الثلاثاء ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦
بقلم سناء أبو شرار

أيقونات الإدراك

حين يجتمع الأدب والعلم ثم الثقافة فماذا تكون النتيجة؟ وهذا الكتاب هو نتاج لهذه العناصر الثلاث مع إضافة الأدب لهما حيث أن الكاتب قد أفرد عدة صفات للرواية والشعر والنقد.

"بالتسامح يقوى ويتطور الجهاز المناعي للأفراد والمجتمع" أحد عناوين الكتاب والتي بحد ذاتها تصلح لأن تكون موضوع كتاب كامل، ولكن الكاتب إختزل مفاهبم ومعاني عديدة ضمن 229 صفحة من كتابه.

ورغم كون الكاتب مهندس وله أبحاث علمية عديدة إلا أنه يبدو ضليعاً في عالم الأدب بتحليله وإنتقاده للشعر والرواية وإختيار مقولات عميقة حولهما :" ليس كل ما هو سلبي سيء...وليس كل ما هو إيجابي حسن!!" متحدثاً عن سرقة الأفكار والكتابات الأدبية :" كأن المبدعون قد ماتوا جميعاً في بلادنا، ولم يعد أمامنا سوى نقل أفكار الغير من الغرب." وهي مشكلة حقيقة ولهاجذورها في المجتمع الأدبي العربي بل والإقتصادي أيضاً.

وقد شمل الكتاب على مقالات متنوعة علمية طبية تعليمية حتى التطرق إلى "آفة الدكتوراة العربية...أرقام وأقوال لها معنى!!" وبكون شهادة الدكتوراة أصبحت كذلك سلعة للبيع وبأنها شهادة للوجاهة والترقي وليس للكفاءة العلمية وقد ذكر ذلك الدكتور مصطفى عبد الرازق بصراحة وبصدق بقوله:" حصلت على الدكتوراة لا لشيء سوى هدف واحد هو الوجاهة الإجتماعية."

ولم يكتفي الكاتب بمقالاته العلمية والأدبية بل تطرق إلى العنوسة، والحب فلا سبيل للتقدم والرقي إلا بقيمة الحب! مقولة صحيحة وأثبتتها جميع الدراسات العلمية والإجتماعية ولكن من منا يستطيع تطبيقها فعلياً بحياته وعلى مستوى عالٍ من الرقي!

أما عن الثرثرة الإلكترونية فهو سبب من أسباب إندثار أحد فنون الأدب والفكر ألا وهي فن التراسل؛ لقد أفرد الكاتب مقال كامل حول هذا الموضوع الهام جداً والذي أسهم بالأمية الفكرية العربية بشكل تراجيدي وخطير وياحبذا لو أن الكاتب يُفرد مقالات أخرى حول هذا الموضوع الهام والذي تتجاهله عن قصد وسائل الإعلام كي تزيد نسبة المشاركات والمشاهدات وبالتالي الأرقام الربحية على حساب ثقافة وتطور الفكر العربي .

"هل يستوي العقل المرتب والمنظم، بالعقول الخاوية أو المليئة بالكراكيب" مقولة رائعة وتجعلنا نختصر كلمات كثيرة حول الواقع الفكري العربي والذي نتيجة له تراجعت الدراسة والأبحاث وكذلك المستوى الفكري للمواطن العربي:" فما بالنا بأننا لا ننتج المعرفة من الأساس، فلنا أن نتصور وضع الإنسان العربي بين بني البشر على ظهر الأرض!!" تساؤل خطير لابد أن تطرحه كل مدرسة وجامعة ووزارة في الوطن العربي، لأننا أصبحنا شعوب مستهلكة تقضي أكثر أوقاتها في الأسواق والمقاهي ولا وجود لها في الصروح العلمية.

ثم وفي مقال آخر يتطرق الكاتب لموضوع الجنسية المصرية والتنازل عنها وهو موضوع لا يخص مصر بل جميع الدول العربية، ففئة كبيرة من العرب يتناولون عن جنسياتهم ليس كرهاً بها ولكن لأن هذه الجنسيات لم تعد تقدم لهم أي نوع من الضمان الإجتماعي أو الإقتصادي خصوصاً بعد التقدم في العمر فيصبح الإنتماء أكبر حيث يوجد ذلك الأمان الشخصي والعام.

وقد لفت إنتباهي مقاله النادر حول أن النرويج لديها أكبر مخزون للحبوب في العالم فهو خبر أو مقال مميز وهام ولم أقرأ عنه من قبل وبه إفادة علمية كبيرة لشعوب لا تغفل حتى أدق الأمور.
يقول الحكيم الصيني "كونفوشيوس":"مهما بلغت درجة إنشغالك، فلابد أن تجد وقتاً للقراءة، وإن لم تفعل...فقد سلمت نفسك للجهل بمحض إرادتك". مقال رائع يتحدث عن أن القراءة من تحديات الناقد؛ فالإنسان الذي لا يقرأ جاهل بقرار ذاتي. وربما يكون على الناقد أن يقرأ أكثر من الكاتب لأنه هو من يحمل العدسة المكبرة ولن يستطيع أن يعرف قيمة ما يقرأ إن لم يكن لديه مخزون ثقافي يساعده على النقد والتحليل.

لم يكتفي الكاتب بالموضوعات المتنوعة السابقة بل كتب عن موضوع بمنتهى الأهمية وهو: "أولادك إستثمارك" وأهميته تكمن بأن بعض الآباء فقدوا هذه النظرة لأبنائهم ومنهم من يعتبر أن حياته أهم من أولاده، وأن عمل المرأة أهم من تربية أولادها وأولويات كثيرة تم تغييرها وشطب البعض منها وإدراج أخرى بآخر القائمة.

أما عن التحرش والإنتماء الوطني، فهذا مقال يمثل فكر نقي صحيح ولابد من تعميمه وتدريسه في المدارس، لأنه يمس فعلاً الإنتماء الوطني والغيرة على القيم والأخلاق هي في صلب الإنتماء الوطني.

ولكن موضوع هام لفت إنتباهي وهو:"هل أفريقيا حاضرة في الشعر والأدب المصري!"
تساؤل هام جدا وعلة وزارة الثقافة المصرية الإجابة عليه، فمصر جزء من أفريقيا ولكن هناك فجوة ثقافية عميقة بين أفريقيا ومصر رغم رغبة أفريقيا بهذا التقرب، فأوروبا أفردت إهتمام كبير للثقافة الأفريقية ولها مساحة واسعة على الساحة الأفريقية ولها علاقات قوية مع الكتاب والأدباء الأفارقة فلماذا تقصر مصر بهذا المضمار رغم أهميته وهي من أهم الدول الأفريقية!

ولم يكتفي الكاتب بهذه المقالات الغنية الثرية إنسانياً وثقافياً وعلمياً والتي وضع بها جهد لا يستهان به من حيث البحث والأرقام والمعلومات بل أفادنا بمقالات علمية أخرى على درجة عالية من المستوى العلمي.

هناك كتب تقرأها وتشعر بأن نافذة ما أو نوافذ عديدة تم إغلاقها في التفكير والنفس والعقل، ولكن هذا الكتاب بكل رحابته الفكرية والنفسية وطاقته الإيجابية الثقافية تفتح نوافذ وأبواب، لأنها مقالات أدبية وعلمية وثقافية ومعلوماتية تضيف لنا ولا تأخذ منا، من أجمل الكتب التي قرأتها لأنها شاملة متنوعة عميقة وجميلة.


مشاركة منتدى

  • التنازل عن العقل
    التنازل هو التخلي عما تمتلكه دون مقابل، دون إكراه، دون ضغط مادي أو معنوي؛ إنه التخلي المطلق والكامل عما تملكه؛ وربما يكون التنازل المادي هو أبسط أنواع التنازل رغم أهميته ولكنه لا يهدم شيء ما في الذات البشرية لأن كل ما هو مادي يمكن تعويضه، نسيانه أو ببساطه تجاوزه.
    ولكن أخطر أنواع التنازل هو التنازل عن العقل، نحن نستعمل تعبيرات متعددة تتعلق بالتنازل الذاتي: مثل التنازل عن الكرامة أو عن الشعور أو عن الروابط النفسية مع الآخر، وجميع هذه التنازلات ليس سوى تعبيرات متعددة لعملية واحدة وهي التنازل الجزئي أو الكلي عن القدرات العقلية.
    فلا يمكن لامرأة تتعرض للإهانة اللفظية أو العنف الجسدي أن تبقى مع يمارس ذلك العنف بذريعة الحب وعدم القدرة على العيش بدون. كما لا يمكن لأي انسان أن يبقى تحت وطأة الظلم والقهر دون أن يحاول الدفاع عن نفسه أو رفض الظلم بذريعة الضعف وعدم القدرة فأبسط الأشياء يمكنها أن تؤلم من يمارس الظلم. ولا يمكن لمجتمع أن يبقى تحت سطوة قوانين لا تلبي احتياجاته الأساسية من العيش بكرامة.
    جميع هذه المظاهر وغيرها كذلك تخضع لمسمى التنازل عن العقل، ولسنا معتادين على تعبير إهدار العقل أو التنازل عنه أو تجميده لأننا نتهم وبأغلب الحالات والظروف المشاعر بأنها المسؤولة عن قراراتنا، لأننا نخشى من اتهام عقولنا، فالعقل يمس صميم الذات البشرية وأي طعن بالقدرة العقلية يعني الطعن بوجود الإنسان وبالدائرة الاجتماعية التي تخصه.
    ولكن لابد أن نعترف بأننا وفي حالات كثيرة نتنازل عن عقولنا، نتجاهلها، وقد نرفضها لأنها العضو الوحيد الذي يهمس لنا بأن هذا لا يجوز، فنندفع بالقرارات والسلوكيات الخاطئة بذريعة الحب أو الخوف أو الضعف أو، أو.... ولكننا لا نقول أبداً بأننا تجاهلنا ما قالته عقولنا، وهذا التجاهل هو صورة من صور التنازل.
    التنازل عن العقل يشكل معضلة حقيقة في الحياة الفردية والأسرية لأنه يؤدي لأوضاع مأساوية قد تستمر نتائجها لسنوات أو حتى طوال حياة الإنسان، فاتخاذ القرارات العاطفية المتسرعة الانتقامية أو الحماسية غالباً ما تضر بالفرد ومن حوله؛ فنحن لسنا كائنات فردية بل كائنات مرتبطة أشد الارتباط بمن حولها، وكل قرار نتخذه هو قرار يخص طرف آخر كذلك،
    لذلك وحين نتنازل عن العقل أو صوت العقل في حياتنا تتحول حياتنا إلى ساحة معارك، أو سجون الضعفاء والمحبطين الذين يعتبرون أن كل من حولهم هو سبب بمعاناتهم ولكن لا يرون أبداً دورهم الأساسي في المعاناة الخاصة بهم.
    لذلك تبدو المجتمعات العربية من أكثر المجتمعات التي أسست وغرست مفهوم التعاطف اللامحدود للضحية لدرجة التخلي حتى عن أي محاولة للمقاومة واسترجاع الذات.
    والأخطر من تنازل الفرد عن العقل، هو تنازل الأمه عن العقل عبر التنازل الجماعي عن مباديء وقيم هذا المجتمع، وتبني مفاهيم بعيدة عن ثقافة وروح هذا المجتمع، هذا التنازل الجماعي عن العقل يعني التنازل الجماعي عن الهوية، عن الثقافة، عما يشكل معالم الذات وتعريفها التاريخي والديني والنفسي والعقلي.
    وقد أنتج هذا التنازل الجماعي عن العقل أننا لا نمتلك وسائل تعليمية إبداعية خاصة بنا، لا نستطيع تشريع قوانين خارجة عن النمط العالمي وخصوصاً الغربي للقوانين، فنحن نترجم أو نقلد سواء في التعليم أو في تشريع القوانين، حتى في إجراءات التقاضي.
    أنتج هذا التنازل الجماعي فقدان نظام مالي وتجاري خاص بنا، فنتعرض في كل أزمة عالمية لمخاطر الأسواق العالمية لأننا فقدنا البوصلة الاقتصادية الخاصة بنا؛ فنحن نبدو كمجرد عجلات صغيرة في قطار رأس المال العالمي، لا نمتلك هوية ولا نظام خاص بنا ولا حماية وطنية ضد مخاطر أزمات السوق العالمية؛ نتأثر بتلك الأزمات رغم أننا ومنذ عشرات السنوات لم نستفيد من المنظومة المالية العالمية ولا نزال مجرد مستهلكين صغار في الأسواق الكبيرة، ولكن حين تحدث الأزمة نكون أول من يدفع ثمنها وأول من يعاني منها لفقدان القوانين الوطنية الخاصة بنا والتي تحمي كيانا المادي والاقتصادي.
    أنتج هذا التنازل الجماعي عن العقل أجيال من الطلاب والشباب بلا هوية أو هدف حقيقي، لأننا أفرغنا النظام التعليمي من الإبداع، أنظمتنا التعليمية ليست سوى مناهج مترجمة أو تلقينيه، بل نحن نخشى من إبداعنا، نخشى ألا نكون على صواب، نخشى من صحوة عقولنا في مجال التعليم، لم تُحدث أي دولة عربية ومنذ عشرات السنوات أي نظام تعليمي إبداعي يجعل من طلابنا وشبابنا مخترعين ومفكرين، لقد جعلنا منهم فقط طلاب يريدون الحصول على الشهادة كي يدخلوا لسوق العمل، دون حماس، دون إبداع، دون رؤية مستقبلية طموحة لرفع شأن الفرد والأمة؛ فالعملية التعليمية ليست سوى سلم للصعود الفردي للوظيفة. وأفضل ما اعتقدنا أننا يمكن عمله هو إنشاء المدارس الأجنبية وتعليم اللغات الأجنبية واستيراد الأنظمة التعليمية كما نستورد الملابس والأطعمة ولكننا لم ندرك أن العقل البشرى ليس مادة استهلاكية بل مركب إبداعي خلاق، ولكنه يتعثر وينغلق ثم يتخلف حين نرسم له جدران من ما يجب أن يحفظ ونلقنه اللغات ثم نقتل به الإبداع والطموح والانفتاح الفكري والنفسي.
    أحد أهم الوسائل التي اتبعها الاستعمار للسيطرة على الشعوب هو التنازل عن العقل وما يتبعه من التنازل عن الهوية والتاريخ واللغة فلا يتبقى سوى انسان مُقلد ضعيف الإرادة ومعدوم الثقة بالنفس وبمقدراته الخاصة، والاستعمار لم يعد يتخذ الجيوش وسيلة للسيطرة على الشعوب، فيكفي تفريع عقول هذه الشعوب من إدراكها لذاتها ولتاريخها ولقيمتها في الوجود ليتم السيطرة عليها بسهولة عجيبة؛ تماما كما يمكن السيطرة على أي فرد في المجتمع عبر إضعاف شخصيته وإقناعه بأنه لا يمتلك القدرات اللازمة لتطوير ذاته وأن أفضل ما يمكن أن يقوم به هو أن يستمع لنصائح من حوله لأنه لا يمتلك القدرة ليقرر ولا ليفكر ولا ليتصرف؛ ولا تختلف صورة الفرد عن صورة الشعوب.
    نحتاج إلى جهود جبارة لنستعيد ذواتنا سواء على صعيد الفرد أو الأمة ولكننا لن نستعيد ذواتنا ولا إبداعنا ولا تطورنا إلا عبر استعادة العقول التي تنازلنا عنها سواء في حياتنا الشخصية أو في مجتمعاتنا الكبيرة. الفرد الذي يحيا بعقل مفرغ من الهدف والطموح والتصميم لا يمكن إلا أن يكون مجرد مستهلك في سوق الحياة الكبير، والأمم التي تخلت عن عقلها وتاريخها وقيمها ليست سوى عجلة مهترئة في قطار البشرية، ضرورية لمسيرة القطار ولكنها لا تختار أي طريق يسير به القطار ويمكن الاستغناء عنها بأي لحظة. التنازل عن العقل هو أن تكون مخلوق يعيش بهذا الكون ولكنه لا يحيا الحياة التي تليق بمن يريد ترك بصمة في صفحات الحضارة.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى