السبت ١٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم حسن برطال

تـغـنـجـا

إني أحب البط و أخشى الإوز... لأن الأعنـاق الطويلة تفزعني... إنها تبدو كثعابين لاهثة..هكذا يقول حمـدان الصغير لأمه... و لطالما راودها على شراء بطة يستأنـس بها و يرعاها.

تتكرر زيارات حمـدان الأسبوعية لسوق القـرية صحبة أمه و في كل مرة يسألها:

 أيـن يـبـاع البـط..؟؟ يـا أمـي..

فتجيب غاضبة:

 لم يعد هناك بـط على وجـه الأرض..لقـد مـات جميعا..أين هو الماء الراكد و الوحل الذي يعـيش فيـه..؟؟

ألم تر أن السمـاء لم تمطر و لو قطرة واحدة مـند سبـع سنوات... تـجذبه من كتفه بقساوة في اتـجاه المخـرج...

فيثور حمدان و يقـذف القـفة برجـله كالكرة فتـرمي من أحشائها قالب سكر و علبة شـاي أخضر مسـتورد من الصين اشترتهما الأم قبل قليل...

يفر حمدان من قبضة أمه.. يرفرف بأجنحة بيضاء فـوق الضباب.. البرك المائية... المستنقعات... البـط..كـل هذه الأشياء كانت ترفرف في رأسه أيضا أجزاء متناثرة يصعب الجمع بينها...

تـغـنـجـا... ... ... تـغـنـجـا... ... ...

يـا ربـي تـعـطـيـنـا، الـشـتـا...

هكذا يردد موكب الاستسقاء... حمدان يحلق فوق الرؤوس

الـسـبـولـة عـطـشـانـة... ..

غـيـتـهـا يـا مـولانـــا..

سمع الطائر الصغير بالسنبلة، فتحولت في رأسه كل رؤوس الحشد إلى سنابل يانعة اجتذبته ليهـوي كالسهم الساقـط.. لكـنـه فوجئ بفزاعة العصافير تمشي مع الموكب فعاد من حيت أتى...

الـبـكـرة.. بـول.. بـول...

يـا ربـي تعـطينا.. السـبول..

شعر الطائر الصغير بحجمه يثقل شيئا ما... اختفت الجناحان كبر الرأس.. نبتت قرنان... الطائر الصغير يتحول إلى بقرة..

الـبـكـرة... بـول... بـول...

يصرخ القوم.. السياط.. أنواع الحجارة الهاوية على ضهر البـقرة تردد... البقرة تجري... تجري... توقفت... تلهت من شدة العيـاء من جلدها كالمطر المنشود... رفعت عـيناها إلى تساقط العرق السماء و في استـقامة منتظمة كطائرة بوينك تستعـد للإقـلاع انفرجت ساقاها الخلفيتان..و أخيرا تبولت... فتعالت الهـتافـات و زغاريد النسوة و تعانق الرجال و الأطفال و عـلت البهـجة الوجوه... أما حمـدان فتحول إلى ذكـر البـط يجـري و يستعين بجناحيه... يبحث عن بركة ماء..وصلت إلى أنفه رائحة المستنـقع الكريهة... دخل مع سرب من البـط وسط الماء الـراكد و بدأ يغوص رويدا... .رويدا...

زمجرة رعدة... استيقظ حمدان على إثرها من نومه مذعورا. يرتجف... جرى إلى حضن أمـه... ضمته بين دراعـيها:

 لا تفزع يا بني... فالرعد يرعبكم أنتم الصغار..لكنه يغني لنا نحن... لا تخف... عد إلى نومك..

أحدته من يده اليسرى... مشت به... و ما أن اقتربت من المكـان حيت كان يربض حمدان حتى رأت بقعة صفراء كبيرة فوق الفراش الذي كان عبارة عن كيس دقيق فارغ يحمل شعارا ليس بلغة البلد
لا أحـد يعرف متى... و أيـن أفرغ محتواه سوى بطن أم حمـدان...

 الله يلعن أبـاك... لما تبولت في هذا اليوم الممطـر..؟؟ كيف سنيبس ثوب الغسيل..؟؟

سكت حمدان و لـم يقل شيئا... البقـرة المربوطة تخور... تخور... لاشـك أنها جائعة، تقول الأم... حمدان لايتكلم... بل اكتفى بتحريك يده ليتحسس سرواله قرب ذكـره و كأنه يريد أن يتأكد مـن وجود شيء ما..فأحـس ببرودة تسري في أسفل جـسـده... .

البقرة تخور... حمدان لا يتكلم... الأم تركع على ركبتيها لتنقص بعض السنتيمترات من قامتها ليتسـنى لها رؤية وجـه الصبي... .

بـاسم الله عليك، يـا ابنـي... .أنـت في عـار الله...

قالتها الأم بحشرجة بدوية أضناها الهزال..حمدان لا يجيب..منتصب في مكانه... البقرة تخور..الأم تطلب من حمدان أن يحمل إليها شيئا من الحنطة الجافة... تحركه من كتفه..

 لا بـأس عليك..يـا ولدي... خـد هذا إلى البقرة... .

تضع بين يديه قليلا من التبن..و ما أن خطا حمـدان الخطوة الأولى نحو البقـرة حتى سمعت بالخارج تهاليل أهـل القرية فرحة بالمـطر.. و ارتفعت زغاريد النسوة... و عـلا ضـجيج الصـبية... فسقط
حمدان مغمى عليه في حضـن أمـه مغمض العينين... فضـمته إلى صدرها و ما أن جلست به على الأرض حتى أحست بشيء مـن الدفء تحت مؤخرتها... و شعرت بسائل ساخن يتدفق فوق فخديها
و شمت رائحة بـول حمدان... ..

= = =

(تغنجا – طقوس كان يمارسها سكان البادية المغربية من أجل الاستسقاء وجلب المطر.. بحيث يمشون في موكب تتقدمهم (بقرة) إلى أن تتبول..)


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى