الأربعاء ٢ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

حكايات أبي (10)

طرقت الباب، كان الدخان يتصاعد من موقد أبي، ولأنه كان جالسًا يراقب موقده فلم يلبث أن فتح الباب.
مسيته بالخير، فرد التحية؛ وحيّـتني أمي من داخل الحجرة. كانت قد أتمت صلاتها. الوقت قريب لأذان المغرب، لكنها تصلي! تقول وهي تلف شالها الأبيض على رأسها: ترى ماذا ينفعنا غير صلاتنا في الآخرة؟

أبي يملأ الموقد حطبا فيضرمه، ثم ينتظره ليصير جمرا؛ ثم يأخذ الموقد إلى الحجرة للتدفئة.

وقبلها تلتهب نار موقده ثلاث مرات لاحتساء الشاي: بعد صلاة الصبح، وعند الضحى، والعصر.

 أبي، لماذا تؤذي نفسك بهذا الدخان؟ استخدم المدفأة الغازية.

 سأستخدمها عندما يهمد الجمر.

لكنه لا يهمد إلا بعد ثلاث ساعات أو أربعة. يقول إن أشعل المدفأة والجمر موجود فقد أسرف، و(إنه لا يحب المسرفين.)
ثم يستحضر الماضي البعيد فيقول: اضطرام النار ودخانها لا يؤذينا نحن القدماء، طهينا كان على النار، شاينا كان على النار، وكذلك تدفئـتنا؛ وبالدخان كنا نبعد البعوض عنا وعن حلالنا، ويقصد من الحلال أنعامهم من الغنم والبقر.
ثم التفت نحوي وقال: دعك من النار ودخانها، اجلس لأحكي لك حكاية (مطر الحبكي).
وكأني كنت أنتظرها أخرجت نقالي لأحتفظ بالأسماء وبعض الأحداث.
وشرع أبي بحكايته بعد أن عدل كوفيته:

كان مطر الحبكي يسكن في الغيزانية وهي قرية من قرى الأهواز. كان مغامرًا، ومطلوبًا للحكومة.
طوقوا بيته أكثر من مرة، لكنهم لم يتمكنوا من اعتقاله، إلى أن سلمه أحدهم إليهم.
حكم عليه بالسجن 20 سنة، وحُبس في سجن يقع بالقرب من جسر الأهواز.

في ذلك العهد، وفي تلك الليالي الصيفية الحارة، ينام السجناء في حوش السجن يحرسهم خمسة جنود. أحدهم يجلس على كرسي وسط ساحة الحوش وهو غير مسلح، وأربعة فوق السطح، من كل جهة حارس، مسلحون ولديهم رخصة الرمي.
لم يمض على اعتقال مطر الحبكي شهر حتى ضاقت نفسه واشتاقت إلى حيث النخيل والحقول والحرية.
فجلس في إحدى الليالي يحاورها بعد أن عجز عن تصبرها:

يا نفس، اختاري بين اثنتين: تـُسجنين 20 سنة، أو تهربين؟
قالت له نفسه: أهرب.
قال: ويحك، إن لم تنجحي يرموك بالرصاص.
قالت: أرجح الموت على السجن..وحُسم الأمر، وانتهى الحوار.
وجلس مطر الحبكي تلك الليلة يخطط للفرار.
أدار بصره متفحصًا المكان، لا منفذ للهروب.
نظر إلى الجدران، كانت عالية؛ والجنود على السطح...ولكن لا مفرّ إلا من هناك.
نعم، طريق الحرية يمرق من هناك..من فوق.

خمن الارتفاع، سبعة أقدام أو ثمانية..
خلع بشته1 وقاسه، قد يكفي إن فتقه؛ وراح يفتقه ويشقه ثم يشده وصلة بوصلة حتى سوى منه حبلا طويلا. ثم تظاهر أنه نائم.

وانتظر حتى مال رأس الحارس وسرق النعاس عيونه. قام يبحث في الزوايا عن حجر أو أي شيء ثقيل يشد به طرف الحبل. الوقت قارب الفجر، لم يسمع صوتا من حراس السطح.

سؤال يهجس في باله للمرة الألف: ترى هل أنا حي أرزق في الغد، أم سوف أضحي في ثلاجة الموتى؟!
ورمى حبله، علق الحجر بين آجرتين، جره مرة ومرتين ليطمئن من قوته، كان قويًا، فتسلق الحائط واثقا من قوة ساعديه.. صعد وهو يدرك أن المخاطر تنتظره في الأعلى، إما موت بالرصاص وإما نجاة.
وكانت الرجلان تسبقان اليدين واليدان تسبقان الرجلين حتى وصل إلى السطح. وجد الجنود جالسين، لكن أعناقهم مائلة على أكتافهم والنوم مالئ جفونهم.

فانخرط من حائط السجن وفرّ.. وما أجمل أن تكون حرًا.
ركض والفؤاد يرجف من الذعر حتى وصل إلى بيت أحد معارفه قبل أن تشرق الشمس.
 هربت من السجن، خبئني حتى المساء.
 ابتعد لا تحرقني معك.
 اعطني إذن ماء ومتاعًا.

أخذ متاعه وجدّ في جريه نحو جبال الكواخة، دخل في جحر، ومكث حتى الغروب.
وعندما وقب الليل، روّح إلى بيته.
كان رجال الحكومة قد ذهبوا يبحثون عنه في الغيزانية، لكن الشيخ اتهمهم بقتله، فرجعوا خائبين.
وعاش مطر حرًا إلى أن توفى في الكواخة قبل عقد من الزمن، وترك عجوزه وحيدة تسير أمور حياتها ببيع الخضروات.

1- البشت: عباءة رجالية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى