الأربعاء ٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
بقلم جميل السلحوت

خذلان شتاء في ندوة اليوم السابع

ناقشت ندوة اليوم السّابع في المسرح الوطني الفلسطينيّ في القدس قصّة"خذلان شتاء" للفتاة الكرميّة الواعدة، شهد عبد الرحيم محمد، وقد صدرت القصّة التي صمّمت غلافها رشا السرميطي، وقدّم لها عزيز العصا، وتقع في 53 صفحة من الحجم المتوسط عام 2015 عن المكتبة الشّعبية ناشرون في نابلس.

ممّا يذكر أنّ الكاتبة تلميذة في الصف الحادي عشر.

بدأ النّقاش مدير النّدوة ابراهيم جوهر فقال:

هدية يوم الميلاد

كنت أتمنّى لو أهدي لـ"شهد محمد" هديّة في يوم ميلادها في الحادي والثلاثين من شهر آذار 2016، لكنّها أهدتنا –نحن القرّاء- هديتها الحزينة تحت عنوان "خذلان شتاء" على شكل قصّة قصيرة، فيها الحدث الرّئيس هو اعتقال الأخ الأكبر وتغييبه وراء جدر العتمة والإهانة، ليواصل الصّمود والسّعي للحياة بأمل.

"شهد" ابنة السّابعة عشرة تكتب رسالتها إلى العالم والتّاريخ بلغة القلب والعاطفة والطفولة لتقول: نحن نستحقّ حياة أفضل وأجمل، تعتني بالطفولة والأطفال والفرح. لكنّها غرفت من واقعها الطفولي المشوّه –كحال الطفولة في بلادنا- فجاء الحدث منصبّا على الاعتقال والتّعذيب والحصار والانتقام، وغياب الفرح عن حياة الفلسطينيّ الذي يعيش حزنا متواصلا يشكّل الفرح فيه مناسبات موسميّة.

تبدأ قصّتها وتنهيها بقولها: "الحياة موسميّة الفرح دائمة الأحزان"،
وحين بدا أنّ نافذة للفرح في نهاية القصّة قد بدأت تشرع أصرّ الحزن والفراق على إغلاقها...
لقد حاولت الالتفات لمفردة "الحزن" وأخواتها ومرادفاتها لغة ومعنى في "خذلان شتاء" شهد محمد، فهالني هذا التّكرار والاصرار على مفردة الحزن والتّعب والدّموع والضّياع، والحسرة والانكسار والظلام والألم والحياة الموحشة، والغياب والبكاء والحذر والأوجاع والمعاناة ورماد الأمل والكسر والغربة... وهذه المفردات أحصيتها في القصّة التي حملت عنوان "خذلان شتاء".

عتبة القصّة هنا تشير إلى مضمونها، وحين تكون الكاتبة طفلة في عمر السّابعة عشرة فإنّ هذا يشير إلى حالة الخذلان العامّة والحزن المقيم في أطفالنا، مما يدفع المهتمين المتابعين للمزيد من البحث والتّمحيص وتلمّس وسائل الدّعم والعلاج النّفسي- الاجتماعيّ- الثّقافيّ.

في بداية نصّها القصصي- التّوثيقي بدأت "شهد محمد" بما أسمته "توطئة" عبّرت عن وعيها بدور القلم في المقاومة، وعن اتّساع الوطن عن قدرة القلم بالكتابة عنه لذا فستكتب له.

وقفت عند وعي الكاتبة برسالتها الممتزجة بالحزن والخذلان النّاتجين عن هذا الوعي نفسه، بما يجب أن يكون مقارنة مع ما هو كائن: لقد أنضجت الظروف المعيشيّة أطفالنا قبل أوانهم، فدفعت بهم إلى البحث عن ذواتهم الخاصّة وعن ذاتهم العامّة.

كنت أتمنّى أن أقدّم باقة ورد لـ"شهد" في يوم مولدها السّابع عشر، فسبقتني وهي تقدّم لي باقة حزن نتيجة خذلان عالم الكبار لعالمها الصّغير الوديع

وقالت رنا القنبر:

الياسمين يحاور مواسم الصّقيع والحزن مجدّدا، ينادي الفرح ولا يستقيل حتى بعد سقوطه على أعتاب جراحه، إنّه الفلسطينيّ المعذّب وذاكرة أطفال ما لبثوا أن كانوا أطفالا، حتى كبروا مع أنين الثكالى والمقهورين، مع صرخات وطن مبتورة أطرافه، كما قالوا الكتابة تنشأ من الفقدان، نعم فقدنا ما نحبّ ومن نحبّ في ظلّ معركة غير عادلة، أبطالها أطفال كبروا وتجرّعوا الحسرات تلو الحسرات، الطفلة شهد محمد تحاور كلّ ما هو مقيم داخلنا نحن الفلسطينيين، كتبت المتوقّع والهواجس التي لازالت تعترينا كلما رأيناهم في بدلاتهم الخضراء، الماء و"الأكامول" مسكّنات لآلام الأسرى، ومسكّناتنا نحن الانتظار والأمل فجمعينا أسرى، أسرى جراحنا وذكرياتنا، والسّجان نفسه عدوّ لا يفهم سوى لغة الدّم، والتّعذيب، والحرمان.

بدأت معاناة الطفلة ياسمين وهي في السّابعة من عمرها بعد اقتحام منزلها واعتقال أخيها الكبير حسام، بعد أن كان مطاردا، وبعيونها التي تتربّص كلّ ما يدور حولها دوّنت ما حدث ذلك اليوم الشّتائي الحزين، الأسلحة والقنابل والدّمى المهشّمة حصيدة ما تبقى من ذاكرة، فارث الطفولة لم يسلم من الأيادي الحاقدة، فتقوم ياسمين بمحاولة اصلاح الدّمى التي اشتراها لها حسام، وتكبر ولا زالت دمى الطفولة مهشّمة وأصوات حقدهم تدور وتدور في رأسها . فتضعنا الكاتبة أمام التّأثير النّفسيّ وأبعاده على الطفل الفلسطينيّ، والمشاهد التي يراها يوميّا وكلّ هذا كفيل بأن يزعزع أمنه واستقراره النّفسيّ، فالطفل الفلسطينيّ يتجرّع منذ صغره كأس المعاناة ومرارة الواقع الأليم .

نقلت إلينا معاناة الأسرى في سجون الاحتلال، ومعاناة ذويهم في الزيارات والانتظار، وهنا تمنّيت لو أشارت الكاتبة إلى ما يحدث داخل السّجون على لسان حسام، ولو بنبذة صغيرة تنقل إلينا واقعهم المرير، خصوصا وأنّ القصة تسلّط الضّوء عليهم، من خلال حكاية أسير اعتقل لمدّة أحد عشر عاما ..ولكن القصة مكتملة بجميع عناصرها والسرد جميل وسلس، تحدّثت الكاتبة عن معاناة أمّ الأسير المريضة، والتي ربّما تموت في أيّ لحظة دون أن ترى فلذة كبدها، وذلك يحدث كثيرا، وأحيانا العكس حيث يموت الأسير داخل السّجون قبل أن يرى والدته وتراه، استطاعت شهد أن تحاور جلادها بالأمل وتتمرّد على واقعها بالفرح، فالأعراس الفلسطينيّة في ظلّ الاحتلال والأسر هي رسالة تحدٍ، فالفرح والزغاريد لا يمكنهما مغادرة البيت الفلسطينيّ، فتضعنا الكاتبة أمام الفلسطينيّ المحبّ للحياة، ويمارس حياته الطبيعيّة رغم الظروف والمحن .

الكتب والحوارات الأدبية ومواصلة حسام الأسير المحرّر لتعليمه الجامعي، رغم تجاربه القاسية هي لفتة جميلة من الكاتبة، فأظهرت الصّورة الايجابية للشّباب الفلسطينيّ الواعي والمثقّف. وصورة الأخ المحبّ الذي يفرح لفرح أخيه بل وأكثر رغم معاناته في الأسر،ولم تنس الكاتبة الاستعانة بالحكاية الشعبيّة والحديث عن أجواء العائلة والمشاكسات وروح الدّعابة في البيت الفلسطينيّ .

الشّتاء وخذلانه والحزن والفرح والسّعادة التي لا تكتمل، وولادتها مجدّدا من رحم الأحزان والمآسي، فالأرض لا زالت تنجب، بهذا لخصت الكاتبة أحداث قصّتها الصّغيرة .

لم تكن النّهاية كما توقّعت، ولكن لكي أكون منصفة لجيل الكاتبة الصّغير سأقول: "من لم يمت بالسّيف مات بغيره" مع أنّني تمنّيت أن تكون النّهاية أجمل من ذلك .

أودّ التّنبيه لعبارة ذكرت بالقصة وهي كلمة "معبر" الأفضل لو قالت حاجزا، فالحاجز هو الكلمة الصحيحة، وهي تعبّر عن قساوة ما صنعه الاحتلال، فهناك تحتجز أحلامنا، وهناك ضاقت بنا السّبل.

وأخيرا أن تكتب طفلة بهذا العمر قصّة جميلة من حيث السّرد والمضمون، وعناصرها المكتملة، فهذا يعني أنّنا أمام جيل يعي تماما كلّ ما يدور حوله، جيل يعرف الشّكل الآخر للمقاومة، جيل القلم والفكر.

وقال جميل السلحوت:

قبل الحديث عن هذه "السّرديّة" دعونا نتساءل: هل نحن أمام رواية قصيرة، أم قصّة طويلة؟ وهل تحتمل القصّة القصيرة كلّ هذه الأحداث؟ وهل يمتدّ زمن القصّة إلى أكثر من خمسة عشر عاما، فالنّصّ الذي نحن بصدده يحمل في ثناياه مجموعة قصص وحكايات، منها: اقتحام البيوت بطريقة وحشيّة والاعتقال، وتأثير ذلك على نفسيّة الأطفال والكبار، التّحقيق والأحكام الجائرة، زيارة الأسرى ومعاناة ذويهم، زواج الأخ أثناء غياب أخيه وراء القضبان، مرض الأمّ بالسّرطان وخوفها من الموت قبل أن تلتقي بابنها الأسير، استقبال الأسير المحرّر والاحتفاء به، معاناة الأسير المحرّر وعدم تأقلمه مع المجتمع بعد تحريره، زواج الأسير المحرر وفرحته بالانجاب والأبوّة، وعدم اكتمال الفرح بالموت المفاجئ. فهل تحتمل القصّة القصيرة هذه الأحداث كلّها؟ وهذه القصص والحكايات التي ربطتها الكاتبة النّاشئة شهد محمد بخيط متين، تقودني إلى القول أنّنا أمام رواية قصيرة، وليست "قصّة قصيرة" كما جاء على غلاف الكتاب.
والقضيّة الثّانية التي لفتت انتباهي أنّ هذه "السّرديّة" يمكن ادراجها ضمن "أدبيّات الاعتقال والسّجون" وهذا هو مضمون النّص الي بين أيدينا.

أمّا القضيّة الثّالثة اللافتة فهو الكاتبة نفسها، فأن تكتب طفلة نصّا كهذا من حيث الشّكل والمضمون، قبل أن تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها،-النّص كان مكتملا وجاهزا قبل نشره بعامين- فهذا يدعو إلى ضرورة الانتباه لما يتركه الاحتلال وممارساته من سلبيّات على الصّحّة النّفسيّة لأطفالنا، فياسمين شقيقة الأسير حسام، - وأعتقد أنّها الكاتبة نفسها-، تعود بذاكرتها عندما كانت في السّابعة من عمرها يوم اعتقال شقيقها حسام، وتسجّل ذلك بلغة رشيقة متابعة وجود شقيقها في الأسر لمدّة أحد عشر عاما، وما عاناه هو وأسرته خلالها. فهل تحتمل طفلة بهذا العمر هذه المعاناة كلها؟ وهل تدرك طفلة بهذا العمر انعكاسات سنوات الأسر على نفسيّة الأسير المحرّر؟ "قال لي ذات حديث: أشعر بأنّني غريب، وأنّ هذا ليس ما توقّعته قبل خروجي من السّجن"ص51. وهذا بالطّبع يدعو إلى ضرورة إعادة تأهيل الأسرى المحرّرين كي يستطيعوا التّأقلم من جديد مع مجتمعهم. وكذلك انهاء الكاتبة سرديّتها بقولها" الحياة موسميّة الفرح، دائمة الأحزان" ص 53، تصرخ بصوت عال: أن لا مكان للفرح في نفوسنا ما لم ينته الاحتلال.

لقد أجادت الكاتبة الطفلة عندما أوردت المثل القائل " من قلّة الرجال سمّينا الدّيك أبو قاسم" وأورت قصّة هذا المثل الذي يحمل في ثناياه حكمة كبيرة، أقلّ ما يمكن القول عنها أنّ هذه الأمّة ما عاد فيها معتصم.
ويلاحظ أنّ لغة الكاتبة جميلة انسيابيّة حملت في ثنايا التّشويق.

بقي أنّ نقول بأنّ هذه "السّرديّة" تنبئ بأنّ شهد عبد الرحيم محمد ستكون أديبة ذات شأن.

أمّا نمر القدومي فقد قال:

من الجميل أن ينحى القلم إلى ذلك التّوجه الأدبيّ الراقي، ويتكلم بلسان المشاعر والعواطف الدّفينة في دواخلنا، ويعلو بثقافة المجتمع والإنسانيّة. إنَّ صاحب الفكر مهما بلغ من العمر، يقع على عاتقه همٌّ كبير ومسؤوليّة عظمى في تغيير واقع مجتمعه إلى الأفضل والأحسن، والسّير به قُدمًا للإرتقاء بفكر أبنائه وأجياله. إنَّ تجربة خوض "شهد محمد" تلك الفتاة المبدعة الكرميّة غمار الكتابة، جاءت بدافع الرّغبة عن التعبير المباشر عمّا يختلج في نفسها، ورسم الصّورة البلاغيّة الحميمة التي رأتها حقيقة إبّان طفولتها. عاشت ظروف القمع والإضطهاد النفسيّ، وتولّد لديها الحقد المؤلم عندما تمّ إعتقال أخيها وأسره، وما آلت إليه أحوال معيشتهم بعدها. أفضت هذه التّجربة إلى عملها الأول "خذلان الشتاء" والتي يُرشّح أنها من صنف الرّواية القصيرة، الصّادرة عام 2015 وتقع في 53 صفحة. لقد احتوت على جميع المكوّنات الضّروريّة والمضامين الواقعيّة المتسلسلة بالإضافة إلى عنصر التّشويق، كذلك حراك العاطفة المتواصل في جميع أحداث الرّواية، والذي قتل عند الكاتبة جمال الطّفولة وأقحمها في عالم الكبار، أمّا الخلاصات والحِكم ففاقت بالعطاء سن الأديبة الشّابة.

من خلال الرّواية، يلاحظ أنَّ الأقلام الفلسطينيّة باتت تُسَخّر أنفاسها لنقل الهموم والآلام والعذاب التي يحياها الشّعب منذ أبد بعيد. في الوقت الذي يتعرّض له الفلسطينيّ اليوم إلى هجمة شرسة تطال كرامته، أرضه، أشجاره، وتطال الهجمة كذلك ثقافته وفكره الحر. يقف الأديب وقفة "شهد" الشّاهدة على جرائم العصر، في الدّفاع بشرف ونبل عن وطنه وإنسانه، ويُمثّل بارقة أمل له. هذا الوعي والنهضة الأدبيّة والإرتقاء بالمشهد الثقافيّ عند الشّباب الفلسطينيّ، من طلاّب وكتّاب وشعراء المستقبل، الذين يبدون إهتمامات وإبداعات بما يسطّرون بأقلامهم، كلمات تعكس ثقافة شبابنا وشاباتنا.
"خذلان الشتاء" حكاية واقعيّة من حكايا شعبنا المتواصلة دون توقّف، لكن المدهش في ذلك والمثير للإهتمام، أنَّ هذه الرّواية جاءت لتعبّر عن ضغط الأحداث السّياسيّة المتلاحقة في بلادنا على الأفراد، وتورثهم إكتئابًا ومشاكل نفسيّة نحن في غنى عنها، أسوة بباقي شعوب العالم. أمّا "شهد" فانطلقت معبّرة عن آلام ومعاناة عائلتها، كصورة مصغّرة من آلام وطنها. تنتزع حروفها من بين سلاسل القيود التي تُفرض عليها، بسبب الحصار والدّمار ومصادرة الأرض والأفكار. فما أصعب أن تصبح أفراحنا موسميّة في وطننا، وتصبح أحزاننا دائمة، ويلفح وجوهنا لهيب الفرقة وغياب الكلمة والجهود الموحّدة.

نحن في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة من الزمن، أحوج إلى العقول الواعدة والأقلام الشّابة الطّاهرة، التي تساعد على تضميد جراحنا وجمع شملنا في بوتقة واحدة، والحفاظ على هويتنا من الضّياع والإندثار. إنَّ يراعك يا "شهد" تحدّى غطرسة الظلم والطّغيان، وأثبتي للقاصي والدّاني أنَّ حماية الوطن وشعبة، هو عهد علينا من المهد إلى اللّحد في كل الأزمان. أمّا لغتكِ البسيطة والمشوّقة، وحِسّكِ العميق المرهف إعتلى القلوب والأذهان. وقد حملت في وجدانكِ، كغيركِ من المواهب الصّاعدة، شعاعًا ساطعًا لا نريد أن يعترض سبيله المعوّقات، أو الإصطدام بنظرة ذكوريّة موروثة تحدّ من إنتاجه، ناهيك عن رؤية المجتمع أو الرّقابة السّياسيّة. ونحن أيتها الأديبة الواعدة نتطلّع بشغف إلى أعمال قادمة فيها من المفاجآت والأفكار العظيمة؟

وكتبت نزهة الرملاوي:

يا لهذه النفس الصغيرة التي يتمدد في عمرها مارد القهر، فيخطف من طفولتها العفوية والعبثية، وتكبر قبل أوانها، تعيش ظلم المحتل وحزن الفراق على غياب من أسروا ...وتكتب من أوجاع الغربة وآهاتها وقيد السجان وظلمه، قصة عذاب يعيشها الشعب الفلسطيني بكل تفاصيلها، فحين يعترف الكاتب ببكائه لا بد وأن يكون قد اختزن الكثير من مشاعر الألم والخوف، وقد حرص على أن لا يبكي الآخرين، إلا أنهم يبكون، لأنهم يعيشون نفس المعاناة، فينزل دمع الكتابة على أسطر التحدي فيزيدها حقيقة..فالكاتب ابن بيئته، ولو تخيرنا الكتابة لاخترنا ما نكتب وما نفكر في سرده وتوثيقه على صفحاتنا.

الطفلة الواعدة شهد محمد خذلها الشتاء وخذلها الفرح، فخذلت طفولتها وآثرت أن تكبر الحياة القاسية والأحزان المستديمة في ثنايا أيامها، وفي معظم صفحات كتابها ..لتكون شاهدا على أوجاع وطن وعذابات مواطن.
من الملاحظ في كتابة القصة أن الكلمات كشفت للقارئ عن نفسية متعبة مرهقة، عانت الكثير وبذلت جهدا غير خفي، لتكتب بمشاعر فياضة ذات أحاسيس مرهفة، فلا ننسى أن كاتبتنا باحت بما يختلج في صدرها، وهي في عمر لا يتقبل إلا ما يرى وما توحي إليه أفكاره، وما يراه مناسبا لميوله ومكنونات روحه.

وقد تجلت النزعة الوطنية المتمثلة بالأسر والسجن والتعذيب في القصة، وسيطرت عاطفة الأمومة والأخوة على معظم الصفحات، تعمدت طفلتنا اختيار كلمات قاتمة تتمثل في الدمع والوجع والحزن والإنكسارات، والبؤس والصراخ والظلام الدامس والبكاء والرعب، وقد اختارتها بعناية ودقة حيث تناسبت مع الأفكار المطروحة، مع استعمال بعض المفردات العامية لإثراء الخطاب الموجه، وحزن العائلة المتمثل ببكاء الأمّ وصراخ الأطفال، ودعاء الآباء.
أبدعت الكاتبة الصغيرة في رسم صور حقيقية لناقلات الجند وطائراتهم وأعقاب بنادقهم واختبائهم خلف أجساد الأسرى، وصورة معاناة الأسرى خلف القضبان، وظلام السجن، مكبرات الصوت، والصقيع والبرد أثناء تفتيش الجنود للبيت، وانتظار الأفراد خارجه يجتاحهم البرد والخوف، ويشاهدون غطرسة المحتل وتعمّده الاهانة والنيل من الشباب، وتحدي الأهل والتصميم على زيارة أبنائهم رغم كل الصعاب .

امتازت جمل الكاتبة بالعمق والعفوية، إضافة إلى دقة الملاحظة، ففتحت للقارئ مشاهد حية، لا يستثني منها أي مشهد لأهميتها، سردت أحداث القصة بتسلسل وتناغم مع إعطاء أهمية كبرى لتحرك الأشخاص ومعاناتهم.
أثرت الكاتبة قصتها ببعض المعلومات عن مدينة طولكرم، وعدد المستوطنات، ووصف زيارة السجين والمعاناة الملازمة لتلك الزيارة، وصفت حفل زفاف شقيقها ولون فستانها وبعض المداعبات من قبل الأهل، وهنا يتبين أن طفلتنا الكاتبة رسمت مساحة كافية لتوضح بها بعض حكايا ويوميات الفلسطيني، لقد أصاب الشوق والفقدان قلب الأمّ فأمسيا لها مرضا، وراحت تتساءل الطفلة هل يستطيع الطبيب تشخيصهما؟ وأخذت تحلل أن سبب مرضها بالسرطان هو الفقد والشوق حتى توفيت..يالقلب الأمهات حين يتفطر ألما على فراق أبنائهن .
عطرت كاتبتنا بعض صفحات قصتها بالأمل، وذلك بخروج أخيها من السجن، وزواجه ممن أحب، وانجابه الأطفال، ولكن خذلت الأمل فينا بموته، فكان للكاتبة ما أرادت، وهو تسليط الضوء على أوضاع العائلات ومعاناة أبنائهم في الأسر.

وقالت رائدة أبو الصويّ:

سرد الكاتبة للأحداث أسقط الدّمع من عينيّ، وتمنيت لو أنّها لم تقدّم في المقدّمة اعتذارها إلى دموع أمّها وحزن والدها ،كنت أتمنّى أن أشعر بقوّة الرّسالة عندما أجد الدّمع يتساقط من عينيّ، من الصّعب جدّا أن تجد الكاتب الذي يجعلك تبكي عند قراءة روايته أو قصّته .
الطالبة شهد استطاعت أن تؤثّر لأنّها صادقة، ورسالتها وصلت بقوّة .طريقتها بالسّرد ممتعة غير مملّة، لكن وجدت أنّها كانت سريعة جدّا عندما تحدّثت عن الفترة مابين وفاة أمّ بطلة الرسالة ياسمين واطلاق سراح أخيها حسام تمنّيت لو أنّها كانت أطول .

زاوية الرّؤيا من طفلة في وطننا زاوية لم يتطرّق لها الكثيرون، حتّى في وسائل الأعلام المختلفة لا يتعمّقون في نقل الخبر . فقط مرور الكرام .

الدّخول إلى بيوت من يتعرّض أبنائهم للأسر، وكيفية التّعامل معهم، والجرح النّفسي الذي يفتح في قلوب أفراد الأسر التي تعاني من اعتقال أحد أفرادها، ومعاناة زيارة الأسرى، واحتجاز الأسرى بعيدا عن أسرهم، استطاعت بلغتها البسيطة غير الخطابية أن تجذب القاريء .

الأساليب الخطابية تبعد القاريء وتشعره بالملل .أسلوب الكاتبة شهد يشبه اسمها عذب،
كانت مهذبة في انتقاء الكلمات وحتى أسماء الشّخصيات كانت موفقة جدّا بها .
اسم ياسمين الطفلة التي تقرأ لنا رسالتها ...الياسمين تلك الزّهرة الموسميّة التي تشتهر بها بلاد الشّام والتي تغنى بها الشاعر قائلا :

وياسمين قد بدت ...أشجاره لمن يصفا .
كمثل ثوب أخضر ...عليه قطن قد ندف .

وهنا تستحضرني الجملة التي كتبتها الكاتبة الواعدة شهد في ختام رسالتها "الحياة موسمية الفرح، دائمة الحزن" أمّا بالنسبة لأنتقاء اسم حسام على بطل الرسالة .

من منّا لا يتغنى بقصيدة "موطني"؟ التي أصبحت نشيدنا الوطني.
القصيدة التي نظمت عام 1934 .وفي أبيات القصيدة مقطع يقول :
الحسام واليراع لا الكلام والنزاع رمزنا ...رمزنا .
الحسام واليراع أي السّيف والقلم .
الكتاب والمثقفون لهم دور كبير جدّا في تحقيق العدل وايصال الرّسالة الواضحة عنّا .
نحن شعب يحب الحياة .

وقال عبد الله دعيس:

تنطلق شهد عبد الرحيم محمد في كتابتها من حاجة ماسّة لوجود الأمل في حياتها، ورغبة جامحة في أن تتخطّى انكساراتها وأحزانها؛ لتصل إلى حياة طبيعيّة مثمرة، وهي التي لم تتخطَ سنّ الطفولة بعد، ولم ترَ من الدنيا تحت ظلّ الاحتلال إلا ظلمه وجبروته، وهو الذي لا يراعي للحياة حرمة، فأنّى يلتفت إلى براءة الطفولة؟!
تقدّم شهد اعتذارا، في مقدمة كتابها، إلى الأمّ التي ستذرف الدموع عند قراءته، وإلى الأب الذي سيكتم حزنه في قلبه ويظهر على تجاعيد وجهه؛ فهي تدرك أن جرحها هو جرح كل أمّ فلسطينية، ومصابها هو مصاب كلّ أب فلسطينيّ، وتؤمن بقدرتها على رسم صورة مؤثّرة بقلمها الذي يتدفّق بالكلمات العذبة الجميلة، والتي تجسّد مشاعرها بكلّ صدق وتلهب مشاعر القارئ.

الليالي الماطرة تنعش ذاكرة ياسمين، بطلة القصّة، فمع تتابع حبّات المطر، تهطل الذكريات عليها، وتعيدها سنوات قليلة إلى الوراء عندما كانت في سنّ السابعة، وإلى تلك الليلة الماطرة التي حاصر فيها جنود العدوّ بيتها وعاثوا به فسادا واعتقلوا أخاها حسام. تصف المشهد القاتم بكل ما أوتيت من براءة الطفولة التي لم تستطع قسوة المحتلّ أن تسلبها إيّاها. وتتساءل هذه الطفلة كلّما هطل المطر: هل تضافرت الطبيعة مع العدو وأعطاه المطر فرصة ليثخن بجراحها في عتمته التي ضاعفت وحشة الليل، أم أنّ الدنيا تذرف الدّموع على ما تشهده من بشاعة الاحتلال وظلمه؟
يخرج جنود الاحتلال من بيت ياسمين مصطحبين أخاها أسيرا، وتعود الطفلة لتبحث عن ألعابها التي حطّمها العدو بكل عنجهيّة وصلف، فهو لا يأتي فقط لاعتقال مناضل أو البحث عن مجاهد، بل لينزع الفرحة من قلب الطفل ويزرع الرّعب في قلب عائلته. هذه اللفتة الإنسانيّة الرائعة إلى الطفلة التي تجمّع ما تبقّى من حطام ألعابها وتضعها في صندوق، تعبّر عن وحشيّة العدو بشكل يفوق كلّ الصور والصفحات الطوال من الشرح والتحليل.

والكاتبة تلجأ إلى استخدام الأمثال الشعبيّة رغم حداثة سنّها، مما يدلّ على سعة اطلاعها وامتلاكها لعنان اللغة. وقد كانت موفّقة حين ذكرت قصّة المثل الشعبيّ (من قلة الرجال سمّوا الديك أبو قاسم.) فهذه لفتة جميلة تشير إلى حالة الضعف التي وصل إليها العرب حتّى استأسد عليهم الأعداء، وطفقوا يكيلونهم أصناف الذلّ والهوان.

وقد أشارت الكاتبة، وخلال صفحاتها القليلة، إلى العديد من المواضيع الهامّة فيما يخصّ الأسرى الفلسطينيّين وعائلاتهم، وبأسلوب أدبيّ جميل مشوّق. فقد بيّنت طريقة اعتقال الأسرى وما يفعله الجنود من بثّ للرعب في قلوب عائلات الأسرى ومن تدمير متعمّد لبيوتهم وأثاثهم وحتّى طعامهم. وبيّنت المعاناة التي تتكبّدها العائلات، وصنوف الإذلال والقهر عندما يسمح لها بزيارة ابنها المعتقل، والمعاملة القاسية للمعتقلين وحرمانهم من العلاج، والفراغ الذي يتركه الأسير في بيته والأسى الذي تعاني منه أمّه وذووه، وقد أبدعت الكاتبة عندما أشارت إلى المقعد الفارغ الذي كانت الأمّ تصرّ أن تتركه على مائدة الطعام لابنها الغائب في سجون الاحتلال.

ولفتت الكاتبة النظر إلى الوضع النفسيّ الصعب الذي يواجهه الأسير بعد الإفراج عنه، فبينما يبتهج أهله بلقائه، يواجه معضلة التكيّف مع الحياة والاندماج مع المجتمع بعد سنوات طويلة من الأسر. وأشارت أيضا إلى صعوبة حصول الأسير على عمل بعد خروجه لتوفير حياة كريمة له. ولم تغفل مشاعر الحبّ والوفاء؛ فحسام تزوّج بعد خروجه من السجن من الفتاة التي أحبّ والتي انتظرته إحدى عشر سنة. وبصدق الطفلة وعفويّتها، لا تغفل الكاتبة في خضمّ حديثها عن بشاعة المحتلّ عند اعتقال حسام عن مسحة من الإنسانيّة عند هؤلاء العتاة، فتذكر أنّهم أعطوا المجال للمعتقل للبس معطف شتويّ يقيه من البرد ولوداع اخته الصغيرة.

وصفت الكاتبة حادثة اعتقال حسام ورحلات ياسمين وأمّها المضنية لزيارته، بدقّة متناهية وبعبارات تحرّك المشاعر، لكنّها مرّت عن حادثة موت الأمّ بعد صراعها مع المرض والألم بسرعة دون أن تبثّ مشاعرها، وكأنّي بقلمها يأبى أن يتصدّى لهذه المشاعر التي قد تفطر قلبها الغضّ.

تتسارع الأحداث في نهاية القصّة، وتوهمنا الكاتبة أن النهاية ستكون سعيدة، لتعود وتفجعنا بوفاة حسام في أخر سطر كما فجعتنا باعتقاله في بداية قصتها، فيكون لهذه الخاتمة الحزينة المفاجئة وقعا كبيرا على قلب القارئ الذي خرج لتوّه من حالة الحزن إلى حالة الفرح.

عندما شرعت بقراءة هذا الكتاب، ظننت أنّي سأقرأ قصّة تغرق في براءة الطفولة وخيالات الشباب، لأجد نفسي أحاور كاتبة أمسكت بناصية الأدب وحازت حكمة الشيوخ، فهل التجربة تصقل الإنسان وتنمّي مواهبه؟ وهل يكبر أطفالنا قبل الأوان؟ وهل يصنع الظلم والاضطهاد المعجزات؟

وشارك في النقاش عدد من الحضور منهم: محمد عمر يوسف القراعين، رشا السرميطي، ديانا أبو عيّاش وحسن أبو خضير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى