الاثنين ١٣ شباط (فبراير) ٢٠١٧
بقلم إلياس خاتري

رواية دموع باخوس

من المؤكد أن ظهور الرواية العربية بالمغرب عرف تأخرا ملحوظا مقارنة بتاريخ ظهورها في الشرق والغرب، ما يعني بعبارة أُخري أنه تأخر مضاعف جعل الأعمال الروائية المشرقية والغربية نماذج تحتذى. ومن سمات أعمال هذه المرحلة: المحاكاة الحرفية لبعض النماذج المشرقية المتجاوزة كما هو الحال بالنسبة لامطار الرحمة لعبد الرحمن المديني، ,وغدا تتبدل الأرض لفاطمة الراوي، وبوتقة الحياة للبكري السباعي، وانها الحياة لمحمد البوعناني، مما جعل الذاكرة الثقافية الوطنية تسقط من مخزونها أغلب أعمال هذه المرحلة باستثناء عناوين خمسة هي (الزاوية للتهامي الوزاني 1942م - في الطفولة لعبد المجيد بنجلون 1957م سبعة ابواب لعبد الكريم غلاب 1966م - جيل الظمأ لمحمد عزيز الجبابي 1967م) باعتبارها اعمالاً تملك قيمة فنية عالية تؤهلها لإعطاء صورة واضحة ودقيقة عن ملامح الكتابة الروائية المغربية آنذاك.

تعتبر الرواية الفن الأكثر تأثيراً وتعبيراً عن تجليات الكتابة، ويكاد ذلك ينطبق على تاريخ البحث عن هوية شخصية داخل الفن الروائي، وهوية تتآلف مع الروائي وشخصياته وبين هذا وذاك؛ فبروز الرواية كجنس أدبي مستقل عن ذاتها لكونها فن متعدد الأصوات يعني ذلك بلوغ الرواية مرحلة متقدمة من الوعي المعرفي خلافاً لبقية الأجناس الأدبية الأخرى.

وقد اعتمدت الرواية المغربية المعاصرة إلى حد كبير على الذائقة الأدبية، في البحث عن أصول الأشياء وكشف خفايا النص، فتراها أحياناً تراهن على مستويات اللغة في الإيقاع والتشكيل، والتأويل والتفسير. إن اللغة في روايات العصر تتجاذبها سلطات متعددة، سلطة الكاتب الذي يحاول أن يركب موجات اللغة والتلاعب بألفاظها كي يصل إلى مفهوم المعنى النصي، بأسلوب خاص و طبيعة متميزة، ليصل إلى اللغة الشعرية التي تتحد مع الأسلوبية مشكلة غنائية الخطاب، ثم سلطة النص ذاته التي توحي بقوته، و قدرته على ركوب معناه للوصول إلى المتلقي عن طريق الكشف عن مضامينه؛ ثم سلطة القارئ أو المتلقي للخطاب الروائي التي تتركز أساسا على آليات القراءة، و سبل تنجيعها و مدى ملاءمتها مع الطرح الروائي، ومدى استعدادات القارئ النفسية و الاجتماعية و العلمية لفهم النص، ومن خلال السلطات الروائية الثلاثة تنكشف العلامات المشكلة للخطاب، و تتجلى في الإثراء اللغوي للإبداع الروائي.

أولا:المنظوات الأدبية المتعددة

أ: الأجناس المتخللة في المجموعة الروائية

يصرح تودوروف بأن "مشكل الأجناس هو واحد من أقدم مشاكل الشعرية، وقد طرح منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، فتعريف الأجناس، وعددها، والعلاقات المتبادلة بينها، لم يتوقف النقاش حولها قط.

وإذا كان ذلك النقاش حول الأجناس الأدبية دائرا في الغرب منذ القديم، فإنه انتهى اليوم بـ"دومنيك كومب" إلى حصر الأجناس الأدبية في "أربعة أقسام كبيرة من النصوص حسب الوعي "الساذج" الذي كيفته عادات القراءة، بل وكيفه أيضا التعليم والمؤسسات، وهذا ما يجعل هذه الأقسام غير طبيعية بالمعنى الشائع لهذه الكلمة"

وهذه الأقسام هي:

"- المتخيل السردي الذي يضـم : الروايـة والأقصوصـة والحكايـة والقصـة.

 الشعـر.

 المسرح.

 المقالة التي تضم: الخطاب الفلسفي أو النظري، والسيرة الذاتية، والذكريات، والمذكرات الشخصية... والمراسلات، والتقارير، وحكاية الرحلة، إلخ…

في رواية "دموع باخوس" تحضر الأجناس بشكل كثيف متلفظا بها من طرف الشخصيات أو مرويا عنها أحيانا، فدموع باخوس من الروايات التي تخرق ذائقة القراءة لدى المتلقي، وهي رواية متميزة بخروقاتها السائدة في السرد المغربي من خلال كسر النمطية الجاهزة في التشكيل الروائي، حضورا يغني الرواية ببعد معرفي وثقافي غني ومتداخل يؤسس لكتابة رواية عالمة. يمكن أن نمثلها كذلك بجنس الأدب التاريخي أو الرواية التاريخية،التي تتخد من التاريخ الإغريقي والروماني و المغربي لبنة لتشكيل السند الأساسي للرواية في علاقتها بأسطورة الإله باخوس،التي أخذت حيزا كبيرا في معظم فصول الرواية من خلال:ـرسائل،أشعار،أمثال بالإضافة إلى طابع الإخبار التاريخي الذي يهيكل التصور العام للرواية ـ التي حاول من خلالها أمنصور أن يبرز تعددا في التبئير وتعددا في الرواة الذين يستلمون خيط الحكي من أجل أن يُعبروا عن أنفسهم ويميطوا في الوقت نفسه الغموض عن مصائر الشخصيات المتعددة الأخرى والمتداخلة.

1-الأجناس الأدبية:

النص الأدبي في نظر "ميخائيل باختين" متعدد المناهل، و منفتح على غيره من النصوص، يعالجها و يحللها في علاقة حوارية.

و قد أعطى "باختين" لهذه العلاقة مرادفات عديدة تنتهي كلها إلى دلالة
واحدة، فهو يقول بالصراع، بالتفاعل، بالحوار، بالانفتاح، كسر الحدود، الانارة المتبادلة. تشتغل هذه التعابير داخل النص الأدبي المنفتح على غيره من النصوص ليعبر في الأخير عن التعدد الثقافي و الذي يعتبره "باختين" شرطا لكل جنس أدبي ينطوي على التعدد أيضا.

1.1الأدب الفصيح:

توظيف أدب الرحلة:

إن أدب الرحلة هو ذلك النثر الأدبى الذى يتخذ من الرحلة موضوعا، أو بمعنى آخر الرحلة عندما تكتب فى شكل أدبى بلغة خاصة وبناء فنى له ملامحه وسماته المستقلة ، تستلزم البحث فى كل رحلة،من حيث إنها بناء فنى وإبداع أدبى له أسسه الخاصة وملامحه الذاتية، التى تميزه عن غيره من فنون الأدب الأخرى.

من أهم محددات الأدبية في المتن الرحلي، هيمنة بنية السفر.وهي البنية التي تبلور المتن الرحلي في رواية دموع باخوس. فإذا كان السفر يتوفر في كل النصوص، ماديا أو مجازا، على يد شخصيات أو موضوعات، تقاليد ومرويات، إذا كان الأمر كذلك فالسفر في دموع باخوس يكون بنية مركزية بالقياس إلى بنيات النص الروائي الأخرى. وعلى هذا الأساس تقتضي مساهمة المتن الرحلي في الرواية وجلائه من خلال بنية السفر تيمة أخرى تغني البناء التجنيسي للرواية وخاصة سفر الأمريكية شيلا التي ستلقى حتفها في إنفجار الطائرة المتوجهة للمغرب قصد إكمال بحثها الأكاديمي، الموسوم بعنوان "وليلي بين الأسطورة التاريخ" لتكمل هذا العمل العاثر أختها التوأم إيميلي خاضعة لتيمة السفر هي الأخرى قصد الغرض المذكور. "ويُأخذ خطاب الرحلة باعتباره تلفيظا لفعل السفر " ويقول عبد الفتاح كيليطو في هذا السياق: "السفر يسمح بالتصنيف، وهو في الوقت ذاته، يمكننا من تلمس خصائص الكتابة، ما دامت الرحلة نوعا أدبيا يقلص من دور المصادقة، ويقدم لنا، بقدر كبير، قواعد إنتاج النص وقواعد تلقيه معا".

وظف أمنصور أدبية الرحلة في الرواية، بتيمات مختلفة و متباينة، باعتبارها من أهم الأجناس المتخللة للصنف الروائي. يقول السارد: " عدت من بوردو قبل موتك بعامين لأواصل رحلتي أنا أيضا وأحاول الثأر الذي تعرف لذاكرة قريتي...أشياء كثيرة وقعت بعد تغربنا أنا وأنت،بعد عودتي إلى البلد ؛فمن أين يبدأ المرء الكلام؟ كنت ترددت بين البقاء هناك مثلك و بين العودة نهائيا إلى المغرب،...ص:13

يبين هذا المقطع وحدة السردية المهمة تبرر كون بنية السفر تستدعي الانتقال عبر القفز من مكان إلى آخر، ويتطلب إعادة الربط من خلال قراء ة مضامين هذه المحطات وتفاصيلها السردية، حيث عاد البطل بعد أن صرح بالغاية الأساسية من من السفر بقوله:" أنت غادرت لإستكمال دراساتك العليا في باريس وأنا غادرت إلى بوردو لأنتقم...ص:16، بعد أن حصل أعلى الدرجات العلمية في علمي التاريخ والأركيولوجيا، ليجعل من محنة فرطاصة محنة عنوان كبير لمحنة هذا البلد، ورد القصاص لأبيه المقتول غدرا و بهتانا. وبالتالي فبنية السفر(الرحلة) أعطت للمتن السردي بعدا و نفسا حكائيا يهيكل النص من حيث بناؤه الأسلوبي.

يقول السارد:...أنت تعرف، السبب الذي أجبرني على الهجرة هو نفسه السبب الذي أرغمني على العودة....أنا كان محكوما على بالعودة إلى بلدي لأنني منذ وقوع ما وقع و الرغبة الدفينة في الثأر من قتلة أبي مصلوبه في صدري...ص: 14

إن مناخ الإنتقام هو التيمة المحركة لبوادر السفر و الحركة داخل السند الروائي المتحرك، في بعده الكرونوطوبي.ونلحظ عبر هذه القراءة الأولية، مراوحة هذا المقطع بين البنية المحكمة ببداية معلنة لسفر حقيقي، وبين انفتاح السرد ضمن مجال البداية على مواضيع تغني سند الرواية و موضوعها الرئيس، إضافة للتنوع الأسلوبي على مستوى الخطاب. وبالتالي فإن هذا المقطع "ينغلق على نفسه بقدر تعلق الأمر ببنيته، وينفتح على عالم ما في آن واحد، كمثل نافذة تستقطع منظورا عابرا لمنظر خلوي خارجها"، ويمكن القول بأن موضوعة السفر في هذه المقاطع بصفة عامة يتم عبر مقامين سرديين هما المقام الذي" يرهن خطيّ الذهاب والإياب، وبالتالي فهي حكاية المسار الذي يسلكه الرحالة(المسافر) " أما المقام الثاني فيتمثل "في محتوى الخط من أحداث وأحدوثات واستطرادات ومعارف ومغامرات".

يقول السارد:" لقد غادرت ديار فرطاصة في ذلك العهد وأنا تحت ضغط وابل من الأسئلة الحارقة...لا تقل لي نا علاقة المغادرة بالانتقام،فأنا غادرت فرطاصة لأعود إليها من فرنسا قويا...ص:17، إن هذا التفرغ للإنتقام هو الباعث الأساسي المحرك بتجليات الرحلة في مستهل الرواية، إنّ فكرة الانتقام المسيطرة على أنور للثأر "منذ وقوع ما وقع والرغبة الدفينة في الثأر من قتلة أبي مصلوبة في صدري."ص:14 والتي غدت كظله جعلته لا يقبل مناقشة أية فكرة أخرى، وجعلته بعد كل ما مضى يبحث عن السبل التي تأشر له رخصة للانتقام؛ فكانت الشخصية الثانية المتمثلة علاء، وهي شخصية لا تقل منزلة عن شخصية أنور، هو الآخر كان حلقة هامة في ديمومة السفر في مستهل ملفوظ الرواية" أنت إستغرقت الشرب وعربدة الليالي و أنا درست وبحثت و عجلت في حصولي على أعلى الدرجات العلمية في علم التاريخ و الأركيولوجيا"ص:16، وهذا المقطع يبين أنه رغم وحدة الحدت الإنتقالي،(الرحلة) فإن الغاية من ذات المنطلق متباينة تمام التباين بين علاء و أنور. لكن الهدف الرئي بيقى معلق بين البلوغ و هلامية التحقق حيث يبين المقطع التالي:-" فمنذ أن عدت إلى البلد و أنا أراوح مكاني..أعيد صياغة الهدف الذي من أجاه سافرت وعدت فيتأكد لي أنه ليس أقل من الكشف عن الأسماء الحقيقية لسارقي باخوس...ص:23-، أن الكشف عن سُراق باخوس أعظم من الإنتقام لقصاص الأب، حيث أن الأخير طرح فردي، بيد أن السابق هو محنة جماعية تتجاوز محنة فرطاصة إلى محنة تنظاف لمحن هذا البلد مسلوب الإله باخوس.

ومن خلال المقاطع السابقة،عرفنا كيف كانت العلاقة الحوارية؛وهي علاقة تطابق في حيوية المتن السردي في ذات النفس الروائي المحكوم ببنية (تيمة النص الرحلي)، و اللغة التصويرية، و محاورة النص الحاضر للنص الغائب، كل هذا عن طريق استعمال تقنية الوصف.

إذن فالرحلة هي بالأساس بحث عما تتوق إليه الذات، إنها تحقيق لإدراك فكرة، هي مغامرة مكثفة بالتشويق، و الرحلة من جهة أخرى حدث أدبي، و الأديب وحده القادر على رصد مقاصدها الفنية، و صياغة مغامراته وفق خطاب تخييلي، و تبقى جماليات أدب الرحلة دائما تستهوي المتلقى، لما يحمله تصورات و أفق حول المحكي أو المادة السردية وهو نفس الشيئ تستجليه رواية دموع باخوس حيث نجد الرحله مستتبة في تمام أحداثها و متنها و سندها.

- توظيف الخبر:

تبوأ فن الخبر مكانة بارزة في النثر العربي القديم بدءاً من القرن الرابع الهجري الذي شهدت فيه العقلية العربية الإسلامية ميلاً واضحاً إلى رواية الأخبار، وتدوينها، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أمرين، أولهما أن ما أصاب الحياة العربية، من غنى وتنوع فرض وجود شكل فني جديد، أما ثانيهما فيرجع إلى ما يتميز به فن الخبر، من قدرة على احتواء الأنواع النثرية، وغير النثرية في داخله، وهذا ما جعله الشكل الفني الأثير الذي استوعب ما دار في حياة العرب في القرن الرابع الهجري، من أحاديث، وأسمار، ومجالس، ومناظرات.. الخ.

انطلق "محمد أمنصور" في روايته من الموروث التاريخي الخبري، و استفاد منه حين أدخله إلى النص في التعبير عن الواقع، لكن على الرغم من الجنوح إليه لم يسمح له بالسيطرة على النص الروائي الجديد وخصوصا رواية علاء"منزل البهلوان"

و إذا كانت الرواية نظرت إلى هذا التراث الخبري التاريخي القديم للقول بالمضمون المعاصر، فإنها قد استفادت أيضا من بنيته، خاصة النص الخبري المنزوع من التراث التاريخي الروماني و الإغريقي.،بحيث نجد المقطع السردي الآتي مكتوب في الرواية كتالي:

سنقول له بصوت واحد:

 ولكنه،

إله خفيف
إله جميل
إله ذو شكل وحجم ووسامة
إله ملموس
إله قادم من زمن آخر
إله غير عربي
إله صامد منذ عشرات القرون
إله صامت
إله بجسده يقول كل شيئ
إله حاضر في غيابه
إله كل عدته نظراته الزائغة و المحدقة في المجهول
إله يصل ما بين الغزاة الرومانيين ومن صاروا اليوم أهالي بلدة قصر فرعون
إله يقول الماضي
إله تعشقه العين لحظة تراه (...)
وغير هذا، هو إله مسروق !!...ص:21

ولما كان لابد لكل خبر من راو أو أكثر فقد كلف الكاتب أكثر من راو لرواية أخبارالإله باخوس،حيث نجده في هذا المقطع يبرز بلسان أحد الرواة كل التجليات التي يتلون بها باخوس في بهائه الأزلي، في حضورة الحسي و المجرد، في زمكانيته الممكنة و اللاممكنة.في هويته و كل تلوينات الألوهة التي لونه بها عباده،عباد الدوالي و الخمور.

لقد أراد أمنصور من تغيير شكل الكتابة، مسرحة الأحداث، فالنقاط الثلاث المدونة هنا " إله تعشقه العين لحظة تراه (...) لم تصبح دالة على نص محذوف كما في السابق، بل دالة على وصف طريقة لحكي محذوف لجعل كل متلقي يتصوره وفق خياله.

إن هذا التعديل وهذا التغيير الذي طرأ على النص الخبري، هو محاولة جعل هذا الشكل يتلاءم مع دواعي الكتابة الروائية المغربية المعاصرة،خلال تجربة لغوية تصل بين الماضي واغوار المستقبل .هذا التعديل هو ما جعل الرؤية الحوارية تقوم بالأساس على علاقة المشابهة،و بهذا الشكل تولدت هذه العلاقة الحوارية بين الأطراف اللغوية و الصوتية في هذا الملفوظ الذي يؤسس لورقة تعريفية للإله باخوس المسلوب.واسترسالا لطابع الإخبار في الرواية يقول السارد:"إيميلي...جاءت من أمريكا لتقول لي إنها ستواصل بحث أختها عن ثمثال الإله باخوس.شيلا باحثة أمريكية أنجزت رسالة الدكتوراه في موضوع وليلي بين الأسطورة و التاريخ. كانت قد أنهت تحرير فصل من بحثها عندما طلب منها الأستاذ المشرف تعزيز ملحقه بصورة فوتوغرافية لتمثال الإله باخوس، وذلك قبل الشروع في الطبع، فقررت السفر إلى وليلي للمطابقة بين الأصل و النسخة..."ص:93.

إذا كان النص الأدبي كما يعرفه النقد المعاصر نصا قائما أساسا على نص آخر يستقي منه مشروعيته، و مبررات وجوده عبر موقع التأثيرات، و التفاعلات من خلال استثماره لمختلف الأنواع الأدبية، فإن رواية "دموع باخوس" تعتبر علامة متميزة ببنيتها السردية، و صيغ اشتغال المتخيل، و الذاكرة، و اللغة من خلال استضافتها لنصوص أخرى، عملت على تحقيق الصنعة الروائية التي تلعب فيها مقصدية الكاتب دورا هاما في إبراز مظاهر الحوارية، من حيث اعتماد "أنور" على لغة ذات طبيعة إيحائية، و أدبية، و يتبين لنا ذلك من خلال حضور معاجم للغة التاريخية بامتياز بالضافة لفنون التشبيه و الاستعارة والكناية و التورية، كاللغات الذاتية التي تتيح التوغل في الذات و اختراق الباطن سواء من خلال الجراح النرجسية التي بسبب وفاة والده بعد إطلاق صراحة متأثرا بسادية التعذيب الذي تعرض له، هذا الموت الفجائي سيشكل صدمة قوية لإبنه أنور الذي سيقرر تكريس حياته للثأر لدم والده ودم جميع ضحايا فرطاصة الذين تعرضوا للتعذيب ظلما وبهتانا. إن المقطع السابق يخبر موضحا بجلاء، ورقة تعريفية عن "شيلا" وغرضها الرئيس في الرواية، مقحما ملفوظها كصوت ينظاف للأصوات المتعددة فيها، محققا للبعد البوليفوني الذي يشيد الصرح الكرنفالي ذو الطابع الخبري في" دموع باخوس". ويضيف السارد دائما مع الخبر معرفاً بالصوت الجديد في الرواية:" أنها إيميلي الأخت التوأم لشيلا، وإن أختها قبل موتها حدثتها كثيرا عن حلم السفر إلى البلاد التي توجد فيها وليلي،هناك...حيث التمثال الخالد،وصديق ميسر جمال، وجبال زرهون المقابلة لجبال الأطلس المتوسط..أو المطلة عليها، لا أذكر الآن...ص:95. بهذا الإخبار تكون إيميلي رسمية في عالم الرواية، حيث رسم القارئ إنطلاقا من منه تصورا حول ماهية "إيميلي" و وثيرة أحدتثها في علاقتها دائما بجغرافية المكان و عمق الهدف المنشود داخل المتن الروائي.

يقول السارد:" قلت سأحكي لإيميلي حكايتهما المسلية فقد ينسيها ما جرى لهما معاودة طرح أسئلتها المدرسية المزعجة...كانا يملكان صندوقا خشبياً عتيقا،ضخما في حجمه،عجيبا في تزاويقه وزخارفه،ومع مرور الأيام،صارا يسمعان ليلا أصواتا و نداءات غريبة يأتي رجعها من الجهة التي يوجد فيها الصندوق الخشبي. تكرر الأمر فلم يعودا قادرين على تجاهل ما يحدث في الغرفة المظلمة.سألا العارفين بشؤون هل المكان فأشاروا عليهما باللجوء إلى الفقيه مولاي بوعزة المعروف بالكباص،قاهر الجن و هاتك أسرار المسلمين،فهو وحده،يقول أحد هؤلاء،يعلو شأنه في طلاسم السحر و تعازيمه، ولا يعلى عليه!

وجيئ بالفقيه الكباص، وقبل الشروع في تلاوة القرآن، وخلق طقس ملتبس من الإشارات والحركات الجسدية مضمخة بأصناف من البخور و التعازيم، قال لهما:

 اسمعاني جيدا يا سيدي المكبش وأنت يا اللارقية !..الغرفة فيها لمسلمين.. والصندوق فيه كنز مرصود..ثروة خيالية من المجوهرات و النقود الذهبية التي تقدر قيمتها بآلاف بليون سنتيم رزق الله من ساقه إليكما سبحانه و تعالى يفقر من يشاء و يغني من يشاء و هو على كل شيئ قدير..."ص:100. و من أهم ظهورات الخبر في الرواية:

يظهر الخبر في رواية" دموع باخوس" من خلال عدة خصائص نرصده من خلالها، نقف في عجالة على أهما:

 ظاهرة الإسناد: يظهر الخبر في السرد من خلال استعمال الفعلين الدالين على سرد الخبر، وهما: قلت سأحكي لأيميلي ـــ يقول أحد هؤلاءـــ قال لهما ـــ ومشتقاتهما، وحافظ الخبر على أهم خصائصه وهو ظاهرة الإسناد، فإدريس روى لإيميلي الحكاية لينسيها ما جرى لها ويغينا عن طرح الأسئلة المدرسية.لأن هذا الشكل من الإسناد يتناسب وفن الرواية، لكون الكاتب يهتم بالإسناد لتأكيد القوة السردية في المتن الروائي، معتداً تقنية روائية حديثة في الحكي.

ــــ الحكاية: يؤلف متن الخبر حكاية توجه إلى ذهن المتلقي، أي أن المعلومات المقدمة تنتظم ضمن إطار قصصي. فهذه قصة خبرية في فصل"مخطوطات ذات الطيفين"ليس خبرا تسجيلياً جافاً فحسب، وإنما هي مشهد ساطع تام الدلالة وعرض كامل من حياة شعبية تقليدية أصيله، تعكس آليات العيش البسيط القائم في أغلب محاجاته على "النية" كعربون للتسليم لروحانيات صاحب الطقس(الفهيه). إن هذه اللمحة القصصية، أو القصص الإخباري، تتناسب وفن الرواية، خاصة أن أمنصور جعل هذه القصة كمتنفس بديل للنفس التاريخي الذي يهيكل الإطار العام للحكي و خاصة تاريخ الرومان و الإفريق و بعض من التاريخ السياسي للمغرب،ويعتبر هذا بمثابه الدم الأساس الذي يضخ في شرايين هذا المتن الحكائي، ونستشف هذا من خلال خاصية المواالية.

أسلوب الخبر: عني أمنصور باللغة التراثية عناية فائقة، حيث يمكن ببعض التجاوز أن نطلق على هذه التجربة "الرواية التاريخية" حيث حشد فيها كل خصائص لغة النثر التاريخي القديم، على مستوى الألفاظ والتراكيب، بهدف الوصول إلى رواية استثنائية المبنى و المعنى، تمتح من الموروث السردي التاريخي شكلاً ولغة، فعلى مستوى الألفاظ استخدم كلمات غريبة قادمة من أعماق المعاجم التاريخية، مثل:" كانت بداية الطريق اكتشاف المدينة الرومانية القديمة التي بناها الرومان قبل مجيئ الإسلام إلى الشمال الإفريقي قبل عشرات السنين و القرون..." ص98...تتميز الميثولوجيا الإغريقية بتعدد الألهة التي يتم تجسيدها بتماثيل منحوتة.فباخوس مثلا هو إله الخمر عند الرومان. ويقابله ديونيزوس عند الإغريق...ص178،ــ فالمخطوط يتحدث عن الملكة العظيمة كيلوباتراالتي عشقت قائدا رومانيا و كرهت روما...ص:138. ويتح ما سبق ذكره بجلا حيث يقول السارد:" واعلم حفظك الله ورعاك أن باخوس إله الخمر و أن الروم أنشؤوا عمران مدنهم في المكان الواطئ بمنحدر برية زرهون أمام الجبل وأما زرهون فتدمع العين فرحا من رؤية زيتونها وكرومها و جنانها وأما العمران الدارس فظاهره خراب و باطنه معندن نفيس أقول قولي هذا و أدعو الله أن يغفر لي ولكم و الله أعلم..." ص:111

وأخيرا يبرز لنا المشهد أن مختلف أطراف مجتمع الرواية. يشيد صرحه السردي كل من التاريخ الجغرافي و السياسي بل حتى التاريخ الأسطوري. كل هذه الاعتبارات تجعلنا نرى "الخبر" نواة السرد، ومولِّده في آن واحد. كما يقول سعيد يقطين.

1-2 التراث الشعبي:

يشكل الموروث الشعبي مادة خصبة وترجمة بليغة لمشاعر العامة، من خلال تراثه واغتنائه بألوان وضروب شيقة ومثيرة من التعابير والإيماءات، التي تصوغ مراحل وفترات متباينة من التاريخ البشري والكيان الإنساني. وقد اتسع المصطلح في الثقافة العربية وكذا الغربية ليشمل التراث الشعبي الحي والإبداع الشعبي بأنماطه المتنوعة والمتعددة مثل " النثر الفني في الحكايات والأمثال والألغاز والأسطورة والسير الشعبية، وحتى سائر فنون التعبير الأدبية سواء كانت صياغات شعرية أو منظومات ومواويل، إن الأدب الشعبي هو أدب الطبقات الشعبية تسهم في إنتاجه وتشكيله، الذاكرة الجمعية والوجدان الجماعي، فهو خلاصة التجارب الجماعية عبر أجيال متتالية تداولته شفاهة في الأفراح والمسرات كما في الأحزان والمآسي.

انطلاقا من الفرضية الأساسية التي يراها الأستاذ أحمد فرشوخ و التي ترى بأن الإبداع الشعبي قادر على مقاومة الهيمنة الأدبية وتنيسب السرديات المتمركزة،وكذا خلخلة التصنيفات الأجناسية وكسر المقاييس الشعرية المعيارية. ذلك أن إنتاج الأدبية مقترن بالسياق الثقافي، لذا فان استثمار تعبيرات الأدب الشعبي يروم مقاومة النموذج الروائي الغربي من الداخل رغم الاستفادة منه. وهكذا فان تحليل طرائق اشتغال الأدب الشعبي في الرواية من شأنه أن ينير جوانب من البعد الحواري لهذه "دموع باخوس". يقول السارد:"...كانا يملكان صندوقا شخبيا عتيقا،ضخما في حجمه،عجيبا في تزاويقة وزخارفة.مع مرور الأيام، صارا يسمعان ليلا أصوات و نداءات غريبة يأتي رجعها من الجهو التي يوجد فيها الصندوق الخشبي.تكرر الأمر فلم يعودا قادرين على تحمل ما يحدث في الغرفة المظلمة.سألا العارفين بشؤون هل المكان فأشاروا عليهما باللجوء إلى الفقيه مولاي بوعزة المعروف بالكباص، قاهر الجن وهاتك أسرار المسلمين، فهو وحده،يقول أحد هؤلاء يعلو شأنه في طلاسم السحر وتعازيمه ولا يعلى عليه!!

جيئ بالفقيه الكباص، وقلب الشروع في تلاوة القرآن ن وخلق طقس ملتبس من الإشارات والحركات الجسدية مضمخة بأصناف البخور و التعازيم، قال لهما:

اسمعاني جيدا يا سيدي المكبش وأنت يا اللارقية !..الغرفة فيها لمسلمين.. والصندوق فيه كنز مرصود..ثروة خيالية من المجوهرات و النقود الذهبية التي تقدر قيمتها بآلاف بليون سنتيم رزق الله من ساقه إليكما سبحانه و تعالى يفقر من يشاء و يغني من يشاء و هو على كل شيئ قدير...

لكنه لا يخرج إلا بعلامة...والعلامة لا تظهر إلا إذا أتيتموني بكل الأشياء التي أقول لكما عنها... فأنا أريد
و ثلاث إبر
وبيضتن
وتربة حمراء
وصمغ
وثلاث حجيرات صغيرات في حجم الكاياص
والمصحف الكريم
وماء الدهليج...

...فهي جميعها يا سيد المكبش مستلزمات الشغل وأدوات العمل...وبإذن الله تعالى ستظهر العلامة..وسنخرج الكنز من سبع أراض،... سيكون لكما ماشاء الله لا ما يريده العبد..."ص:100-101.إن الغرض الرئيس من الرواية لهذه التعبيرات الشعبية واستثمارها لحكايات الأحلام والأساطير الشعبية،هو تمثيلها لطقوس الواقع المحلي وعاداته وتقاليده ومعتقداته المقترنة بالمتخيل الاجتماعي فهذه العبارات" فأسا،سطل ماء بارد،ديكا أسود قطعة ثوب أبيض منزوعا من كفن ميت دفن في الماضي البعيد بمقبرة اليهود، خيوطا،أظافر وتربة حمراء، و ثلاث إبر، وبيضتن، وصمغ،...كل هذه تبين العمق الذي استكنهه الكاتب و استشفه بوعي عميق ينم عن تجربة حادة مع الواقع، لتكون هذه الكلمات تأكيدا على ذلك.كما يفك عقدة التعارض بين قطبي الكتابة والمشافهة، وتقليص الفجوة بين الثقافة العالمة والشعبية،بحيث نستطيع استخلاص العناصر الشفوية من النص دون نقض نسيجه الكتابي،اذ ثمة جدل شائق بين الشفوي والمكتوب،يمكننا من تحليل التمفصل بين البعد الشعبي للحكاية والبعد العالم للرواية. فالكتابة ضمن هذا النص ليست مجرد تقييد للشفوي، كما أن هذا الأخير لا ينتفي حالما تنبثق الكتابة. وهنا يمكن أن نتساءل عن طبيعة الكتابة ذاتها في "دموع باخوس" بوصفها مثالا لنماذج روائية مغربية واعية بخصوصيتها واستقلاليتها. وعليه، فان أمنصورينفتح على فهم جديد للسرد يقرنه بكل ما يروى وما يحمل خطابا مفتوحا لا يتقيد بثنائية الأدب الراقي والأدب الوضيع. لذلك نلحظ جدلا خصبا بين الشفوي والمكتوب في الرواية، جدل يتشكل من ثلاث طبقات نصية،هي:طبقة السرد الواقعي ممثلة في تمثيل الأحداث ذات بعد التاريخي،وطبقة السرد الرمزي ممثلة في اللغة اليومية و الأمثال الشعبية،وطبقة السرد المتخيل ممثلة في الأساطير التاريخية و الأحداث المتخيلة. وعليه فان استثمار هذه الحكاية الثرية بالرموز والنماذج ينم عن تقدير الكاتب لقيمتها الثقافية المقرونة بالوجدان الشعبي للقارئ .كما تمثل الأسطورة بوصفها واحدا من أهم منابع الموروث المخزون في المخيلة الشعبية، وتمثل مرجعا أساسيا من المرجعيات النصية، الرمزية و الفنية، الشعبية،التي مكنت الرواية من تحقيق تقدم نوعي على مستويين: مضموني و جمالي.ففي رواية "دموع باخوس" يعيد "محمد أمنصور" اكتشاف الماضي بتأسيس نصه الروائي على علاقات حوارية مع نصوص أخرى سابقة، فجعل نصه ينفتح على الذاكرة الرومانية والإغريقية و شدرات من الذاكرة المغربية،في علاقتها بالمخيلة الشعبية و خاصة ما تسلف ذكره من حكي في خاصية الخبر.

استحضر الكاتب أسطورة "باخوس " كإطارعام يهيكل مناج الرواية من عنوانها الرئيسي إلى سندها المتعلق بقضايا الإله السلوب، يقول السارد: "-إنه شكل من أشكال انبعاث روح العالم القديم الذي أخمدت ررما أنفاسه..وإن كان مهما أن تعرف أنه رغم الشغف الروماني بتماثيل الآلهة الموتى و الأحياء، فإن الأنانية والخشونة و الإختلاف الكلي للرومان عن اليونان في تقاليدهم ومزاجهم وعقيدتهم وأخلاقياتهم، هذه التركيبة الهجينة ستحول دون انتقال الروح الإغريقية ذات الثقافة الرفيعة إلى منحوتات روما المنتشرة في كل أطراف الإمبراطورية..فآلهة الرومان كائنات مادية، ضعيفة و جامدة لاتجمعها روابط و لا يحضرها إطار متناسق..لذلك تجد باخوس عند الرومان هو ديونيزوس عند الإغريق،ولكنه، مع ذلك، لايحتل الأهمية التي كانت ليونيزوس الإله المتميز في مجتمع الأرباب عند اليونان..."ص159-160.

"باخوس قدر
باخوس طرق وعرة
باخوس سرداب معتم

وفي كل الأحوال هو ليس مجرد كلمات تطلق عليها أنت رواية !...ص: 130
يقول أيضا:" يعتبر باخوس واحدا من الآلهة التي أسطرت الحياة في زمن ما،إله يجترح حبات الإنتشاء من لهيب الخمور..."ص178. استحضر أمنصورهذه الأسطورة، و جعلها تتفاعل مع نصه الروائي لتعطينا نصا جديدا، يشكل عمودا من أعمدة الإستثناء الروائي التجريبي.كما تمثل الأسطورة أحد أكثر أشكال استلهام الأجناس الأدبية العربية الحديثة، بما فيها الرواية، للمنجز الأسطوري، بوصفها التعبير الأمثل عن موتيفات غريزية كونية مختلفة، أو أنساق من السلوك و المعتقد الإنسانيين، و لأن الرموز عامة كالأسطورة تماما، محل عمل دائب لا يتوقف، بمعنى أنها حفريات حية و متجددة على الدوام. إن النصوص السابقة تبين مكانة باخوس في نفوس الشعوب،حاضرا وغائبا(مسلوب)،إن باخوس الأسطورة هو إله الخمر ومصدر النشوة التي تثور في أعماق الإنسان. ذاك الإله الأسطوري المقدس من الآلهة والإنسان، والذي ولد ولادة خارقة ذاك الإلهة الأسطوري الذي يبدو ونحن نحقق ما بينه وبين الإنسان من نسب، وما بينه وبين مصدر النشوة الكبرى التي تثور في أعماق الإنسان، إنه قد ولد ليكون والداً للفن الشعبي الديني... لقد غنى لأتباعه وهو في قمة النشوة، وغنوا معه مريدوه وأتباعه، و غالبا كانو مجموعة من النساء المتوحشات اطلق عليهن اسم الباخوسيات نسبة له. أحبه الشعب اليوناني وراحوا يمجدون هذا الإله بإقامة الاحتفالات والمهرجانات العظيمة على شرفه، والتي يعبرون فيها عن مشاعرهم بالرقص والغناء،توفي باخوس (ديونيسوس) بعد أن قامت التيتان بتمزيقه وهو على هيئة ثور، حول نفسه إليه هربا منهم.هذا ما تقول الأسطورة .أما باخوس وليلي فهو أكثر من ذلك، والذي كان في شكله كا تصفه الرواية:"تمثال باخوس هو على هيئة شاب منحوت من الرخام الأبيض ووزنه لا يتعدى في أقصى تقدير 400 كلغ..."ص:179. هو إله كل المتناقضات في الرواية، إله كل المتنافرات و المتقابلات والتقاطعات و المترادفات، إله كل شيئ وإله لا شيئ.هو المتعدد والمتجدد والغاية و الوسيلة، حيث يؤكد السارد ذلك بقوله
:"
باخوس
إله وليلي المسروق
تعددت ألقابك:ديونيزوس،بتخوس،ربوميوس،
سبازيوس..
في آثينا ولدت مرتين:
مرة في رحم أمك سيميلي
ومرة أخرى من فخذ والدك زيوس حفيد أورانوس
قبل أن تنشر عبادتك في كل بقاع العالم صعدت إلى السماء
أصبحت وحيدا من الآله الإثني عشر الأولمبية العظيمة
وفي روما القديمة ولدت من جوبيتر الأعظم الأفخم..كبير
آلهة الرومان،حامي روما، راعيها وحاكم السماء
إله النبات و الكروم..إله الدوالي و الخمرة كنت لست ماردا
لست عملاقا
لست تيتنا
لست روحا شريرة
إله الفرح و الحزن أنت
إله السعادة و الشقاء
إله الهزيمة و الانتصار
إله الصيف الشتاء
إله البرد القارس و الزمهرير الحارق
إله الإخصاب العقم
أنت إله الحياة و الموت
كل المتناقضات اجتمعت في ذاتك الربانية...ص:266-267

و تمتلك هذه الصفات البعد الأسطوري في الفكر الانساني، و خصوصا تلك المتناقضات العميقة التي تبدو معبرة وأكثر دلالة في ارتباطها بما هو أسطوري؛ " إله الإخصاب العقم" إله الهزيمة و الانتصار" إله الحياة و الموت"... التي نالت جميعها حضوة خاصة عند غابر الأمم و في سالف معتقداتهم،ليس بسبب تردد أصدائها في جنبات المغامرات التالية لجذورها الأسطورية فحسب، بل بسبب ارتباطها بدلالات الألوهة الكاملة أو نصفها(منزلة النصف إله) بالإضافة للكثير من تلك المعتقدات الأسطورية القديمة، في بعض الديانات و لدى عدد من الشعوب أيضا.

كما وظف الكاتب في"دموع باخوس" أسطورة لا تقل أهمية عن السابقة، و المتمثلة في "أسطورة نيرون" حيث يقول السارد":أي نيرون إمبراطور الرومان و سيد العالم وكبير الكهنة، ليكونن نبأ موتي حيت يبلغك خيبة أمل لك، لأنني أعلم كم كنت تتوق إلى الظفر بهذه المتعة،متعة إزحاف رحي على يديك...قد أغفر لك قتلك لزوجتك و أمك وحرقك لمدينتنا رومل المحبوبة وإغراقك لبلادنا الجميلة برائحة جرائمك النتنة. ولكن شيئا واحدا لا أستطيع غفرانه: الملل الذي يصاحبني حينما أسمع لأشعارك وأغانيك التافهة وتمثيليلتك السوقية..."ص:191
فكما تروي الأسطورة بعد صعود نيرون إلى عرش الحكم،حوله إلى الظلم والقهر، وبدأت معاناة الشعب ولم يقتصر هذا على الشعب فقط بل امتدت يده لتبطش بأقرب الناس إليه، فقتل أمه ومعلمه "سينيكا" كما قتل زوجته "أوكتافيا"، وأخاه، وانتقلت يده لتقتل بولس وبطرس الرسولين المسيحيين، زيادة في بطشه وظلمه وطغيانه. كما عرف عهده واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبت فيه، وهي حريق روما الشهير عام 64م، حيث عمل على زيادة تعذيب الشعب، وجاءت أبشع صور طغيانه، لتضيف جريمة جديدة لتلك التي فعلها في حياته، حيث قام بإشعال النار في روما وجلس متفرجاً، متغنياً بأشعار هوميروس ومستعيداً لأحداث طروادة، وانتشرت النيران في أرجاء روما واستمرت مندلعة لأكثر من أسبوع، حاصدة معها أرواح البشر من رجال ونساء وأطفال، كما زاد في جوره وطغيانه للمسيحيين ولم يترك أي وسيلة لتعذيبهم إلا وفعلها.

إن هذا النهل من المرجعية الأسطورية يعطي للرواية غنى إبستيمولوجي عميق ينم عن ذراية فسيحة بالدرس الأنثروبولوجي للكاتب ويعطيه شرف الأسثناء السردي على مستوى المضمون مبنى و معنى.

كما استحضر المتن الروائي في رواية "دموع باخوس" العديد من الأمثال الشعبية؛ "على اعتبار أن المثل هو" خلاصة تجربة نقل لخبرة، جملة موجزة بليغة تلخص حادثة أو واقعة فتكون دليلا لها و مخبرا عنها و موحية بها، ذلك إن ذكر المثل يعني بالضرورة استعادة الواقعة حتى و إن لم تُروَ. و المثل يضرب كلما اعتقد أن شخصا أو جماعة أتوا ما أتاه من ضرب به أو له أوعنه أو من أجله، لذا هو كالشجرة التي تخفي الغابة. ذلك أن أهميته لا تكمن فيه في حد ذاته بل تكمن فيما يتبعه، أي في االواقعة التي استدعته" ومن قبيل الأمثلة التي وردت في الرواية"خلي داك الجمل بارك !!.."و التي يعبر بها عن ثلة من المشاكل و الصعاب و الأزمات التي نسيانها وتجاهلها يخفف بعض من آلهما،لذا يستحب تناسيها المعبر عنه بعبارة(بارك).وأيضا "الراس لي ما يدور كدية.."ص:142والذي جاء بمثابة حصرة تراج و تراجع عن قرار كان صاحبه يتعنتر باختياره.وتأتي صيغة هذا المثل غالبا على من يتراجع عن بعض المواقف التي اختارها و أن العقول يجب أن تكون مغيرة لمواقفها وليست مستقرة وتشهد لذلك عبارة "لي ما يدور" أي الذي يتراجع. إن هذه الأساليب الشعبية التي تنتصر للهجنة في الرواية سواء على مستوى التصوير السردي أو التخيلي أو التهجين اللغوي، الذي يمثله التداخل الكبير والبارز و المتمير بين اللغة العالمة واللغة الأدبية و التاريخية و اللغة اليومية.إن الهجنة الحادة المصقولة في شذرات السطور هي التي تأسس للحوارية و تعدد الأصوات داخل الرواية، هذا ما يحتفى بالصرح الكرنفالي المنشود أساسا من هذه الدراسة، ونقف على مرتكزات اللغة اليومية في المتون التالية:"شحفت يا عباد الله"ص72،..فأنا مامساليش ليكوم بوحدكوم"ص:101،"حزق الفرخ"ص:106،"التفو عليك و على طاسيلتك اللي ولدوك...واعتقو الروح..المجرم غايقتلني...وا فضحتينا يا البغلة دلقبور.. !!،سير حتى تكون راجل بعدا آعاد تزوج سيادك.. !ايوا شنو دابا؟.. راجل ولا ماشي راجل؟!...واكواك آعباد الله"ص:143-144."قلي.. آعمي!.. أنت كتآمن بالزهر؟!"ص:151.يوضح توظيف هذه اللغة الغير العالمة و البسبطة، نفود الكاتب إلى أغوار الجسم الإجتماعي و النهل من موروثه المعجمي و التركيبا و تصويتا وتنغيما،انطلاقا من علامات الترقيم التي تناوبة بين الحذف و التعجب و الإستفهام.

إن استحضار نص "دموع باخوس" لهجات مغربية بشكل أمثال و عبارات، عبرت بشكل جلي عن ارتباط الملفوظ اللغوي بالوعي الاجتماعي.بالتالي فتنوع النصوص داخل المجموعة الرواية، نفت الشكل الرتيب للفضاءات الواقعية كما هي موجودة في الرواية المونولوجية، بل قد انفتحت الروايات المنتخبة على الواقع و نهلت من التراث الشعبي بخاصة بشكل جلب إليها القارئ كما رأينا، فتجسد من خلال تنوع هذا الموروث الحكائي الطابع الحواري الذي تميز به النص الروائي المختار مما يفجر طقس كرنفالي تحفل به هذه الرواية.

يتضح لنا من خلال تحليل مجموع نصوص المتن، أن رواية "دموع باخوس" شيدت خصوصيتها التي جدتها من خلال استثمار عناصر التراث الشعبي:الشيء الذي يؤكد أن التراث ليس وراءنا بل مازال أمامنا ينتظر منا المساءلة والتحليل. وعليه،فان الرواية المغربية يمكن لها في نماذجها الناضجة أن تساهم إلى جانب الروايات العربية.

2-غير الادبية:

1.2 توظيف التاريخ:

بادئ ذي بدء، نؤكد أنّ الخطاب التاريخي "يقبل الخضوع للتقييم الحقائقي بينما يقبل الخطاب الروائي التقييم الأيديولوجي،وذلك بسبب خضوع الأول لثنائية البث الحقائقي (الصدق والكذب) قياسا إلى ما يفترض إّنه واقعي، وعدم خضوع الثاني لهذه الثنائية". ومما لا شك فيه أن توظيف المادة التاريخية في الرواية لم يكن وفق طريقة موحدة وإنما تباينت طرق التوظيف تبعا لطبيعة الرؤيا التي يسعى إلى تقديمها كل مبدع، فمنهم من التزم بالمادة التاريخية دون أن يغلِّب الحقيقي على المتخيَّل، أو المتخيَّل على الحقيقي، بغية تقديم رؤيا تخصُّ الماضي وحده، كما فعل جورجي زيدان في جلِّ رواياته ونجيب محفوظ في (رادوبيس ).ومنهم من يغلِّب المتخيل على الحقيقي، فيذوب التاريخ، ويبرز الفن حاملا رؤيا تخصُّ الحاضر وحده دون المستقبل، كما فعل أيضا نجيب محفوظ في الثلاثية والقاهرة الجديدة، وعبد الرحمن الباشا في (أرض البطولات ). وكل هذا يعلي من شأن الرؤيا ويقرِّبها من درجة المعيار المعبِّر عن موقف الروائي مما يرويه" أما أمنصور،فقد نهل من التاريخ الروماني، هي حضارة انبثقت عن مجتمع زراعي صغير في شبه الجزيرة الإيطالية في بداية القرن العاشر قبل الميلاد. ظهرت على طول سواحل البحر الأبيض المتوسط وأصبحت واحدة من أكبر امبراطوريات العالم القديم.ونخص بالذكر التاريخ الميثولوجي حيث الميثولوجيا الإغريقية (باليونانية) هي مجموعة الأساطير والخرافات التي آمن بها اليونانيون القدماء، والمهتمة بآلهتهم، وشخصياتهم الأسطورية الأخرى، وطبيعة العالم، و منها الإله باخوس، ويعتبر الحلقة الأساية التي تشد وزر هذه المادة السردية في ذات الرواية،و يتجلى بعدها التاريخي في الرواية عبر مجموعة من التمظهرات التي تبرز ثلة من خصوصياتة فيها. بالإضافة إلى الوعي التاريخي لدى الكاتب.حيث يقول السارد:" تتميز الميثولوجيا الإغريقية بتعدد الألهة التي يتم تجسيدها بتماثيل منحوتة.فباخوس مثلا هو إله الخمر عند الرومان. ويقابله ديونيزوس عند الإغريق.وإن كان هذا الإله معروفا عند هؤلاء بجماله و حيويته...وتمثال باخوس الذي فقدته وليلي منذ 18 سنة خلت هو غاية في الدقة والجمال من حيث طريقة نحته،..."ص178، " أقول ان التاريخ المكتوب بدلائل علماء الآثار تاريخ متخيل لا يقوم على الحقيقة، هو جرد افتراضات ناقصة وتخمينات قابلة للطعن و المراجعة مع كل اكتشاف جديد..."ص30،" الإله ديونيزوس أو باخوس، من الآن فصاعدا سمه ما شئت، عرف عنه أنه كان إله اجتماعيا وشعبيا لايقبل العيش بمفرده أو بعيدا عن جماعات البشر.لذلك كان له رفقاؤه الذين بلازمونه في كل مكان...ص:161،" توظح هذه المقاطع الوعي التاريخي والتمكن التام من المرجعية التاريخية التي انطلق منها الكاتب،حيث يتلاحظ في قريب ما سبق أن الإحالة التاريخية الميثولوجية أساسا، ذات الطابع السردي هي التي لها الهيمنة المركزية في الديمومة السردية بمتون الرواية.

رغم ما جاء به موضوع المقطع السردي الذي أتى قبل هذا المقطع السردي التاريخي، وكذا بعده من مواضيع مختلفة،سواء التعريف بباخوس أوبعض صفاته أو وصفة ووضعة و علاقتة بمعية مقدسيه، إلا أن السارد أتقن فكرة التماهي ؛لأن القارئ لا يشعر باستطراد يضلله عن الحكاية، و الحوارية هنا بين الأحداث التاريخية وردت كما رأينا عن طريق علاقة الحكي والتخيل.
كما وسع الكاتب الروية التاريخية بجلاء، خاصة في ربط العلاقات التاريخية والميثولوجية و الإجتماعية بتاريخ المغرب سواء في فترة الحماية حيث يقول السارد: "فأول ما أثارني... هو فلسفة الجنرال اليوطي علاقته ببلادنا. فعند احتلال فرنسا للمغرب اعتبر نفسه وريث الرومان في هذه المنطقة تنفيذا للإديولوجية الإسعمارية السائدة آنذاك والمبنية على التفوق الحضاري للإنسان الأبيض والدور الحضاري الذي يجب أن يقوم به...ص:258

أو في حدث المسيرة الخضراء حيث يقول:" سيبقى التاريخ يذكر يوم الخميس 16 أكتوبر 1975 عندما أعلن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني نصره الله وأيده عن المسرة الخضراء نحو الأراضي المغتصبة...وأضفت... ما إن أصدرت محكمة لهاي حكمها لصالح قضيتنا الوطنية وقال جلالته شعبي العزيز...غدا تنطلق المسيرة الخضراء بنظام و انتظام نحو ربوع صحرائنا العزيزة..غدا تحملون الرايات والقرآن نحو أرضكم العزيزة.. ص69

إن هذا الدمج و التداخل بين التواريخ و الأحدات،هو الذي يفرز بوثقة التميز السردي على مستوى الموضع و الاسترسال المحكم للأفكار في علاقتها بسند الرواية.و هذا ما ساهم في افراز الطرح الحواري على مستوى أصوات الرواية.إن تاريخ المغرب يعتبر عتبة هامة لرتق أحداث النص، إذ أن الوعي بتاريخ المغرب مكن الكاتب من المرور المرن بين وليلي الرومانية و وليلي المغربية في تاريخ المغرب حيث شهدهذا الأخير استغلالا في عهد الحماية الفرنسية علية كان لها اثر وخيمة على الشعب المغربي ونهجت مجموعة من الوسائل والسبل لاستغلال ثرواته ومنها الثروة التاريخة ذاتها.

كما وظف الكاتب مجموعة من الشخصيات التاريخية التى أضاءت البحث و أعطته التاماسك المنشود،على مستوى البناء الحواري و التشخيصي في الرواية.ونستشف ذلك من خلال النص التالي:" أأخت كيلوباترا عاشقة أنطوان هذه التي أرى أمامي في برية وليلي؟..لماذا لايذكر الروم في أرض إلا وتذكر معهم ملكة عظيمة ذلت؟..كليوباترا..ديدون..والله أعلم بالأخريات !.. ما المانع في أن تكون لملكة مصر أخت في بر وليلي..؟ "نلاحظ أنه في هذا المقطع السردي،أن السارد استحضر مجموعة من الشخصيات التاريخية، منها من عرفت السقوط ومنها من كانت السبب فيه، فذكر: "كيلوباترا،أنطوان،ديدون،نيرون،..."

فجعلها تعيش الحاضر لتشابه أحداثها مع بعضها البعض؛ لأن كل واحد منها شارك في صنع حدث السقوط سواء أكان الفاعل أم المفعول فيه لأنهم شهدوا مصائر متشابه وهذا ما يؤكد أن أمنصور كان له التصويب الهادف لاختيارها. فهذا الماضي يمتد إلى الحاضر داخل نصه السردي.
هذا النوع من الشخصيات التاريخية هو إطار في هذا العمل الروائي و وأحداثه، ولكَنه لايشارك فيها مباشرة، ومع أن كثير من هذه الشخصيات اكتسبت دورا فاعلا في التاريخ، إلا أَنها لم تحظ بالدور نفسه في العمل الروائي" لأن القانون يختلف، فمن كان بطلا في التاريخ يغدو شخصا ثانويا في الرواية، وما نلاحظه هو أن السارد اعتمد على ضمير الغائب، للتأريخ للأحداث و من خلاله استطاع أن يحوّ ل هذه الشخصيات التاريخية، إلى شخصيات روائية، وذلك لمّ ا أدرجها في سرده الروائي. فالسارد هنا يضع الماضي و الحاضر موضع مقارنة و موازنة فإذا كان الماضي سلاما و أمانا فإن الحاضر قيد و قمع أو ربما العكس، فهذه الثنائية يركز عليها أمنصور كثيرا في نصه، و يلونها بطابع السخرية في كثير من الأحيان، في لغة مصورة للواقع و أزماته. و بالتالي فالحوارية جاءت بعلاقة المفارقة بين الأحداث الماضية و الحاضر.

إن الحوارية في الجانب التاريخي هي نتاج العلاقة الجدلية بين الماضي و الحاضر، و التي وردت في صورتي التشابه و المفارقة، لأن الفرد يستطيع بالتأمل و الإدراك أن يستحضر أحداث الماضي إلى حاضره، فهذا الامتداد الزمني يمكنه من فهم واقعه التاريخي بجدية. "إن فهم الحاضر لا يتحقق إلا بفهم الماضي، و فهم الماضي لا يتحقق إلا بفهم الحاضر و الاهتمام به و إجراء مقارنة بين ما كان و ما هو كائن، و بين ما حدث و ما يحدث،و لأن الحوارية هنا هي امتدا الماضي إلى الحاضر في جانبها التاريخي فإن الكاتب استحضر التراث التاريخي سواء على الموضوع في سند الرواية " يا أخي... أنت تبحث في موضوع وليلي بين الأسطورة و التاريخ،والذي أعرف هو أن الرومان من قام بغزو بلادنا في ذلك الزمن الغابر وليس اليونان ؛...ص:158 حيث كان موضوع بحث "شيلا" موسوم ب"وليلي بين الأسطورة و التاريخ" بالإضافة للثراث التاريخي الروماني الأسطوري و الميثولوجي"... أن الملكة وليلي أخت كيلوباترا التي عشقت قائدا رومانيا فأعلنا العصيان على امبراطور روما وانتحرا على غير علم بحقيقة أمر بعضهما لتكون لهما ميتة مجيدة و ليست ملكة مصر العظيمة من تبدل الأوطان لغير ما في القلب من عشق مميت..."ص:113،" فالمخطوط يتحدث عن الملكة العظيمة كيلوباتراالتي عشقت قائدا رومانيا و كرهت روما...ص:138
من خلال معاينتنا للمستوى التاريخي يتضح لنا أن النص الروائي/ التخييلي يتعامل مع التاريخ من خلال ذاتية معينة. لأن الموضوعية في نظره تقدم التاريخ بأشكال مهمشة، ذلك أن ما يصنع الأحداث التاريخية هو تشابك المواضيع و المواد التي تساهم في صناعة التاريخ، و هكذا يكون الهدف من تفكيك التاريخ و نقده هو إزاحة الغشاء عن المناطق المظلمة منه و الكشف عن المسكوت عنه". نلاحظ إذن أن عملية استحضار النص التاريخي و دمجه في النص الروائي كما رأينا و جعلهما يتحاوران، جاء ذلك إما بعلاقة التشابه أو المفارقة.اللذان يمثلان حجر الزاوية في عالم الكتابة الروائية الحديثة التي يظهر فيها الوعي الفردي متفاعلا مع الوعي العام في نظرة متسقة مع القيم الإنسانية والفنية بتوظيف تاريخي مطرز بخيط سحري يفصل بين الأدبية واللاأدبية، حيث وسيلته مراس ودربة وغايته إمتاع وإفادة في ظل تجربة إبداعية تقوم على تالوث موهبة ناصعة وثقافة واسعة وبيئة مشجعة من شأنها أن تقلص الهوة بين النظرية والتطبيق.

2-2 توظيف التراث الديني:

يعد النص الديني مصدرًا رئيسًا لمد النصوص السردية العربية بالمدلول الحكائي الذي يحمل مكوناته الخاصة، فاستطاعت الرواية العربية أن تبني السرد وفق القصة الدينية،إلا أننا لا نجد الكاتب في هذه الرواية التى تنأى عن البعد الديني المشروع لنظيرة الميثولوجي وتنحى بعيدا عن ما هو ديني لما هو تاريخي وثني. لانجد فيها نصوص دينية بحرفيتها، بل اعتمد الكاتب على خاصية من خصائص توظيف التراث الديني في الرواية، وهي التناص الديني؛ التناص مع أسلوب ولغة النص الديني واستغلال متواليات النص الديني، وإكساب النص الثراء الدلالي المقتبس من النص الديني، فالمؤلف يضمن نصه آيات قرآنية، أو يوظف الآيات في سياقه السردي، فيستفيد بذلك أمرين أنه يمنح لغته أبعادا دلالية عميقة وأنه يجذب القارئ إلى نصه هو بالاستعانة بالنص الديني. ونجد ذلك في نص "دموع باخوس"، وسنمثل ببعض الفقرات التي تناص فيها المؤلف مع النص الديني، ومن تجليات و مظاهر قوله:

"...الكنز موجود لكنه موجود
الكنز موجود فلا ينطق أحد بكلمة
الكنز موجود ومجرد كلمة قد تفسد العزيمة
الكنز موجود واسكتوا و لا تتكلموا
الكنز موجود ولا تفكروا...

فهناك،قرب شجرة الزيتون ملقانا،المباركة هي لا شرقية ولا غربية أنا وحدي أرى فيها المشكاة و الزجاجة والمصباح والزيت بينما أنتما تظللكما،تلك الشجرة،بجوار الصخرة حيث سنرى بعضنا..."ص104 مقتبسا ذلك من الآية الكريمة في قوله تعالى﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[ سورة النور:35]

إن هدف الروائي من وراء توظيف النص القرآني إلى التأسيس لرواية عربية استثنائية تنهل من كل المعارف و المدارك متجاوزة ذلك للنص الديني، معنىً ومبنىً، لذا سعى إلى توظيف اللغة القرآنية، مفردات وتراكيب وخصائص فنية وجمالية، وظهرذلك باعتماد الكاتب جليًا على التراكيب القرآنية، فجاءت لغة السرد سلسةً تتماشي و الموضوع المنشود. بالإضافة للمراوغة التأويلية التي تخلع عن النص خاصية التناص لتجعل منه مجرد اقتباس صريح للنص القرآني، فالمؤلف يوظف النص القرآني في نصه ليبدو وكأنه من تأليفه، بينما هو اقتباس سافر، إذ يقتبس من النص القرآني مازجًا تراكيبه ومفرداته في تراكيب ومفردات النص، ليكتسب من قوتها وثرائها كما في النص التالي:" -أقول هيا !..ادخلي مدينة أختك الغابرة راضية مرضية واخرجي منها كطيف الملكة، فهي جنتك وأنا نفسك المطمئنة...ص121 مقتبسا من قوله عز من قائل ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي صدق الله العظيم﴾ (سورةالفجر:27/30)

وتعتبر هذه الإشارات الدينية في الرواية شاهد على النهل من الأسلوب القرآني، و هذا ما يدل على توظيف التراث الديني في سند المتواليات السردية حتى وإن كانت بوتيرة ضعيفة، فالنص الديني هنا في دموع باخوس أفرزته البنية الخطابية و الموضوعية في المتوالية التركيبة اللغوية التي وجد فيها."كما يرد النص الديني أحيانا بوصفه شاهدا على موضوع السرد الروائي و تكون العلاقة في هذه الحال بين النص الحاضر و النص الغائب علاقة مشابهة و لا يحدث أي تغيير للنص الغائب سواء على مستوى التركيب أم الدلالة أم السياق يأتي في كثير
من الأحيان على شكل تنصيص."

نستنتج أن أمنصور قد بنى بعض وحدات لغته السردية، على الوحدات السردية للنص القرآني انطلاقا من النمادج أعلاه.ونلاحظ أن السارد قام بمحاورة النص القرآني، و إدماجه في السياق الروائي، فأصبحت كلمة السرد مزدوجة حاملة للصوت القرآني و صوت السارد معا. و قد عمد السارد إلى هذا الاستبدال للنص الديني حتى يجعله يتأقلم مع سياقه الجديد، و وظفه وفق ما يتناسب و فكرته ليعبر حواريا عن الواقع المعيش.

يتكثف حضور الحوارية في رواية إذن بتيمات مختلفة، تساعد على تعميق أجوائها و انشغالاتها الفكرية و النفسية، لكن لا يمكن أن نفهم هذا الحضور و نفسره إذا لم نكن على دراية واعية بالظروف التي دفعت الروائي إلى توظيفها، لتغدو بمثابة المعجم اللغوي الذي استند عليه أثناء عملية الكتابة.

نخلص مما سبق إلى أن الروائي "محمد أمنصور" عمل على استحضار ما استطاع من النصوص أدبية و أخرى غير أدبية، ويمكن القول أن المرجعية التاريخية والأسطورية والميثولوجية الرومانية والإغريقية هي المرجعية المطلقة التي تحدد نمط الكتابة في الرواية. فقد كان للنص الأسطوري و التاريخي و الميثولوجي الحضور الأقوى، حتى وإن كان هناك تداخل مع بعض النصوص الأخري كالنص الشعبي و الديني... فقد تراكبوا في مستويات متعددة من السياق، فقد ذلك صنعة لجماليات النص الروائي،وقد حاول أيضا إخضاعه لخصوصيته و طوّعه لصالحه، و ذلك بإدماجه ضمن بنية النص الروائي عن طريق علاقة المشابهة في كثير من الأحيان، فغدا بذلك ملحما هاما من ملامح التشكيل الجمالي فيه.

كما تحضر في الرواية خطابات أدبية توزعت بين عدة أجناس تعبيرية، إما متلفظ بها من طرف الشخصيات أو مسرودة عنها،و كأننا أمام ملفوظات تنتمي إلى سجلات كتابية مختلفة ومتباينة تتخلل النص، و كأنها متفقة على تدمير روائيته ومن ثم تثوير الشكل الروائي المعياري، مما تبرز معه أهمية التعدد اللغوي في إبراز ملامح النص الروائي.

ثانيا:صورة اللغة

أولا التهجين:

يعرف باختين التهجين بقوله: "هو المزج بين لغتين اجتماعيتين في ملفوظ واحد، إنه لقاء في حلبة هذا الملفوظ بين وعيين لغويين مفصولين بحقبة أو باختلاف اجتماعي أو بهما معا". يميز باختين بين:

أ- التهجين اللإرادي: يكون عادة بين اللهجات واللغات التي تتعايش في حقل اجتماعي واحد. وهذا النوع من التهجين - في نظره - ليس له بعد جمالي.

ب- التهجين الإرادي: أي الذي يقصد إليه الروائي، وهذا النوع تتحاور فيه اللغات بطريقة إبداعية أدبية.

 العلاقة بين اللغتين اللتين يتولد عنهما التهجين تكون في عمقها غير متكافئة، فهناك لغة مشخّصة ولغة أخرى مشخّصة.

 من مميزات التهجين أن يكون هناك على الأقل صورتان لغويتان أو وعيان حاضران معا إلزاميا في ملفوظ واحد.

أ- المظهر الفردي في الهجنة القصدية الواعية:

تعمل الإضاءة المتبادلة بين لغة محلية و لغة أجنبية -إذا حدث ذلك في العمل-في عملية الخلق الأدبي، على تأكيد "إدراك العالم " في كلتا اللغتين، و كذلك تفعل مع اللغة المشخِصة و اللغة المشخَصة و أنظمة قيمهما الخاصة، و بالنسبة للوعي الذي يخلق العمل الأدبي.

ليس ما يظهر من الحقل الذي يضيئه اللسان الأجنبي هو النظام الصوتي للغة المحلية أو خصائصها المورفولوجية أو حتى معجمها المجرد،بل بدقة، ذلك الذي يجعل من اللغة إدراكا محسوسا للعالم و لا يمكن ترجمته إطلاقا ؛ وبالتحديد أسلوب اللغة كوحدة كاملة.وقد تناثرت داخل المتن الروائي المنتخب"موع باخوس" ملفوظات دالة بوضوح عن تهجين قصدي، جاء به المؤلف عنوة ليضيء الوعي اللساني للغة على الأخرى، نستشف ذلك من خلال اللغة اليومية التلقائية و الخالية من كل لغة عالمة حيث يقول السارد":"شحفت يا عباد الله"ص72،..فأنا مامساليش ليكوم بوحدكوم"ص:101،ص:106،"التفو عليك و على طاسيلتك اللي ولدوك... "قلي.. آعمي!.. أنت كتآمن بالزهر؟! ص:151. وغيرها من العبارات الكثيرة التي تعكس هذاه الرؤية الدلالية اليومية.و في مقابل هذا نجد اللغة العالمة و التي كل ملفوظاتها تنم عن خلفية معرفية،تنهل جلها من مرجعية تتوزع على مختلف المعارف و الثقافات و من نظيرها في متن الرواية " واعلم رعاك الله و أيدك بنصر أن الملكة وليلي أخت كليوباترا التي عشقت قائدا رومانيا فأعلنا العصيان على امبراطور روما وانتحرا على غير علم بحقيقة أمر بعضهما لتكون لهما ميتة مجيدة و ليست ملكة مصر العظيمة من تبدل الأوطان لغير ما في القلب من عشق مميت وأنهي إليك علمي هذا و الله أعلم...ص:113،" يتحدث عن تلك البدايات السحيقة و الغامضة التي لم يبقى منها الآن سوى بعض آثار معمارية مثل وليلي.قال إن أحد علماء الحفريات الألمان أو الفرنسيس... وكان ذلك أيام الحماية الفرنية بالمغرب، أو ربما،عند نهاية القرن الماضي..لا أعرف!..لعله العقد الأول أو الثاني من هذا القرن أو الذي قبله...كانت بداية الطريق اكتشاف المدينة الرومانية القديمة التي بناها الرومان قبل مجيئ الإسلام إلى الشمال الإفريقي قبل عشرات السنين و القرون...ص98." أقول ان التاريخ المكتوب بدلائل علماء الآثار تاريخ متخيل لا يقوم على الحقيقة، هو جرد افتراضات ناقصة وتخمينات قابلة للطعن و المراجعة مع كل اكتشاف جديد... ص:30، " فعند احتلال فرنسا للمغرب اعتبر نفسه وريث الرومان في هذه المنطقة تنفيذا للإديولوجية الإسعمارية السائدة آنذاك والمبنية على التفوق الحضاري للإنسان الأبيض والدور الحضاري الذي يجب أن يقوم به...ص:258. إن المؤلف و هو يدرج هذه الملفوظات داخل المتن الروائي يعي مدى إضاءة اللغة العالمة للغة اليومية، وإضاءت اللغة اليومية للغة العالمة في كشكول لغوي هجين رسْمه، ينتمي لأسلوب أمنصوري محبك،هجين،استثنائي البنى و المعنى. لهذا فإن هذه الملفوظات المهجنة هي قصدية و واعية، امتزج فيها وعيان لسانيان الأول الوعي اللساني للغة الكاتب العربية المُشَخصة و الثاني الوعي اللساني للغة اليومية المتداولة.إلا أننا نرى و نظرا لطبيعة الجنس الروائي، هيمنة اللغة العالمة و انتصارها و تفوهقا المتباين و الجلي لكنونها تنهل من معارف متباية المنبع،لتظل نظيرها اليومية محكومة بالبعد الإجتماعي المحظ.
إن استعمال العامية داخل المتن الروائي، هو محاولة من الكاتب للقول بقربها من ضوابط اللغة العريية الفصحى على مستوياتها الصرفية و النحوية، " وهذا يحتاج منا على المستوى النحوي، كثير من عناية للنظر فيه، على ضوء القواعد النحوية الشائعة في العربية المعاصرة، وهي من القواعد الدخيلة في نظر النحو التقليدي"

إذن فكل لغة تحاور لغة أخرى و تستدعيها إلى نصها، حتى داخل اللغة الواحدة،هناك لهجات تستدعي للولوج داخل النص الروائي، و تتحاور اللغات و اللهجات ككل مع بعضها البعض، و يبرز هذا بشكل واضح داخل متن النص السردي، لأنه في الملفوظ الواحد نسمع صوتان قد يطغى صوت على صوت آخر فيضيئه، و قد يتشابك معه في إبراز الوعي المقصود،و هذا كله يعطي هجنة فردية قصدية و واعية.

ب- حدود الخطاب الهجين:

حدثنا " ميخائيل باختين" حدوده فقال عنها:

"هي عن قصد متحركة و مزدوجة و كثيرا ما تمر داخل مجموعة تركيبية أو داخل جملة بسيطة، و أحيانا تقسم الأعضاء الأساسية لنفس الجملة". والمثال الأوضح الذي يمثل هذا القول، وارد في "دموع باخوس"،حيث يقول السارد:

" يتحدث عن تلك البدايات السحيقة و الغامضة التي لم يبقى منها الآن سوى بعض آثار معمارية مثل وليلي.قال إن أحد علماء الحفريات الألمان أو الفرنسيس..لا أتذكر الآن..عثر على هيكل عظمي لرجل أو إمرأة في منحدرات جبل زرهون.وكان ذلك أيام الحماية الفرنية بالمغرب، أو ربما،عند نهاية القرن الماضي..لا أعرف!..لعله العقد الأول أو الثاني من هذا القرن أو الذي قبله...كانت بداية الطريق اكتشاف المدينة الرومانية القديمة التي بناها الرومان قبل مجيئ الإسلام إلى الشمال الإفريقي قبل عشرات السنين و القرون..."ص98 الحدود هنا تقسم الأعضاء الأساسية لنفس الجملة، فالخطاب هنا مبدوء بجملة تابعة تمثل خطاب الكاتب، أما خطاب الآخرين داخل الجملة الأساسية للموضوع يتمثل في:

" قال إن أحد علماء الحفريات الألمان أو الفرنسيس..لا أتذكر الآن..عثر على هيكل عظمي لرجل أو إمرأة في منحدرات جبل زرهون " ثم نعثر بعده على خطاب الجملة الأساسية، حيث تأتي أقوال الشخصية الرئيسية، وتعمل على إتمام خطاب الكاتب الذي يمثل الجملة الأساسية للموضوع. و هو كالآتي" لعله العقد الأول أو الثاني من هذا القرن أو الذي قبله...كانت بداية الطريق اكتشاف المدينة الرومانية القديمة التي بناها الرومان قبل مجيئ الإسلام إلى الشمال الإفريقي قبل عشرات السنين و القرون"

إن جل هذه الخطابات غير المباشرة التي تمثلها شخصيات الرواية الرئيسية ساعدت على إكمال موضوع القول.استحضرها المؤلف قصدا بغرض إتمام خطابه، و هذا ما يولد بنية هجينة ذات حدود، الأولى هي حدود خطاب الكاتب و الأخرى حدود خطاب الشخصية غير المباشر، اجتمعتا داخل ملفوظ واحد للحوار حول موضوع معين، و هذا ما يعطي صوت مزدوج ذو طبيعة حوارية التي تفجر الطقس الكرنفالي حسب باختين.

ثانيا: الأسلبة:

هذه العملية لا يشترط فيها كما هو الشأن في التهجين حضور لغتين في ملفوظ واحد، وإنما تظهر في الملفوظ لغة واحدة، غير أنها مقدمة بواسطة وعي لغة آنية خفية تعمل بشكل غير مباشر (ضمني)." في مجملها، تتميز عن التهجين بمعناه الخاص، ففي الإضاءة المتبادلة لا يكون هناك توحيد مباشر للغتين داخل ملفوظ واحد، و إنما هي لغة واحدة و ملفوظة إلا أنها مقدمة على ضوء اللغة الأخرى. وهذه اللغة الثانية تظل خارج الملفوظ و لا تتحين أبدا. إن الشكل الأكثرا تميزا و وضوحا لهذه الإضاءة المتبادلة ذات الصيغة الحوارية الداخلية هو الأسلبة" ونقف على أساليبها في الرواية من خلال التالي":كانا يملكان صندوقا خشبياً عتيقا،ضخما في حجمه،عجيبا في تزاويقه وزخارفه،ومع مرور الأيام،صارا يسمعان ليلا أصواتا و نداءات غريبة يأتي رجعها من الجهة التي يوجد فيها الصندوق الخشبي.تكرر الأمر فلم يعودا قادرين على تجاهل ما يحدث في الغرفة المظلمة.سألا العارفين بشؤون هل المكان فأشاروا عليهما باللجوء إلى الفقيه مولاي بوعزة المعروف بالكباص،قاهر الجن و هاتك أسرار المسلمين،فهو وحده،يقول أحد هؤلاء،يعلو شأنه في طلاسم السحر و تعازيمه، ولا يعلى عليه "ص:100،" جاءت من أمريكا لتقول لي إنها ستواصل بحث أختها عن ثمثال الإله باخوس.شيلا باحثة أمريكية أنجزت رسالة الدكتوراه في موضوع وليلي بين الأسطورة و التاريخ. كانت قد أنهت تحرير فصل من بحثها عندما طلب منها الأستاذ المشرف تعزيز ملحقه بصورة فوتوغرافية لتمثال الإله باخوس، وذلك قبل الشروع في الطبع، فقررت السفر إلى وليلي للمطابقة بين الأصل و النسخة..."ص:93. بقد اكتسبت هذه المقاطع السردية أهمية من خلال تشخيصها للأسلوب اللساني لدى الآخري التلفظ بملفوظها بدلا عنها.

"فالأسلوب هو شكل التفكير، و مادته هي اللغة في ألفاظها و تراكيبها التي تختلف من صوت إلى صوت، ومن شخصية إلى أخرى، بحسب صور الفكر و رؤى العالم المتناقضة أو المتضاربة." و من خلال هذا؛ نلمس تنويعا أسلوبيا في الأمثلة المقدمة، وثراءا حواريا في بنيتها. فالذي شخص هذا الوعي اللساني داخل هذه المقاطع السردية، هو الكاتب، الذي أعاد خلق الأسلوب المؤسلب. بحيث نلمس وراء لغة هذه المقاطع لغات متخفية، كما أن طبيعة لغة الرواية، هي لغة تاريخية متخفية تحت لواء أدبي، يكشفها بغزارة الطرح التخيلي والوعي التصوري لدى الكاتب. و هي الصفة التي قالها عنها "ميخائيل باختين" فاللغة في هذا الملفوظ تحمل في أحشائها لغات متوارية، لكن علامات وجودها ظاهرة في صورة اللغة المشخصةكل هذه المعطيات؛ جعلت أفق التجريب أساسيا في تطور الرواية، سواء على مستوى الشكل، أو طرق السرد، أو اللغة أو بنية المكان والزمان، أو زاويا الرؤية وتقنيات معالجتها. وقد شكل التجريب عنصرا جوهريا فيها، من حيث البناء العام على مستوى البينة السردية، والموضوعية لهذا الجسم الروائي المحبك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى