الخميس ١٨ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم محمد نجيب عبد الله

نـــظـــرات..

أخيراً جلست بعد طول عناء.. أدلّك فخذيّ المُتعبَيْن للوهلة الأولي.. وفي الثانية بدأت أزفر في ضيق.. وبالرغم من برودة الجو حولي إلاّ أن إحساسي بالتصاق الآخرين بي ملأني بالضيق أكثر وأكثر كأي فتاة أخرى في مثل سنّي.. بل كأي أثى على الإطلاق.. عن يميني سيدة في متوسط العُمر مُحجّبة مُرهَقة مُثقَلة بأعباء الزمن والزوج والأولاد.. وعن يساري شاب رثّ الحال ينزل عليه العرق غزيراً رغم الجو البارد.. عيونه زائغة لربما يبحث عن مستقبل ضاع أو هدف بعيد المنال.. كان شكله مطمئناً إلى حد ما إلاّ أن ذلك لم يمنعني من محاولة جعل مسافة بيني وبينه أثناء الجلوس.. فإن لم أستطع فعل ذلك في الواقع.. يكفيني شرف المحاولة علي المستوى العقلي..

مُسليّة ً نفسي أنا الأخرى.. لا جريدة معي ولا مُصحف كالآخرين.. بدأت أراقب تسرّب محطات المترو عبر النافذة الواحدة تلو الأخرى.. كأنّها أيام تتّقلّب على نتيجة مكتب.. كل شيءٍ يمر.. خصوصاً الزمن.. الذي يبدو أنه اكتسب سعة غريبة وبطئاً.. سريع هو إذ تتبيّن ما بين ليلة وأخرى أن شيئاً ما قد انتهى من حياتك.. اختفى.. كم أفتقدك يا أبي.. وهو سخيف البطء.. إذ يبدو الحال هو الحال لا تبدّل ولا منوال.. صباح الأحد هو نفسه صباح الأحد كل أسبوع وتبدو أيام الثلاثاء كلّها ثلاثاء.. حتّى أنني أنسى التواريخ أحياناً.. وربما دائماً..

بدأت أحس برودة تلفح جانب وجهي وحين تأكّدت أن النافذة مُغلقة ومُجاوريني – (السيّدة والشاب) – لا زالا على وضعهما كأنّهما منحوتان مع نفس المقعد.. تحصل عليهما مع التذكرة الخاصّة بك.. لا زيادة.. لا نُقصان.. تلفتّت حولي.. تأكدّت أن زرّ قميصي الأخير عند العُنق لا زال مكانه لم يُفك.. وإذ حانت منّي التفاتة جانبية إذ عرفت سبب إحساسي المفاجيء بالبرودة..

هو شيءٌ غريب عليكم.. ولكن هل تصدقون في الحاسّة السادسة؟!

كلاّ.. لن تفهموا ما أقصد..

لم يكن هذا التيّار البارد الّذي أحسسته سوى عينيّ شاب سخيف ثبّتهما على وجهي.. أجل.. هذا ما حدث.. وهذا ما أحسست به.. أنا أحس إذا كان أحدهم يركّز نظره عليّ بمثل هذا التيّار البارد.. كأنّ لي عيناً جانبية..

غريبٌ.. أليس كذلك؟!!

ماذا أفعل؟! إنّ هذا الشخص لسخيفٌ جدّاً.. لماذا يُركّز نظره عليّ هكذا.. رغم أنّه يبدو مُحترماً للغاية.. أنيقاً للغاية.. إلاّ أنّ.. ...

ابتعد بنظري عنه.. أتظاهر أنّي لم ألاحظه.. أعود مرّة أخرى..

أوووووف.. ماذا يريد منّي هذا المعتوه؟!!

إنّه لم يُبعد نظره عنّي لحظة واحدة.. هل أزعق عليه.. هل أتّهمه بمعاكستي.. سيُعرّضني هذا للإحراج.. خصوصاً أنّني وحدي الّتي ألاحظه..

أبدأ أحس العرق البارد يغزوني.. في آلية تمتد يدي مرّة أخرى للزر الأخير.. أتفحّص صدري.. إنّه ليس بارزاً إلى الحد المُلفت..

نظرت إلى ملابسي.. إنّها طويلة كاسية لا تشف ولا تلتصق..

ماذا يريد هذا الجبان إذن؟!
لماذا اختارني أنا بالذات؟!

إنّه يثير أعصابي إلى درجة غير محتملة.. هل أقف وأعطيه ظهري وأفوّت عليه فرصة مراقبتي.. ولكن الطريق لا زالت طويلة وأنا مُتعَبة للغاية بعد عمل طول النهار.. والعربة شبه مزدحمة بحيث يغدو العثور على مكان آخر للجلوس من ضرب المستحيلات..

لو أنّه فقط يكف..

ينظر لشيءٍ آخر..

بدأت أتململ في جلستي.. أحس جفافاً في حلقي.. أحسّه يخترقني بعيونه.. يلتهمني حيّة.. كرد فعل لا أكثر ولا أقل بدأت أحيط نفسي بذراعيّ.. فكاد الكيس الّذي أحمله يسقط من يدي.. ارتبكت.. تنحنحت.. سقط الكيس.. هممت بالانحناء لالتقاطه في نفس اللّحظة التّي همّت فيها السيّدة عن يميني والشاب عن يساري بالانحناء لالتقاط الكيس عنّي فاصطدمت رؤوسنا الثلاثة معاً..

حسناً.. اسخر منّي يا هذا كما تشاء..

لا بد أن منظري المرتبك هذا قد ملأ صدرك غروراً..

و لدهشتي أنا.. ظلّ وجهه ساكناً.. لا انفعال عليه ولا تغيير.. بالرغم من أنّ أغلب مَنْ حولي ما بين مبتسم وضاحك.. إلاّ هو..

نظراته كما هي لم تتغيّر.. ووجهه جامد كتمثال الشمع..

لا بد أنّه أحمق..

مستفزّ..

فظيع.. إنّه فظيع!!!

أوووووووف.. نطقتها عالية في زفرة حارّة ملتهبة لفتت نظر كل مَنْ حولي من جديد.. وهو لا زال على حاله كما هي.. و..

مـــــــــاذا؟!!!!!!

حـــــدائــــــــــق حــــــلـــــــــــوان؟!!!!!!

كدت أبكي الآن..

هذا المأفون جعلنى أفقد محطّتي..

لقد فاتتني محطة نزولي.. وسأضطر للنزول هنا والالتفاف للجهة الأخرى.. وانتظار عربة من الجهة العكسية تعيدني حيث أريد..

و إذ هممت بالوقوف.. إذ وقف هو أيضاً.. يا له من وغد جريء.. هل سينزل معي أيضاً.. لو أنّه اقترب منّي لتكونّن فضيحة ً مُدويّة ً له ولمن يتشدّد له..

في بطء وقف معه شاب يجاوره.. بهدوء سَحَبَه من يده مُتَّخذَيْن طريقهما للباب.. كانت صدمتي بالغة.. لو تنشق الأرض الآن وتبتلعني.. إنّه كفيف..

الشاب الّلطيف.. الجميل.. الّلذيذ.. كفيف...

كنت قد اقتربت منه جدّاً لأنزل معه قبل أن يغلق الباب سريعاً.. على وجهي ابتسامة كأنّها اتّساع ورحابة الدُنيا.. قُلت له:

 اتفضّل حضرتك..

ابتسم في عُذوبة.. وتقدّمني بمساعدة صديقه أو أخوه..

أحسست تيّاراً بارداً في جانب وجهي..

إنّه المكان الّذي افتقد دفء نظرات الأعمى!!!

25 ديسمبر كانون الأول 2002


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى