الخميس ٢ شباط (فبراير) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

الشعر الفلسطيني في الجليل والمثلث بعد سنة 1948

معالم وعلامات على الطريق

(النص مع الهوامش كاملا مرفق في ملف (بي دي إف) يمكنكم تحميله، وقراءته).

تعمد هذه الدراسة إلى وصف المعالم على طريق الشعر الفلسطيني لدى من اصطلحوا عليهم اليوم (عرب 48)، وتبين مدارج نشأته، وعلاقته بمجتمعهم، وما لاقى هذا المجتمع من عنت ومعاناة تحت ظل الحكم الجديد، وكيف أن الشعر وثّق ذلك. وهي تبين مناحي هذا الشعر ودواعيه، واختلاف التوجه فيه، ولا بدع في ذلك، فالشعر – كما لا يخفى- من أكثر الفنون (الأنواع) الأدبية تواصلاً مع الأحداث واستجابة لها.
إنها علامات ومفارق أكثر من كونها استقصاء في كل جزئية، اللهم إلا موضوع مجزرة كفر قاسم، فقد توقفت الدراسة عليه نموذجًا، وذلك لأنه موضوع مفصلي في تاريخ بقاء العرب وصمودهم.
 هي إضاءات كاشفة على هذا الشعر ودوره، وهل هو حقًا شعر "مقاومة"؟
وهي إضاءات كاشفة على حياة هذا المجتمع اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، وكذلك على أسماء الشعراء ومميزات برز فيها بعضهم. 
ثم بالتالي، أين الشعر الفلسطيني في الداخل اليوم وبعد مضي أكثر من ستة عقود؟

لا شك أن الشعر العربي عامة يعكس بيئته، ويصور واقعه، فيه وصف للحياة اليومية الاجتماعية والفكرية. وفيه متنفس لذوي الإحساس المرهف، يرددون أقوالاً منها سبق أن ألفها السابقون، فيحفظ السلف عن الخلف، أو يؤلفون ما استجد من خواطرهم ليعبروا عن أشجانهم وشجاهم، فتتوارت أقوالهم الأجيال.
من هنا، فلا مراء أن رأينا الفلاح الفلسطيني يردد في لهجته الدارجة وهو جالس، أو مستلق تحت زيتونته، أو واقفًا بين أتلام أرضه أغاني وأناشيد تتواصل وتتناغم مع مشاعرة وأحواله، فيعيش الحالة الشعرية طربًا وحنانًا وذكرى. 
كذلك كان شعراء الفصيحة يجدون من ينشر لهم، ويستمع إليهم، ويردد أقوالهم، فمكانة الشاعر في المجتمع ما زالت مرموقة، كما كانت في تاريخ الأدب العربي كله، إذ هو في طليعة المثقفين، ومن وجوه المجتمع، وخاصة في المدينة الفلسطينية. وهكذا، فبدءًا من مطالع القرن العشرين برزت أسماء شعراء منهم: أبو الإقبال اليعقوبي (1880- 1964) وإسكندر الخوري البيتجالي (1890- 1973) وسليمان الفاروقي (1882- 1958) وبولس شحادة (1882- 1943) وصولاً إلى أبي سلمى (1909- 1980) وإبراهيم طوقان ( 1905- 1941) وعبد الرحيم محمود (1913- 1948) ومطلق عبد الخالق (1910- 1937) وبرهان الدين العبوشي (1911- 1995) وغيرهم كثيرون.

إذن لم يكن الشعر الفلسطيني منقطعًا في فترة أو ظرف ما، فرغم الأمية التي شاعت في أعقاب الحكم العثماني إلا أننا كنا نجد في كل قرية أو مدينة فلسطينية شعراء لم يحظوا بالشهرة الكافية، فنجد منهم من يردد الشعر، أو ينظمه، وقد يلقيه في هذه المناسبة أو تلك. 
بل ثمة شعراء مخضرمون واصلوا الكتابة في الجليل والمثلث والمدن المختلطة، فقد كانوا ينشرون في صحافة العالم العربي، وفي الصحافة الفلسطينية قبل سنة 1948، فلم ينقطعوا عن النشر بعدها سوى بضع سنين- هي فترة الترقب ودراسة الموقف إزاء ما استجد من مآس، فإذا بهم يعودون إلى النشر وإلى مواصلة مسيرتهم الأدبية، أذكر منهم حنا أبو حنا (1928- )، حنا إبراهيم (1927- )، عصام العباسي ( 1924- 1989)، جميل لبيب الخوري (1907- 1986)، مؤيد إبراهيم (1910- 1987)، وأحمد طاهر يونس (1911- 1994)، وحبيب قهوجي (1931- 1986)... فهؤلاء الشعراء وغيرهم كانوا يبحثون عن وسيلة ينشرون بها موادهم، فنشر بعضهم في صحيفة اليوم الحكومية (1948- 1968)، وفي مجلات تبشيرية، منها مجلة الأخبار الكنسية (1926- 1957) فـالرائد (1957- 1961) والسلام والخير (1937- 1948) والإخاء (1952- 1954) والرابطة (1944- 1960 ؟) وغيرها، وصدرت في الناصرة مجلة المجتمع (1954- 1959 في مرحلتها الأولى، ثم من 1979- 1996 في مرحلتها الثانية)، ونشرآخرون في الصحافة الشيوعية التي كانت تصدر في حيفا نحو الاتحاد (1944- ) والجديد (وقد صدرت أولاً ملحقًا ثقافيًا لصحيفة الاتحاد بدءًا من سنة 1951 حتى استقلت سنة 1953 وبقيت تصدر حتى سنة 1991 ، ثم صدرت بعد ذلك في أعداد متفرقة تحمل الاسم نفسه)، والغد (1954- 1988)، وقد صدرت أعداد بعدها بصورة غير منتظمة)، ثم ما لبثت أن ظهرت صحيفة حزب مبام اليساري المرصاد (1951- 1968، ثم عادت للصدور في أعداد متفرقة)، ثم مجلتهم الفجر (1958- 1962).
قلت أعلاه إن الشعر يرتبط بالبيئة، فالظروف السياسية والاجتماعية، والحياة اليومية تستلزم الكتابة المعبّرة، وبذا يكون الشعر هو المقال ولسان الحال.
هكذا عاش الشعراء أسوة بمن تبقى على الأرض ، وهم نحو 150000 نسمة، إذ شهدوا نكبة الأرض والوطن سنة 1948، وعاينوا بصورة أو بأخرى حكاية التشريد والتهجير القسري، وهدم القرى، وعاصروا مأساة اللاجئين، وضياع الأرض، وخضعوا للحكم العسكري الذي قيد حريتهم، وراقب تحركاتهم، وأملى عليهم أحكامًا وقوانين جائرة تسلب منهم أرضهم وكرامتهم، وطبقت عليهم أنظمة الدفاع -حالة الطوارئ- 1945 التي شرعها الانتداب البريطاني، فعانوا من ممارسات الاضطهاد، حيث حُظر على العرب التنظيم السياسي- كما هو الشأن مع "جماعة الأرض"، إذ قيدوا حرية التعبير لديها وراقبوا منشوراتها.
 كانت الاعتقالات وأحيانًا النفي والإجلاء حسب رغبات الحكام وأهوائهم، وبالطريقة التي يرتأونها، فالمحاكم موجَّهة، وهي تبتدع لكلّ عمل تعسّفي تقوم به "قانونية" ما تبرر بها ما تعسفها وبطشها. وها هي السلطة الجديدة قد جعلت لغتهم العربية لغة ثانوية، ومن أرباب هذه اللغة وأدبائها من هاجر أو هُجِّر، فنشأت القطيعة بين الأهل في مواقعهم المختلفة، ولم يبق تحت الحكم الجديد إلا قلة قليلة من المثقفين والمتعلمين.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أخذت المنابر المختلفة تحظى بحرية متاحة نسبيًا تحت هذا الحكم الجديد، وذلك ضمن ديموقراطية شكلية معمول بها بصورة أو بأخرى، هي ديموقراطية أعدت وفق قوانين خدمت المواطنين اليهود، فانتفع المواطن العربي منها بصورة جزئية وانتقائية، فأخذ الشاعر العربي يعبر عن غضبه، فتفسح الرقابة العسكرية له أن ينشر كتابته، وآنًا كانت ترفض أو تشطب المادة. 
ثمة تغييرات وتطورات حدثت في المجتمع العربي في الداخل، خاصة في المستوى الاجتماعي: تحول المجتمع الفلاحي إلى مجتمع يعمل في المدينة اليهودية القريبة، تطورت القرية في عمرانها وفي تزويدها بالماء والكهرباء، وطرأت تغييرات في مكانة المرأة والقوانين التي ترعى حقوقها، العامل في المدينة وحقوقه النقابية، وكذلك تغيرات في مفاهيم الدين، صراع الأجيال، تحسن ظروف المعيشة عامة.
أما على المستوى السياسي فقد كانت هناك مسائل مثارة- الحفاظ على الأرض، البحث عن هوية، الحياة مع الشعب الآخر ومعايشتهم اقتصاديًا، نشدان المساواة، الانضواء في أحزاب سياسية سواء صهيونية أو عربية – بمختلف الاتجاهات.
إذن هي وضعية استجدت على العرب في الجليل والمثلث وبدو النقب وعرب المدن المختلطة، فكانت المفارقة حتى في تحديد اسم لهم، حيث كانوا أولاً يعرّفون أنفسهم بأنهم (عرب إسرائيل).
كان من الطبيعي أن نجد بينهم من يعايش هذا الواقع الجديد، ويمالئه، بل كان هناك من يتواطأ معه، ومن جهة أخرى كان منهم من يرفض الحكم الجديد بالكلمة، وبالانضواء في الأحزاب التي تتيح منافذ للقول.
في مثل هذه الأجواء المتضاربة تعلم الفلسطيني تحت ظل الحكم الجديد أن يكون عصاميًا، أن يبني نفسه، ويعزز مكانة أسرته، وأن "يقتنص" حقوقه، ويجاري المجتمع الجديد الذي يميل في توجهاته نحو الحضارة الغربية، بكل ما فيها من تيسير سبل الحياة. 
هكذا وجدنا الشعر يختلف تبعًا للشعراء ومدى قابليتهم لاتخاذ موقف، فمنهم من عمد إلى الشعر الغزلي، والشعر الذاتي وشعر المناسبات والمراثي، فلا يجرؤ على نشر مادة تقارع المحتل؛ ولكن منهم من وجدناه في معارك الدفاع عن الأرض والذود عن المسكن، حيث نجد شعرًا في وصف مآسي اللاجئين في وطنهم وفي الشتات، ومعارضة الحكم العسكري، والسخرية من عملائه- من بعض المخاتير أو من الموظفين الذين عينتهم السلطة (الشين بيت= خدمة الأمن) دون أية كفاية أو مؤهلات.

من الضروري أولاً أن أستعرض بدايات النشر في الشعر المحلي، لنرى كيف انعكس ذلك على أرض الواقع، ولا بد في سبيل ذلك من تصفح أول ديوان صدر في البلاد في الحكم الجديد.
إنه ديوان ورد وقتاد للشاعر جورج نجيب خليل (1932- 2001)، وقد صدر هذا الكتاب سنة 1953 (مطبعة الحكيم- الناصرة).
نظرة إلى محتويات هذا الكتاب فإننا نجد هذا الموقف المتردد المتهيب، فقد جعل الشاعر ديوانه في أربعة أبواب: الباب الأول في الغزل، وكان الباب الثاني (من سحر الوطن)، وقصائده: وقفة على بحيرة طبرية، ثلوج صفد، حيفا، لمحة عن الناصرة، تل أبيب الفتاة، جبل الكرمل الأشم، رحلة في الربيع.
نجد الشاعر هنا وبعد خمس سنوات من الحكم الجديد حذِرًا من مجابهة المحتل، وذلك لكونه معلمًا يخشى سيف الفصل، فهو يكتفي بإعلان حبه لبلاده، وهذا أقصى ما عبّر عنه في هذا الديوان:
ذي بلادي وما أعز بلادي إن ربي بكل حسن حباها
كما يصف تل أبيب التي بنيت بعد خمسين سنة من قيام الدولة، فإذا هي قمة الحضارة، وهي تشع نورًا وحياة، كما يصف حيفا بأنها تحمل جمالاً ساحرًا باهرًا، بل يقول ما يقول، وكأن حيفا لم تقع فيها الواقعة، ولعل هناك من يشفع له اليوم في التأويل، فيرى أن خطابه المستقبلي بدا وكأنه تعبير عما جرى وحدث:
ما حل حيف فيك يا حيفا على مر الحقوب ولاحق الأزمان
ووقيت من وقع الخطوب عوابسًا وأمنت شر غوائل الحدثان
في الباب الثالث يصف الشاعر الطبقة العاملة ويكتب عن أول أيار ، وعن تعليم الفتاة، وعن العلم وضرورة الأخذ به، وتبقى بعض المراثي، والمواعظ التي يدعو لها الشاعر. 
ثم إن عيسى لوباني (1932- 1999) أصدر في السنة التالية 1954 وعن نفس المطبعة (الحكيم) مجموعته أحلام حائر، فكانت القصائد كلها رومانتية محضة، فمن القصائد "حيرة"، "شكوى"، "معبد الذكريات""اسكتي يا نفس"...إلخ، ولم أجد أي نص فيه نفَس معارض، أو على الأقل يعبّر بصورة أو بأخرى عما يجري من أحداث.

مجزرة كفر قاسم والتعبير المجابه: 
إن قصائد كفر قاسم التي لم تنقطع بعد وقوع الكارثة يوم 29/10/1956 هي من أكثر "الموتيفات" المترددّة في الشعر الفلسطينيّ. ولعل ّالسبب الأوّل في بروز الموضوع يُعْزى إلى إحساس الشعراء بأنّ هذا القتل الجماعي الذي حدث في كفر قاسم له دلالة تختلف عن دلالة القتل الفردي الذي قد يحدث هنا وهناك:

أولاً: لأنّه يذكر الشاعر بمصير أبناء شعبه الذين تشرّدوا بجماعاتهم أو قُتلوا بمئاتـهم. 
ثانيًا: لأن الشاعر يحسّ من وراء هذا الحدث أنه يواجه كراهية وحقدًا، ينصباّن عليه وعلى أبناء شعبه. فالشاعر أخذ يرى أنّ عليه واجبًا ومسؤوليّة، إذ عليه أنُ يحذّر الأهل خوفًا من مصير آخر مشابه، وعليه أن ينازع العدوان ... ولا يستسلم.

ثمّ إنّ الشاعر وجد في هذا السلوك الدمويّ نفيًا للمواطنة التي يحاول العربيّ في إسرائيل أن يعمد إليها حفاظًا على لقمه عيشه، وأملاً ببناء مستقبل له ولأبنائه؛ فهذه الجريمة التي وقعت يوم ابتداء الهجوم على بور سعيد جعلت الشاعر يرى بصورة أو بأخرى أّنه "رهينة" وليس مواطنًا حقًّا.

من هنا انطلق الصوت الشعريّ يجلجل مدويًا – تارة باسم مستعار، وطورًا باسم صريح. وكان للمهرجانات السياسيّة أثر واضح للتحفيز على تناول الموضوع. وللحقّ، فإن الصحافة الشيوعيّة أفسحت صدرها للأصوات المناهضة للغطرسة العسكريّة وللحكم العسكريّ- الذي كان يجثم على صدور العرب خلال سنين طوال، ومنذ قيام الدولة.

كانت القصيدة الأولى التي نشرت في أعقاب المجزرة: "من وحي كفر قاسم " للشاعر أ.ش.، وقد تركّزت على البعد الإنسانيّ؛ لثير عاطفة المتلقي.
ثم نشرت مجلّة الجديد، في عدد يناير 1957 قصيدتين، تتناولان الموضوع:
 الأولى قصيدة عموديّة بعنوان "بور سعيد وكفر قاسم: الدم العاطر والحصاد الأحمر" بتوقيع الشاعر ابن زيدون – الناصرة، وهي قصيدة رافضة متحدّية.
أما القصيدة الثانية، فهي لتوفيق زيّاد (1929- 1995) بعنوان "حصاد الجماجم" وهي من الشعر الحرّ، وقد زخرت القصيدة منذ البدء بمثل هذه الجرأة المتحدّية التي عهدناها فيما بعد في قصائد زياّد الأخرى:
ألا هل أتاك حديث الملاحم 
وذبح الأناسيّ ذبح البهائم 
وقصّة شعب تسمّى 
"حصاد الجماجم"
ومسرحها قرية
اسمها
كفر قاسم
ثمّ يظهر الشاعر توجّسه وقلقه خوفًا من الترحيل الذي أشرت إليه:
يقول الدعيّون الغاصبون
بأنا أقلية سوف تُجلى
وأنّا سنفنى اضطهادًا وذلاً 
ولكن.... أقلّيّه نحن؟ 
كلاّ ومليون كلاّ!

لقد سجلّ زيّاد في هذه القصيدة موقفًا متميزًا بصلابته، وبيّن مخاوفه التي كانت سببًا في صرخته ونضاله العنيد.
كان الشاعر الفلسطيني وهو يتناول الحدث واعيًا العنصر المأساويّ في حياة الإنسان الفلسطينيّ. إنّه يرى على رؤوس الأشهاد حلقة من سلسلة، مشهدًا من مسلسل، فقد مّرت ثماني سنين على هذه الهزّة التي أصابت كيانه ووجوده. وقد تعلّم أن لا أمان ولا اطمئنان على مستقبله، خاصّة بعد هذه الفعلة الجدية التي لا يستطيع أحد تبريرها.
إنّ قصيدة "كفر قاسم"، سواء كانت مواكبة للحدث أم تالية له، كانت ترتكز على أكثر من محور أو عصب كالقوميّ أو الوطني أو الماركسيّ أو الإنسانيّ أو المتماثل مع الطبيعة.
ارتكازات محورية في قصائد كفر قاسم:
إنّ المحور القوميّ هو الغالب على القصائد، والسبب الرئيسي هو تنامي الشعور القوميّ والوحدويّ، وذلك بسبب الدعوة الناصريةّ، وبسبب ما كانت تغذّيه بعض وسائل الإعلام العربية التي ظلّ المواطن العربيّ في إسرائيل يستمع إليها، ويتابعها سرًا وجهرًا.
ثمّ إنّ "الهجوم الثلاثيّ" على بور سعيد قد بدأ في 29/10/1956 وهو نفس اليوم الذي وقعت فيه المجزرة. من هنا جاء هذا الربط، فالشاعر ينتمي إلى شعبه الذي يصدّ العدوان، وهو يحسّ في قرارة نفسه أنّ النصر لا بدّ آت. وعليه ، فلو طالعنا قصيدة " ابن زيدون" التي أشرتُ إليها أعلاه " بور سعيد وكفر قاسم – الدم العاطر والحصاد الأحمر" ، لوجدنا هذا الربط بين الموقعين أو العدوانين؛ فالشاعر، بعد أن يقف وهو يشدّ أزر أبناء بور سعيد وثباتهم، يعود إلى كفر قاسم وهو يخاطب المعتدي نفسه
حصدتم فيا للحصاد الرهيب * ويا للدم المهرق الطاهر
.................................................
رويدًا فلم تحصدوا كلّ ما * زرعتم من العمل الكافر
أمّا المحور الوطنيّ فقد تناولته القصائد من غير إشارة واضحة إلى أنّ هذا الوطن هو فلسطين، وأنّ العربيّ فيه هو فلسطينيّ، لكن هذا لا يحول دون انتمائه لوطنه ومعاناته. يقول زيّاد:
لنا وطن أثخنته الجراح 
وروّع طيره ذات صباح 
وصار كسيرًا مهيض الجناح 
لنا وطن راسف في القيود 
وشعب تشرّد عبر الحدود 
ولكن سنمضي بعزم شديد 
لنرجع حقًّا أبى أن يبيد
بمثل هذا الواقع وهذا العزم ظلّ صوت توفيق زيادّ نموذجًا للشاعر المتشّبث بحقّه والمنافح عن أرضه. إنّه ووطنه صنوان متلازمان ومتلاحمان . .....وثمّة عشرات القصائد الأخرىتتبيّن فيها مثل هذه الروح الوطنيّة ، خاصّة بعد أن أخذ اسم "فلسطين" يتردّد في قصائدهم اسمًا ومعنًى.
ثمّة محور ماركسيّ أو واقعيّ اشتراكيّ، فيه ثقة وتفاؤل أو رؤية الضوء في نهاية النفق المظلم. إنه شعر لا يعتمد على البكاء والندب بقدر ما يؤمن بحتميّة الخلاص أو النصر. والشاعر الشيوعيّ كان يدرك أنه بالاتّحاد وتضافر القوى المضطهدة يمكن أن يزول الظلم والظلام، يقول زيّاد:
أخي 
إنّ في الأفق صوتًا يمور 
هتاف الضحايا يشقّ القبور 
هتاف يهزّ الفضاء الكبير 
هو الشعب يذبحه المجرمون 
ألا اّتحدوا أيّها الكادحون
ألا اتّحدوا أّيها المخلصون 
وضمّوا الصفوف وشّدوا العزائم 
لمَحْو نظام على الظلم قائـم 
نظام الخنا والدماء (؟) والجرائم
فاتّحاد الضعفاء المظلومين هو الذي يحدّ من غطرسة الحاكم ومن نظامه المؤسَّس على البطش وحتّى سفك الدماء.

أمّا المحور الإنسانيّ ، فقد تمثل أولاً في هذا البعد عن العنصريّة أو الشوفينيّة ؛ فلم نر أيّ خطاب موجَّه لليهوديّ دينًا وعنصرًا. ولعلّ السبب الرئيس في ذلك أنّ هناك أصواتًا يهوديّة يساريّة كانت­ – ومنذ اللحظة الأولى – ضدّ هذه السياسة ومنُتَهِجِيها؛ فمن الطبيعيّ إذن أن نعدم مثل هذا التوجّه الدينيّ المباشر. ونحن لا نجد في عشرات القصائد التي كُتبت في هذا الموضوع أو نُشِرَت خطابًا دينيّا هو محور النصّ.
هناك من يرى أن قصيدة كفر قاسم ترتكز على وصف الطبيعة. يقول رجاء النقّاش وهو يتناول شعر محمود درويش (1941- 2008):
"لقد تعاطفت هذه الطبيعة مع الإنسان، واشتركت في حزنه وأساه وغضبه؛ فالطبيعة لم تعد وديعة، كما كانت، لم تعد سعيدة راضية، بل قد تسرّب إليها ما أصاب الإنسان من ألم وصَبَغَتْها جراحُ الشهداء بلون الدم:
غابة الزيتون كانت دائمًا خضراء 
كانت يا حبيبي 
إنّ خمسين ضحيّــه 
جعلتها في الغروب 
بركة حمراء خمسين ضحيّه.

فالقرية في قصيدة درويش "تحلم بالقمح" و "أزهار البنفسج"، وقلب الشاعر كان مرّة "عصفورة زرقاء" ، ثمّ "وجدوا في صدره قنديل ورد وقمرًا" ، تعابير مستقاة من عالم الطبيعة، يحرّكها ويتحرّك بها.
 وقراءة للمقطوعة الثانية في قصيدة درويش تكشف لنا الطبيعة وقد سخّرها الشاعر للتعبير عن شجنه وأساه.
وكان الوصف الواقعيّ التسجيليّ مبرّرًا لذكر التفاصيل كاسم المكان (المزلقان ، الغلماية) أو أسماء مرتكبي المجزرة، فشدمي قائد الكتيبة الذي أصدر الأمر بالقتل كان محور اهتمام القصائد؛ أولاً بسبب قيامه بالعمل الإجراميّ، وثانيًا بسبب محاكمته التي غُرّم على إثرها بقرش واحد؛ ومثل: شدمي مالنكي ودهّان وتسور ...........من المتورّطين بالحادثة.
وإذا كان معظم الشعراء قد أشاروا إلى القتلة من قبيل تجسيد الصورة و إبراز الفعل وتحميلهم المسؤوليّة، فإن حنّا أبو حنّا (1928- ) يعتبر أنّ هؤلاء القتلة مجرّد أصابع أو أدوات ؛ فالسياسة الرسميّة هي المسؤولة الأولى عن الجريمة. ومن المفارقة أنّها تقيم لجنة تحقيق وتطالب بالعدالة: 
وتخطّر السفاح في برد العدالة والصلاح 
قد حاكموا الحُصّاد أمّا سيّد الحقل المباح 
ما زال يستوفي الحصاد ودأبه شحذ السلاح
الأداء ومبنى القصائد حول المجزرة:
غلب النفس القصصيّ على قصائد "كفر قاسم"، ورّبما يكون ذلك بسبب طبيعة الحدث التي تستلزم بالضرورة حكاية _ حكاية تنبض فيها رؤيا وتشعّ بموقف؛ ففي قصيدة محمود درويش "أزهار الدم" التي جاءت في ستّ لوحات شعريّة، وجدنا الطابع الحكائيّ، خاصةّ في اللوحتين الرابعة والخامسة (القتيل رقم 18 ، القتيل رقم 48 والعنوانان أصلاً يوحيان بأنّ ثمةّ ما سيقوله أو يرويه الشاعر عنهما) .
 لنقرأ من اللوحة الخامسة – " القتيل رقم 48 :" 
وجدوا في صدره قنديل ورد وقمر 
وهو ملقىً ميتًا فوق حجر 
وجدوا في جيبه بعض قروش 
وجدوا علبة كبريت وتصريح سفر 
على ساعده الغضّ نقوش 
...................................
...................................
قّبلته أمّه 
وبكت عامًا عليه 
بعد عام نبت العوسج في عينيه 
واشتدّ الظلام 
عندما شب ّ أخوه 
ومضى يبحث عن شغل بأسواق المدينه 
حبسوه 
لم يكن يحمل تصريح سفر 
إنّه يحمل في الشارع صندوق عفونه 
وصناديق أخر
آه أطفال بلادي 
هكذا مات القمر !
فقوله "هكذا" يوحي أصلاً بحكاية ما جرى، وأنّ فيها سردًا قصصيّا متتابعًا .....
يمضي سميح القاسم في وصف حيّ وغنائيّ للبرج الذي بناه القتلى الذين جَنْدلَهم العدوان، وكيف كان الفارس الأسمر على صهوة الجواد ثمّ غدا عندليبًا حقيقيًّا وصاعقة حقّة.
وثمّة قصائد أخرى كثيرة تناولت الموضوع وهي تعمد إلى السرد والتفاصيل متكئة على الحقائق والوقائع آنًا، وعلى الأجواء والرموز آنًا آخر.

وغالبًا ما تكون القصائد خطابية، ذلك لأن الشاعر يوجِّه خطابه للمتلقي السامع، ٍفهو يعرف بدءًا أنّها موجّهه له، وهو يعرف أنّه قد يقرأها في أكثر من محفل، ويعرف أن صِيَغ الخطاب يجب أن تكون في لغة فصيحة، لأّنها هي الأرقى في تصوّر الشعب، وهم ينصتون إليها بهيبة أكثر؛ فالشاعر يخاطب مشاعرهم إزاء اللغة أكثر مما يخاطبهم بلغتهم اليومية، ولذا يحفل الشاعر بالإيقاع وبالإلقاء.

إنّ الشاعر يخاطب الحواسّ، يخاطب مشاعره التي ستستقبل الصور الحاشدة بالعاطفة، كلّ ذلك بصورة مباشرة. ويوضح مطاع صفدي مثل الظاهرة:
" ولأن هذا الشعر المقاوم لا يحتاج إلى رموز شموليّة، فإنّ فرسانه محتاجون إلى المباشرة. إنّهم مضطرون غالبًا إلى تسمية الأشياء بأسمائها. وإذا عمدوا إلى الرموز، فليس لضرورة فنّيّة دائمًا".

صاغ الشاعر مضامينه بأساليب مختلفة، وبأوزان وأشكال شعريةً متباينة. وكان النفس القصصيّ لدى الكثيرين مشحونًا بعاطفيّة السرد وتلوين الحكاية. كان الشاعر يعمد إلى التكرار بسبب الأسلوب المباشر والخطابيّ، وذلك حتّى يرسّخ عبارته، كأنّها إثارة مستمرّة، فيعمد الشاعر تارة إلى المباشرة، حتّى يصل سريعًا، فيؤسّس الوجدان المقاوم. إنّه يفيد من حركة الواقع ومن التاريخ والفولكلور العائليّ والعبارات الشائعة، فيصهرها جميعًا، لتكون قوّة ثوريّة وطاقة ملتزمة.
غير أنّ اللوحات الشعريّة لدى بعض الشعراء كانت سببًا آخر في التنويع وتوزيع الصور المختلفة والتراوح بين الغموض والوضوح، ممّا يضفي أبعادًا جماليّة على النصّ – هذا النص الذي تتضافر فقراته، لتؤلَّف كلاً واحدًا، يعبّر بصدق عن هذه الكارثة.
هكذا رأينا أن موضوع " مجزرة كفر قاسم " كان أحد المواضيع الرئيسة التي تناولها الشعراء، كلّ بأسلوبه، فقد وثّقوا الحدث وسجّلوه. وأنا هنا لا أمايز بين مستوى الموهبة لدى الشعراء وقدراتهم الفنّيّة بقدر ما يعنيني ما سخّر به الشاعر/ الناظم قلمه في طرح الموضوع وانفعاله هو به.
وصف الشعراء الحدث آنًا بصورة رمزيّة، وأخرى بصورة واقعيّة. وكان في أذهانهم أنّهم يخاطبون الجمهور في المحافل، وأنّهم قياديّون في أدوارهم. وإذا كانت هنالك أسماء مستعارة في بداية الأمر بسبب الإرهاب، فقد تغيّر الأمر وأصبحت الجرأة والتحدّي لسان حال ومقال.
حركة شعرية سنة 1958
من الملاحظ أنه في هذه السنة – 1958 ازدادت الإصدارات الشعرية، فقد صدرت ثلاث مجموعات- عدد لا عهد لنا قبلاً بمثله في الداخل، إذ أصدر جمال قعوار ( 1830- 2013) ديوانه أغنيات من الجليل، وأصدر راشد حسين ( 1936- 1977) ديوانه صواريخ (وكان قد صدر له مع الفجر سنة 1957)، وأصدر سميح القاسم (1939- ) مواكب الشمس.
لو تصفحنا أعداد الاتحاد مثلاً سنة 1958 لوجدنا أنها نشرت سبعًا وستين قصيدة في مواضيع مختلفة، وهو يناهز العدد خلال السنوات السابقة بدءًا من سنة 1948، ونجد أن معظمها يحمل الهم الوطني.
يمكن الافتراض أن السبب يعود أولاً إلى الثورات في العالم العربي، وخاصة في العراق، وكذلك إلى هبة أول أيار في الناصرة والاعتقالات في أعقابها، وإلى عقابيل مجزرة كفر قاسم، ثم إن المهرجانات ازدادت في هذه الفترة، حيث كانت جزءًا لا يتجزأ من الخطاب السياسي، فما من اجتماع حزبي أو جماهيري إلا وكان هناك شاعر أو أكثر على المنصة، بل أستطيع القول إن ظاهرة المهرجانات في القرى والمدن مميّز بارز في شعرنا، وعلامة على طريقه.

لو تصفحنا ديوان جمال قعوار الأول- أغنيات من الجليل فإننا لا نجد فيه تطلعات سياسية واضحة، ويعود ذلك إلى أنه كان معلمًا ويخشى من قطع لقمة عيشه، فكانت قصائده ذاتية (نحو "يا حبيبي"!، "أبي سعدت صباحًا"، "أغنية من الجليل"، وهي في وصف الطبيعة.
لكن راشد حسين في ديوانه صواريخ بدأ بالحديث طويلاً عن اللاجئين، وعن البلاد، وعن أطفال صندلة الذين صرعوا في طريقهم إلى المدرسة، ثم ما لبث أن تناول الثورات العربية، وخاصة الجزائر، وعن جميلة بوحيرد، وهذه الظاهرة – ظاهرة التضامن مع الثورات في العالم شهدناها في الخمسينيات والستينيات في شعر الشعراء الوطنيين المحليين، وبصورة ملموسة.
وجدناها كذلك في ديوان سميح القاسم مواكب الشمس حيث تناول "ثورة لبنان"، والجزائر "الجزائر لنا، ونحن الجزائر"، "إلى نادية السلطي" (الأردن)، ويخصص قسمًا من أشعاره للحديث عن الظلم والطغيان عامة، ومنها "الشاعر السجين"- إلى كل شاعر صُفّد بالأغلال وألقي في غياهب السجون بسبب كفاحه في سبيل الحرية والسلام"، كما خصص قصائد غزلية وأخرى في وصف الطبيعة والبلاد.
من هنا فقد لاحظنا أن هناك قصائد متنوعة تعبر عن الشعراء، هي قصائد تقال وتعلو رغم أن الأفواه مكمومة، خاصة وأن الشعراء الثلاثة عملوا في سلك التعليم، وفي أعقاب ذلك فصل سميح القاسم،ثم فصل راشد حسين في تلك الفترة.

1967 سنة لها ما بعدها:

كان المثقف والأديب الفلسطيني يستقي مناهله الثقافية من دور الكتب القليلة التي تبقت في الجليل والمثلث والمدن المختلطة، وكذاك من المكتبات الخاصة، وفيها كتب تراثية غالبًا، كما عرف عن بعض الأدباء أنهم كانوا يستعيرون الكتب الحديثة من مكتبة الجامعة العبرية، ومنهم من كان ينقل بخط يده هذا الكتاب أو ذاك. ثم إن الحجاج المسيحيين كانوا يحضرون بعض الكتب يمرون بها عبر بوابة (مندلباوم).
 وتعرفنا في المثلث كذلك إلى مكتبة (جبعات حبيبة) للدراسات الآسيوية الإفريقية، فقد تعرفنا فيها إلى مجلات الآداب، الأديب اللبنانيتين، وغيرهما، كما أن الحزب الشيوعي كان يحصل بطريقة أو بأخرى على مجلة الطريق اللبنانية وسواها ذات التوجه الشيوعي أو غيره.
كان بعض الأدباء يقرأون هذه المجلات، ويستمعون إلى برامج إذاعية يبثها مثلاً "البرنامج الثاني" في إذاعة القاهرة. كانت هذه جميعًا بوادر الاتصال الثقافي والمعرفي. وهكذا تعرفوا إلى الشعراء المهجريين، وإلى أشعار سعيد عقل، وأشعار أبي القاسم الشابي ومعروف الرُّصافي وجميل الزهاوي ومحمد مهدي الجواهري وبد شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني وغيرهم. كما تعرفوا إلى أشعار الفلسطينيين وراء الحدود، نحو فدوى طوقان، جبرا إبراهيم جبرا، كمال ناصر، عبد الرحيم عمر، هارون هاشم رشيد، معين بسيسو وغيرهم، بل إن الأشعار التي كتبها بعض الشعراء المحليين في أواخر الخمسينيات انعكس فيها أثر هذه المتابعات، وأحيانًا بصورة جلية. 

غير أن سنة 1967 بكل ما فيها من نكسة وهزيمة وتثبيط همة وفاجعة جمعت فلسطينيي الداخل مع الأهل في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما جمعتهم مع المكتبات العامة، فهذه مكتبة المحتسب في القدس، والطبري في طولكرم، وعصفور في جنين، والقطب في نابلس، والدنديس في الخليل، وووو كلها يقتنون منها، ويقرأون ما سبق أن جهلوا، ويتواصلون مع الكتاب في الجزء المحتل من جديد، فينشرون في صحفهم، وينشر أولئك في صحف حيفا والناصرة، وكانت ثمة لقاءات أدبية مشتركة، وكثرت الإصدارات المحلية بسبب إمكانيات الطباعة المتيسرة والزهيدة في الضفة الغربية.

مقاومــة، معارضــة، رفض

في السنوات الأولى من الحكم الجديد كانت هناك أصوات متباينة في الشعر المحلي، وذلك في توجهاتها السياسية، فهناك كما أشرت من يحجم عن الخوض في السياسة، لسبب أو لآخر. لكن هناك من نذر نفسه لقضيته، فتشربها، وسقاها غضبًا وألمًا، فهؤلاء الشعراء هم الذين اشتهر ذكرهم وعلا صيتهم، وخاصة بعد سنة 1967، حتى وصلت نصوصهم إلى العالم العربي، فانبهروا بشعرهم، إلى درجة من التقديس، الأمر الذي دعا محمود درويش لأن يطلق دعوته المشهورة: "أنقذونا من هذا الحب القاسي"، حيث يقول محمود بتواضع بيّن:
"إن شعرنا رافد من روافد النهر الكبير. لقد تربينا على الشعراء العرب القدامى والمعاصرين، وحاولنا اللحاق بأسلوب الشعر الحديث، بعدما تعرفنا رواد هذا الشعر في العراق ومصر ولبنان وسوريا، ونحن لا يمكن إلا نعتبر أنفسنا تلامذة لأولئك الشعراء".
هذا التقديس الذي تمثل بنشر كل مادة تصل إلى العالم العربي، ودراستها، وإبرازها أدى إلى شيوع مصطلح "المقاومة"، حيث يرتبط ما اصطلح عليه بـ "شعر المقاومة" الفلسطيني باسم محمود درويش بصورة خاصة.
ظهرت لفظة "المقاومة" أولاً في الأدبيات المختلفة وفي لغات مختلفة بما فيها الشعر الفلسطيني قبل سنة 1948، أو بعد هذه السنة في غير إسرائيل. ومع ذلك، فإن مصطلح "المقاومة" أخذ ينحصر ويتخصص بالأدب العربي السياسي في إسرائيل، حيث أن العرب في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة لهم ظروفهم الخاصة، فالسكان صودرت أراضيهم، وشهدوا لونًا جديدًا من الاستملاك – تمثل باستيطان، ولكنه استيطان يبرره المستوطن بتخريجات دينية وتاريخية.
إن هذه الأقلية التي عاشت ضمن حدود الدولة الجديدة كان وما زال يُنظر إليها بعين الشك، إن لم نقل إن وجودها غير مرغوب به، وتوشك هذه الأقلية أن تكون في كل حرب رهينة، بل ثمة كثيرون من هؤلاء الفلسطينيين كانوا وما زالوا يشعرون بعدم الطمأنينة، ولا يضمنون بقاءهم على أرضهم التي نجا منها بعضها، وهم يجهلون ما يخُطط لهم هنا وهناك.
كانت قصائد الشعراء العرب داخل إسرائيل بمعظمها في أوائل الخمسينيات وفي الستينيات، وحتى نهاية السبعينيات لها فعاليتها في إبعاد اليأس، وفي بث روح التفاؤل لدى العرب في الداخل. ومن جهة أخرى بنت الثقة في نفوس الجماهير العربية في كل العالم العربي التي أصيبت بالخيبة إثر هزيمة حزيران 1967. فقد أحسوا أن هذه الأصوات هي صادقة قوية جريئة، تصل إليهم عبر قنوات مختلفة، فتبعث فيهم الصمود، والأمل.
كانت المقالة الأولى في تعريف "أدب المقاومة" قد كتبها إبراهيم أبو ناب، فقدّم للقراء في العالم العربي نماذج من الشعر العربي في إسرائيل، واستعرض فيها التحولات التي طرأت على هذا الشعر، والظروف التي يعيشها، فيقول مؤكدًا لفظة "المقاومة":
 "لقد تحول الشعر العربي فعلاً هناك إلى سلاح من أقوى أسلحة المقاومة".
ثم إن غسان كنفاني (1936- 1972) ألف كتابين في "أدب المقاومة"، وهو يذكر أنه "في الفترة التي امتدت بين 1948 و 1968 قدم المثقفون العرب في فلسطين المحتلة من خلال أقسى ظروف القمع والأسر الثقافي نموذجًا تاريخيًا للثقافة المقاومة، بكل ما فيها من وعي وصمود وصلابة، وأهم من ذلك، بكل ما فيها من استمرار وتصاعد وعمق". ثم يتابع القول: "ولكن ما يميز الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة منذ 1948 حتى 1968 هو ظروفه القاسية البالغة الشراسة التي تحداها وعاشها، وكان الأتون الذي خبز فيه إنتاجه الفني يومًا وراء يوم".

إثر ذلك انتشر المصطلح واشتهر، لكن هذه الشهرة كانت تتركز في بضعة أسماء، حتى ولم تكن كتابتهم كلها ذات منحى سياسي، وليس أدل على ذلك من مئات المقالات وعشرات الكتب التي تناولت شعر محمود درويش مثلاً في جميع جوانبه، وكان هو وسميح القاسم فرسي رهان في هذه (المقاومة) التي واكبت مسيرة كل منهما، ولا شك أن توفيق زياد في تحدياته كان لهما دليلاً، وأسبق تجربة، وذلك بحكم الخبرة السياسية أولاً، وبحكم الأسبقية في قول الشعر، وبسبب الانضواء تحت لواء حزب سياسي له فعاليته.
إلا أن مصطلح "شعر المعارضة" الذي دعا إليه غالي شكري(1935- 1998) لم يكن دقيقًا في تقديري، فمن يعارض ليس مهددًا بسبب معارضته أن يقبع في السجن، بل يستطيع المواطن في إسرائيل أن يعارض ما شاء، وأن يعبر عن موقفه ورأيه، ولكن الرفض هو ما يقض مضاجع المسؤولين، فالرفض يتفاوت في درجاته، وغالبًا ما يكون فيه موقف يتمثل في نشاط ما- الأمر الذي يؤدي إلى محاكمة الشخص أو إلى مراقبته، ففي الرفض يمكن أن تكون فعلية حقيقية، بينما تحتمل المعارضة احتمالاً آخر لا يؤدي إلى الحدة.
كما أن مصطلح "المقاومة" فيه مبالغة، وإذا كان قد استُخدم في مرحلة أولى، فإن ذلك يعود إلى الأسباب التالية:
*استخدام الشعراء توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم لهذه العبارة (المقاومة) في أشعارهم- كما أشرت أعلاه، فالشاعر الذي يكرر مشتقات هذه اللفظة يلتصق به الانطباع العام للمقاومة بصورة أو بأخرى، ولا مشاحّة أن استخدام لفظة بعينها لا يعتبر كافيًا ومبررًا في التدليل على فعلية ذلك.
** المقاومة هي بوسائل مختلفة، وشعراؤنا لم يعبروا عن أنفسهم إلا بالكلمة، وبالاحتجاج والمعارضة والرفض، وهذه لا تكفي للتدليل على اتصاف معنى المقاومة.
*** التوسع أو التضييق في استعمال المصطلح من جهة، فمنذ البدء شمل غسان كنفاني الذي أشاع المصطلح عددًا كبيرًا من الشعراء الفلسطينيين في الداخل ضمن هذا الإطار،ومن جهة أخرى قصر المصطلح على شعراء شيوعيين فقط لا إنكار أنهم كانوا في الريادة.
من هنا فإن مصطلح "الرفض" هو الذي يصلح في تقديري لوصف عدد آخر من الشعراء، فعندها لا نتقيد في حديثنا عن الشعر المناهض على أسماء أربعة شعراء نرددها في كل سامر وناد- وهم توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران ( 1941- 2011).
وأخيرًا فإن الواقع الحالي بما فيه من حداثة وما بعدها، وبما فيه من تحولات سياسية سواء لدى الشعراء أنفسهم أو لدى المجتمع العربي يجعل هذا المصطلح باهتًا أو على الأقل غامضًا إلى حد بعيد.

اتجاهات ومميزات:
إذا اعتمدنا الشعر الوطني محورًا أساسيًا في عرض الشعر المحلي، فإننا نستطيع التأكيد على أنه ما من حدث أو إجراء سياسي غاصب إلا وعبر الشعراء عنه بصور مختلفة، فقد تناولوا موضوع النكبة، وكتبوا شعر الحنين للأهل الذين تقطعت بهم السبل، وعرضوا مأساة اللاجئين، وقاوموا التهجير، وممارسات الحكم العسكري، ثم وفي أعقاب حرب الأيام الستة كتبوا عن القدس، وواصلوا الكتابة عن الأرض ومصادرة الأملاك وعن قضية إقرت وكفر برعم، وعن مصادرة الأراضي لبناء كرمئيل، وعن البناء غير المرخص، وهدم البيوت، وعن تحريم بيع الأرض لليهود، و توقفوا طويلاً في الكتابة عن يوم الأرض سنة 1977، وعن حب الوطن والصمود فيه، وعن الهوية الفلسطينية. كما عادوا لاستذكار مجزرة كفر ياسين، واحتفلوا بذكرى مجزرة كفر قاسم في كل سنة، وفيها أقاموا مهرجانًا سنويًا تأبينيًا، وقدموا قراءات شعرية حولها، وبعد ذلك كتبوا عن تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، والمذابح التي حدثت للفلسطينيين في لبنان وفي أماكن أخرى من الوطن العربي، وعرضوا خيبة الأمل من عالمنا العربي وقياداته، ثم كتبوا كثيرًا عن يوم الأرض، وعن الانتفاضة وثورة الحجارة وعن وثيقة كينيغ ودعوات الترحيل (الترانسفير)، وغيرها كثير.
ويستطيع الباحث أن يعرف تاريخ العرب تحت الحكم الجديد من خلال كتابات شعرائهم، فما من حدث إلا وكانت حوله قصائد كثيرة تعبر عن مشاعر الفلسطينيين وصمودهم، إنه شعر توثيقي وتسجيلي أولاً.


لا يبقى إذن إلا أن نصنف شعر الشعراء حسب الموضوع، ونتحدث عن المضامين التي تطرقوا إليها، وعانوها، وأن نفصّل في كل جزئية- الأمر الذي لا تعمد إليه هذه الدراسة.
هذا التركيز على القضايا الوطنية لا يحول دون كتابة القصائد الذاتية كالغزل والمناسبات والمراثي (بعضها يركز على وطنية الفقيد) ووصف الطبيعة، ومطارحات فكرية مختلفة.
إذا تصفحنا مجموعات الشعراء اليساريين (وخاصة الشيوعيين) فإننا نجد أن معظمهم قد ذكروا أحداثًا عالمية وعربية لها علاقة بالموقف السوفييتي، فهذا يكتب عن كوبا وذلك عن جيفارا، هذا يهدي قصيدته إلى ناظم حكمت أو بابلو نيرودا، أو بريخت....فالصحف الشيوعية في العالم تنشر وتترجم لشعراء شيوعيين من جميع الشعوب- الأمر الذي ساهم في انتشار شعر شعرائنا الشيوعيين، فدعوا إلى المهرجانات العالمية، فترجمت أشعارهم إلى عدد من اللغات، وكتبت عنهم الدراسات المختلفة، ونالوا الجوائز العالمية.
مما برز في هذا الشعر اليساري أنه:
 *كان واقعيًا اشتراكيًا بمـعنى أنه كان يرى النور من نهاية النفق المظلم.
** أنه كان نصيرًا لحركات التحرر والثورات في العالم.
*** المزج بين الحبيبة والأرض، وقد بدأ بذلك قبلاً أبو سلمى، واشتهر فيه محمود درويش، وندر من الشعراء المحليين المعروفين من لم يكتب بهذه الروح.
**** أنه أكثر من ذكر المكان، فاعتُمدت المحلية، فهذه قصيدة عن يافا، وتلك عن صفد، هذه عن حيفا وأخرى عن مرج ابن عامر....إلخ
* * *
كان الشعر الفلسطيني في الداخل بمعظمه خطابيًا منبريًا، كتب بأنماط شعرية مختلفة: القديم ( العمودي= الكلاسي)، وبرز في ذلك محمود الدسوقي (1934- )، وراشد حسين، جمال قعوار وجورج نجيب خليل وحنا إبراهيم ومحمد نجم الناشف ( 1936- 1992)، ومنيب مخول (1930- 2002) وسلمان دغش (1930- ) وغيرهم.
وكتب آخرون شعر التفعيلة (ما عرف بالشعر الحر)، ومنهم محمود درويش، ومعظم قصائد سميح القاسم (له كذلك عدد كبير من قصائد الشعر العمودي)، وراشد حسين- في قصائد عديدة، وشكيب جهشان (1936- 2003) ، وحنا أبو حنا، وسالم جبران وتوفيق زياد. 
ثم إن فهد أبو خضرة (1939- ) وفاروق مواسي (1941- ) وأحمد حسين ( 1939- ) ونزيه خير (1946- 2008) وحسين مهنا ( 1945- ) وحبيب شويري (1937- 1976) وسليمان دغش (1952- ) وسعود الأسدي( 1938- ) وإدمون شحادة ( 1933- ) وسليم مخولي ( 1938- 2011) وتركي عامر ( 1954- ) وشفيق حبيب (1941- ) كتبوا في النمطين المذكورين، وطرحوا القضايا الوطنية كل بأسلوبه.
أما الشعر الخطابي المباشر الذي نهجه الكثير من شعرائنا بسبب المنبرية والوعظية، فهو –عادة- يستلزم التكرار، والمحسنات اللفظية، والأساليب الإنشائية من نداء واستفهام ودعاء وتمن، ففي النص الواحد تجد هذا التطعيم في الأساليب الإنشائية، وذلك لاستثارة العاطفة، وللمشاركة الوجدانية، وتمثل الواقع. 
ثم إن بعض شعرائنا- نهلوا من شعر الحداثة في العالم العربي، فحاول بعضهم أن يجاريه، وأن يستخدم تقنيات ورموزًا وأساطير جديدة على الشعر الفلسطيني، بل ثمة ابتكارات في الشكل كسربيات سميح القاسم وكولاجاته ومسرحياته الشعرية، ومحاولات تفصيح القصائد العامية التي قام بها توفيق زياد، والدعوة إلى الكنعانية من قبل أحمد حسين، واستخدامه الرموز الكنعانية في شعره، واستلهام التاريخ العربي كما لاحظنا لدى سميح القاسم ونزيه خير وفاروق مواسي وفهد أبو خضرة وحنا أبو حنا وجمال قعوار، وغيرهم. كما أنهم أفادوا من التوراة والإنجيل والقرآن، سواء في الشكل أو المضمون، نحو محمود درويش وسميح القاسم وفهد أبو خضرة وفاروق مواسي وغيرهم.
ثم إن كثيرًا من الشعراء استخدموا الألفاظ السهلة الميسرة، والتراث الشعبي، بما فيه من أمثال، وغناء، وكتبوا عن بلداتهم ومواقعهم بنوع من العشق، وبذلك عززوا من المحلية والانتماء كسعود الأسدي وسالم جبران وتوفيق زياد وشكيب جهشان وحنا إبراهيم ونايف سليم (1935- ) وشفيق حبيب، وغيرهم.
لقد ظهرت في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي مجلات وصحف كثيرة نشرت القصائد لهؤلاء الشعراء، أذكر منها: صحيفة الأنباء ( 1968- 1985)، مجلة الشرق ( 1970- )، لقاء- وهي مجلة عبرية عربية (1964- 1988)، الأسوار (1988- )، مشاوير (1978- 1980)، المواكب (1983- 2003 )، ومواقف ( 1993- ) و مشارف (1995- 1997)، بالإضافة إلى المجلة الأكاديمية التي تصدر عن جامعة حيفا- الكرمل (1980- 
 )، بالإضافة إلى مجلات صدرت بأعداد قليلة نحو إضاءات ، 48، الثقافة، الفكر الجديد، الكاتب، الصحوة وغيرها. ولا أغفل عن البرامج الأدبية في دار الإذاعة الإسرائيلية، وفي التلفزيون الإسرائيلي، فما من أديب إلا وشارك فيهما، وحاور حول الشعر والأدب.
لقد كانت هناك حركة شعرية نشطة، وندوات ثقافية أقامها اتحاد الكتاب العرب من جهة واتحاد الكتاب الفلسطينيين في إسرائيل من جهة أخرى.


لا تعمد هذه الدراسة إلى الوقوف على كل محور ومحور مما ذكرت أعلاه، مع أن هذه الوقفات ضرورة ملحة في دراسة هذا الشعر، بل كان من وكدها أن تعرض تطور الشعر خلال ستة عقود مرت، لذا فلا مندوحة من التحدث هنا أيضًا عن أصوات أخرى في هذا الشعر.
أصوات أخرى:
كان ميشيل حداد (1919- 1999) من الدعاة الأوائل في البلاد لقصيدة النثر، إذ أصدر مجلة المجتمع سنة 1954، واستقطب واستكتب شعراء آخرين لم يكن الهم الوطني شغلهم الأدبي الشاغل، بل كانت الحداثة وما إليها مدار اهتماماتهم، وقد نشر في مجلته لسواه شعرًا عموديًا ومن قصائد التفعيلة، أما هو فقد كان صوتًا مختلفًا في الصياغة، يكتب قصيدة النثر، ويقتبس مواد عن مجلة شعر اللبنانية لينشرها في مجلته.
وفي قصيدة النثر كتب طه محمد علي ( 1931- 2011)، لكن طه برز بسخريته، وبعمق محليته الفلسطينية، وبتناوله الذكي لجزئيات الحياة اليومية.
ثُم نشرت سهام داود ( 1952- ) ديوانها هكذا أغني، وقد ترجم ساسون سوميخ ( 1933- ) كتابها للعبرية.
كما نشر نعيم عرايدي ( 1958- ) عددًا من المجموعات باللغتين العربية والعبرية، وفي شعره نظرات فكرية ووجودية.
ومن الشعراء الذين كتبوا بالعبرية والعربية أنطون شماس ( 1950- )، حيث أصدر بالعربية ديوان أسير يقظتي ونومي، وهي مجموعة قصائد نثرية، ابتدع فيها أساليب وتقنيات جديدة وغير مألوفة في شعرنا العربي، بل تأثر فيها بالشعر العبري كما بينت ذلك في دراسة لي حول مجموعته.

والكتابة بالعبرية لدى نعيم عرايدي وأنطون شماس- أي التوجه للقارئ العبري- بحد ذاتها مثار نقاش، وقد تعيدنا إلى حالة مشابهة تمثلت في الكتابة الفرنكفونية بصورة أو أخرى. 
وأخيرًا فإن نداء خوري (1959- ) ومنى ظاهر (1975- ) وريتا عودة( 1960- ) وآمال رضوان( ؟- ) ورشدي الماضي (1944- ) برزوا في كتابات حداثية مختلفة المرامي، تلتقي كلها بأبعاد إنسانية، وهموم وطنية إيحاءً ورمزًا.
يضاف إلى ذلك ظهور المواقع وشبكة التواصل الاجتماعي والكتب الألكترونية، فهذه جميعًا ساعدت في النشر، وعرَفت الجمهور الواسع بنا وبأدبنا، هذا من جهة، ولكنها من جهة أخرى أدخلت لنا ضيوفًا "نكرات" لا حول لهم ولا طول في الأدب عامة، والشعر خاصة.
من هنا أصل إلى حالة "التراجع الأدبي"- التي جعلت أدبنا بسببها ليس مركزيًا إن لم أقل أصبح "هامشيًا" في نظر العالم العربي.

انحسار وضمور:

يلاحظ الباحث في مسيرة الشعر الفلسطيني في الداخل أن هناك في الآونة الأخيرة انحسارًا في المد الوطني، وفي الدافعية للنضال من أجل تحقيق الدولة الفلسطينية، وكذلك في الاشتراك في المناسبات الوطنية التي كان معظم الشعراء يحرصون على حضورها، بل إن القصائد المنبرية، والقصائد التي تنبض ألمًا وتشع أملاً أخذت تقل في كتابات الشعراء، حتى إذا وصف شاعر ما بأنه "شاعر مقاومة" فإن الأمر يبدو – إلى حد بعيد- غريبًا مستهجنًا.
فماذا حدث إذن؟
يبدو أن اتفاقية أوسلو والعودة الجزئية للفلسطينيين، والمفاوضات العبثية، وانشغال الناس في الداخل بالذود عن قضاياهم الملحة – كل هذه وغيرها قلصت هذا المد الوطني الذي أشرت إليه، فكأن شاعرنا نفض عن كاهله المسؤولية الأولى التي حمّل نفسه إياها، بل إن زخم التواصل بين الأدباء في مواقعهم المختلفة أصبح قليلاً، وقلما تجد النشر المتبادل بين الأدباء الفلسطينين كما كان.
 يضاف إلى ذلك الحصار الكلي المفروض على قطاع غزة، والحصار الجزئي على الضفة الغربية، فمن في الضفة فهو لا يتابع الصحف والمجلات والإصدارات التي تصدر في الداخل، أو على الأصح لا يحصل عليها، وهذه الحال تنطبق بالمقابل على عرب الداخل الذين يندر أن يحصلوا على صحف الضفة ومنشوراتها، بلهَ قطاع غزة الذي حوصر وحوصرت ثقافته معه. 
إن الشعر أخذ ينحسر في تقديري بسبب عدم "شرائه" بين الجمهور- هذا الجمهور الذي انشغل في السباق المادي في سبيل تحصيل رفاهية اقتصادية.
وعليه فقد ظل القليل من الرعيل الأول يواصل مسيرته الشعرية بمضامين أقل ثورية، وبأصوات حداثية متباينة.
وهذا لا يحول دون إغراق الصحف والمواقع ودور النشر بمواد متباينة المستوى، منها ما نجده مؤهلاً لإكمال المسيرة، مثل مروان مخول (1979- ) مثلاً لا حصرًا، فقصيدته النثرية "في مطار بن غوريون"- مثلاً فيها من السخرية والتكثيف والموقف ما يشفع لها أن تلقى على المنابر، وتحافظ على الفنية معًا. 
من جهة أخرى فإننا لا نغفل عن الضعف والقصور في "الشعر"، ولا أرى أن ذلك يكون قصرًا على الشعر العربي في الداخل، فهذه الآفة نجدها – كما لا يخفى- في كل قطر عربي وموقع.
من الضعف الذي أشير إليه هو ما نجد لدى الكثيرين من الإبهام الذي لا يفرز أي معنى، واللغة التي لا تنطبق عليها القواعد النحوية والصرفية، والركاكة والنثرية والخوائية، فلا فكرة ولا عبرة، ولا معنى ولا مبنى في هذا النص أو ذاك. 
ثم أولاً وقبلاً فمعظمهم إن لم يكونوا كلهم لجأوا إلى قصيدة النثر، لعدم معرفتهم عروض الشعر.
وقد شاعت في المواقع ظاهرة السرقات- الأمر الذي يجعلنا في حيرة، ولا نستطيع لها قبولا.
 

من نافلة القول إن هذا الوصف أو الانحسار الذي أشرت إليه أعلاه ليس مقصورًا على الشعر في الجليل والمثلث وما إليهما، فالأمر ليس ببعيد عن وصف الشعر في العالم العربي وفي مواطن مختلفة، ذلك لأن الرعيل الأول من شعراء الحداثة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي- على وجه الخصوص هم الذين استأثروا باهتمام النقاد، بل بحث عنهم قراء الشعر حيثما كانوا، فكأن تلك الأسماء التي أضاءت دروب الشعر في مرحلة معينة حجبت، أو على الأقل، ظللت على قامات شعرية هنا وهناك.
ثم إن الحداثة وما بعدها استلزما نظرة أخرى في تقييم الشعر والشعراء، ولكنهما مع ذلك لم يتمكنا في تقديري من الوصول إلى خطاب الجمهور، وليس ثمة تجنٍّ، إذ ألفينا بعض هؤلاء الشعراء إن لم يكونوا بأغلبيتهم الساحقة يتعمدون أن تكون قصائدهم لمتلقين محدودين، وللقراءة دون المنبرية. 


 المصادر:

أبو حنا، حنا. نداء الجراح. ط 3، يافة الناصرة: منشورات الطلائع- 1999.
أبو سلمى."من فلسطين ريشتي"، بيروت- 1971.
أبو صالح، سيف الدين. الحركة الأدبية العربية في إسرائيل.... (1948- 2000).ج1. حيفا: مجمع اللغة العربية- 2010.
جبران، سالم. كلمات من القلب، مطبعة دار القبس العربي، عكا، د.ت.
حسين، راشد. الأعمال الشعرية. ط2. حيفا: مكتبة كل شيء- 2004.
خليل، جورج. ورد وقتاد، الناصرة: مطبعة الحكيم- 1953.
الخطيب، يوسف. ديوان الوطن المحتل، دمشق، 1968.
خوري، نداء. كتاب الخطايا (صدر في العربية والعبرية والإنجليزية)، House of Nehsi Publishers- Caribbean، 2011.
خوري، نداء. الخلل. حيفا: مطبعة كل شيء- 2011.
درويش محمود. أوراق الزيتون. حيفا: مطبعة الاتحاد- 1964.
درويش، محمود. آخر الليل. عكا: دار الجليل، 1967.
درويش، محمود. ديوان محمود درويش. ج1. ط 12، بيروت: دار العودة- 1987.
زياد، توفيق. ديوان توفيق زياد. بيروت: دار العودة، د.ت.، ص306
زياد، توفيق. كلمات مقاتلة ط2. عكا: مطبعة أبو رحمون- 1994.
ששון סומך. ‬תל אביב: אני אוהבת בדיו לבנה .ת"א.ספרית הפועלים-תשמ"א 1981.

شكري، غالي. أدب المقاومة. القاهرة: دار المعارف،1971.
شماس، أنطون. أسير يقظتي ونومي. إصدار مجلة الشرق- 1974.
القاسم، سميح. دمي على كفّي، الناصرة: مطبعة الحكيم- 1967.

القاسم، سميح. ديوان الحماسة، ج3، دار الأسوار، عكا، 1981.

القاسم، سميح. الأعمال الكاملة - "القصائد"، ج1، كفر قرع: دار الهدى- 1991.
القاسم، سميح. مقالة مطاع صفدي: "كيف يتأسس الوجدان المقاوم"، ضمن كتاب الأعمال الكاملة، ج7
في دائرة النقد، كفر قرع: دار الهدى- 1991.
القاسم، سميح. بغداد وقصائد أخرى. الناصرة: مطبعة الحكيم- 2008.

قباني، نزار. الأعمال السياسية الكاملة. المجلد الثالث، ط 5. بيروت- 1993.
كنفاني، غسان. أدب المقاومة في فلسطين المحتلة (1948- 1966) بيروت: دار الآداب- 1966.
كنفاني، غسان. الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال (1948-1968). بيروت: دار الآداب- 1968.
كنفاني، غسان. الآثار الكاملة ( المجلد الرابع). بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية- 1998.
مجلس كفر قاسم المحلي. ديوان الشهيد. مطبعة كفر قاسم- 1999.
مرعي، محمود. العروض الزاخر واحتمالات الدوائر. الناصرة:- 2004.

مواسي، فاروق. " شاهد على حصاد الجماجم". نبض المحار ط2. القاهرة: مركز نهر النيل للنشر- 2008.

مواسي، فاروق. عرض ونقد في الشعر المحلي، القدس – 1976.
مواسي، فاروق. يا وطنـي!. نابلس: جمعية عمال المطابع- 1977.
مواسي، فاروق. الرؤيا والإشعاع. القدس- 1984.
مواسي، فاروق. "تجليات الخوف في نصوص طه محمد علي". نبض المحار. باقة الغربية: مجمع القاسمي- 2009.

مواسي، فاروق. محمود درويش – قراءات في شعره. كفر قرع: دار الهدى كريم- 2010.
مواسي، فاروق. "سعود الأسدي- شاعر النبض الفلسطيني". موسوعة أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطيني الحديث. (الكتاب الثاني). باقة الغربية: مجمع القاسمي- 2012.
موريه، ش. فهرس المطبوعات العربية في إسرائيل. (1948- 1972). القدس: مركز جبل سكوبس – 1974.
النقاش، رجاء. محمود درويش شاعر الأرض المحتلة، ط 4، القاهرة: دار الهلال- 1971.
ياغي. عبد الرحمن. حياة الأدب الفلسطيني الحديث حتى النكبة. بيروت: المكتب التجاري للطباعة. د.ت.

الصحف والمجلات:

الاتحاد- (حيفا) - الأعداد: 27 سنة 1949، 42 سنة 1950، العدد الأول-1950، العدد 26 سنة 1953.
، 28/12/1956، العدد 37 سنة 1997، العدد- 9/11/1956، العدد 26- 1978، 46- 1967.

الآداب (بيروت) عدد آذار 1966، العدد الحادي عشر 1974، العدد الثالث 1969.
الأيام – (رام الله) العدد 5/6/1997.
الجديد (حيفا)، كانون الثاني- 1954، كانون الثاني، 1957، العدد الثاني – 1960، نيسان1961، عدد حزيران 1969.
الشرق – (شفا عمرو)- العدد الأول، كانون الثاني 1999.
مجلة الطريق، (بيروت)- عدد تشرين الأول- كانون الأول- 1968، عدد نوفمبر وديسمبر 1968.
مجلة مواقف (الناصرة) - 1996.

مواقع:

مقالة شاكر فريد حسن عن المهرجانات الأدبية:
http://www.almawked.com/?page=details&newsID=2096&cat=1

أسماء شعراء من المثلث ذكروا في معجم البابطين:

http://www.almoajam.org/general_index.php?display=nat&nat_id=019

شهادة حنا أبو حنا عن أدبه:
http://palestine.assafir.com/article.asp?aid=499

مقالة سليمان جبران عن الملامح الفارقة في الأدب الفلسطيني:

http://almawked.com/?page=details&newsID=3771

رأي بلند الحيدري في شعر محمود درويش:

http://www.yasaree.net/forums/lofiversion/index.php?t6717.htm

قصيدة مروان مخول (في مطار بن غوريون):

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%86_%D9%85%D8%AE%D9%88%D9%84#.D9.82.D8.B5.D9.8A.D8.AF.D8.A9_.D8.B9.D8.B1.D8.A8.D9.8A_.D9.81.D9.8A_.D9.85.D8.B7.D8.A7.D8.B1_.D8.A8.D9.86_.D8.BA.D9.88.D8.B1.D9.8A.D9.88.D9.86


معالم وعلامات على الطريق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى