الخميس ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠١٦
الاتساق أو الانتظام الجمالي
بقلم عصام شرتح

في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد

إن أي عمل فني إبداعي مؤثر، أو منتج للقيمة الجمالية هو -دون أدنى شك-فن إبداعي منظم منبني على الاتساق، والتوازن، والانتظام في حركته الداخلية؛ وشكله الجمالي النهائي، وماهيته الجمالية الكلية التي ينطوي عليها، وهذا يتبع –بالضرورة -حركة العقل، ومسألة الوعي الجمالي في تخطيط المنتج الإبداعي؛ يقول عالم الجمال (بوسريه):" إن الجمال لا ينحصر إلا في النظام، أي في الترتيب والنسب. وهكذا، فهو، ينتمي إلى العقل، أي إلى القدرة على الفهم والحكم على الجمال"().

واللذة التي يخلقها المنتج الجمالي هي التي تنقلنا من حيز الروتين، و الصلادة المادية المستهلكة إلى فضاءات روحية، و أجواء مريحة تأنس إليها الروح، وهو النبض الجمالي الذي ينقلنا إليه المنتج الإبداعي في أوج رقيه، وانتظامه، وتكامله الجمالي، وهذا ما أشار إليه( ( غوته) في حديثه عن الأثر الجمالي الذي يخلقه الشعر، لاسيما عندما يطهرنا من مشاعرنا المحمومة المكبوتة، واصطراعاتنا وهواجسنا المعتمرة في قرارة أعماقنا ، ويشعرنا بلذة أو متعة ما؛ إذ يقول:" إن الشعر خلاص، لأننا نخف فجأة ، ونتخلص بمعجزة من احتياجاتنا، وخيبة آمالنا ورغباتنا... ونتخطى فجأة متاعبنا، وكل ما يشغل بالنا من تفاهة الوجود؛ وننسى آلامنا وملذاتنا، إذ إن ملذاتنا عديمة القيمة ، وتنفجر كما تنفجر فقاعات الصابون إزاء السعادة التي تسيطر علينا الآن"().

والاتساق والانتظام هو جوهر العمل الفني الإبداعي المنتج، فمن لا نظام وانتظام له لا إبداع حقيقي في نهجه، وشكله الخارجي، ولهذا، فإن اللغة؛ لا تثيرنا - وهي في حالة فوضى وعبثية تامة- وإنما من خلال تنظيمها وتوازيها وانسجامها النصي ؛ وهذا ما أشارت إليه خلود ترمانيني بقولها:" إن لغة الشعر تنشأ بين الشاعر وبقية المدركات التي تكون عالمه الشعري، ذلك أن اللغة الموجودة خارج الشعر تكون في حالة فوضى، لا يعثر فيها الإنسان على نفسه، ولكنها حين تدخل في إطار الشعر يضفيها الشاعر ، وينظمها مخلصاً إياها من الفوضى، ليحقق وجوده من خلال التغيير الفعال لآلية وجودها في العملية الإبداعية؛ وتبعاً لهذا؛ تنبثق اللغة الشعرية بعد مراحل من احتفاظ الشاعر بها في أعماقه، ومن ثم، تتوالد الألفاظ، والتراكيب، والصور، فتبرز اللغة حية نابضة بالإيقاع ، وعلى هذا الأساس؛ يندغم الإيقاع في الخطاب الشعري، ليظهر في إلهام الشاعر؛ وإيقاع التعابير، وجرس الكلمات، ورنين القافية، لتنفذ بعد ذلك إلى قلب المتلقي ، وتوحي بما لا يستطيع القول العادي البوح به".()

وهذا دليل أن قيمة الخطاب الشعري تكمن - بالدرجة الأولى- في جمالية لغته ، ومصدر إشعاعه الفني، " فالشعر يرتبط باللغة، وهدفه- على حد تعبير كلوديل- تحقيق اللذة الجمالية التي يحصل عليها؛ والتي تعتبر اللغة أداتها"().

ولن تحقق اللغة الشعرية مظهرها الجمالي إلا باتساقها، وانتظامها في نسق لغوي منظم ومتماسك؛ يقول جان برتليمي:" إنه حين تكون مادة الموسيقي هي النغمات، تكون مادة الشعر هي الألفاظ، وبتعبير أدق: يعمل الموسيقي بنغمات تقدم إليه في حالة طليقة، يستطيع تركيبها فيما بينها دون تحديد، في حين أن الشاعر يعمل بنغمات موضوعة في إطار الألفاظ، ومحدودة بهذه الألفاظ"().

فاللذة الجمالية التي نحصل عليها تعتمد على مرجعية لفظية تستند على أساس" لفظي -صوتي" بتنظيم نسقي، واتزان لغوي في ترصيف الكلمات، وإحكام نسجها، وتسلسلها الإبداعي؛ يقول جان برتليمي:" إن أبيات الشعر الجميلة تحمل نوعاً من رحيق يكاد يكون مغناطيسياً، وإنها تمارس إزاءنا جاذبية تشبه جاذبية المغناطيس -لدرجة أن " يريمون" أطلق تعبير" التيار الشاعري" على نمط" التيار الكهربائي"؛ بوصفه قوة، أو طاقة مغناطيسية تبعث الحياة والنبض والغناء في الكلمات"().
والفن الشعري - بوصفه فناً جمالياً- يعتمد سحر الكلمة، وإيقاعها العاطفي الجذاب، لهذا؛ فإن الشاعر بإدراكه الحدسي الشعوري الجمالي يبدو قادراً على التلاعب بالكلمات وفق إيقاع عاطفي مموسق، يستثير المتعة والجاذبية الفنية لدى القارئ؛ وهذا دليل أن:" الشاعر يستخدم الكلمات ، لا ليعبر عن معناها فحسب، بل عما وراء معناها ، أي على ما يقابلها ترنيماً، ونغماً في العالم الذي تنبع منه، وهي -بذلك - تمكنه من السيطرة على هذا العالم"(). وبهذا المقترب الرؤيوي يقول جون بيرس:" لا الشيء المكتوب هو الذي يجذبنا، بل الشيء نفسه؛ وقد أخذ لحظة حيوية، وفي مجموعة كاملاً"(). وهذا القول دفع الناقد الجمالي ( جون) إلى القول عن أهمية" القدرة الروحانية للكلمة في خلق الشيء"(). فالشاعر يتحثث الكلمات، ويبث فيها طاقة إيجابية جديدة، لكي يكتشف فيها شرارته الروحية التي اتقدت في داخله إيقاعاً يخرج من بين الكلمات، برنين خارج ينساب من قرارة روحه، لا من رنين الكلمات وأنغامها فحسب؛ " فبدلاً من أن تكون الكلمات تعبيراً عادياً يشير إلى الأشياء، تجده يعدها بمثابة فخ يمسك بالحقيقة الهاربة، وباختصار: تصبح كلها عنده مرآة العالم... إنها المعادل للعالم"(). وهذا يعني أن الكلمات تكتسب حللاً جديدة، وتلبس لبوساً جمالياً خالصاً باتخاذها هذا الشكل أو ذاك.

يقول كلوديل مثلاً:" إن موسيقى اللغة شيء دقيق حتماً، وهي معقدة لدرجة كبيرة لا يمكن معها الاكتفاء بالطريقة البدائية البربرية التي تنحصر في عدد الكلمات أو المقاطع لخلق التناسق الهرموني في نفس القارئ عبر انتظامه"().

فالمبدع الحقيقي هو الذي ينظم حواسنا، وإدراكاتنا، ومشاعرنا في قالب كلامي موزون، أو محكم، من الإيقاعات الروحية والصوتية والجمالية المنبعثة من اتساق النص، وفواعله الرؤيوية كافة؛ يقول " بودلير":" إن القلب يحوي الاندفاع العاطفي، والاخلاص، والجريمة. أما الخيال فهو وحده الذي يحوي الشعر. وحساسية القلب ليست على الإطلاق مواتية للعمل الشاعري، بل إن من الجائز أن يكون التطرف في حساسية القلب ضاراً في هذه الحالة. وحساسية الخيال ذات طبيعة أخرى، فهي تعرف كيف تنتقي، وتحكم، وتقارن، وتترك هذا، وتعثر على ذاك الشيء بسرعة وتلقائية. وبهذه الحساسية التي تسمى عادة الذوق تستنبط قوة تجنب الشر، وإيجاد الخير في مجال الشعر"().

ومن هنا، فإن المبدع إن لم ينظم حواسنا، ويستثير مشاعرنا لن يرقى بنصه الإبداعي حيزه الجمالي الإشعاعي المؤثر؛ فالشعراء المبدعون - شأنهم شأن الرسامين- " يبحثون عن الشعور الذي يجعلهم قادرين على امتلاك الفهم الروحي في نقائه الأصلي، فهم يخبروننا عن أشياء لا تستطيع اللغة بذاتها أن تعبر عنها"().

وهنا، يتساءل " برغسون" قائلاً:" لماذا نحن لسنا جميعاً فنانين؟" ويجيب نفسه قائلاً:" كان بإمكاننا أن نكون فنانين، ولو أن الحقائق التقت بمعانينا، وبوعينا بشكل مباشر. لكن الواقع غير ذلك، فبين الطبيعة وأنفسنا، أو بين أنفسنا ووعينا الذاتي، ينسدل الستار الذي هو كثيف وسميك أمام الناس العاديين، ولكنه رقيق وشفاف أمام الفنان والشاعر"().

فالمبدع أو الفنان هو القادر على استظهار ما هو باطني، أو ما هو خفي وعميق خلف الظاهر الشكلي، أو خلف الشكل الخارجي؛ والانتظام والاتساق الجمالي الذي يثيره المنتج الفني في شكله المتكامل؛ يقول بول سيزان:" إنني أستنشق بتولة العالم تهاجمني حدة ظلال ألوانها. أشعر كما لو أنني متوهج بكل ظلال المطلق. أصبح أنا وصورتي شيئاً واحداً"().

وبهذا المنظور أو الإحساس الشعوري، فإن المبدع الجمالي هو الذي يخفف بإبداعه من ثقله الوجودي. ويحلق في لحظة إبداعية سامقة فوق حدود الممكن أو المتوقع، ليخلق لذته، أو متعته الجمالية المطلقة؛ ذلك أن" الشاعر يعود بلمح البصر إلى رؤى الأزل، فيشعر بالثقل، فيتوهج به، ويصبح هو زمنه"().

ومن هذا المنطلق؛ ينماز المبدع عن غيره بمقدرته على تفعيل المنتج الإبداعي، من حيث التكثيف والإيحاء، يقول ( بيت موندريان):" كل من العلم والفن يكتشفان؛ ويجعلاننا ندرك حقيقة أن الزمن هو عملية تكثيف لما هو ذاتي في اتجاه ما هو موضوعي، في اتجاه جوهر الأشياء وجوهر أنفسنا"().

وما ينبغي الإشارة إليه أن التنظيم والتوازن في بنية العمل الفني الإبداعي هو ما يمنحه جماله وتوازنه الفني، والكثير من ملامح إبداعه، وحراكه الجمالي المموسق، وهذا دليل أن النشاط الذي يولده الإبداع فينا مستمر ومتدفق دوماً، لأنه ناتج عن روح متوثبة، حساً شعورياً ونشاطاً روحياً لا يمل ولا يكل، يقول كوليير:" يبدو أنه لا راحة هناك للشخصية المبدعة، فالنفس تقودنا باستمرار في نشاط دائم لا يتوقف"().

ومن هذا المنطلق، يبدو أن الاتساق والانتظام يتحقق جمالياً بمقدار حيازته على التناسق الشكلي في الخصائص والمؤثرات التي يمتاز بها الشكل الفني أو المنتوج الجمالي المثير.

فواعل الانتظام أو الاتساق الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد

إن أبرز ما تمتاز به قصائد (أولئك أصحابي ) هو الانتظام والاتساق الجمالي، فهذه القصائد ليست محاكة عبثية للأجواء الروائية، أو تمثل لا واعٍ لمؤثراتها ورؤاها الخارجية أو السطحية، وإنما هي فواعل رؤيوية كاشفة عن الكثير من الرؤى، والمداليل، والمؤثرات الوجودية، ولهذا، فإن كل قصيدة تتسق جمالياً مع فكرتها، أو تتسق جمالياً مع رؤيتها المطروحة، وهذا يجعلها تملك قوى فنية موحية فاعلة في شكلها ونبضها واتساقها الجمالي؛ وهنا؛ قد يتساءل قائل: ماذا تقصد بالاتساق الجمالي؟!! هل تعني أن الاتساق الجمالي هو من خصوبة الفكر الجمالي الذي انتجها، وشكَّل محاكاتها الروائية المؤثرة؟! وهل تقصد أن هذه القصائد هي اكتشاف لفضاءات الروايات ومحاورتها من جديد بفكر جمالي موحٍ؟!!، أم تقصد أن الفكر الجمالي الذي أنتجها هو الذي أضفى على أجواء الرواية هذا الحضور المكثف في الذاكرة الجمعية؟!! .

لا شك في أن الإجابة عن هذه التساؤلات لا تصلنا رغم أهميتها إلى المبتغى الرؤيوي الذي نقصده، من جراء هذا البحث الشاق في أبرز قيمة جمالية تحققها قصائد ( أولئك أصحابي)ألا وهي الانتظام والاتساق الجمالي، وهذه القيمة كما تشتغل على الخارج النصي تشتغل على الداخل النصي، وهي كما تشتغل على الشكل تشتغل على الفكر والمضمون الجمالي، ولهذا تشتغل هذه القيمة على محاور رؤيوية وجمالية كثيرة، سواء في الشكل النصي أم بالمضمون، أم بالفكر الجمالي الذي أنتجها بعد معايشتها شعوراً، وإحساساً، ووجوداً؛ ولذلك، يخطئ من يظن أن قصائد (أولئك أصحابي) هي مجرد تمثل فكري للروايات، ومعايشة سطحية لأجوائها وأحداثها، وأبطالها، ومحاورتهم بقصد المماحكة المعرفية، أو خصوبة المعين الثقافي الذي نهل منه حميد سعيد، وهذا يعني أن قيمة هذه القصائد تكمن في فواعلها النصية، واتساق رؤاها، ومضامينها مع مؤثرات الواقع، وفضاء الخيال؛ فالشاعر لا يؤسس رؤى قصائده على مغريات الرواية من أحداث، وشخصيات، ورؤى، وتجارب ومواقف، كما قد يتبادر إلى الذهن ، إنه يتلاعب بالأحداث، تبعاً لرؤاه، وأحاسيسه، وانفعالاته، وتأثره بالموقف الشعري الذي انبجس منه، ولعل قيمة هذه القصائد تنبع من تضافر عدة عوامل ، أبرزها: الرؤيا الخلاقة، والحس الجمالي في توليف الأحداث، والمواقف، وإثارة محركها الرؤيوي، وعامل الوعي الجمالي في تشكيلها، وعامل الانتظام، والاتساق الجمالي الذي يحكمها إبداعياً على المستوى الفني، ومن خلال مجموعة هذه العوامل، تتحدد شعرية هذه القصائد، وتتبلور مؤثراتها الجمالية، لتحقق أعلى مولدات الشعرية، ومثيراتها المتحركة، وهذا ما يؤثر إيجاباً على الموقف الجمالي، والرؤيا الوجودية التي تربط الأحداث بالشخصيات بعوالم الشاعر الوجودية، وحسه الجمالي المميز.

وبتقديرنا: إن شعرية قصائد (أولئك أصحابي) ترتكز على مثيرين بليغين هما، مثير تنظيمي اتساقي يتعلق بالرؤى، والأنساق النصية المتفاعلة، ومثير يتعلق بالموقف والحدث الشعري وفاعلية الشخصية الروائية في النص الشعري، بمتعلقاتها النفسية والشعورية المكثفة؛ وبالوعي التنظيمي بدور الشخصية في إبراز جوانب نفسية وشعورية عميقة تتكشف بعد كل مطالعة أو رؤية جديدة لهذه القصائد.

واللافت أن الوعي الجمالي، والحساسية الجمالية كانت وراء الكثير من مظاهر الاتساق الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي) من حيث تضافر رؤاها، ومؤثراتها النفسية والشعورية وتفاعل بواطن الشخصية مع عمق الحدث الشعري، وطبيعة الحدث الروائي، والحبكة الشعرية، بمعنى أنه ثمة علاقة تفاعلية بين فواعل الحدث الشعري، وبواطن الشخصية الروائية من خلال اندماج الحدث الشعري بالروائي، والمشهد الشعري بمثيرات الشخصية الروائية، ليبدو الحدث الشعري من فواعل خصوبة الرؤيا الشعرية في مجموع هذه القصائد ومتحولاتها الرؤيوية البليغة في رصد الأحداث وكشف محرقها الإبداعي المؤثر.
واللافت للقارئ أن جل مثيرات الرؤيا الشعرية ومتحققاتها الفنية في مضمار هذه القصائد تتأسس على مرجعية جمالية ورؤيوية خاصة، مردها تنامي الحدث ومرجعية الموقف الجمالي الفاعل في نقل المشهد الشعري إلى خضم الحراك النفسي الشعوري، في تحريك الشخصية، لتحكي معاناة الذات الشعرية، وإبراز متحققها الاغترابي المؤثر، وفق المحاور الرؤيوية والنصية التي يبرزها الانتظام والاتساق الجمالي، على النمط التالي:

الانتظام الجمالي على مستوى الأدوار، والشخصيات، وفواعل الأحداث الشعرية الروائية المتداخلة:

إن من يقرأ قصائد أولئك أصحابي يلحظ القيم الجمالية المؤثرة في تحريك المشاهد، وإغناء الأحداث الروائية والشعرية المتداخلة، وهذا يعني أن الانتظام الجمالي يعد قيمة جمالية محركة لشعرية هذه القصائد، ومحركة لمحاورها الرؤيوية الكاشفة عن بواطن نفسية وشعورية عميقة، وهذا يعني أن الانتظام الجمالي من إفرازات الوعي الجمالي، أو من مؤثرات الفكر الجمالي المنتج الذي يملكه حميد سعيد، في تشكيل القصيدة، وتحقيق منتوجها الإيحائي المؤثر، ودليلنا على ذلك أن كل قصيدة من هذه القصائد تتأسس على فاعلية الحدث، والدور المنوط بالشخصية، والرؤيا الشاعرية، والمحاور الرؤيوية التي تبثها على لسان الشخصيات الروائية، بتفاعل نصي رؤيوي عجيب، وذلك يدل على الوعي بقيمة الحدث والموقف الشعري، والاتزان الجمالي في تفعيل الشخصية، وتفعيل الرؤيا الشعرية، لتحقق منتوجها الجمالي الخلاق أو الواعي، وللتدليل على قيمة الانتظام الجمالي، وأهميته في تحقيق شعرية القصيدة نأخذ قصيدة(لم تشرق الشمس ثانية) لحميد سعيد، وفيها يتمثل أحداث رواية( وتشرق الشمس ثانية) لآنست همنغواي، ولعل تأثر الشاعر بالأجواء الاسبانية قد يكون السبب المباشر في إبراز جوانب نفسية مهمة في شخصية الشاعر و تجاربه السابقة ورحلاته الكثيرة. وهذا ما سبقنا إليه خلف مخلف الحديثي، إذ يقول:" قد يكون تعاطف الشاعر حميد سعيد مع أجواء هذه الرواية بتأثير تجربته الإسبانية، وقد زار وعرف بعض الأماكن التي جرت فيها أحداث الرواية، بل لقد تعرف على مصارع الثيران، وزاره في مزرعته القريبة من طليطلة إن الشخص في النص الشعري الباحث عن ذاته من خلال الشخص في الرواية متمثلاً سلوكه وتصرفاته وردود فعله، وكلاهما يحاولان تأمل واكتشاف الذات الإنسانية ، لكن جاءت تصرفات الشخصيات الروائية في القصيدة مسبوكة ومتماسكة "(19).

وقد تأثر حميد سعيد في هذه القصيدة برحلاته السابقة، ليحقق أعلى درجات الاستثارة والتأثير، مفعلاً من فضاءاتها الدلالية، وقاموسها الرؤيوي المفتوح، من خلال الانتظام الجمالي في تحقيق مردودها الإيحائي، وشعريتها الآسرة، كما في قوله:

"في النزل الريفيِّ تعارفنا
رسامٌ بوليفيٌ ومصارعُ ثيرانٍ معتزلٌ..
وأنا وامرأةٌ سمراءْ
تقولُ..
رأيتكَ من قبلُ بمقهى في الدار البيضاءْ
وتُشيرُ إلى طاولَةٍ في أقصى الصالةِ..
كان هنا يجلسُ همنغواي.. ليكتبَ في كلِّ مساءْ
صفحاتٍ..
تَتَشَكَّلُ فيها قاراتٌ.. يتخيَّلها
مدنٌ صاخبةٌ .. حاناتٌ وفنادقُ..
أنهارٌ.. غاباتٌ، وجبالٌ، وموانئُ..
بحارّونَ .. نساءْ
ذاتَ ضحىً.. يستقبلنا بدرو روميرو.. فتحدَّثْنا عن بدرو روميرو

فيقول..
مَنْ هو هذا لا أعرفُهُ
وتحدَّثنا عن همنغواي..
فقالَ..
هذا الأمريكيُّ المتَطَفِّلُ.."(20).

إن الانتظام الجمالي يتبدى في جمالية السرد، والتمهيد للأحداث من خلال رسم ملامح الحدث الشعري، وتكثيف فواعله في تجسيد المشهد، وتعزيز الموقف، والرؤيا الشعرية؛ وهذا يدل على قوى فاعلة منشطة للحدث، كما في النسق الشعري:( رأيتكَ من قبلُ بمقهى في الدار البيضاءْ

وتُشيرُ إلى طاولَةٍ في أقصى الصالةِ..كان هنا يجلسُ همنغواي.. ليكتبَ في كلِّ مساءْ صفحاتٍ.. تَتَشَكَّلُ فيها قاراتٌ.. يتخيَّلها مدنٌ صاخبةٌ .. حاناتٌ وفنادقُ..)؛وهذا يعني أن الشاعر يمهد لهندسة الحدث، بحبكة شعرية يجسد حراكها بالمشهد المكثف، مما يعني أن قيمة الانتظام والاتساق الجمالي تتحدد بفواعل الرؤيا التي يرسم فيها الأجواء الروائية، بحراك شعوري مكثف؛ ولعل ولع الشاعر برسم ملامح زيارته لإسبانيا، وتأثره بها من وصف لحلبة الثيران، ومصارع الثيران القوي، جعل من فضاءات هذه القصيدة مفتوحة على كل الاحتمالات، والرؤى، والإحالات الاغترابية الجديدة، لينقل الحدث من الجو الروائي، أي من جو الصراع مع الثيران إلى جو الصراع والاقتتال على الأنثى التي يتنازع إعجابها عدة شخصيات (الرسام – المصارع- وشخصية متخيلة)،وهي شخصية تمثلها شخصية الشاعر خير تمثيل في تنويع الأحداث وتكثيف مردودها الإيجابي؛ إذ يقول:

"كُنتُ قريباً منهُ .. فيسألُني
هلْ صَدَّقت الأمريكيَّ المتَطَفِّلَ .. في ماقالَ؟
أ حقاً.. تعنيكَ مصارعةَ الثيران؟!
وتلكَ المُدمنةُ العجفاءْ
يتقاسمُها في الليلِ سكارى فقراءْ
فيجعلُ منها امرأةً ..
تتهادى بينَ رجالٍ ورجالٍ .. في خُيَلاءْ"(21).

هنا، يرسم باتساق جمالي فني عجيب الحدث الروائي، ويربطه بالحدث الشعري، حين يشير إلى جو الرواية والمرأة المغرية التي تتهادى بمفاتنها المغرية أمام الرجال، وهذا يعني أن فواعل الحدث، من فواعل الرؤيا الشعرية، وكأن الشاعر يمهد للحدث الروائي، بحراك الأحداث المتخيلة في تجسيد المشهد الروائي وتمثيله خير تمثيل، وذلك حين يصف المرأة المغرية التي كانت مصدر إغراء الرجال، ومطمعهم الجنسي، وهي كانت على علاقة جنسية مع الأصدقاء الثلاثة، وكانت مصدر صراعهم، وتكثيف الأحداث البانورامية المحتدمة التي تأكدت بفواعل المشهد الروائي، وعمق تمثله رؤيوياً، كما في قوله:

إنَّ امرأةً أُخرى ..
تظهرُ لي بين ذؤابةِ سيفٍ مسلولْ
وضَراعةِ ثورٍ مخذولْ
ترقصُ في غابات النارْ
فيجثو.. كبناءٍ ينهارْ
كنتُ أراها مُفردَةً في الجمعِ ..
تُناديني
وكما النجمةُ تصعدُ من خلف الأسوارِ ..
تُحَييّني
فإذا انفضَّ المُحتفلونْ
أَفَلَتْ ..
وأنا مُذْ غادرتُ الميدانْ
أَبحثُ عنها في كلِّ مكانْ
هلْ كنتُ أراها؟!
أمْ كانتْ روحاً تحميني..
من خطرٍ يتراءى لي .. أتفاداهُ
وتدفعُ عنّي الموتَ .. وكنتُ أراهُ
يقولُ الرسامُ البوليفيُّ ..
وكنتَ محاطاً بالرسامينَ وبالشعراءْ؟
فيصمتُ .. ثمَّ يقولُ ..
لا أَتذكَّرُ إنّي كنتُ محاطاً بالرسامين وبالشعراءْ
أنا رجلٌ .. أعرفُ كيف أربي الثيرانَ ..
وأعرفُ كيفَ أقاتلها
فيقول الرسام البوليفيُّ .. تربّي الثيرانَ وتَقتلُها
أقتُلها ..
أقتُلُها ..
إنْ لم أقتلها تقتلني .. أو يقتُلُها غيري
أوْ يقتلها القصّابُ .. لتأكلها"(22).

إن الاتساق الجمالي يتبدى في الوصف السردي، وفواعل الحوار الرؤيوي الكاشف على لسان الرسام البوليفي، لدليل على الوعي الجمالي، أو الفكر الجمالي المنتج الذي يمتلكه حميد سعيد، فهو من الشعراء البارزين الذين يرسمون الحبكة القصصية، أو الروائية، ببراعة، ودقة، ومحاورة إيحائية هادفة، فالشاعر المبدع ليس من حصيلته المماحكة، والتباهي بالصورة وغنجها الإيحائي، وبكارة ما تبثه من دلالات وإيحاءات جديدة، وإنما من الوعي الفني الجمالي الهادف الذي يرتقي بالحدث، والرؤيا الشعرية، فالقوة الدافقة في نقل الحوار ببساطته وعفويته ودلالته الواضحة جعل المشهد مألوفاً، والحوار فعالاً في إبراز الوعي الجمالي، وتأكيد التنسيق الجمالي.

وبتقديرنا: إن مؤشرات الاتساق الجمالي – في هذه القصيدة – تتبدى من خلال تفاعل الأحداث وتلاحمها في إبراز الحدث، وتعميق متخيلها الجمالي الإيحائي المكثف، سواء أكان ذلك في مضمار الحدث المألوف، والمشهد المكثف، أم في مضمار الصورة المتخيلة، والوصف الدقيق لملامح الشخصية الروائية، بحنكة فنية واتساق رؤيوي عجيب. كما في قوله:

" في الليلِ نرى امرأةً .. ولّتْ شمسُ أنوثتها..
في بار النزل الريفيِّ..
وحدَّثنا النادلُ عنها.. إذْ تأتي حين يحلُّ الصيفُ
وتسألُ عن رجلٍ كان هنا ..
تحكي عنه إذا سكرتْ
فإذا قيلَ لها لنْ يأتي .. امتعضتْ
تُخرجُ من طيّاتِ حقيبتها .. صوراً وقصاصات من صحف الأمسِ..
تُحَدِّثُ مَنْ فيها..
أتكونُ المرأةُ تبحثُ عما كنّا نبحثُ عنهُ .."(23).

لا شك في أن الشعرية المعاصرة في تحولاتها الجديدة قد حاولت التلاعب بالشخصيات، والأحداث كما هي عليه في الأجواء الروائية أو القصصية وزيادة، بمعنى أن الشخصية في القصيدة هي ناتج حراك الحدث الشعري والروائي، والمشهد الشعري والروائي، والموقف الشعري والروائي، والرؤيا الشعرية والروائية، وهكذا دوليك، ولهذا، تتحرك الشخصيات في الفضاءات الشعرية أكثر بكثير من تحركها في الفضاءات الروائية، إنها في السياقات الروائية محكومة بحدث، أو موقف، أو مشهد معين، في حين أنها في فضاءات القصيدة تسبح في خضم موج متلاطم من الرؤى والمواقف والأحداث المتخيلة. وهنا قام الشاعر برسم الأحداث بمتخيلات شعرية تقترب من الشخصية الروائية، وتزيد عليها من اللمسات الجديدة لتعزز من فاعلية حضورها في ثنايا القصيدة.

واللافت – إبداعياً - أن الشاعر -دائماً- يعتمد أسلوب الالتفات في حوار الشخصية، بالانتقال من الحديث عن الشخصية الروائية، إلى الحديث إليها، ثم الحديث عنها، وكأن ثمة مراوغة في ترسيم الأحداث، وإبراز متخيلها الرؤيوي الجمالي الشاعري المتقن، وهذا يعني أن جميع القيم الجمالية وفواعلها النصية هي التي تحرك الأحداث، وترتقي بسيرورة المشاهد والمواقف الشعرية، ولا نبالغ في قولنا: إن القدرة الجمالية هي التي تحرك معظم القيم الفنية الأخرى في القصيدة، وهي التي تكسب المشهد واقعيته، وتناغمه، وائتلافه، وحراكه الجمالي، ولذلك، يعد الإبداع الحقيقي سيرورة كاشفة من المحركات، والمشاعر، والمؤثرات الفنية، وهنا على ما يبدو أن الاتساق الجمالي يتجلى في الانتقال من الحدث المألوف إلى الحدث اللامألوف، ومن الموقف السطحي إلى الموقف البؤري الفاعل، كما في قوله:( تُخرجُ من طيّاتِ حقيبتها.. صوراً وقصاصات من صحف الأمسِ.. تُحَدِّثُ مَنْ فيها..)؛وهذا يعني أن الشاعر ينقل المشهد بواقعيته، وحسه الشعوري بالشخصية، وكأن الشخصية بؤرة تتابع الأحداث، وبؤرة اصطراعها الدرامي المكثف.

واللافت أن موحيات الحدث الجمالي تتمثل في الاتساق الجمالي العجيب بالتوليف بين الأحداث البسيطة المألوفة، والأحداث المتخيلة، وهذا ينم على خصوبة الوعي الجمالي في ترسيم الأحداث الشعرية، بفواعل الأحداث الروائية المتخيلة؛ وهذا ملمح مؤثر في شعرية هذه القصائد وإبراز محرقها الجمالي الفاعل أو المؤثر، كما في قوله:

أتكونُ المرأةُ تبحثُ عما كنّا نبحثُ عنهُ
تُغَنّي السيِّدةُ السمراءْ
كانَ هنا بدرو روميرو.. ومضى يبحثُ عمّن كانَ يُحبُّ
سيأتي يوماً ليرى " باريت"
تصحو المراةُ..
وتقولُ .. أنا باريت .. أنا باريتْ
سيأتي من أجلي وأنا مَن كان يُحبْ
تتوارى الشمسُ بعيداً .. وتضيء أعالي الأشجارْ
تعمُّ العتمةُ ..
في ما يهرع من كان هناك .. إلى الحاناتْ
نواصلُ سهرتنا ..
وتشاركنا في الليل الأحلامْ"(24).

لابد من الإشارة بداية إلى أن محركات الفضاءات الجمالية لهذه القصائد لا تتمثل فقط بمتخيلاتها الجمالية الذي تستحوذ عليها من هندستها، وأحداثها المنبنية بإتقان، وإنما من فواعل المشاهد الواقعية التي تجعل الشخصية حية في القصيدة، لتمارس نشاطها الوجودي في خضم أحداث روائية شعرية جديدة، وقوى إيحائية موحية تصل حد الدهشة في إبراز متخيلها الجمالي الآسر؛ ولهذا تتجاوز الشخصيات في القصيدة دورها، وحسها المباشر، لتشتغل على رؤى جديدة وأدوار واقعية في فضاء القصيدة، وكأن القصيدة هي ارتداد المتخيل إلى الواقعي، والمجرد إلى الحسي، وهذا يضمن قوتها المحرقية البليغة.
ولو دققنا في مسار القصيدة وبناها المتحركة لتبدى لنا أن القصيدة ليست هيكلة رؤيوية لأحداث روائية منقضية أو مستوردة من الحدث والفضاء الروائي، وإنما هي كون رؤيوي متجدد بفضاءات دلالية مفتوحة، تتجاوز نطاق الشخصية الروائية، لتدخل في نطاق الحدث الجمالي المؤثر، والمشهد البانورامي الدرامي المتحرك الذي تعزف عليه هذه القصائد بؤرها الجمالية، وإيقاعاتها المكثفة.

وما نخلص إليه: أن الوعي الجمالي -في هذه القصائد - سيرورة متحركة من الأحداث المحتدمة، التي ترتقي حيزاً جمالياً مكثفاً من الرؤى المتداخلة، والفواعل النصية المتباينة، سواء على مستوى الشخصية ضمن القصيدة، أم على مستوى المؤولات النصية التي تتفاعل مؤثراتها في المضمار النصي؛ مما يؤكد أنه ثمة ارتباط فني جمالي ملحوظ تشتغل عليه القوى المتحركة في هذه القصائد باتباع الحراك السردي، أو الوصف القصصي الشائق، أو الحوار الهادف، الذي يفعل الشخصية الروائية في أكثر من اتجاه، أو دلالة، أو رؤية.

وصفوة القول: إن الانتظام الجمالي على مستوى الأدوار، والشخصيات، وفواعل الأحداث الشعرية الروائية المتداخلة في هذه القصائد من مغريات القوى الموحية للأحداث الجديدة التي تكتسبها الشخصية الروائية في فضائها الشعري الجديد، من أدوار جديدة ومواقف متخيلة لم تكن في مسارها الروائي على هذا النحو من التكثيف والإيحاء وبلاغة الرؤيا. وهذا يعني أن الاتساق والانتظام الجمالي من فواعل الخصوبة الجمالية لحركة الأحداث الروائية والشعرية ضمن المضمار النصي.

2- الانتظام الجمالي على مستوى الأفكار الدالة وفواعل الشخصيات الرئيسة والفرعية.

لاشك في أن الوعي الجمالي، أو الفكر الجمالي من ركائز شعرية هذه القصائد، ومن مؤشراتها الفنية الواعية في الخلق الشعري، ذلك أن طبيعة هذه القصائد هي -أولاً و أخيراً -نتاج مخيلة إبداعية خصبة، وأحاسيس جمالية غاية في الحساسية، والخبرة، والوعي الجمالي، فقصيدة (الشيخ يعود إلى البحر)، لحميد سعيد، يتمثل الشاعر حميد سعيد شخصية الصياد العجوز "سانتياغو" بطل رواية" الشيخ والبحر" لآرنست همنغواي. وفيها أستطاع الشاعر أن يضيف إلى شخصية الصياد العجوز الشيء الكثير من ملامح شخصيته الصبورة، الجسورة على المقاومة حتى في أصعب الظروف الاغترابية الحالكة، أو المريرة؛ ولهذا"لم تكن قصيدة الشاعر حميد سعيد في تمثل شخصية سانتياغو، استنساخاً لشخصيته في الرواية، بل كانت نتاج رؤية ذاتية، حتى كأنها تجمع بين شخصية الشاعر وشخصية الصياد العجوز، في الصبر والإصرار على عدم التخاذل"(25).

واللافت أن الشاعر حميد سعيد قد دلل على جمالية الفكر الإبداعي في تشكيل قصائده، وإبراز متخيلها الجمالي، وحراكها الشعوري المكثف من خلال كثافة الرؤى والأدوار والأحداث الجديدة التي أكسبها للشخصيات، وهذا يعني أن قيمة استعلاء قصائد ( أولئك أصحابي) إبداعياً غناها بالمثيرات الرؤيوية، والتقنية، و الدلالية، فهي متشعبة الرؤى، والمداليل، والمؤثرات الوجودية، ولهذا، تتنوع فواعل الانتظام الجمالي في هذه القصائد، و تتعدد مصادر جمالية القصيدة، تبعاً لمتغيرها الرؤيوي، والتقني، والفني، الجديد الذي اكتسبته، وتعد قصيدة( الشيخ يعود للبحر) من أبرز القصائد تنظيماً واتساقاً جمالياً في رؤاها، ومقاطعها وتسلسل أفكارها، وتنظيمها الرؤيوي، ويخطئ من يظن أن قصائد( أولئك أصحابي) لا تملك مرجعية رؤيوية منظمة للأحداث، والمواقف، والرؤى الوجودية المتفاعلة، وتبعاً لهذا، يستحيل على قارئ هذه القصيدة أن يستجلي آفاقها الرؤيوية والجمالية المفتوحة بمعزل عن اتساقها وتنظيمها الجمالي، ولعل أبرز مظاهر الاتساق تسلسل الأفكار، والرؤى، والأحداث، والمواقف الدالة، وهذا التنظيم يبدأ من التمهيد، والحبكة، والرؤية القصصية الماثلة في تناغم الأفكار وتسلسلها، ليبرز عنصر التكثيف، والمفاجأة، والحنكة الجمالية، وبلاغة الرؤيا، كما في الاتساق الجمالي الذي يظهر منذ البداية:

"في عُزلته ..
يتذكَّر هافانا .. والبحرَ وأقراشَ البحرِ
ومانولين صبيَّ الماء .. وكوخاً كان هناكْ
يتذكّرُ سَيِّدَةَ الإقيانوس .. الطيِّبةَ الهادئةَ ..
الفضِّيةَ ..
يومَ اقتربتْ منهُ ..
وينسى ما كانَ لها
هي أختي .. كانَ يُردِّدُ في عزلتهِ
كيفَ أظلُّ بعيداً عنها ..وهي هناكْ؟
مُذْ فارقتُ منازلها ..
كنتٌ وحيداً .. ما شاركني البحرُ فراشي
وتخلّى عّنّي .."(26).

هنا، تتوزع القصيدة شخصيات رئيسة، كالصياد(سانتياغو)،وشخصيات فرعية تساعد الشخصية الرئيسة على أداء دورها، بفواعل الحدث الروائي، والحدث الشعري، كشخصية صبي الماء(مانولين)،و(سيدة الإقيانوس)، و( أقراش البحر)، و(هافانا)، ولعل أبرز ما يحرك الحدث هذا الاتساق الجمالي في رسم الحدث، بفواعل الرؤيا الشعرية، والتمهيد للحدث الروائي الجديد، وكأن المشهد الشعري الذي يرسمه الشاعر، يحرك الأحاسيس المكثفة، ويرسم ملامح شخصية البطل الروائي بحياكة جمالية ترتد بفواعل الشخصية رؤيوياً، وما يبثه على لسانها من رؤى ودلالات جديدة، ما كانت لتتحقق لولا فواعل الحدث، والمشهد الشعري البليغ، التي يجسدها على لسان شخصيته(سانتياغو)؛ ولعل هذا الحراك الشعوري المكثف الذي يرسمه على ملامح شخصيته الروائية يكثف الحدث، ويرتقي بفاعلية الرؤيا التي يرومها، وهي إثبات العزيمة، والإصرار على تخطي العقبات، والمطبات، والخيبات المريرة رغم الصعوبات الكثيرة التي رافقت الشخصية للنيل بهذا الصيد الثمين، فالشاعر أراد أن يجسد ملامح القوة الرؤيوية الدافقة والعزيمة والتحدي على لسان شخصيته، لتحقق قوتها الدافقة في التعبير عن مشاعره، وإصراره على الاستمرار، والبقاء للنهاية للظفر بصيده الثمين.

واللافت أن بلاغة الرؤيا وعمقها تتأسس على الاتساق الجمالي في تنظيم الأفكار، والرؤى، بما يحيط بالشخصية الروائية، من تفاصيل جزئية، لتشي بكل ما يحيط بها من متغيرات ورؤى مكثفة، تجعل القارئ لها يدرك تنظيمها الدلالي، وأفقها الرؤيوي المفتوح، لتلتحم شخصية الشاعر بشخصية الصياد، وتتأكد حيوية المشهد، وحراك الأحداث، وتنوعها من رغبة (سانتياغو) إلى العودة إلى البحار، وعوالم الصيادين المغامرة، إلى الحديث على لسان شخصيته، ليعكس من خلالها مغامرته الوجودية، وحلمه الدائم بالعودة إلى الأجواء البغدادية كما هو حلم شخصيته الروائية بالعودة إلى البحار، وهذا ما يجعل الفضاءات الرؤيوية مفتوحة على كل الاحتمالات، فتتداخل شخصية الرواية بشخصية القصيدة،وأحداث الرواية بأحداث الشخصية، بتلاحم فني لا انفصام له، إذ يقول:

" كُلُّ سنيني ..
تقفُ الآن على الساحلِ .. تسألُ عنّي
ودلافينٌ طيٍّبةٌ .. كانت تتبعني حيثُ أكونُ ..
تُشاركُني أسئلتي ..
تبحثُ عنّي ..
الصيادون رفاقي .. سألوا صاحبة الحانةِ عنّي
أَتفادى ماكنتُ أرى ..
تُقبِلُ سيِّدةُ الإقيانوس.. الطيِّبةُ الهادئة..
الفضِّيةُ..
تدخُلُ في حُلُمي .. فأفارقُها في الصحوِ
لتتركَ لي عندَ ضفافِ النومِ .. هداياها
ها هي ..
أجمَلُ من كلِّ أميراتِ البحرِ
لها .. ما ليسَ لكلِّ أميرات البحرِ من السحرِ
تناديني ..
والأقراشُ تُحييّني ..
وأَراني أصطحبُ البحرَ إلى الحانةِ ..
في ليلٍ يفتحُ فيه القمرُ الطفلُ .. جميعَ الأبوابْ
لندخُلَ مملكةَ الصيدِ .. وفردوسَ الصيّادينْ
أنا والبحرُ ومانولينْ
تُغافلُني الريحُ .. وتذهبُ بي حيثُ تشاءْ
تُخرِجُني من إيلاف الماءْ
وتُنزلني في مدنٍ لا تعرفني ..
وتُغافِلني ثانيةً..
تُسمِعُني في شدو طيورٍ خائفةٍ..
أُغنيةً سوداء"(27).

إننا، نلحظ فاعلية الانتظام الجمالي في ترسيم الأحداث، على لسان الشخصية الروائية، ليتحدث الشاعر على لسان شخصيته، كاشفاً الكثير من رؤاها، ومشاعرها، وعوالمها المفتوحة، وهذا يعني أن قوة الحدث الشعري، تتحقق من قوة المثير الرؤيوي المتخيل الذي تمثله سيرورة الأحداث المتتابعة، كما في قوله: أنا والبحرُ ومانولينْ /تُغافلُني الريحُ ..وتذهبُ بي حيثُ تشاءْ/تُخرِجُني من إيلاف الماءْ وتُنزلني في مدنٍ لا تعرفني../وتُغافِلني ثانيةً.. تُسمِعُني في شدو طيورٍ خائفةٍ .. أُغنيةً سوداء)؛ وهذا يعني أن فواعل الحدث الشعري تتأسس على الحبكة القصصية الفاعلة التي تتضح معالمها الكاشفة، من خلال تتابع الأحداث، وتتالي

مؤثراتها الكاشفة، وهذا ما يحقق مبتغاها الرؤيوي، ومنحاها الجمالي العام.

وبتقديرنا: إن كواشف الفن الشعري تتضح من فواعل الاتساق والتوازن والتنظيم الجمالي التي تولده الأحداث المكثفة في الشخصية، كما في قوله:

في عُزلَتهِ .. يسمعُ صوتاً يعرفهُ ..
سانتياغو
سانتياغو
سانتياغو
ويرى البحرَ قريباً منهُ .. وهذا زورقُهُ
تحرسُهُ سَيِّدةُ الإقيانوسْ
ويخرجُ من صمتِ الليلِ إلى فتنتهِ ..
إذْ يسبحُ ضوءُ النجمةِ..
في تيّاراتٍ صاخبةٍ غير بعيدٍ عنهُ
يا أنتَ ..
متى كُنتَ تهابُ نبوءات الأبراج؟
متى كنتَ تعود عن الصيدِ .. إذا خذلتكَ الأمواج؟
كنتَ ترى في إغفاءاتك..
مُذْ غادرتَ الكوخَ الكانَ هناكْ
سبعَ غزالاتٍ يملأنَ فضاء النومِ ..
وسبعَ يماماتٍ .. يوقظنَ الجارات..
أعددنَ فطوراً من صيد الفجر الطازج ..
للجار العائد بعدَ غيابْ
إذْ يندفعُ التيّارُ الغامض .. تصحو الريحُ ..
تناديهْ
يستقبلهُ مانولينْ
ويبدأ طلعته الأولى بعد سنينْ
يبتعدان عن الساحلِ ..
ليس لأن الصيدَ إذا ما ابتعدا عنه وفيرْ
فهناكَ البحرُ رحيمٌ وكريمْ
إذْ كانَ يُناديه إذا صار بعيداً .. في الليل العاصفِ
سانتياغو
سانتياغو
سانتياغو
يعقدُ صُلحاً مع تيارات الأعماق .. يكون أخاً للحيتانْ
للسمكِ الطائر والروبيانْ"(28).

لا شك في أن الحدث الشعري الفاعل هو من محفزات المشهد المكثف، الذي يضج بالأحداث، والمتخيلات الجمالية، مما يعني أن فواعل الكشف الإيحائي، تبدأ من الشخصية الروائية والإحالات الجديدة المكتسبة، وكأن الحدث الشعري البليغ هو عصارة التفاعل الخصب الذي تثيره الشخصية بالمتلقي، وهذا ما يجعل الاتساق الجمالي على مستوى الأفكار، من محفزات قصائده الكاشفة، التي تنتقل من الحدث المباشر، إلى الحدث الإيحائي اللامباشر؛ ولعل المشهد المكثف من نوازع القوى الإيحائية المحرضة للشعرية، لاسيما في رصد ما يعتمر بالشخصية الروائية من مشاعر، ورغبات مكبوتة تخرج من الأعماق:(سانتياغو.. سانتياغو.. سانتياغو.. يعقد صلحاً مع تيارات الأعماق .. يكون أخاً للحيتانْ .. للسمك الطائر والروبيان).
وهكذا ينهي الشاعر قصيدته في إبراز عمق المتخيل الشعري، وتحميل الشخصية متنفسها الإيحائي، وهذا ينطوي على بلاغة رؤيوية في رسم الأحداث بتفاصيلها وحراكها الرؤيوي المكثف،كما في قوله:

"في دفء الليل ينامُ .. وتحملُهُ الأحلامُ ..
إلى .. ما سيكونْ
وليسَ إلى ما كان"(29).

لاشك في أن الحدث الشعري من مؤثرات الرؤيا، وفواعلها المؤثرة؛ وهنا، أثار الشاعر في هذه القصيدة كل مغريات المشهد، ولذلك، بدت الشخصية الروائية متحركة، بتضافر جميع الشخصيات الرئيسة والثانوية، وهذا ما زاد من وقع إثارة القصيدة، بكواشف نصية متحركة غاية في المكاشفة، والدهشة، والروعة.

وصفوة القول: إن قصائد أولئك أصحابي تغزل متحركها الجمالي على الانتظام، والاتساق الجمالي في ترسيم الأحداث، والمشاهد، والرؤى الكاشفة، وهذا ما يجعل إحساس الشاعر بالشخصية الروائية، نابع من متغيرها الجمالي الذي يثيره الحدث، أو المشهد الشعري الكاشف، وتأسيساً على هذا، تتعدد المؤشرات الجمالية -في هذه القصائد- تبعاً لخصوبة الرؤى، وإفرازاتها الاغترابية، وهذا ما يحقق لهذه القصائد التنامي، والتكامل الفاعل في الرؤى والأحداث الكاشفة.

وهكذا، تتأسس مغريات هذه القصائد على الاتساق والانتظام الجمالي التي تبدأ من انسجام وتفاعل الأحداث البسيطة، إلى انسجام الرؤى والمشاهد الكلية المفتوحة. وهذا ما يجعلها بغاية المتعة، واللذة الجمالية، وهذا ما يحسب لها على المستوى الإبداعي.

وصفوة القول: إن الانتظام الجمالي على مستوى الأفكار الدالة، وفواعل الشخصيات الرئيسة والفرعية من مغرياتها النصية الفاعلة التي تبدأ من الأفكار الجزئية، وصولاً إلى المغزى النصي، والفكر الجمالي في تحريك الشخصية الروائية وإكسابها الرؤية المبتكرة والمعنى الإيحائي العميق.

3-الانتظام والاتساق الجمالي على مستوى الرؤيا والمشهد النصي العام:

لا شك في أن الانتظام الجمالي على مستوى الرؤيا، والمشهد النصي العام من مغريات قصائد ( أولئك أصحابي)،لاسيما إذا أدركنا أن فواعل الرؤيا الجمالية تتأسس على وعي جمالي، وحس شاعري في التشكيل النصي، فهذه القصائد تشتغل على نسقين متوازيين من الهندسة والتنظيم ، يتجلى النسق الأول في الاتساق الجمالي على مستوى الجزء، متمثلاً في هندسة الجمل، والمقاطع، والرؤى، والمشاهد الجزئية، فيما يتجلى النسق الثاني في الاتساق الجمالي على مستوى المشاهد الكبرى والنسق الكلي العام، ومن يتتبع هذه القصائد في سيرورتها النسقية المتوازية سرعان ما يدرك حنكة الشاعر في تلوين الأنساق الشعرية، بما يحقق عنصر استثارتها جمالياً، وفق ما يسمى بعنصر (التوازن والاتساق الجمالي)،انطلاقاً من الجزء، وصولاً إلى الكل . ولعل قدرة الشاعر على التلاعب بالمشاهد الشعرية، وفق منطق تفعيل الشخصية بالحدث المفاجئ، والإضافة اللامتوقعة للحدث والمشهد الشعري، جعل من المتغير المشهدي نقطة تحول الحدث، ونقطة تمركز الأحداث المتقاطعة بين الأحداث الروائية الحقيقية، والأحداث الجديدة؛ ولهذا، تتحرك المشاهد الشعرية على أكثر من محور نسقي متوازي، يؤكد تفعيل الأحداث، وتحميلها من الرؤى ما لا تحتمل.

وبتقديرنا: إن فواعل الانتظام الجمالي على مستوى الرؤيا والمشهد النصي العام من مغريات هذه القصائد، وإبراز متحققها الجمالي، لا سيما قصيدة:( جحيم آنا كرنينا وفردوسها) لحميد سعيد، وفيها يتمثل شخصية "أنّا كارنينا" بطلة رواية" أنا كارنينا" لتولستوي، وهذه القصيدة تعد من روائع قصائده تفاعلاً واتساقاً جمالياً محرضاً للشعرية، وأبرز فواعلها النصية الكاشفة تناغمها الجمالي وإثارة محركها السردي الكاشف عن رؤى عميقة، تكشف وعي الشاعر الجمالي في التفاعل مع الشخصية الروائية بحنكة مشهدية عالية، وقوة تصويرية بليغة، كما في قوله:

"أَنّا..
يقولُ لها .. وتقتربُ التي كانت تُرينا من مفاتنها الثريَّةِ ..
ما يُذكِّرُنا .. بأَنّأ
كانتْ المقهى القريبةُ من إقامتنا .. ببطرسبرغْ
تتركُ مقعدين ..
لها.. ولامرأةٍ ستأتي ذاتَ يومٍ
مَنْ سيجرؤُ أنْ يُذكِّرها بماضيها ..
و يسأَلُها..
لماذا أَسْلَمتكِ ظنونُكِ السودُ المُريبةُ .. حيثُ كُنْتِ ..
إلى العواصفِ..
رافقتكِ إلى النقيضين .. السعادةِ والشقاءْ
كانَ المساءْ
مُخاتلاً..
والقادماتُ من الضواحي أو من المدنِ البعيدةِ..
بانتظار الليلِ..
يَغْمُزْنَ التي باعت صفاءَ الروحِ بالوهم الجموحِ"(30).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الانتظام والاتساق الجمالي على مستوى الرؤيا والمشهد النصي العام من فواعل حركة السرد التي تحرك القصيدة على أكثر من محرق نصي، فالشاعر ابتدأ الانتظام الجمالي على مستوى الحبكة النصية، وترسيم الأحداث الشعرية، لتحقق متغيرها الجمالي، مما يعني أن قوة الدلالة وبلاغتها ليس في استنطاق الشخصية الروائية لتشي بأحاسيس الشاعر ورؤاه الاغترابية، وإنما لتحرك الحساسية الشعرية في تلقي الشخصية كما هي بواقع رؤيوي جديد غير متوقع. وهنا، يرصد الشاعر -بمناورة سردية بليغة- الحدث الشعري، والجدل الدرامي بين واقع الشاعر، وواقع شخصيته الروائية، وكأن ثمة ولعاً في إبراز الوجاعة الشعورية في واقع شخصيته(أنا كارنينا) -التي كانت مطمع الرجال ومكمن شهوتهم وتوقهم الدائم- وواقع العراق التي كانت مهوى الجمال، ومطمع القلوب العاشقة التي تأوي إلى روابيها، وواحاتها الغناء، ونخيلها الشامخ العظيم، برابط رؤيوي جامع؛ يؤكد تفاعل الشاعر بالشخصية الروائية، لدرجة لا انفصام لها؛ وهذا يدلل على أن الشاعر-في اتساق وتنظيم فني جمالي مثير- ينقل الحدث بواقعيته الرؤيوية وحسه الجمالي المفعم بين الواقعين، والشخصيتين معاً: (واقعه المضمر)، وواقع شخصيته الممتد بطيفه الرؤيوي الواسع، وانفتاحه الزمكاني الممتد، وكأن ثمة إيقاعاً ينظم الأحداث بمتغيرها الرؤيوي الجديد الذي يجمع الشخصية الروائية بواقعه، وعالمه بعالمها المفتوح الذي يتحرك على رؤى درامية تعكس حالة الصراع والوجاعة والاحتدام الدرامي التي تدور في خلد شخصيته الروائية بين واقعها الماضوي المشرق بالنضارة، والخصوبة، والجمال، وواقعها الحالي الأليم، وهي تعاني مرارة الإهمال والاستهجان ومصدر تغامز النسوة الأخريات عليها، وهذا ما جعل الأحداث تتوالى بتنظيم سردي جمالي شائق، كما في قوله:

البومُ يزقو في حقولكِ .. بعدَ أَن رحلَتْ
و أنتِ..
تحاولينَ الجمعَ بين سريرِ عشقكِ والقنوطْ
هذا السقوطْ
أَملى على اللغّةِ اختياراتٍ تفارقُ ما تودُّ الروحُ
ما أَبقى على الوجه الصبوحْ..
من فتنةِ بيضاء .. كُنّا نَستَدِلُّ بها..
إليكِ..
وما تسلَّلَ من نفاقْ
إلى فراشكِ.. أَغْلَقَ الأعماقَ..
كان فضاؤها .. وطناً جميلاً
إنَّ أقداراً يَمُدُّ لها الغموضُ.. يَداً
تُفَرِّقُ بينَ ما خَبَّأتِ من قلَقٍ ..
وما عانيتِ من حُرَقٍ..
تُقَرِّبُ بينَ جمركِ والجليدْ"(31).

لاشك في أن الانتظام والاتساق الجمالي ليس في تركيب الجملة وهندستها فحسب، وإنما في هندسة الفكرة، وربطها بإيقاع تضافري منسجم، غاية في الدهشة، والخصوبة الجمالية، ولا نبالغ في قولنا : لقد استطاع الشاعر أن يحقق ما أسميناه ب( الانتظام والاتساق الجمالي البليغ) بين الأحداث الروائية/ والشعرية، والأحداث الواقعية/ والمتخيلة، ويجسد في مناورة فنية شاعرية بين ما تنطوي عليه الشخصية الروائية( أنَّا كرنينا) من بواطن ورؤى مبثوثة جلية، ورؤى مضمرة في قرارة الشخصية الروائية، على نحو يؤكد حراك الشخصية بين واقعين: واقع مشرق يمثل وجه الحياة وعنفوانها الجمالي الخصب، بكل ما فيه من مباهج، ومفاتن، ورغبات، وواقع كئيب يشي بالعزلة، والقيدية، والانغلاق، وهنا؛ يزداد الصراع الدرامي والاحتدام الشعوري بين الواقعين، وتتعدد الأحداث بفواعلها ورؤاها المكثفة الدالة على إحساس الشخصية الروائية من العمق، وما تحمله في داخلها من توتر واصطراع مرير:) إنَّ أقداراً يَمُدُّ لها الغموضُ.. يَداً/ تُفَرِّقُ بينَ ما خَبَّأتِ من قلَقٍ .. وما عانيتِ من حُرَقٍ .. تُقَرِّبُ بينَ جمركِ والجليدْ)، وهكذا، تتلون الأحداث، والرؤى، وتتعدد المؤثرات الاغترابية، كلما تعمق القارئ في تتبع مجريات الأحداث، وتفاصيلها بالحديث على لسان الشخصية، أو الحديث إليها، وكأن إيقاع الوجاعة يمتد من الذات الشعرية إلى الشخصية الروائية، بتمثل فني عجيب لما يدور في عمق شخصيته الروائية ( أنَّا كرنينا)، من مشاعر، ورؤى مكبوتة محتدمة، يتمثلها الشاعر، ويحس بها من الأعماق؛ وهذا ما تؤكده سيرورة الأنساق التالية:

" أَنّا..
أَكادُ أشكُّ إنّي قدْ عرفتكَ..
والتقينا في بلادٍ ما رآها غيرُنا..
نحنُ الذينً نُقيمُها أنىّ نَشاءْ
وكُنتِ مُشرِقَةً.. تحفُّ بعطركِ الأقمارُ
يهفو الساهرونَ إليكِ
فِتنَتُك المُحَنًّكَةُ .. التي تهبُ البهاء ضراوةً..
روحٌ مشاكسَةٌ..
تُبادٍلُ عتمةَ النزقِ المُراوِغِ بالحبورْ
أَنّا..
سمعتكِ تسأَلينْ
مَنْ أَنتِ ؟!
أَسأَلُ صاحبي في ليل بطرسبرغ..
في المقهى القريبةِ من إقامتنا
وقدْ تَبِعتْكِ .. عاصفةٌ من الرغباتِ..
مَنْ هي َ؟
لا أكادُ أرى سوى فِتَنٍ.. تُطِلُّ كما الغيوم السود..
مِنْ جَسَدٍ يغصُّ بما تبقى من وقارْ"(32).

لا شك في أن الشعرية اليوم شعرية أحداث، ورؤى، ومتغيرات وجودية، تشي بها القصائد الشعرية الحداثية في لعبتها الدرامية التي تشتغل على أكثر من محور جمالي، منها لعبة الحدثين (الواقعي / والمتخيل)، ولعبة المشهد البانورامي المحتدم، والمشهد الدرامي المكثف بأحداثه، ورؤاه، وتشعباته الكثيرة، وهذا يعني أن فواعل الشعرية، ومحفزاتها الجمالية كثيرة لا تنفصل الرؤيا الجمالية والاتساق الجمالي عن حراكها الجمالي، وخصوبة مردودها الفني -الرؤيوي البليغ، في إصابة جوهر الشعرية في عمق مردودها، ومكمن تفجرها الإيحائي الخصيب؛ والكثير ممن يدركون اللعبة الشعرية مؤخراً يعون أن الحداثة في ثوبها الجديد هي لعبة الإثارة، والمباغتة، والومضة الجمالية، سواء بالشكل الفني الجذاب، أم بالرؤيا، والمضمون الجمالي، أم بالفكر الجمالي الذي تشي به في تشكيلها النصي.

وهنا، على ما يبدو، ينزع الشاعر إلى إبراز الحوار الكاشف بينه وبين شخصيته الروائية ليكون الحدث حياً، أو واقعاً معاشاً لا فضاءً متخيلاً؛ وهذا ما يجعل الشخصية حاضرة بقوة في تحريك الأحداث، والرؤى؛ لتشي بأحاسيس الشاعر الاغترابية الوجودية العميقة، وأحاسيس شخصيته المتمردة على واقعها وعالمها الروتيني العقيم، إنها أعلنت الخصوبة والأنوثة سلوكاً ثورياً على الواقع المألوف المقيد ، وأعلنت تمردها الوجودي، وصيحتها المدوية في الخصوبة والجمال:(يهفو الساهرونَ إليكِ/ فِتنَتُك المُحَنًّكَةُ .. التي تهبُ البهاء ضراوةً../روحٌ مشاكسَةٌ..تُبادٍلُ عتمةَ النزقِ المُراوِغِ بالحبورْ)؛وهكذا، يؤسس الشاعر نقطة تمفصل الشعرية - في هذه القصيدة- على حراك الشخصية ،بفواعل رؤيوية منظمة للأحداث والمواقف الصاخبة التي بثها الشاعر على لسان شخصيته، والتعبير عنها بفنية عالية وروح اغترابية متمردة على زمنها وواقعها المقيد، كما في قوله:

"وبغُربتينْ ..
في الروح والجسد المنافقِ..
لايُحيطُ بمائها المُرِّ المُرائي..غيرُ ما يهَبُ الخرابْ
تتوالدُ الظلماتُ في اللغة المُريبةِ..
كلُّ مَنْ فُتِنوا بها.. ندموا
ومن حاموا على لآلاء فضتها.. تَلَبَّسهم سُعارٌ
واستباحوا ليلَ فتنتِها.. كما تغدو الذئابُ
وبغربةٍ أخرى.. تُفارقها حرائقها..
ويجفوها الصحابُ"(33).

إن فنية الاتساق الجمالي تتبدى في التمهيد للفكرة، وإبراز مقابلها، والتحرك في مسار الشخصية، وفق رؤى منظمة تشي بتفاعل الشاعر مع الشخصية:( حدثاً، وموقفاً، ورؤية، وسلوكاً، وإحساساً)، ولهذا، فإن تفاعل الشاعر مع الشخصية جاء ليعبر عن صدى ذاته الداخلية بقرار عميق يشي بالمرارة، والغربة الوجودية، فغربة شخصيته الروائية لم تكن غربة روح أو جسد، وإنما غربة إحساس مأزوم، وشعور قلق بالانكسار، والوجاعة، والألم،كما في قوله: ( لا يحيط بمائها المر المرائي.. غير ما يهب الخراب)؛ وكلما تعمق القارئ بفواعل الشخصية أكثر أدرك خصوبة الاتساق الجمالي في تفعيل الرؤى والأفكار على مستوى الجزء وصولاً إلى المغزى النصي العام، ولهذا، تتفاعل الأحداث والرؤى -وإن تفاوتت في درجة تفعيل الحدث- وتمثيل الشخصية من الداخل، وهذا ما يجعل القصيدة حصيلة رؤى مكثفة، وفواعل نصية رؤيوية نشطة، كما في قوله:

"المستحيلُ..
أن يسجُنَ الشهوات في ما تفتري..
جَسَدٌ جميلُ
أو يغلق الأبوابَ دون عواصفٍ .. وجعٌ نبيلُ
الحبُّ..
أن يقفَ الزمانُ..
وليس بعض الوقت .. يقصرُ أو يطولُ
الحبُّ..
أن تتجدّد الغاباتُ والفلواتُ والأنهارُ والأمطارُ..
والأفكارُ والأشعارُ.. والضحكُ الخجولُ
الحبُّ..
أنْ تدنو البحارُ من المُحبِّ .. إذا دنا منها..
تُرافقهُ إلى أحلامهِ.. وتنامُ حيثُ ينامُ.."(34).

ما من شك في أن الاتساق والانتظام الجمالي ليس من فواعل الرؤيا الشعرية التي تبثها هذه القصائد فحسب، وإنما من فواعل الأحداث الملصقة بالشخصية والتي تنفتح على أحداث ورؤى جديدة سرعان ما تتقبلها، ولا نبالغ إذا قلنا:

إن الحساسية الجمالية والاتساق الجمالي هي ثمرة ناضجة من ثمرات الفكر الجمالي المنتج الذي يحول الحدث، من حدث واقعي أو بسيط إلى حدث شعري جمالي بليغ، وكأن الحدث ما هو إلا انعكاس لسيرورة أحداث، ورؤى، وتجارب مفتوحة على أشدها، والشاعر هنا، ينتقل بالشخصية الروائية من فكرة إلى أخرى، ومن رؤية إلى أخرى، بفواعل رؤيوية ناضجة تشي بالعمق، والخصوبة، والانفتاح؛ وهذا يعني أن القيم الجمالية المنتجة هي من فواعل الرؤيا الخصبة، ومردودها المفتوح، وما انتقال الشاعر بالشخصية من موقف إلى آخر، إلا دلالة على مرجعية رؤيوية خصبة، وموقف جمالي مثير، وهذا ما جسده بالرؤى، والجدليات، والمفاهيم المتتابعة للحب، بفكر إيحائي مفتوح، ورؤى متشعبة غاية في الإدراك والوعي والفهم): الحب.. أن يقف الزمان .. بعض الوقت يقصر أو يطول .. الحب أن تتجدد الغابات والفلوات والأنهار والأمطار والأفكار. و الأشعار.. والضحك الخجول)؛ وهكذا، تتلون الرؤى التي يبثها على لسان شخصيته، ليحقق انتظامها الرؤيوي، واتساقها الجمالي المنتج في الفكر الذي أنتجها، وأبرز مؤثرها الجمالي البليغ.

وصفوة القول: إن شعرية الاتساق، والانتظام الجمالي -في قصائد (أولئك أصحابي)- ثمرة من ثمار الوعي الإبداعي المنتج الذي يمتلكه حميد سعيد في وعيه، وفكره الجمالي الذي مرده: أن الإبداع هو كتلة تفاعلات للأحداث، والرؤى الواقعية بالمتخيلة، والمواقف الدرامية بالنفسية والشعورية المحتدمة، وهذا دليل وعي وفهم جمالي مثير في المواقف، والرؤى المحركة للشعرية من الصميم. ولهذا، استحوذت هذه القصائد على أهم مصدر من مصادر جماليتها ألا وهو الاتساق والتنظيم الجمالي في حركتها النصية، انطلاقا من الجزء، وصولاً إلى البناء النصي الكلي، أو المغزى الجمالي العام، والفكر الجمالي المنتج للفواعل النصية الكاشفة عن مصدرها الجمالي، ومحور ابتكارها، ومحرقها الإبداعي الأصيل.

نتائج أخيرة:

إن الاتساق الجمالي – في قصائد (أولئك أصحابي)- لا يتحدد على صعيد المقاطع في بنائها الهندسي وشكلها العام فحسب، وإنما في هندسة الرؤى والمواقف الشعرية الجديدة التي تربط الحدث الشعري بالحدث الروائي، والمشهد الشعري بالمشهد الروائي، وهذا ما يجعل هذه القصائد كتلة تفاعلات فنية خصبة في تفاعلها، وتضافرها: (فكراً ،ورؤيا، وموقفاً، ونتيجة)، ولهذا لا يجد القارئ خلخلة في فكرها الجمالي المنتج، أو قلقلة في مضمون الأفكار، لدرجة التناقض، والتكرار الممجوج الذي لا طائل منه.

إن الاتساق الجمالي – في هذه القصائد- قد تنامى -بشكل ملحوظ - على مستوى الأحداث الجزئية، وامتد هذا التنامي على صعيد الأحداث البانورامية المحتدمة والمواقف الدرامية المكثفة؛ التي تربط الشخصية الروائية بواقع الشاعر، أو تحيد عنه لتدخل زمنها الروائي لا زمنها الشعري الواقعي أو الراهن، وهذا لا يقلل من مصدر تفاعل الشاعر مع الشخصية الروائية في بعض الأحيان، لأن الشاعر يعيش الحدث الروائي والشخصية الروائية أكثر ما يعيش زمنه الواقعي المأزوم بالحرقة والاغتراب، فيكون ارتحال الحدث الشعري إلى الروائي هو استجمام روحي من الضغط النفسي والشعوري الذي يعانيه الشاعر في واقعه الاغترابي المرير ، وسعيه لتجاوزه بالارتحال إلى أجواء الشخصية الروائية، وعوالمها الإبداعية المتخيلة.
إن بلاغة الاتساق الجمالي في هذه القصائد على المستوى الإبداعي لا شك في أنه يرتقي بشعرية هذه القصائد، فتتلون بالدلالات الجديدة، وتزدهي بالرؤى المبتكرة، كلما أوغل القارئ في تتبع حيثياتها الجزئية، وصولاً إلى فكرها ومضمونها الإيحائي المنتج، وهذا يعني أن فواعل الحدث الروائي من محركات شعرية هذه القصائد، ونقطة تفعيلها الجمالي، وخصوبة المغزى الجمالي الذي وصلت إليه على مستوى رؤاها، ومداليلها كافة. ولهذا، يعد الاتساق الجمالي من الأسس الجمالية المفجرة لشعرية هذه القصائد، وإثبات مردودها الإيحائي الخصيب.

وصفوة القول: إن هذه التقنية( الاتساق والانتظام الجمالي) من أبرز المحركات الجمالية التي تشتغل عليها هذه القصائد في الرقي بثمرتها الإبداعية،لاسيما إذا أدركنا أن القيمة الجمالية المثلى لاتحصلها هذه القصائد إلا بتوافر هذه التقنية في معظم قصائد هذه المجموعة التي ما زالت منفتحة في حراكها الرؤيوي والجمالي على الدوام، وهذا ما يجعل من هذه القصائد حقل مكاشفة وإغراء دائم لارتياد عوالمها بإحساس جديد وفكر جمالي منفتح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى