السبت ٢ تموز (يوليو) ٢٠١٦
علي الوردي: (64):
بقلم حسين سرمك حسن

الهجوم العارم على الطغاة والملوك

الهجوم العارم على الطغاة وأعوانهم والتحذير من الترويج "للظالم العادل":

ننتقل الآن خطوة أخرى بمقدار سنة.. إلى العام 1952عندما أصدر الوردي كتابه: (خوارق اللاشعور – أو أسرار الشخصية الناجحة) وسنجد روح الوردي التعرضية التي أنكرها بعد ذلك بغرابة.. هذه الروح التي جعلته يستغل أي فرصة سانحة في الكتاب الذي هو كتاب علمي أصلا يتناول موضوعة القوى الخارقة في شخصية الإنسان (ظاهرة الباراسيكولوجيا أو المصطلح الموفّق الذي اجترحه لها الوردي وهو الخارقية) ليعرّض وبقسوة بالسلطة القمعية المتخلّفة. قل لي ما علاقة نظرة المنطق الأرسطي القديم المباشرة بسلوك الطاغية في أي عصر؟. يقول الوردي:

(( لقد دلّ التاريخ على أن كل طاغية من طغاة العالم كان يعتقد بأنه عادل صالح. وهو يجد في من حوله ما يؤيده على هذا الاعتقاد (وهذه بذرة كتاب وعّاظ السلاطين المقبل – الكاتب) إنه يظلم أكثر الناس ويسلبهم أموالهم ولكن هؤلاء المظلومين المسلوبين لا يعرفون فن الكلام ولذا تراهم يتحملون الظلم وهم صامتون واجمون، فهو لا يدري انه يظلمهم لأنه قد وضع بينه وبينهم حجابا كثيفا يمنع نفوذ الشكوى إليه منهم. والطاغية يعمد في الغالب إلى إجزال العطاء والنعمة على من يحذق فن الكلام من الشعراء والفقهاء والمؤلفين، ويجعلهم يحيطون به ويملأون رحاب قصره بأناشيد المدح وقصائد التمجيد).
ولعل مثقفي الطاغية الانتهازيين هم أشد خطرا على المجتمع من الطاغية نفسه لأنهم يقومون بكتابة التاريخ بروح مصلحية منافقة لصالحه أولا، وهم قادرون على غسل عقول السواد الأعظم المبتلى بـ (الظالم العادل) كما يسمّيه الوردي وتزيين صورة الطاغية ثانيا، كما أنهم قادرون على إرهاب أي صوت مثقف معارض يحاول الانتصار للمسحوقين المذلين ورميه بتهم الزندقة والكفر وتفرقة الأمة وغيرها ثالثا. ولنتذكر أن هذا ما حصل مع الوردي نفسه خصوصا بعد أن أصدر كتابه (وعاظ السلاطين) سنة 1954 حيث هُدر دمه وقام بعض الخطباء يهتفون على المنابر بأن المفسدات ثلاث: البغاء والخمر وعلي الوردي. ثم يضرب الوردي مثلا ماكرا على مصير أحد الطغاة في ذلك الوقت حيث يقول:
(( أما في مصر وما شهدته إبان خلع الملك فاروق ( آخر ملوك مصر )، فقد كنّا نسمع مدح هذا الملك على كل لسان. ويبدو أن فاروقا كان ينهب أموال الأمة فيوزّع بعض ما ينهب على أرباب الصحف وأولي الأقلام والألسنة. وبهذا رأينا أنباء فضله ورحمته وإخلاصه منتشرة في جميع الأرجاء. أما الأمة المنهوبة أموالها فلم تفصح عن نفسها لأن الناطقين بلسانها قد انحازوا إلى جانب الملك وألهاهم نعيمه. إن الذين خلعوا فاروق قد أصبحوا بعد ذلك في نظر الأمّة أبطالا – وقد كانوا قبل ذلك مهدّدين بخطر الموت شنقا حيث هم قد شقّوا عصا الطاعة على ولي نعمتهم المفدى – السيد فاروق رضي الله عنه)).

الهجوم على السلطات الملكيّة:

إن ضرب مثال بالثورة التي خلعت الملك فاروق في مصر في ظل سلطة ملكية حصلت ضدها انتفاضة كبرى مجهضة آنذاك هي انتفاضة تشرين عام 1952، هو مثال ماكر يحمل الكثير من الإيحاءات خصوصا في تلك المرحلة المتأزّمة. وقد يقول قائل أن الوردي لم يكن يقصد ذلك. لكن هذه (اللاقصدية ) ليست من سمات حياة الوردي أبدا. إنه يقصد كل شيء يكتبه أو يقوله مهما كان بسيطا. إقرأ الملاحظة التي ذكرها على الصفحة الأخيرة من كتابه (الأحلام بين العلم والعقيدة ) والتي يقول فيها:

(( ومن المفارقات التي حدثت في هذا الصدد أني ذكرت قصة واحدة في مكانين مختلفين من الكتاب نقلا عن مرجع علمي موثوق به. ولكني أخطأت في النقل في المرة الثانية حيث انقلب بطل القصّة إلى امرأة بينما كان في حقيقته رجلا. (أنظر صفحتي 100و180من الكتاب ). ولست أدري كيف تطرق هذا الخطأ الشائن إلى قلمي؟ أرجح الظن أنه جاءني تحت تأثير دافع لاشعوري خبيث )).

أي أن الوردي لا تفلت من قبضته التحليلية شاردة أو واردة مهما كانت بسيطة. وتظهر قصدية الوردي واضحة في تحفيز واستثارة جماهير القرّاء من خلال توسيع النظرة في المقطع الذي يلي المقطع السابق مباشرة، حيث يقول:
(( إن التاريخ سار على هذا المنوال في جميع العصور. لا فرق في ذلك بين العصور الذهبية منها والفحمية. وكلما قرأتُ عن أحد الملوك في أحد العصور المذهبة أنه كان عادلا، سألت نفسي: كم من الناس شملهم عدله؟ فإذا رأيت هذا العدل الذي يتبجح به المؤرخون قد أصاب عددا معينا ممن حذق فن الكلام بالإضافة إلى أولئك الذين حذقوا فن الرقص والعزف والغناء.. وبقي سواد الناس في حرمان قلت حالا: ساعد الله الأمة )).

إنتشار مصطلح (الجلاوزة) المُهين:

إن هذه الاستطالات التحليلية والتعليقات الاعتراضية لا يفرضها السياق الأصلي للموضوع بهذه الصورة الحادة. إن النبرة ناقمة ممزوجة بدرجة عالية من السخرية السوداء وسهامها موجّهة إلى صدور الطغاة. إنه خطاب ثوري شديد الحماسة وكأنه بيان ثورة يستنهض الهمم ويدعو الشعب المُعذب المُذل إلى تحطيم قيوده.

لقد أسهم الوردي في تحطيم هيبة السلطة القمعية الباطشة في أعين الناس من خلال أسلوبه الساخر والأوصاف المهينة المستخفة التي أطلقها بجسارة على من يمثلونها وفي مقدمتها وصف (الجلاوزة). لقد أصبحت لفظة (جلواز) شائعة ومتداولة بين العامة في الشارع العراقي. كان الشخص يمزح مع صديقه فيقول له: لك.. دروح جلواز.. أو يصف رجال السلطة فيقول: ذوله أكبر جلاوزة..

يقول الوردي:

(( والعراق قد ابتلي من هذه الناحية بظاهرة اجتماعية ربما كانت أشد عليه من الوباء الفتّاك. إن ( جلاوزة ) العراق ومن لفّ لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين، ينظرون إلى أبناء الشعب الفقير نظرة ملؤها الاحتقار والاستصغار. ولعلهم لا يشعرون بهذا الاحتقار الذي يكنّونه لأبناء الشعب، إذ هو احتقار كامن في أغوار اللاشعور من أنفسهم، فهم يساقون به وقد لا يعرفون مأتاه أحيانا )).

ثم يضرب مثلا حادثة عاشها في أمريكا عندما كان يتحدث إلى طالب مصري من أبناء الباشوات كان يدرس هناك وحاول الوردي أن يمدح الشعب المصري فوصفه بأنه فلاح فاستشاط ابن الباشا غضبا وعدّ قول الوردي إهانة للشعب المصري !! ويعلّق الوردي على ردّ فعل هذا الطالب منتقلا مباشرة إلى جلاوزة العراق قائلا:

(( ويخيّل لي أن جلاوزة العراق لا يقلون عن هذا الباشا احتقارا للفلاح وللفقير والمسكين، حيث قد ورثوا ذلك وراثة لاشعورية من أسلافهم العثمانيين )).

وعودة إلى القصدية نقول أنها تنكشف واضحة صارخة في تحديده لمفهوم مفردة الجلاوزة في الهوامش حيث يقول:
( نقصد بالجلاوزة هنا معنى يقارب ما يقصد العامة عندنا من لفظة ( الجندرمة)، والواقع أن عددا لا يستهان به من أفراد الطبقة الحاكمة في العراق هم من بقايا (الجندرمة) الذين ابتلي الشعب العراقي بهم في العهد العثماني البائد ابتلاء عظيما).
وحين نعود لنراجع الكيفية التي وصل فيها الوردي إلى مثل هذا الاستنتاج الخطير لوجدنا فيه مراوغة كبيرة وليّا ذكيّا لمسار الوقائع للوصول إلى لحظة الإدانة الصارخة للنظام المتسلّط ممثلا بجلاوزته الذين يستهترون بمقدرّات الفقراء والمساكين.. لقد استغل حاشية أحد ( جلاوزة بغداد الكبار) - كما يصفه الوردي - علاقته بهذا الجلواز لإيذاء الناس حتى أن واحدا منهم جاء بكلب مفترس ووضعه أمام بيته ينهش الرائح والغادي.. ورغم شكايات الناس من هذا الكلب اللئيم فلم تفعل الشرطة إزاءه شيئا. ويواصل الوردي هجمته الشاكية قائلا:

(( ولقد عضّ الكلب في إحدى المرات صبيّا فقيرا فقطع بأسنانه قطعة من لحم ساقه وتركه مشرفا على الموت. ولقد شاهدت بنفسي والد الصبي وكان يحترف بيع النفط بعربة يدفعها بيديه وهو يترك عمله كل يوم ليذهب بولده إلى المستشفى بغية معالجته من عضته المهلكة )).

ويعلّق الوردي على هذه الحادثة باستنتاج صادم وجريء جدا في ذلك الوقت لا يضع في حسابه القدرة القامعة للسلطة القائمة آنذاك، فيقول:

((إن القانون لا يستطيع أن يعاقب كلبا له صلة غير مباشرة بجلواز من الجلاوزة، فماذا يستطيع القانون أن يفعل، ليت شعري، تجاه الجلواز نفسه؟ )).

في البلد الأمين المظلوم ساكت والظالم ينطق:

ولو عدتَ إلى مراجعة موضوعة الكتاب المركزية وهي موضوعة القوى الخارقة - الباراسيكولوجيا - أو الخارقية، ولاحقتَ الكيفية التي تناول فيها الوردي مكوناتها الأساسية ستجد أن الوردي كان يصوغ ويعلن بروح تعرضي غيور البيان التمهيدي لثورة مقبلة كاسحة لا علاقة له بالباراسيكولوجي، لا من قريب ولا من بعيد. لكن وحسب أسلوب الوردي الذي يوصف – كما قلنا - بأنه يدس السُمّ في العسل، ليس من السهل على القاريء أن يمسك بخيوط هذه اللعبة المسمومة التي أحكم توجيهها وتمرير غاياتها الوردي بقدرة فائقة. والغريب أن الوردي يستهل فصول كتابه بفرضيات علمية نفسية صرفة لينتهي باستنتاجات وبراهين ثورية سياسية خالصة تمعن في إدانة القوى الغاشمة التي تتحكم برقاب الناس ومقدراتهم، وتسلبهم أبسط الشروط الإنسانية اللازمة لوجودهم:

(( على هذا المنوال تدور الدنيا في هذا البلد الأمين !! المشكلة هي أن المظلوم في هذا البلد لا يستطيع الإفصاح عن نفسه، بينما فُتحت أبواب الكتابة والخطابة على مصراعيها لمن يريد أن يتكلم من المترفين والمتفيقهين والحالمين. فترى المظلوم ساكتا والظالم ينطق. وبهذا صعب علينا أن ندرك المدى الذي وصل إليه الشعب المنكوب في تألمه وحرمانه )).

وأعود إلى القول أن أشد ما أثار دهشتي هي اندفاعة الوردي الملتهبة التي أوصلته إلى حدّ الكتابة الخطابية التي تهدّد وتتوعّد، الأسلوب الخطابي الذي أدانه هو نفسه وجعله من السمات الأصيلة لوعاظ السلاطين الذين ثار عليهم وعلى أسلوبهم الخطابي المتوعّد الذي يهدّد المصلين من الناس المساكين ويترك الجلاوزة من المتنفذين الطغاة الذين ليس لديهم وقت فائض حتى لأداء الصلاة في المسجد برغم أن الأخيرين يتعكزون في سبيل تثبيت شرعية تسلطهم على القرآن والسنة، وهو ما سيفجره الوردي في كتابه المقبل ( وعاظ السلاطين ).

هذه هي صرخته التاريخية الخالدة ضد الظالمين:

في الصفحة 230 من هذا الكتاب، كتاب خوارق اللاشعور، وهو أول كتاب للوردي يدشّن به حياته الثقافية المكافحة، نجد دعوة هائلة للثورة وإلى نبذ الخنوع والاستكانة.. دعوة لامهُ عليها رئيس وزراء العراق آنذاك السيّد (نوري السعيد) واعتبرها دعوة للتمرّد والانفجار. وقال له أنها دعوة مبكرة كثيرا وغير مبررة.لا زمنيا ولا مكانيا. عاتبه السيد السعيد بصورة مباشرة مستندا إلى حكم سبقي يحمله ويرى أن العراق لن يرى ساعة هناءة إذا أسقط الحكم الملكي الليبرالي، وأن العراقيين سيعضّون أصابع الندم حدّ العظم إذا أسهموا في إسقاط التجربة البرلمانية. لكن الوردي قال كلمته ومضى حسب التعبير الشعري لـ (أدونيس )الذي يقول:

(( قل كلمة وامضي..
زد سعة الأرض ))

قالها ومضى ولكنه زاد سعة الأرض العراقية. وأعتقد شخصيا أن هذا المقطع ومعه مقطع آخر في نهاية كتاب: (أسطورة الأدب الرفيع ) تنبأ فيه بالمصير الشنيع ولو بصورة غير مباشرة لا يقرّها عقل ويتبرّأ من بشاعتها كل قادة الثورة ( قطعوا قضيب الوصي عبد الإله ووضعوه في فمه وهذا موثّق بالصور)، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم المستقبل المغيّب الذي رسمه لهم، لأن الوردي كان يرى المستقبل من خلال قاعدة سيكولوجية حاكمة مفادها أن ما أُخذ بالدم لا يُستعاد إلّا بالدم، وهو جزء من قوانين البداوة التي حكمت الدولة العراقية رغم مظهرها الليبرالي منذ نشأتها حتى هذا اليوم.. والتي كانت مسؤولة عن القتلة البشعة للزعيم النزيه النظيف اليد والوجه، الذي – من وجهة نظري – لم يكن يمتلك مهارات رجل الدولة الأساسية الحاسمة، ووُرّط باستحقاقاتها المعقدة، وهو الزعيم (عبد الكريم قاسم ) الذي قُتل في رمضان وهو صائم.. وأُعدم من قبل الشخص الذي أعفاه من عقوبة الإعدام.. وأُعدم من عسكري وهو جاء بملابسه العسكرية النظيفة وقد حلق ذقنه وتهندم بتماسك عجيب فله الحق في أن لا يعدم على يد عسكري..

يصيح الوردي كافرا بالظلم ولم يسمعه – للأسف – أحد.. وحري بنا أن نستقريء كل كلمة يقولها في خطابه العجيب الذي يتعدى كثيرا جدا بحث تأثيرات أي قوة من قوى اللاشعور..إنها صيحة عزوم مهدّدة..تبشّر بانقلاب قريب لا يبقي ولا يذر.. انقلاب الصعاليك كما يصفه هو نفسه.. والذي يعد نفسه من بينهم أيام كان يعمل صبي عطار مذل ومهان لا حول له ولا قوّة.. يصرخ الوردي مستعينا بمقولة للإمام علي بن الحسين، ويقول:

(( يقول علي بن الحسين: إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلّا الله. وقد دلّ التاريخ أن الطغاة الذين يظلمون المساكين آمنين من انتقامهم، لابد أن يأتيهم من يظلمهم ولو بعد زمن طويل. فالمظلوم الذي لا يمتلك سلاحا ماديا ينتقم به من ظلمه قد يمتلك سلاحا أمضى من السلاح العادي، هو سلاح النفس المكوّن من الدعاء الملتهب.. والصرخة الملهوفة.. التي تصعد إلى السماء كالشرارة )).

وهو ينتقل مباشرة إلى استنتاج أن هذا الإذلال المقصود الموجّه إلى البؤساء من أبناء الشعب يعبّر أولا عن عقدة نقص في المتسلّطين أنفسهم، وهو ثانيا سيقضي عليهم عاجلا أم آجلا:

(( إن المتعلمين حين يحتقرون من هم دونهم في العلم، والأغنياء حين يحتقرون الفقراء، والجلاوزة حين يحتقرون البؤساء من أبناء الشعب، إنما يكشفون بذلك عن ذلة أنفسهم وما في أغوار عقولهم الباطنة من شعور بالنقص دفين. وهذا النقص لا بد أن يقضي عليهم عاجلا أم آجلا. يقول الشاعر العربي في هذا الصدد:

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا – فالظلم آخره يأتيك بالندم
تنام عينك والمظلوم منتبه – يدعو عليك وعين الله لم تنم

ولا ريب أن القوى النفسية، أو صرخات المظلومين، إذا اتجهت على ظالم أحرقته حرقا )).

إشاعة استخدام مصطلح " الغوغاء ":

ولا أدري هل كان الوردي أول من استخدم أو على الأقل أشاع عبر التكرار والمثابرة لفظة ( الغوغاء ) التي مرّ استخدامها الدلالي على يديه بمرحلتين: الأولى هي المرحلة التي سبقت ثورة 1958، والثانية بعدها. وفي هذه المرحلة
الأولى كان الوردي ينتصر لمن يوصفون بالغوغاء ويعدهم ضحية الجلاوزة الطغاة، وأن ما يظهر عليهم من انحطاط في السلوك وحدّة في المزاج وشغب شديد وحب للاعتداء ناجم عن الظروف القاهرة التي يعيشون تحت وطأتها وتعسف السلطات المتعاقبة في إدارة شؤونهم:

((إن الطبقة العليا حين تحتقر أبناء الطبقات السفلى، تبرّر احتقارها هذا بحجة أنهم أولوا عادات مستهجنة وأخلاق سيئة أو أنهم غوغاء لا يصلحون للتربع على كراسي الحكم. سمعتُ أحدهم ذات يوم وهو يشير إلى جماهير من الناس اجتمعوا في احتفال من الاحتفالات الشعبية قائلا: انظر إلى هؤلاء.. وقاك الله شرهم.. فإنهم سفاكون معتدون لا يرحمون أحدا إذا قدروا عليه )).
والواقع أن أبناء الطبقات السفلى لا يستطيعون، لظروفهم القاسية، أن يكونوا مثل أبناء الطبقة العليا في مظاهر الأدب وفي أفانين الخلق الأنيق والمزاج اللين. ولكن هذا ليس عيبهم.. إنما هو عيب الذين تعسفوا في حكمهم ونهبوا مواردهم فجعلوهم في هذه الحالة السافلة من رداءة الخلق وسوء العادة. يقول المثل السائر: ( إذا ساءت أيام المرء ساءت أخلاقه ) وهذا قول يؤيده علماء الاجتماع إلى حد بعيد. وكثيرا ما نرى شخصا حاد المزاج شديد الشغب محبا للاعتداء.. حتى إذا تحسنت أحواله أصبح بشوشا أنيقا يحب التعاون ويميل إلى المجاملة واللطف في معاشراته ومعاملاته )).

والوردي قد انحاز بصورة تامة إلى أولئك المسحوقين والمنكوبين الذين يسمونهم بـ ( الغوغاء ) وهم في الواقع ضحايا نظام جائر مستبد يستخف بالإنسان ويقوم على أساس الفوارق الطبقية، بل بلغ به الانحياز والحماسة حدا أنه ارتفع بهم إلى الذرى حين يقول:

(( والواقع أن نبي الإسلام ينظر إلى عامة الناس والفقراء بغير النظرة التي ينظر إليهم بها المترفون من أتباعه. فهو يقول في حديث مأثور له:

(إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم، حوائج أحدهم تتخلخل في صدره لو قُسّم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم ).

فالنبي لم يقل في هؤلاء المنكوبين ما قال فيهم الفضل بن يحيى البرمكي من أنهم زبد جفاء، بل وضعهم في منزلة أعلى جدا من منزلة الفضل بن يحيى ومن لفّ لفه من الأمراء والوزراء الذين لا يساوون عند الله جنح ذبابة )).

وإذا انتقلنا عامين آخرين أي إلى عام 1954عندما صدر كتاب الوردي الخطير: (وعاظ السلاطين)، فسنجد أنه قد اتجه اتجاها حاسما في تصفية أهم ركائز نظام الجلاوزة وهم الذين أسماهم بـ (وعاظ السلاطين ) وهو ما تناولناه بصورة مستقلة، ولكن ما يهمنا هنا هو استمرار وتصاعد روحه الناقمة على الجلاوزة وطغاة السلطة. ويكرّر الوردي القول أنه منحاز إلى هؤلاء الصعاليك المسحوقين لأنه شخصيا إنما كان صعلوكا شقيا تحمل الكثير من الظلم ومن عنت الحياة. لقد توفي قبل الوردي ثلاثة أخوة وضعتهم أُمّه وأسمتهم بنفس الإسم وهو: "علي"، فكانت هذه انتكاسات مؤلمة تواجهها أمّه ويتحملها أبوه بجلد. لقد نذرت أمه لله إن رزقها بولد يبقى حيا أن تجعله أشهر عطار في سوق الأنباريين بالكاظمية. وحصل أن رزقت بطفل أسمته عليا أيضا وعاش حتى بلغ سن المدرسة. وبدلا من أن ترسله إلى المدرسة مع أقرانه شغلته صبيا لدى أحد العطارين. كان علي الصغير يتحرّق حين يشاهد أقرانه ذاهبين إلى المدرسة، ومنذ تلك السن المبكرة كان علي يشتري الكتب والمجلات من سوق الوراقين ويجلس في دكان العطار منشغلا بقرائتها ومجافيا للزبائن الذين اشتكوه لدى العطار الذي طرده. وبعد أن سجل في المدرسة الابتدائية حصل أن أصيب بالتهاب فيروسي في عينه اليمنى ففقد البصر فيها – تصوّروا كل هذا الانجاز الهائل ولا أحد يعلم أن الوردي كريم العين - وأعلنت أمّه أن هذا بسبب عدم الوفاء بنذرها. أخرجه أبوه من المدرسة وأقنعته أمه بأن يفتح له دكانا للعطارة. وعمل فيه كارها ولم يربح شيئا يذكر. المهم أنه خلال تجربة العمل هذه قد عايش أحوال الناس المسحوقين عن قرب، بالإضافة إلى أن أباه كان صائغا يعمل في الفضة وليس في الحلي الذهبية كأخويه حسين وعبّاس، فكان إن عاش علي في عوز شديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى