الجمعة ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
بقلم فاروق مواسي

إجازة الشعر

الإجازة- لها أكثر من معنى، فلها معنى في الفقه والحديث الشريف، ولها معنى آخر في علم العروض، ولكني هنا سأقف على معنى ثالث كما يرِد في قولنا: أجِز هذا البيت!

الإجازة هنا هي:

أن ينظم الشاعر على شعر غيره، ويكمل في معناه، على نفس الوزن ونفس القافية، كأن يأتي الشاعر بشطر بيت ويجيز غيره لإكماله، وقد تكون الإجازة أكثر من ذلك.

من قصص الإجازة:

ركب المعتمد يومًا النّهر- الوادي الكبير، ومن الجميل أن النهر ما زال يحمل الاسم العربي بتحريف ما- ومعه وزيرُه ابن عمّار، وقدْ زرّدت الريحُ النهر، أي أخذ يترقرق، فيصنع ما يشبه الزرد في الدرع، فقال ابن عبّاد لوزيره- ابن عمّار: أجِز!

صَنَعَ الريحُ مِنَ الْمَاءِ زَرَدْ ...

فأطال الوزيرُ ابنُ عَمّار ولم يهتدِ للعجُز، فما لبث أن سمع صوتًا يُجيز:

أيّ دِرْعٍ لِقِتالٍ لَوْ جَمدْ ...

وفي رواية أخرى:

يا له درعًا منيعًا لو جمد

فتعجب ابن عباد من حسن ما سمعه، وإذا بصاحبة الصوت امرأة حسناء هي جارية لرجل اسمه رُمَيْك بن الحجّاج، فهذه الرُّمَيكية أعجب بها المعتمد، وتزوجها وسمّاها (اعتماد) لمناسبة اسمه، و(الرميكية) نسبة لرميك- صاحبها.

يقال إن المعتمد هيّأ لها في القصر ما يلائم بيئتها الأصل، إذ أعد لها مكانًا خاصًا فرش أرضه بما يشبه الوحل من خليط المسك والعنبر والكافور، فصارت تخوض فيه حافية.

من الجدير بالذكر أنها صحبت زوجها في أسره في أغمات، وبقيت أسيرة حتى موته.

من المصادر: ديوان المعتمد بن عباد ، ص 74. المقّري: نفح الطِّيب، ج2 ، ص 568.

* تُروى القصة في مصادر أخرى على أنها جرت مع آخرين.

من قصص المعتمد في هذا الموضوع:

ركب المعتمد في بعض الأيام، قاصدا الجامع يوم الجمعة، والوزيرُ ابنُ عمّار يُسايِرُه فسمع أذان مُؤذّن، فقال المعتمدُ :

هَذا الْمُؤَذِّنُ قَدْ بَدَا بِأَذَانِهِ ..

فأجابه ابن عَمّار :

يَرْجُو بِذاكَ العَفْوَ مِن رَحْمَانِه ِ

فقال المعتمدُ :

طُوبَى لَهُ مِنْ شَاهِدٍ بِحَقِيقَةٍ

قال ابنُ عمار :

إنْ كَانَ عَقْدُ ضَمِيرِهِ كَلِسَانِهِ

قال علي بن ظافر: رأينا شعاع الأصيل فوق بياض الماء، فقلت لصاحبي- أجز:
أذكت الشمس على الماء لهب

فقال:

فكست فضته منها ذهب

لقي أبو تمام ديك الجن وهو طفل يلعب، ويدّعي قول الشعر، فقال: إن كنت شاعراً كما تقول، فأجز:

فرّقوا بين من أحبُّ وبيني

فقال: هل أبعّد أم أقرّب؟

فقال أبو تمام بعّد،

فقال:

مثلَ بُعدِ السِّماك والفرقدين

ثم قال له: قرّب، فقال:

مثل ما بين حاجبيَّ وعيني

قال عمر بن عبد العزيز لابن عبد الأعلى: أتمم هذا البيت وأنت أشعر العرب:

نروحُ ونغدو كلَّ يومٍ وليلةٍ

فقال مجيبًا:

وعما قليلٍ لا نروحُ ولا نغدو

ومن ذلك ما روي أن بعض الشعراء قال لأبي العتاهية أجز:

بردَ الماءُ وطابَا

فقال أبو العتاهية:

حبذا الماءُ شرابا!

قال أبو هلال العسكري: أخبرني أبو أحمد قال كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب نختلف إلى مدرِك نتعلم منه الشعر، فقال لنا يومًا: إذا وضعتم الكلمة مع لفقها كنتم شعراء، ثم قال: أجيزوا هذا البيت:

ألا إنما الدنيا متاعُ غرورِ ...

فأجازه كل واحد منا بشيء فلم يرضه
فقلت أنا:

وإن عظمتْ في أنفسٍ وصدورِ

هي روايات جمعتها من كتب مختلفة من التراث، ولكن لا بد من سياق قصة المهدي مع بشار، واسمحوا لي أن أحذف بعض أبياتها، فمن أراد أن يقرأها فالقصة في الأغاني:

"دخل المهديّ حجرة بعض جواريه على حين غفلة منها، فرآها تغتسل، فلما رأته سترت بكفّيها [.....] فأخذ يقول:

نظرت عيني لحَيني ...

ثم أرْتِجَ عليه، فقال:

من بالباب من الشعراء؟ فقيل بشار، فقال: هاتوا به، فلما وصل إليه قال: أجز!
فقال:

أبصرت عيني لحيني ...
نظرًا وافق شَـيْني
سترت لما رأتني ... دونه بالراحتين

فقال له المهدي: ويحك! أكنت ثالثنا؟!

الأغاني ج3، ص 228 (طبعة دار الفكر)

وأخيرًا، فهناك المطارحات الشعرية، وهي نوع من الإجازة، إذ يقول شاعر بيتًا أو أكثر فيجيبه شاعر آخر، وسأتناول ذلك في حلقة أخرى، وإليكم نموذجًا مما ورد على صفحات الفيسبوك- من هذه المطارحات أو المساجلات:

يقول الشاعر محمود مرعي:

الشِّعرُ يركعُ للجمال ويسجدُ... ويظل في محرابه يتعبدُ

فأجبته:

هذا الجمال يقول إنك مفرد
في وصفه، في نظمه- إذ تحمد
ترعاه حق رعاية بعروضه
بفروضه إني لعلمك أشهد

فأجابني مرعي:

وأنا لسبقك في الفضائل شاهد .. فالنبع أنت، وكم لعذْبك نقصد!
نملا الجرار بكوثر مستعذب .. من ذا لفضلك في البرية يجحد؟

فردّ علينا الصديق فازع دراوشة:

وأنا المتابع للقريض وأهله ... إني لأشهدكم بشعرٍ يُحمدُ
أتحفتم الشعر الجميل صياغة...من كل درٍّ يستحب ويسعِد

وختم الشاعر علي غرة قائلاً:

حُييتما بوركتما فنَظمتما
شِعرا يُقامُ لِجَرسِه بل يُقعَد
لكما التّحية من"عليَّ"وصحبِه
فَسِجالكم عَذْب وَربّي يشهَد!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى