الخميس ١٦ شباط (فبراير) ٢٠١٧

غربة الجغرافيا.. عراقية الكتابة

ناظم السعود

بعض الأسماء كان قدرها أن تسوح في بلاد الله إمّا بسبب العسف أو ضنك الحاجة أو اكتظاظ الروح بأزيز النيل، فكان الانتماء الجغرافي لخطوط الطول والعرض اختياراً ملزماً تحدده دوافع مختلفة وإن كانت النهاية واحدة.

وقد قرأنا وسمعنا لعشرات الأسماء الثقافية العراقية ممن ازدحم بهم أفق الاغتراب، مواقف متضادة وانتماءات متباعدة بين أقصى الضمير وأدنى المستنقع، وهكذا عبر عقد من الزمان هو الأقسى والأمرّ على الثقافة العراقية (يبتدئ من عقد التسعينات وحتى اليوم). كنا نتابع بألم حارق وأكباد حرّى ما تفرضه جغرافيا الاغتراب من توجهات بعضها غير مشرّف اطلاقاً للمبدع العراقي ولكن بعضها الآخر كان مزهوّاً بعراقيّة صميمة لا تربكها حسابات الجغرافيا وتعدّد فضاءات الاختبار فكان موقفها يشعّ بمبدئية صارمة وعنفوان لا تثلمه حاجة يومية أو حساب متلوّن، وكم من المبدعين خرجوا يافعين ولكنهم كبروا في مرجل الغربة ومبدئية الانتماء وعلى العكس من ذلك تهاوى مبدعون كبار في سفح الاختبار الابداعي (ولا أقول الوطني) بعد أن اخترقتهم سهام الحاجة وركاكة المبدأ.

وديع العبيدي هو أحد المختبرين بقوة في ميزان الغربة الجغرافية وأثبت أنه من ذلك النوع الذي لا يفترق عن عراقيته حتى بعد الوقوع في خطّ الجلجلة. وأزعم أني من الكتاب والقراء الذين لم ينتبهوا إلى إسم "وديع" أو إمكانياته حتى ثلاث سنوات ماضية وقع اسمه ونتاجه أمامي مفصحاً عن عراقة في التوجه وانتماء معافى لم تغيّره الوجاهات أو المغريات مع كثرة إحاطتها به. ويوم ان جلب لي الصديق الناقد "شكيب كاظم سعودي" نسخة من مجلته الأنيقة [ضفاف] أحسست بنسمة عراقية تأتيني من فوهة الدانوب حتى بركة دجلة ولا سيما أن لي ذكرى سنة نمساوية قبل عشرين عاماً قضيتها هناك في "فيننا" و "الدانوب" وأنا أقلب في صيف 1999 عدداً من [ضفاف] العبيدي، ولم تمضِ إلا أشهر قليلة حتى فاجأني الشاعر المغترب حسن النصار بقرب صدور عدد من [ضفاف] عن المبدعة العراقية (لطفية الدليمي) وكانت تجربة غير مسبوقة أن تخصص مجلة مغتربة عدداً بكامله عن مبدعة عراقية ما زالت تتغصص بآلام الحياة، وهذا أمر عجيب فعلاً لأن خطوة كهذه لم تبادر بها جميع المجلات والدوريات العراقية وقد أدهشني أن مقالة لي عن أحد كتب (الدليمي) قد أرسلت بالبريد إلى فيننا لتنشر في العدد الخاص من ضفاف وعلمت أن المبدعة (لطفية الديمي) هي التي بادرت بإرسال المقالة إلى المجلة. وقبل صدور العدد أُصِبت بالداء الوبيل وحلّت عليّ الجلطة الأولى في شباط 2000 وكانت بداية لسلسلة من الجلطات والأمراض الساندة وحين وصل العدد المشار إليه إلى بغداد كنت ما أزال في نقاهة إجبارية في بناية متهالكة في منطقة "الفضل" ببغداد، وجاءني الناقد (شكيب) والشاعر (سلمان داود محمد) بنسخة من المجلة وفيها مقالتي عن (الدليمي) مع عدد غير يسير من الشهادات والكتابات العراقية بحق كاتبة العراق الأولى.

في ذلك الوقت (نيسان 2000) كنت قد استلمت رئاسة القسم الثقافي في اسبوعية [الرافدين] البغدادية مع أن آلام الجلطة لم تتساكن بعدُ وحصلت مضاعفات صحية على أثر عملية قسطرة القلب أدت إلى تصلّب الشرايين وعجز في أطراف الحركة والنطق مع ارتفاع في ضغط الحصار. وأذكر أنني شكرت يومها من قلبي المجلوط مبادرة (وديع العبيدي) في سنّ مبادرة ثقافية نادرة على بعد آلاف الكيلومترات ولم يتيسّر للابداع العراقي مثال قبلها ولا بعدها، وهو ما يشير إلى انموذج صادق للانتماء الوجداني للعبيدي.

وقد كتبت عرضاً لمحتوى العدد في [الرافدين] ذكرت فيه بعضاً من انفعال المثقفين العراقيين تجاه مبادرة (العبيدي) وتفاجأت بعد أقلّ من شهرين أن مقطعاً من كتابتي تلك قد اختيرت كاستهلال للعدد الجديد من [ضفاف] وباسمي وعنواني المهني في بغداد وقد عرفت أن بعض الزملاء والأدباء، ومنهم سلمان داود محمد وشكيب كاظم سعودي، هم من أرسل كلمتي المنشورة إلى صاحب [ضفاف]. وبعد أقل من شهرين استلمت عن طريق صندوق بريدي في شارع حيفا رسالة رقيقة من الأديب العراقي وديع العبيدي كانت تفيض بمحبة عراقية لم تثلمها الملمات أو الهجرات ونوّه (العبيدي) في رسالته بمشاركتي في [ضفافه] داعياً إياي إلى مزيد من التعاون ومتمنياً لي دوام الصحة.

ومنذ ذلك الوقت وأنا أسمع أخباراً تبهج القلب عن ذلك الوديع العراقي ومحبته التي فاضت على الدانوب وعلى دجلة معاً وقد سمعت ولم أقرأ للأسف أن أعداداً خاصة من مجلته قد صدرت وهي تفيض بابداعات العراقيين وما أكثرهم؛ فمثلاً ذكر لي الصديق الشاعر (ابراهيم حيدر الخياط) أنه اطلع على عدد خاص عن المبدع العراقي الكبير (يوسف عزالدين)، وعدد آخر عن شاعر عراقي شاب، أما الصديق الشاعر (سلمان داود محمد) فقد أسرّ لي في نهاية عام 2001 أن العبيدي يجهز لإصدار عدد خاص من مجلته عن الشعر العراقي الجديد وطلب مني أن أساهم وقد فعلت وأظنّ أن مساهمتي قد وصلت إلى [ضفاف] فيننا مؤخراً.

وقد تسللت رسائل من (وديع العبيدي) إلى عدد من أدباء العراق المحاصَرين فكانت مسحة بيضاء على صدور أدبائنا الصابرين من يد مبدعة تسندهم وتنشر ابداعاتهم وتوصل أصواتهم إلى أقاصي الأرض وهو ما لم تفعله مؤسسات ووزارات اعلامية وثقافية في العراق وخارجه وتلك مزية من مزايا (وديع العبيدي) الانسان في عصر قهر الانسان.

كم أتمنى (وأرجو أن لا تطول أمنيتي على عمري المتبقي) أن تقوم المؤسسة الثقافية العراقية (سواء المركزية منها أو الفروع) بتبني مقترح عدد غير يسير من أدباء وكتاب العراق الذين عرفوا مبادرات (العبيدي) ووقفاته الشجاعة معهم، إلى إقامة احتفالية كبيرة بهذا المبدع الشجاع الذي وصلنا صوته رغم اختناق الفضاء بالطائرات والصواريخ المارة عبر الارادات لينبت في وجدان أدبائنا مشعلاً وضاء في مرحلة الظلام والموات لعلّ صوتي هذا يصل إلى من يعنيه أو لا يعنيه الأمر في تبني هذا المقترح لنكون كما نحن على الدوام أهل كرام يحيون الكريم ويقابلونه بأفضل مما تقدّم وذلك هو ديدن العراقيين منذ الأب جلجامش وحتى خالد الذكر (خليل الرفاعي)!.

ولكن.. هل سيجد صوتي صدى قريباً؟ ذلك هو العجب

ناظم السعود

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى