الجمعة ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم حلمي الزواتي

شهيد أنت في روما، قريب أنت من دورا

منذ طفولته، كان باجس أبوعطوان (أبوشنار) يغرس يديه في الجمر حتى عقد الأصابع في مقهى أبيه في دورا ليقدم للفلاحين القهوة، والشاي المطيب بالنعناع البلدي، ويستخدمها غرفة عمليات لتشكيل المجموعات الفدائية وإدارة شؤونها، إلى أن سطر بدمه أروع قصص البطولة والفداء. ومن يقدر أن يفرق بين الأصابع الفلسطينية وألسنه النار المستعرة؟ وكذلك الكاتب الفلسطيني الملتزم، فإن أصابعه مصدر لهب دائم، كما أنها مصدر خصب وعطاء متلازمين. من يستطيع أن يحرك النار برؤوس أصابعه، ومن يقدر أن يكتب بالرصاص سوى الكاتب الملتزم بقضايا الوطن والجماهير التي تواجه الحقد الأسود بصدورها العارية وحجارتها المسنونة. وهكذا، فقد تعود ماجد أبوشرار منذ نعومة أظفاره أن يلعب بالنار.... لم تكن نارا حقيقية في وجاق، كالتي اعتاد باجس ابوعطوان مداعبتها، وإنما كانت الطريق إلى اختزال الزمن والحلم الآتي... كانت الطريق إلى عصر الجراح التي تنبت السنابل وعلى شفتيها ابتسامة أمهات الشهداء، والفجر القادم من أحلك ساعات الليل.

كان باجس ابوعطوان، ابن دورا، يحب الفلاحين ويقدم لهم الشاي المطيَّب بالميرمية في مقهى أبيه بعد نهار طويل من الكد والتعب، ولكن ماجد ابوشرار كان يحبهم ويقدم لهم "الخبز المر"، وتجاربه النضالية في اختصار الطريق لتحريرعناقيد العنب وأشجار التين. ما أجمل أن يختزل الإنسان أحلامه، وما أجمل أن يصل مراده وإن نزف آخر قطرة من دمه.

شهيد أنت في روما، قريب أنت من دورا، فدورا اليوم على مرمى عنقود من العنب، والقدس على مرمى عنقودين، ويافا على مرمى ثلاثة. إن للعنب الخليلي، يا صديقي، نكهة تختلف عن كل أصناف العنب. وللزيتون الفلسطيني مذاق لا يشاركه به أي صنف آخر من أصناف الزيتون. هذه خصوصية القدر الفلسطيني، والشجر الفلسطيني، والدم الفلسطيني.

في "خربة الطبقة" القريبة من دورا كان باجس أبوعطوان يتعلم دروس السياسة والجغرافية من الفلاحين وهو يقدم لهم القهوة إلى أن خضب بدمائه جبال دورا وكرومها، وأما ماجد أبو شرار فقد تعلم السياسة والجغرافية من الثوار. وهل هناك فرق بين فلاحي الثورة وفلاحي "الطبقة"؟ نعم! فلاحو "الطبقة" يفلحون الأرض بأيديهم ويروونها بعرقهم، وفلاحو الثورة يفلحونها بالرصاص والقصائد ويروونها بدمائهم. لقد كان لماجد أبوشرار خصوصية تختلف عن كل التجارب السابقة. كان يفلح الورق بالقلم، وأما الحبر فكان دمه.

لم يكن ماجد أبوشرار الفلاح الأول الذي يسقط في حقول الثورة بين الألغام... لقد سبقه إلى مجد الشهادة غسان كنفاني، وكمال ناصر، وكمال عدوان، وغيرهم كثيرون ممن ملأوا سماء فلسطين شعرا ونثرا وأحلاما لا تنتهي...فشلال الثورة لن يتوقف، وشجر فلسطين لن تقتلعه رياح الغدر والهمجية البربرية.

كلما هوى مارد سينهض ألف مارد، والزهرة لا تعود إلى الحياة إلا بالموت والحرية شجرة لا تروى إلا بالدم. هذه هي النظرية التي آمن بها ماجد ابوشرار، وعلى نهجها سار إلى الشهادة واثق الخطى بمحض إرادته، وعلى دروبها اختزل حلمه والزمن الذي يأتي ولا يأتي، فلا زمن إلا زمن الحرية ولا حلم إلا فلسطين.

لا أدري لماذا يغرف أحدنا النار براحتيه بلذة متناهية! هل افتقدنا الدهشة تماما، ولم يعد في حياتنا ما يمكن وصفه بالحزن أو الفرح؟ نعم، هكذا كان ماجد أبو شرار، وما زال حيا فينا... كان يحب اللعب بالنار لأنه كان يحب التوحد عضويا مع الكلمات التي كان يقولها ويؤمن بها... كان يحب فلسطين، ويحب دورا، ويحب أبناء الشهداء. إن استشهاد ماجد جسر على نهر الثورة، وجسر عودة على نهر فلسطين حتى تعود عربية من المحيط إلى الخليج. ماجد صاحب "الخبز المر" لم يمت...لا يزال حيا فينا، أليس الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون؟ بلى وربي.

* كتبت هذه الكلمة قبل 35 عاما، يوم استشهاد الأديب والمفكر الفلسطيني ماجد أبوشرار في التاسع من أكتوبر عام 1981 في روما وبقيت حبيسة الأدراج إلى اليوم. ربما لم أنشرها في حينه لشعوري بعجزها عن التعبير عن مشاعر الحزن والغضب التي كانت تمور في داخلي. ثم رثيته بقصيدة مطولة بعنوان "ترفض السرج الجياد"، والتي ظهرت لاحقا في ديوان حمل اسم القصيدة نفسها (بيروت: السنابل، 1982)، بعدما تناقلتها عشرات الصحف والإذاعات العربية، وقرئت في أكثر من مؤتمر أومهرجان أدبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى