الخميس ٧ تموز (يوليو) ٢٠١٦

يحيى السماوي، حين يرتدي ثوبَهُ المائي(1)

هــاتف بشبوش

قبل هذه القراءة كتبتُ أكثر من ستين صفحةٍ ولم أستطع أن أوفيّ الشاعر حقه، انه الشاعر الذي يستحق التمجيد في مناسبةٍ أو بدونها، أنه الشاعر يحيى السماوي، وقد أوضحت في دراستي السابقة عن حياته وسيرته الذاتية وماكتبه في خمسة وعشرين ديوان حتى الآن، وآخرها (ثوب من الماء لجسد من الجمر) الذي أنشد فيه الكثير من الغزليات التي تليق بالجنس اللطيف وعنصر الخصب منذ سيدوري وعشتار (إفروديت) حتى ليلى وبثينة ونزولا الى أنثى الريل وحمد، ونزولا الى إبسط إمرأة تمر في شوارع مدننا العراقية أو مدن هذا العالم الفسيح. نحنُ أسرى حتما حين ندخل الأروقة السماوية بكل ماتحتويه من معمار شعري وهندسة كلمات وشعشعة حروف ولغة تنتمي أساساً الى أبيها المسمى مدرس اللغة العربية في اعدادية السماوة. شاعر يستأهل أن نقول عليه تلك المقوله التي قالها الجواهري (كلما حُدثتُ عن نجمٍ بدا حدثتني النفسُ أنْ ذاك أنا!) وعليه نقول من نياط قلوبنا أننا فرحون حين تم تكريمه بشاعر العمودية في محفلٍ كبير في استراليا قبل أيام. شاعرُّ دائما ما يحتفى به في المحافل والمناسبات وآخرها في السماوة حيث غنى لأبطال العراق الميامين وعلى رأسهم سلام عادل وحسن سريع. أنه الشاعر الذي أعطى المرأة حقها مثلما فعلها قبله شاعر العرب نزار قباني، أنه الشاعر الذي إرتدى ثوبه المائي، كي يطفئ مافي شرارتها نتيجة الصبابة الحامية من حبها الذي وصل الى الذروة، أو نستطيع القول هو الشاعر الناري الذي يريد ان يطفئ ناره بثوبها المائي، جدلية مترابطة رائعة يخلقها الشاعر والفيلسوف في آن واحد. أو أنه الشاعر الذي إرتدى (رداء زورو) كي يصلح ذات البين، كي يحقق العدالة بسيف بصيرته وكلمته. أنه الشاعر الحكيم الذي جاء كي يصلح الرتق الذي ينشرخ بين الأصدقاء في ظرفٍ قاسٍ فرضه الزمن الأغبر، وهذه بالذات يتميز بها الشاعر الكبير يحيى، لما له من حنكة وصبر عاليين سنبينها لاحقا أدناه من هذه الدراسة المستفيضة بحق شاعرنا الأكبر يحيى وما حصل له مع بعض الأصدقاء من سوء فهمٍ يتعلّق بالأدب حصرا.

في هذه الدراسة سأركز على العلاقة الحميمية التي تربط الشاعر يحيى بعنصر الخصب، بآلهة الخصب، ومن ثم نتطرق الى ماهو أحب الى قلب الشاعر وهو الوطن ثم الجانب الإنساني والروابط والأواصر التي تؤسس الى صنع علاقة متينة وفائية خالصة بين بني البشر. لنر ماقاله في شذرةٍ رائعة وهي من مئات الشذرات التي قالها بحق هذه الآنثى الرقيقة التي نشتهيها أيما اشتهاء في حلنا وترحالنا، بأعتبارها النصف الثاني الذي يكمل دورتنا في الحب... لنقرأ ماقاله بحقها:

أنـتِ لـسـتِ شـمـسـاً...
وأنـا لـسـتُ وردةَ عـبّـاد الـشـمـس...
فـلـمـاذا لا يـتـجـهُ قـلـبـي
إلآ نـحـوكِ

وهل يمكن لنا أن ندير حركة إتجاه بندول الساعة أو التحكم في نبضاتها، أنها الحركة الآلية التي يتبعها الرجل إتجاه آلهة الخصب، مثل تلك الحركة لأعضاء الأخصاب لكلا الطرفين في بدايات الخلق حينما تم تعشيقهما لأول مرة دون إدراك الطرفين، وكيف تم أدراك التقبيل، أو التمسيد باليدين، أو لثم نهديها الطريين، وكيف تم الولوج في بوابة أفخاذها، من علّم من ؟. أسئلة لانستطيع الأجابة عليها من عقولنا، غير أننا ندرك ذلك في الخدر الذي يصيبنا كلما أقتربنا من أذيال ثيابهن المعطرة أو غير المعطرة. أسئلة طرحها الفلم الإيطالي الشهير للمثلة التي دوختنا في ذلك الزمن الرومانسي (صوفيا لورين) والممثل الوسيم مارشيللو ماستروياني وفلمهما الرائع (زهرة عباد الشمس) والذي يتكلم عن مصائرنا وكيف ندير رؤوسنا مثلما تريد تلك المصائر، فلمُّ يحكي عن حبيبين في الحرب العالمية الثانية وكيف افترقا وما بمستطاعهم أن يكونوا غير زهرة عباد التي تعشق الشمس، لكن النثر هنا يختلف، إذ لم يصيّر الشاعر يحيى نفسه كزهرة عباد ولا هي كالشمس، فبمستطاعه أن يكون مثل (فلورنتينو أريثا) الذي بلغ السبعين ولم يعشق غير (فرمينيا داثا) في رائعة ماركيز (الحب في زمن الكوليرا)، لم ينبض قلبه بسواها ولم يشفِ حتى ذاق عسيلتها في لجة البحر وفي الباخرة المبحرة بهما لوحدهما، وهما في عمر الشيخوخة، ثم قال مرددا مع نفسه (اليوم قد شفيت). الشاعر يحيى ينقلنا الى متاهات شهريار وكيف كانت الملوك تستطيب معها كشهرزاد، منذ ذلك الوقت السحيق، والنساء هي الشغل الشاغل، هي صانعة الرواية والحكاية التي إذا ما بدأت لاتنتهي، حتى نعاسنا ونيامنا مرغمين متعبين، لنستأنس أدناه بما قاله الشاعر يحيى الشهريار:

لو لم تكوني شهرزادي
أكنتُ سأعرف أني شهريارك؟
تمدّدي على عرشِ سريرك
لأقصّ عليك باللثم حكاياتِ
ألفِ قبلةٍ وقبلة
والتفاحةِ الحلال
التي أعادتني الى الجنة

وماذا يقص عليها بعدُ أكثر من ذلك، لقد صيّر اللثم كلام، وربي هنا تكمنُ عبقرية الشاعر، العبقرية معرفة فطرية لايلجأ فيها العبقري الى إستخدام القواعد المشاعة، لأنها عكاز يحتاج اليها الأعرج بالضرورة وهي عائق للسليم الجسم، وقد القى بها هوميروس بعيدا. ماذا يقول لها حين تنام على الحرير، مسترخية تماما في خدرها، مشمرة ساعدها الأيمن فوق حافة السرير الفردوسي الأبيض، مائلة برقبتها بحياء تام وكأنها تريد أن تقول له، كفاك ياشهريار من كل هذا التنويم المغناطيسي فأنا نمتُ مع الخدر الكلماتي الذي أسمعه منك. (صحيحُّ من قال... أن المرأة تعشق بإذنها)، هاهي تستمع الى كل هذا الشجن الشعري المسطر والمداف مع اللثم، أنه يزف لها كلماته اللثمية وكأنه فراشة ملونة تريد أن تقضم بزغاب جلدها الناعم فنراها مُدغدغة تماما ولايسعها سوى ان تقول ياشهرياري تصبح على الف خير.

يبقى الشاعر يحيى مشتتا لايمكن له الإستقرار حتى يستنجد بشهدها، فيجعله حبرا لاينتهي في مداده، أو حتى يستطيب عصفوره في عشها الدافئ والرطيب، لنر ّ هذه الروائع في السطور التالية من ( رذاذ):
رذاذ

وحـدُهُ مِـدادُ مـحـبـرتـِك
يُـغـوي غـزالَ قـلـمـي بـالـركـضِ
فـي مـراعـي الـسـطـور
رجـولـتـي أعـلـنـتِ الإمسـاكَ عـن الـمـائـدة
حـتـى تـفـطـرَ بـخـبـز أنـوثـتـك !
لا تـخـافـي حـرائـقـي...
نـيـرانـي نـاعـمـةٌ كـنـدى زهـرةِ الـلـوز
ودخـانـي بـخـور !
وحـدُهـا حـمـامـةُ أنـوثـتِـك
الـقـادرةُ عـلـى
تـدجـيـن صـقـر فـحـولـتـي !
نـخـلـتُـكِ رسـالـتـي
وما مـن مـعـجِـزةٍ لـي
غـيـرُ جـنـونـي...
سـأتـسـلّـقـهـا قُـبـلـةً قُـبـلـة !
بـكِ صـرتُ شـعـبـاً مـن الـعـشـاق
فـي مـمـلـكـتـي الـمـمـتـدةِ مـن عـصـفـوري
حـتـى عُـشِّـك !

الحياة على خافقها لايمكن أن تستمر بدونها، أنها الرذاذ المتطاير من رضابها على عطشي كي لا تذبل شفاهي، أنها النار التي أحيا بها، بل هي النار الوحيدة التي تكون بردا وسلاما على نبوءتي، كي أكون رغيفا يحيا به كل من سار على طريق إمرؤ القيس. منذ طقوس معبد إيزيس هناك فوق وهناك تحت ولكن الحداثة جعلت تبادل الأدوار بين الفوقية والتحتيه، فأنا اهطل بفحولتي على كل رياض واديها كي تخصب. منذ أن تعوّد آدم أن يزرع المتسلقات فلابد له أن يناطح قلب النخيل بالتسلق، أن يكون كناري الحب الذي يمضي باللحن مع كل نشوةٍ تسري في العروق أثناء التقبيل من مفرق الرأس حتى القدمين، مع كل تأوهٍ وعرقٍ يتصبب أثناء أداء المهمة الروحية التي ليس لها بداية أو نهاية، تلك التي يتطلب لها أن يدخل عصفورنا الى عشها الرطيب كي تتم أجمل طقوس الحب التي تشهد التنهيد والحب العميق، وهكذا نبني آمالنا تمهيدا للقاءٍ آخرٍ يجمعنا في الخفاء كي ندرك مدى السعادة التي سرعان ماتطير من جوانحنا على أملٍ أن تعود في المرة القادمة، مثلما كان يفعلها تولستوي مع حبيبة عمره التي أنجبت له ثلاثة عشرا من الصبية والبنات، حيث كانوا في كل مرةٍ يلعبوا لعبة الحب الخرافي، لعبة القوقأة ودوران الديك، أنها المملكة التولستوية الممتدة من حمائم آنا كارنينا حتى السلام الذي عشعش فوق قبره لغاية اليوم. تبقى المرأة بنظر الشاعر هي الجسد الجمر وهو الثوب المائي الذي يطفئ تلك النار أو بالعكس، حيث سطر لنا الشاعر أجمل الألحان في آخرِ ديوانٍ له (ثوب من الماء لجسدٍ من الجمر)، إذ نستشف من خلاله، من أنه منذ الأزل هناك متلازمتين، نهدُّ لوزي، وفمُّ يُلثمان، فبشفاه طفولتي أمتص، وبفمّ صباي أصرخ وأخط على السطور بما لاينضب، مثلما قال الشاعر أدناه بصدد ذلك في نص (غواية ص65) من ديوانه الموسوم أعلاه:

ياملاكي
إسمحي لي لحظةً واحدةَ
أصبحُ شيطاناً
لأحتالَ على ثغركِ في نصبِ شراكي
فازعلي مني
لأسترضيكِ باللثم
وأستجديكِ كأساً من زفيرٍ
وشميماً من شذاكِ

الشاعر يحيى من النوع الذي يكن إحتراما عظيما للحب، الحب المرادف في مانعنيه للمرأة، هي في صباحاته، ولياليه، هي المرسى، هي الميلاد الجديد،هي الملاك الذي تغنى به المطرب الراحل ناظم الغزالي حين يصدح بصوته الرنان (أي شئٍ بالعيد أهدي اليكِ ياملاكي)، فما أروع شاعرنا يحيى في بدايته الغنائية الرائعة في هذا النص الناضح غنجا ودلال وترافة لايمكن أن توصف. لنبحر ما في ديوانه أعلاه من نص (قاب فردوس لاأدنى) بما يتفق وكلامنا هذا :

مادامَ
زورقُ مقلتي
في نهركِ الضوئي يرسو
فالصبحُ
ميلاددُّ جديدُّ للهوى
والليلُ عرسُ

المرأة بالنسبة للشاعر يحيى تعني الكثير والكثير، سواء في الصبابة والوجد، أم في إنسانيتها وامومتها، بمستطاعه أن يجند نفسه لها لو أراد، ان يكرس الروح البوحية لها ولها فقط على غرار نزار قباني فأنه آهلُّ لها، لكنه لديه المشروع الأكبر وهو حب الوطن الذي يعلى ولايعلى عليه. ومهما توقف عنها في لحظة من الزمن، يستدير إستدارة كاملة لها، لما فيها من العنصر الرئيسي لقلبهِ الشاعر، لأنها مركز الإستقطاب المدادي في البوح كما يبين لنا في هذه الفلقة الساحرة أدناه من نفس الديوان:

إن يكن
عقدكِ والأقراطُ والمنديلُ مني
فأن دفء سريري ومدادي
ورحيقُ اللذة البيضاءِ منكِ

العلاقة بين المرأة والرجل على مر التأريخ هي علاقة أواصرية إنجذابية لايمكن لها الفكاك على الأطلاق، ودائما هناك من يهب الهدايا والعطايا وهناك من يأخذ، الرجل يعطي ويهب وهي التي تستأنس بهذه الهدايا وتحتفظ بها على مر التأريخ بأعتبارها وسام حبٍ بينها وبين الحبيب الفارس، حتى لوكانت المرأة ملكة والرجل ملك، تبقى المعادلة هي ذاتها، الملك يعطي وهي الملكة التي تفرح بعطاياه. عقدها وأساورها وخواتمها الفضية والذهبية وكل مايُعلقُ في الأعناق من لؤلؤٍ ومرجان هي منه، لكن بوحه وحرارة السرير الحريري يستمده منها وينعم به بينها وفي خضم أحضانها. هي هذه المعادلة التي لم تتغير أبدا، هي الراسخة في سماء الوجود والأرض أينما حلّ الشاعر، لنقرأ مايقوله في هذه الشذرات:

أنا وطن
أنت عاصمته !
سأقشرك مثل برتقالة
لأحصي مسامات جسدك بالقبلات
حين قبلت عينيك
جاءتني الفراشات تستجدي مني
بقايا الكحل العالق بشفتي !

يمكن للمرء ايضا أن يجيب الشاعر فيقول، انا بيت وانت غرفتي، سأقطفك مثل تفاحة البساتين التي تكون لي وحدي، وحدي أنا من يلمسك، وحين اقبل شفتيك، تجيئني النحلة تبحثُ عن بقايا الشهد العسلي.

هــاتف بشبوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى