النص الشعري، وقبل أن نخوض غمار البحث في هذا الشق الاغترابي لابد من تبيين مقصودنا ب( الممانعة الأسلوبية) الذي نعني به: المخاتلة أو المخالفة الأسلوبية في النسق الشعري،وهذه المخاتلة تقتضي تغييراً ملحوظاً في حركة الأنساق،بقصد المباهاة اللغوية،وإبراز مدى فاعلية المخيلة الإبداعية لدى هذا الشاعر أو ذاك، في إنتاج الأساليب المحركة للحدث، والموقف الشعري.

ومن المؤكد أن الاغتراب الأسلوبي بالممانعة الأسلوبية هو اغتراب مماحك للقدرة الفنية، والمهارة الإبداعية التي يمتلكها الشاعر في خلق الممانعة الأسلوبية الفاعلة في تحريك النسق الشعري، وبمقدار قدرة الشاعر على التميز في ممانعاته الأسلوبية على مستوى الفواعل الجمالية، والدلالية، والرؤيوية بمقدار ما تترك هذه الممانعات قيمها الفنية المؤثرة، ومستواها الجمالي،وقد أكدنا من سابق: أن الممانعة الأسلوبية الناجعة تهدف –بالدرجة الأولى- إلى إبراز مدى حنكة الشاعر في تلوين أساليبه الشعرية في السياق الواحد، بما يخدم الموقف،ويستثير الرؤية الشعرية،بإثارة، وعمق، وفاعلية،وهذا يعني أن الممانعة الأسلوبية تساعد في إنتاج الدلالة،وتخليق أبعادها الفنية، خاصة عندما يمتلك رؤية فذة، وشفافية عالية في إنتاج الدلالة ،وتركيز مدلولها بخصوبة إيحائية، ومد جمالي.

ومن الجديد بالذكر في أن للممانعة الأسلوبية الاغترابية قيمتها في النسق الشعري إذا ما ارتبطت في تنويع الدلالة ،وساهمت في إنتاجها، أي ليست مجرد ممانعة للمماحكة،والمباهاة اللغوية،أو الأسلوبية،وهذا يجعل مثل هذه الممانعات تقع ضمن ما نسميه ( الفرقعة والفخامة الأسلوبية الجوفاء)دون فواعل حقيقية على المستوى النصي،وهذا يفقدها قيمتها،ويقطع خيط نجاحها، وفعاليتها التي تحرك الشعرية، وتثير نواتجها كلها،
ويعد (الاغتراب الأسلوبي- بالممانعة الأسلوبية): من فواعل الرؤية الشعرية، في قصائد حميد سعيد،التي شهدتها، على المستوى الأسلوبي المحفز للشعرية، وهذا يعني أن الممانعات الأسلوبية لديه ذات ترسيمات فنية، ودقيقة في إصابة المدلول المناسب في النسق الشعري الملائم لهذا المدلول دون سواه؛ولهذا الدال دون غيره من الدوال الأخرى، ولهذا، يبدو الشاعر حاذقاً في إبراز قيمة الممانعة في مفصلها الشعري المؤثر،كما في قوله:
"شغبٌ ميتٌ.. وموتٌ قميء
حنجرةٌ من رصاصٍ رديء"(17).
بادئ ذي بدء نشير إلى أن الممانعة الأسلوبية هي التي تحرك النسق الشعري في قصائد حميد سعيد عندما تأتي في موضعها النصي المؤثر،وهذا يعني أن فاعلية الرؤية الاغترابية تستوجبها الممانعة المركزة ذات البلاغة المفصلية في تحفيز الرؤية، وتحقق فاعلية القيمة الجمالية في النسق الشعري الذي تندرج به،وهنا على ما يبدو جاءت الممانعة متمفصلة في شكلها الإيقاعي المموسق في الدلالة على الواقع المتصدع الموبوء الذي يعيشه الشاعر في زمن فاسد محمل بشتى ألوان الدناسة، والرذيلة، والألم.
وبتقديرنا : إن قيمة الاغتراب الأسلوبي ترتفع بالممانعة الفاعلة فنياً أو جمالياً بقوة وقعها في النسق الشعري المتموضعة فيه، ولهذا ،فإن بلاغة الرؤية، وقيمتها تنبع من قوة الحركة الدافقة التي تخلقها الأنساق في تموضعها الأسلوبي الممانع في اغترابها الفني وحراكها الأسلوبي ،على شاكلة ما نلحظه في قوله:

وانتظرتُكِ.. تَدخلين مواسمي.. واقتادَكِ التفاحُ..
من غيبوبة الماضي.. إلى غاب الحضورْ
كوني .. أكونُ
تحررت سفني وعاد إلى الصبا..
حُلُمي ومائي"(18).

لابد من التنويه بداية إلى أن الاغتراب الأسلوبي بالممانعة الأسلوبية في قصائد حميد سعيد ليس من الضروري أن يأتي ممركزاً للرؤية، مفصلياً في توجيه استراتيجيتها الدلالية،وإنما قد يكون عنصراً أسلوبياً مساعداً ،محرضا للجمالية في موضع ما،ويكون ضحلاً في مكان آخر،تبعاً لقوة الموجة الجمالية التي ترفع سويته في مرماها الفني، وحراكها الشعوري.وهنا، نلحظ فاعلية الممانعة الأسلوبية في تحريض الرؤية الشعرية،كما في الأنساق التالية:[ من غيبوبة الماضي.. إلى غاب الحضورْ]؛ولهذا ،تبدو الأنساق الشعرية ،محفزة للشعرية بالممانعة الأسلوبية، والحراك الرؤيوي المؤثر في تحريك الرؤية وتفعيلها جمالياً
ومن الممانعات الأسلوبية ما تأتي شاعرية في موضعها كما في الممانعات التالية في قوله:

"تَرتَبِكُ الطلاسمُ التي افتراها.. علّها تنفتِحُ الليلةَ
هذا شجرٌ مُراوِغٌ وخائفٌ
شاحبةٌ ثمارُ هذا الشجر الخائفِ
لم يلتفت الماءُ إليها
لن يُعيدَ الزمنُ الضائعُ ما كانَ على أغصانها..
ولنْ يكونْ"(19).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الممانعات الأسلوبية الفاعلة هي المحركة للشعرية،والباعثة لإيقاعها الجمالي، وهذه الممانعة الأسلوبية تخلق إثارتها، وشعريتها من توليفها الغرائبي، وحسها المثير،وإيقاعاتها الفنية المتلاحمة،وبهذا الأسلوب الممانع يخلق حميد سعيد جمالية اغترابه الأسلوبي الخلاق الذي يقوم على قيمة الممانعة جمالياً في تخليق الشعرية،كما في الأنساق التالية:[شاحبةٌ ثمارُ هذا الشجر الخائف]؛و[هذا شجر مراوغ وخائف]، ومن هنا، تتحدد جمالية الممانعة الأسلوبية، تبعاً لمحركاتها الشعرية،وقيمتها في التحفيز النصي.
وأخيراً،نقول : إن الاغتراب الأسلوبي- بالممانعة الأسلوبية- من فواعل شعرية القصيدة التي تحرك الرؤية الشعرية، وتثير المحفزات الجمالية، التي تثيرها على المستويات كلها؛ وهذا يعني أن شعرية الأساليب تتحدد بمقدار جاذبيتها و فواعلها الجمالية التي ترتقي بالنسق الشعري إلى آفاق رؤيوية عميقة بالاستثارة والتأثير.

نتائج ورؤى بحثية اخيرة:

إن الاغتراب الأسلوبي- في قصائد حميد سعيد- من مغرياتها الفنية، ومتحولاتها الرؤيوية،وهذا يعني أن الشاعر ينوع في أساليبه الشعرية،تبعاً لحجم الرؤية الصوفية أو المشاعر الاغترابية االمصاحبة لها وحجم النفثات الاغترابية الحارقة التي يعيشها، ودرجة تمثله للموقف الشعري،وخبرته الجمالية، وإحساسه الجمالي.
إن تطور الرؤية الشعرية – عند حميد سعيد – من قصيدة لقصيدة ،ومن مرحلة إلى أخرى،جعل لقصائده نكهة شعرية جديدة تظهر في مبتكراتها الشعرية، وأساليبها المتنوعة ،وهذا يؤكد أن الاغتراب الأسلوبي- لديه- هو ناتج مطلب فني قبل أن يكون ناتج مطلب شعوري متوتر أو مأزوم،ولهذا،فإن اغترابه لم يأتِ غوغائياً ،أو عبثياً،وإنما جاء مخصوصاً لتحقيق قيمة فنية،تظهر في هذا الشكل الأسلوبي أو ذاك.

إن الاغتراب الأسلوبي – في قصائد حميد سعيد- ينم على تجديد الأساليب الشعرية لديه في تأكيد فاعلية نصوصه على المستوى الإبداعي، فبمقدار ما يجدد الشاعر في أسلوبه بمقدار ما تتجلى فواعل حداثته،ويرقى درجات من الجدة، والتجاوز، والبراعة، والإتقان، وهذا ما وعاه الشاعر حميد سعيد في اغترابه الأسلوبي، وفاعلية نصوصه على المستوى الإبداعي.

إن الاغتراب الأسلوبي- في قصائد حميد سعيد- من مغريات القصيدة، ومحرضاتها الشعرية المكثفة للحدث الدرامي، والبنى البانورامية المشهدية المحتدمة، لتحقق فاعلية الرؤية،ومنبع إثارتها، وتحفيزها الفني.
إن الاغتراب الأسلوبي- في قصائد حميد سعيد- لا يقف حد الشكل الأسلوبي،وإنما يدخل في فواعل المعنى، ومؤثرات الحركة الدلالية، ونواتجها الإيحائية المتغيرة دوماً في القصيدة، وهذا ما يضمن للاغتراب الأسلوبي قلقلته للرؤية الشعرية،وإبراز نواتجها الإيحائية الفاعلة على المستويات كلها.

وفي النتيجة نقول:
إن الاغتراب الأسلوبي- في شعر حميد سعيد – قيمة جمالية تطال الجسد اللغوي، كما تطال النبض الشعوري،ويخطئ من يظن أن الاغتراب يطال الروح، والأعماق، والبواطن الداخلية لدى هذا الشاعر أو ذاك، دون أن ينعكس هذا الأثر على شكل إبداعه،و أسلوبه اللغوي في التنفيس عن هذا الاغتراب، فالشكل اللغوي هو الكود الكاشف عن الاحتراق والنبض الداخلي، ومن هذا المنطلق ، فإن شعرية الاغتراب لا تتجسد إلا من خلال بروزه بشكله اللغوي، ومثوله الأسلوبي بهذا الشكل الأسلوبي أو ذاك، وإفرازاته الفنية،ولا عجب أن يحظى هذا الجانب المنسي من اهتمامنا البحثي، لأن الأسلوب( هو الرجل)- كما يقال- ومادام كذلك فأسلوب حميد سعيد الاغترابي ماثل في تقنياته الفنية، وتعدد أساليبه الشعرية، ومماحكاته اللغوية، وهذا ما يحقق لنصوصه الفاعلية الرؤيوية الخلاقة، والقيمة الجمالية المتوهجة التي ترفع شعريتها نبضاً، وإحساساً، ومرجعية تجريبية حافلة بالعطاء، والتميز، والتطور المثمر على الدوام.وهذه سمة الإبداع الحقيقي، ورسالته الخالدة التي لا تهرم، أو تتلاشى، أو تشيخ.

الحواشي:

شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة؟!!)،دار الأمل الجديدة،دمشق،ص302.
برتليمي،جان،1970- بحث في علم الجمال،ص290.
سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص4.
المصدر نفسه، ص20.
الخوري، نسيم،2003- الحداثة في الشعر العربي،تر: حمو بوشخار، مجلة كتابات معاصرة،ع49، ص101.
برتليمي،جان،1970- بحث في علم الجمال،ص405.
سعيد،حميد،2012- من أوراق الموريسكي، ص61.
سعيد،حميد،2007- مشهد مختلف،ص73-75.
سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص20.
المصدر نفسه، ص54-55.
سعيد،حميد،2007- من أوراق الموريسكي، ص24-25.
سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص 40.
المصدر نفسه،ص36.
المصدر نفسه ،ص26.
شرتح ،عصام ،2016- حوار مع حميد سعيد، مجلة ديوان العرب،موجود على الرابطwww.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
شرتح،عصام،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص57.
سعيد،حميد،2002- ديوان حميد سعيد،دار صادر ج2/ص162.
سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص20.
سعيد،حميد،2012- من أوراق الموريسكي،ص18.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى