الجمعة ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٦

التاريخ والسرد عند بول ريكور

سعيد العيماري

مع ظهور العلوم الإنسانية التي تجعل من الإنسان موضوعا لها، باعتباره كائنا نفسانيا واجتماعيا وتاريخيا، برز التاريخ من حيث كونه علما مستقلا يشتغل على الماضي والذاكرة الإنسانية، لما لهما من تأثير في الحاضر والمستقبل. ومن ثمة يعد ولا يزال مجالا للتأمل الفلسفي والتفكير الابستمولوجي، بل إنه أضحى يخضع لمقاربات متباينة بتباين منطلقها الفلسفي والإيديولوجي، وهو ما يفرض الحديث عن فلسفة تاريخ يتفاعل فيها العلمي والتاريخي والأدبي والفلسفي.

ولقد كان للمنهج العلمي تأثير واضح على التاريخ منذ بدأت تتبلور نظرياته الأولى خلال عصري النهضة والأنوار، وصولا إلى العصر الحديث، حيث أضحى حضور الملاحظة والتجربة والوصف والتفسير والتحليل باعتبارها خطوات لرصد الظاهرة التاريخية سواء أكانت متجسدة في وثيقة أم واقعة. وهكذا أتيح لعدد من المؤرخين توظيف قواعد المنهج العلمي على البحث التاريخي، الذي عرف تطورا مستمرا، وكانت أبرز نتائجه تتمثل في العمل على فهم الجانب اللغوي والسردي باعتباره أحد مرتكزات النشاط والفعل التاريخيين.

ومن هذا المنطلق سنسعى في هنا إلى تناول الجانب السردي وعلاقته بالتاريخ عند الفيلسوف الفرنسي " بول ريكور Paul Ricoeur "، بحكم أنه تتبع الترابط والتعالق القائم بين السرد والتاريخ، وهو الموضوع الذي حاول أن يجعله في صلب كثير من دراساته الفلسفية والهرمونيطيقية والتاريخية، وعلى وجه الخصوص مؤلفه " الزمان والسرد: الحبكة والسرد التاريخي" الصادر عن دار الكتاب الجديد المتحدة، طبعة 2006، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم. والذي وصفه "هيدن وايت" باعتباره "أهم عملية تأليف بين النظرية الأدبية والنظرية التاريخية أنتجت في قرننا هذا".
ويتكون المؤلف من مقدمة و قسمين: الأول عنونه بدائرية السرد والزمانية، والثاني جعله تحت عنوان التاريخ والسرد، بالإضافة إلى خاتمة على شاكلة استنتاجات.

وقد حاول أن يعرض فيه لمسألة العلاقة بين الزمان والسرد، انطلاقا من رصد أوجه حضور هذا الموضوع في الفكر الغربي، بدءا من القديس "أوغسطين" الذي نظر إلى الحاضر باعتباره "ثلاثي الأبعاد: حاضر الماضي وحاضر الحاضر وحاضر المستقبل"، مرورا بأرسطو الذي اعتبر الزمان "تتابعا للأفعال السردية وتنظيما لها" ، وصولا إلى كانط وهايدغر حيث يعتبر الأول الزمن " مخططا لإدراك التصورات في الجهاز العقلي المجرد، فلا وجود للزمان في الخارج، بل هو مفهوم متعال في العقل الإنساني نفسه" . بينما يشكل الزمان عند الثاني أفقا لإدراك الوجود في العالم (...) لا باعتباره ظاهرة طبيعية تحددها حركة الأفلاك بل باعتباره منزعا إنسانيا لاستشراف المستقبل الذي يتربص به الموت. وبالتالي فالزمان أفق هذا الوجود في العالم مفهوما بوصفه اشتراعا للإمكانيات البشرية التي تحاصرها المحدودية والنهائية"

ولن نعمل هنا على تقديم ملخص لهذا الكتاب، بقدر ما سنحاول إبراز العلاقة بين السرد والتاريخ من منظور "بول ريكور" بشكل موجز، وذلك وفق المحاور التالية:
بين السرد والتاريخ.
السرد التاريخي.
الرمز والخيال في التاريخ.
الزمن والتاريخ.

بين السرد والتاريخ:

يمكن اعتبار لحظة السرد من أبرز اللحظات التي مر منها الفكر الفلسفي عند "بول ريكور"، ذلك أنه كسر الحواجز بين مجالين كانا ينظر إلى كل واحد منهما بمنظار خاص، فضُمَّ السرد الذي يشكل ركيزة الإبداع الروائي إلى التاريخ الذي يبحث في الوقائع والأحداث ويسعى إلى تأريخها. ولذلك يُنظر إلى السرد باعتباره القدرة على قول شيء حدث، إنه يروي تاريخا.

وللسرد معاني ودلالات من بينها تلك التي تشير إليه من حيث كونه ذاك التتابع والتسلسل الزمني لعرض حدث أو واقعة في قالب قصصي قد يكون واقعيا أو خياليا، وهو بذلك يضطلع بوظيفة تنظيمية من شأنها إيجاد العلاقات الرابطة بين مجموعة من الأحداث المختلفة والمتباينة.

أما لفظ "التاريخ" فيشير معناه في "المعجم الوسيط" إلى: " جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، ويصدق على الفرد والمجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية، والتأريخ تسجيل هذه الأحوال". إنه يبحث في الأمم والمجتمعات، وصار علما له ضوابط وقواعد خاصة.

وقد عرف ا"بن خلدون" التاريخ باعتباره " خبرا عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".

وعليه، تبدو علاقة التاريخ وطيدة بالمجتمع، فهذا التعريف يشير إلى كونه يتضمن خبرا وإخبارا عن البنية الاجتماعية وما يطرأ عليها من تحولات وتغيرات.

أما "عبد الله العروي" فقد قسم التاريخ إلى قسمين اثنين:

+ التاريخ العام: وهو مجموع الأحوال التي عرفها الكون ومرت عليه حتى اللحظة الراهنة.
+ التاريخ المحفوظ: وهو مجمل ما يعرفه المؤرخ ، والمؤرخ هنا هو الممثل النظري للحرفة كلها.

وقد أكد على أنه لا تاريخ سوى المذكور، ولا مذكور سوى البشري، وعليه فالتاريخ تاريخ البشر بالبشر وللبشر.

ووفقا لذلك كله، لا جدال في كون الإنسان هو موضوع التاريخ: صادر منه وموجه إليه، إذ إنه يبحث في ماضيه ويحاول أن يفهمه ويعمل على ربطه بالحاضر لاستشراف مستقبله، على اعتبار أن الحدث التاريخي لا يتكرر، وإنما له علاقة بالذاكرة الإنسانية المحلية والكونية، بحيث يدفعنا إلى الإهتمام بالماضي وأخباره، ليس من أجل اجتراره ولكن بغية التأمل فيه واستخلاص الدروس والعبر.

غير أن السؤال الذي يراودنا – من خلال كل ما سبق – هو : ما الجامع بين السرد والتاريخ؟ وهل بإمكاننا الحديث عن سرد تاريخي بغض النظر عن الفوارق بين المجالين؟

السرد التاريخي

إن بين السرد والتاريخ علاقة تكامل بينة، إذ كلاهما يعتمد الحكي والاسترجاع والعودة إلى الماضي تقنية ووسيلة. وعلى الرغم من كون السرد له صلة وثيقة بالإبداع الروائي والقصصي، فإن ذلك لا يمنع من القول إن علم التاريخ يضعنا أمام توظيف جديد للمصطلح بتجليات وتمظهرات مغايرة لتلك التي تميز الإبداع، فهذا العلم ينبني على التكرار السردي في علاقته بالجماعة وليس الأفراد.

إنه من خلال السرد التاريخي يعيد القارئ تشكيل تجربته واقعيا عبر إعادة بناء الماضي في قالب سردي واقعي وليس خيالي.

وتتمثل أبرز أوجه التعالق بين السرد والتاريخ في "الحبكة" أو ما يصطلح عليه أيضا " العقدة"، وهي التي تفرض وجود تنظيم متتالي للأحداث وفق: بداية > وسط > نهاية. فبول ريكور يعتبر الحبكة "الطول الذي يسمح للبطل بأن يتغير من حال الشقاء إلى حال السعادة، ومن حال السعادة إلى حال الشقاء خلال متوالية من الأحداث الحتمية أو المحتملة."
وتفرض الحبكة أيضا التحول بالانتقال من حالة إلى أخرى، والتعرف بالجمع بين السلبي والإيجابي أو العكس، لتكون بذلك الحبكة " تركيبا بين عناصر متنافرة وظيفتها إيجاد قضية واحدة من أحداث متعددة."

أما وجوه الإختلاف بين السرد (الرواية مثلا) والتاريخ فتتمثل في طبيعة الأحداث فيهما، حيث إنه لا يحكمها في التاريخ منطق خاص، وإنما يحددها الزمن التاريخي المتسلسل والواقعي، بينما في السرد تخضع هذه الأحداث لمنطق الراوي أو البطل، وتعتمد بنية زمنية قد تجمع بين الاسترجاع والاستباق، فضلا عن كون الأحداث فيه ذات طبيعة خيالية على وجه الخصوص وفي غالب الأحوال.

إن المؤرخ يسعى إلى نسج الأحداث المتناثرة والمتنافرة في إطار قصة تبدو متكاملة، وعمله بذلك يشبه عمل المحلل النفسي، ذلك أن المريض "يقدم للمحلل النفسي قطعا من قصص معاشة وأحلام ومشاهد وأحداث متعارضة، وهدف المحلل هو استخلاص سرد من هذه القطع يكون أكثر تماسكا ومعقولية، هنا يكون عمل المحلل مشابها لعمل المؤرخ، فكلاهما يحبك الأحداث لتكوين قصة".

وكما تروى الحياة يجب أن يروى التاريخ دون نسيان للمعاناة والمأساة، ولأجل ذلك لابد من السرد، فنحن نروي القصص لأن الحياة البشرية تستحق أن تكون مروية، ومن ثمة لا يجب إغفال تاريخ المهزومين والضائعين، فتاريخ المعاناة بأسره ينادي بطلب الثأر ويدعو إلى السرد، على حد تعبير بول ريكور. ولا يمكن أن تتحقق هذه الحكاية إلا من خلال الحبكة، لما لها من دور في تنظيم الحدث ويتخذ طابع السرد، فتاريخ ظهور امبراطورية وانهيارها، أو صعود طبقة وتدهورها، أو تبلور حركة وتفككها، لا يمكن رصده إلا باعتباره حكاية سردية تتقيد بالتنظيم، لكي يستطيع القارئ فهمها وتأويلها، إذ إن للتاريخ معنى ينبغي الكشف عنه، وستتضح مدى محاكاته للحاضر أو المستقبل.

وعليه، نستطيع الجزم بوجود تشابه بين القصة والتاريخ من حيث السرد والحبكة والزمان والفضاء... . بيد أنه ثمة وجوه اختلاف تكمن أساسا في ثنائية: خيالي / واقعي، لأن الطبيعة التاريخانية لابد أن تغلب على التاريخ، وهي ما يسميها بول ريكور "القصدية التاريخية"، وهي ذلك "القصد الخالص الذي يشكل الطبيعة التاريخية للتاريخ ويمنعها من الذوبان في أنواع المعرفة الأخرى التي يقترن التاريخ بها قران مصلحة". ولا غرابة في ذلك لأن مرجع التاريخ هو الواقع، أما القصة فمرجعها الخيال، الأول يعتمد الوثائق والأثار والشهادات، وذاك هو الفاصل بينهما، لأنه "من خلال الوثائق يتعرض المؤرخ لما كان موجودا من قبل". والمؤرخ يملك حسا تاريخيا كما يملك القاص حسا قصصيا، يجعله يوظف السرد بطريقة مخصوصة.

الرمز والخيال في التاريخ

الرمز:

ينظر إلى الرمز في علاقته بالتاريخ باعتباره يفتح آفاقا تأويلية مختلفة أمام المؤرخ والقارئ، ذلك أن الأحداث المعروضة قد تتضمن رموزا صريحة تكشف عنها القراءة الحرفية، وكذا الرموز الضمنية المستنبطة من المعنى الذي تشير إليه تلك الأحداث.

وهكذا، يمكن القول إنه لا قيمة للحدث التاريخي إذا لم يحمل دلالات على شاكلة رموز، يسعى القارئ أو الدارس إلى الكشف عنها لاستنباط العبر التاريخية والعلاقات التي تربطها بالحاضر والمستقبل.

الخيال:

سبق وأن قلنا إن الفارق بين القصة والتاريخ يتمثل في المرجع الخيالي للأولى والواقعي للثاني، بيد أن ذلك لا يعني على الإطلاق عدم لجوء المؤرخ للخيال، ذلك أن الذاكرة كثيرا ما تغفل عن أشياء وأحداث يتدخل الخيال لملئها وسدها، وخاصة ذاك التاريخ المسكوت عنه أو المخفي والذي لم تتبناه الوثائق والآثار، وهو ما يستلزم من المؤرخ الاستعانة ببنية إدراكية خيالية تحاول أن تكشف عما كان قد حدث فعلا، انطلاقا من توظيف طاقته التأويلية واستخلاص الملاحظات والاستنتاجات.

الزمن والتاريخ

لا يمكن الحديث عن تاريخ بدون زمن، ففي السرد تحضر الزمنية كما أن لفظ "التاريخ" لا شك أنه قد وضع استنادا إلى معيار الزمن الماضوي خاصة. وقد عمل "بول ريكور" على تناول إشكالية الزمن بكثير من التفصيل في مؤلفه "الزمان والسرد"، من خلال عرض ما قدمه "أرسطو" و القديس "أوغسطين" و"كانط" و"هايدغر"، فضلا عن آرائه المستنبطة من تتبعه لمسار هذه الإشكالية على مر التاريخ.

وعلى وجه الإجمال، ينبغي التأكيد على ارتباط الزمن بالتجربة الإنسانية التي تؤرخ لهوية أمة من الأمم، فوفقه يتم التحقيب التاريخي لسرد الأحداث والوقائع.

تأسيسا على كل ما سبق ذكره، يمكن القول إن التجربة الإنسانية لا تنفصل عن تجربة زمنية عاشها الإنسان ، وسعى التاريخ إلى بسطها من خلال السرد. وهو ما يفرض اعتبار التاريخ ذا طبيعة سردية، ولكنها من نوع خاص، ذلك أن السرد والتاريخ لا يتطابقان ولكنهما يتشابهان. فالتاريخ يخضع للتنظيم عبر الحبكة التي تزيل عنه تلك الصبغة العلمية والموضوعية، ولذلك يحضر النموذج السردي لكتابة التاريخ، دون أن يعني هذا الحضورغياب القصدية التاريخية والتي تجعل من التاريخ تاريخا و "حارسا على الماضي الإنساني"، وبمعنى أكثر وضوحا استقلال التاريخ عن غيره من المجالات، بما فيها مجال الحكي والسرد، الذي يعتبر أحد مرتكزاته، بيد أنه لا يسوده لدرجة فقدانه الخصوصية التاريخية.

وقد عملنا على رصد هذا الترابط بين السرد والتاريخ من خلال ما قدمه بول ريكور في مشروعه الفلسفي من زاوية الدارس وليس المؤرخ، فجمع بين التاريخ والأدب والفلسفة التحليلية للخطاب التاريخي وصور تمظهره، وغايته من ذلك كله محاولة الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل ودفع القارئ إلى البحث عن التأويل المناسب للحدث التاريخي.

لائحة المراجع

+ المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع.

+ بول ريكور:

الزمان والسرد: الحبكة والسرد التاريخي، الجزء الأول، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، طبعة 2006.

+ عبد الرحمان بن خلدون:

مقدمة ابن خلدون، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت 2004 .

+ عبد الله العروي:

مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، الطبعة الرابعة 2005.

سعيد العيماري

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى