الخميس ٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
بقلم وديع العبيدي

ياهودايزم.. «تقنيات لعبة السلطة» ج2

[4]

ديالكتيك الثقافات..

ما الفارق بين الهللنستية: مشروع الاسكندر المقدوني، تلميذ ارسطو اخر فلاسفة الاغريق العظام؛ وبين بشارة يسوع الجليلي والرسالة المسيحية التي تمخضت عنها، كرسالة ثقافة عالمية حتى اليوم. الأولى كانت اغريقية ارثوذكسية جوهرها فلسفة الاغريق، والثانية شرقية فلسطينية جوهرها شريعة موسى.

هل كانت ثمة منافسة، صراع، ديالكتيك بين المسيحية والهللنستية؟..
هل ثمة صلة تواصلية او تنافسية بين مشروع الاسكندر الكبير، وانهيار المشروع البابلي بوصفه امتدادا للمشروع الرافديني، والذي كانت نهايته نهاية العالم القديم – الالف الخامسة حتى القرن الخامس قبل الميلاد؟..

الفلسفة الاثينية واللاتينية ذهبت، الى تكون الزمان من دورات تاريخية، والدورة الواحدة قد تتكون من مراحل او اعصر. واعتبرت بداية الكتابة: عصر سومر في الالف الرابعة قبل الميلاد بداية التاريخ/(التدوين). وكان سقوط بابل في القرن الخامس قبل الميلاد، نهاية ذلك التاريخ.

ظهور الاسكندر المقدوني في اول القرن الثالث القبل ميلادي، شكل بداية تاريخ جديد، تمثل بانتقال البؤرة الحضارية- حسب اصطلاح فراس سواح- غربا، نحو اوربا. وفي هاته المرحلة، يتجه اشعاع بؤرة – الأغريق- شرقا نحو بابل/ قدموس، وغربا باتجاه روما.

انتهى مشروع الاسكندر بموته المبكر، ولم يخلفه قائد من مستواه ينهض بمشروعه، فتفتت وذاب في مستنقع الصراعات القبلية والغزوات المحلية. أستثني من بين خلفاء الاسكندر (بطليموس) ملك الاسكندرية وشمال افريقيا –مؤسس حكم البطالمة في مصر-، الذي سيقود نهضة نوعية، تشكل بؤرة جديدة للاشعاع الحضاري، تمتد حتى الغزو الروماني لمصر في العام الخمسين قبل الميلاد.

اتجاه الاسكندر شرقا للحد من التهديد الايراني لحدود الاغريق، جاء تاليا لنجاح والده فيليب، في تأسيس اتحاد كورنثه وضبط الامن والنظام في القسم الاوربي. لكن موت فيليب خلال وجود الاسكندر في الشرق، اعاد تفكك وحدة الامبراطورية في قسمها الاوربي، وهي الفرصة التي استغلتها روما لتمديد نفوذها شرقا، ثم التوسع شرق المتوسط عقب موت الاسكندر وتفكك امبراطوريته. فكان صعود امبراطورية مقدونيا وانحدارها سريعا، ولم يخلف أثرا، لولا الارث الحضاري الثقافي المتمثل بالهللينية.

ليس هناك كفاية بحث في مجال التلاقح الحضاري بين الاغريق وبابل الكلدانية، مقارنة بعمق وسعة التلاقح والتواصل الحضاري بين الاغريق ومصر الفرعونية، الذي خلف مكتبة غنية حاضرة لليوم. ثمانية سنوات من عمر الاسكندر المقدوني، التي عاشها مستقرا في بابل وجحافل جيشه المنتشرة في انحاء شنعار، مدت اواصر تواصلية اجتماعية ثقافية متعددة المستويات والابعاد، مما يستحق وفرة من البحوث والدراسات والتخصصات. اهمال دراسة هذا الجانب، ترك فراغات فاغرة في التاريخ العراقي، بله، علم الاجتماع العراقي وانعكاساته في السياسة والاقتصاد والثقافة. هذا الامر يقتضي عناية الجهد الثقافي العراقي، وتوجهات النشء الجديد من الكتاب والاكادميين العراقيين.

من اثار الهللينستية في فلسطين، ظهور تيار ثقافي يهودي يأخذ بمعارف الاغريق ونهجهم الحضاري، ويبدو ان الحداثة اليهودية العلمانية كانت من القوة، بحيث انعكست على الديانة اليهودية، ممثلة في حدث تاريخي بارز، هو ترجمة التناخ العبراني الى لغة الاغريق، والمعروف بالترجمة السبعينية، التي تمت في الاسكندرية المصرية في عهد بطليموس في القرن الثاني قبل الميلاد.

والى جانب التناخ الاغريقي، كان ثمة انعكاس اخر في المجال الديني، هو ظهور تيار/(طائفة) الصدوقيين الذين ادخلوا افكار التحديث الاغريقية –ثم الرومانية- على الديانة اليهودية - ذات الاصول البابلية-. وقد بلغ تيار الصدوقيين الكهنوتي من القوة والانتشار، بحيث شكلوا المنافس الاقوى لتيار المحافظين الفرّيسيين، وذلك في قيادة المجمع الكهنوتي اليهودي -سنهدريم-.

والى جانب الاثار الهللينية، شهد القرن الثاني قبل الميلاد، تحولا نوعيا في التقارب بين الثقافات المحلية والتلاقحية الثقافية المحلية، التي من ملامحها ترجمة التناخ العبراني الى اللغة الارامية وهي الترجمة المشهورة حتى اليوم باسم – بشيتا/ بسيطه- المستخدمة في الكنيسة السريانية والاشورية. الى جانب ترجمة جوانب عدة من تراث الاغريق ومعارفهم للغات السريانية والتي ستنعكس في السياق الاجتماعي والتنوع الديني وصياغة معتقدات جديدة.

في خلال المفصلية التاريخية بين الارث الحضاري والفلسفي للاغريق، والنفوذ السياسي والعمراني للرومان، كان ظهور حركة التحديث والاصلاح اليسوعية، مقدمة معادلة جديدة، توازن بين السلطان الامبراطوري/ الروماني وسلطان الاخلاق من جهة، وبين الفلسفة المادية/ الاغريقية وفلسفة الروح من جهة مقابلة.

مغزى هذا التأكيد، انه لا يمكن فهم حركة وفكر يسوع الجليلي في معزل عن فلسفة الاغريق وعمران الرومان. وأي فهم وتفسير له، كما ساد في الاوساط الكنسية والأرثوذكسية حتى اللحظة، يبقى منقوصا ومشوها. والى هذا الخلل يعود التراجع النوعي وواقع الانقسام والافتئات المتمادي في المسيحية، وبشكل جعل منها ماركة تجارية ضبابية ومجانية، يمكن لصقها على أي سلعة او اتجاه ديني او قومي او سياسي.

واقع الحال.. انه، لابد من اهتمام خاص، بالتوطن الجغرافي لظهور يسوع الجليلي. حيث الجليل/ طبرية مقاطعة رومانية مستقلة ولها حاكمها الخاص، هو هيرودس الأب يومذاك. وموقع اقليم الجليل بين مقاطعة السامرة جنوبا، ولبنان شمالا. وكانت مساحة الجليل التاريخية تشمل جنوب لبنان الحالية شمالا، وتقترب من دمشق الحالية شرقا. فيما كانت مقاطعة السامرة تفصل الجليل عن مقاطعة اليهودية.

هذا التوطن الجغرافي بابعاده السياسية والاجتماعية والحضارية ليس بلا طائل او مغزى، طالما تم تغييبه وتعتيمه وتهيميشه في التاريخ والتعليم الكنسي(*). من هنا ايضا، تتبدى الحتمية التاريخية لأهمية وجود شخصية تواصلية جيوثقافية مثل شخصية شاول/ بولس الطرسوسي- جنوبي الاناضول- في اليسوعية، وفريقه الاوربي [لوقا الطبيب، سيلا، تيموثاوس، وتيتوس].
هذا التوطن الجغرافي والسوسيوثقافي، يشمل التوزيع الدمغرافي للتلاميذ الاثني عشر – حواري المسيح. وبينهم واحد وحيد من منطقة اليهودية، هو مسؤول صندوق المال والخائن الوحيد الذي سيبيع معلمه بثلاثمائة من الفضة-[لو 22: 3- 6، 47- 48].

بينما بقية التلاميذ كلهم من انحاء مقاطعة الجليل وسيما صيدا. وكانت موانئ صيدا ولبنان الفينيقية على اتصال ملاحي مستمر مع شواطئ شمال افريقيا كما مع شواطئ شمالي المتوسط، مما يسهل التواصل والتنقل بينها. وبحسب الكتاب، كان يهود ليبيا وتونس هم الاقرب لشخص يسوع امثال سمعان بطرس وشقيقته مريم التقية وابنها يوحنا مرقس -وكلهم من يهود ليبيا-، وسمعان القيرواني الذي حمل معه خشب الصليب.

خلاصة..

سقراط نبي الاغريق.. زعم ان افكاره ليست من بنات ذهنه، وانما من وحي دلفي، معبد الاله ابولو- اله الشمس- ابن الاله زيوس –كبير الالهة- في الميثولوجيا الاوربية. ومن تحت يد سقراط ظهر افلاطون، الذي كان يدعى – ابن السماء- عند خاصته.

وظهر ارسطو من مدرسة افلاطون – اكاديما-. وكان ارسطو معلم الاسكندر المقدوني صاحب مشروع امبراطورية واحدة وثقافة واحدة وامبراطور واحد، تضمّ كل البشرية –قارن مشروع الانترنت والامبريالية الاميركية-.

والاسكندر ايضا كان يدعو نفسه ابن زيوس وسليل السماء، وسخر نفسه ليكون مثالا ومثلا لمقلديه. والارث الاسلامي، جريا على معتقدات سابقيه، اعتبر الاسكندر المقدوني نبيا، ومن الصالحين، وكناه بذي القرنين-(الكهف 94) هزم المغول –ياجوج وماجوج- بما له من قوة الحديد والبأس. وفي ارض الرافدين مقامات ومزارات لذي القرنين.

يسوع الجليلي الذي ظهر بعد الاسكندر المقدوني بثلاثة قرون، قدم نفسه مخلصا للبشرية، وكرس حياته مثالا ومثلا يحتذى لمن يتبعه من اصحاب – الطريق/ الصرط المستقيم- بلغة الرومان، ولفظة: صراط: كلمة رومانية تعني (طريق). والسراط المستقيم هو اسم حي في دمشق، نزل فيه بولس عندما امن بيسوع وتعمد على يد يوحنا، وفيها تم فرزه للكرازة للامم/(اع 9: 11).

وكان اتباع يسوع في البدء يدعون (اتباع الطريق)/(اع 9: 2)، ذاك ان يسوع نفسه قال: (انا هو الطريق والحق والحياة، لا يأتي احد الى الاب، الا بي. ان كنتم قد عرفتموني، فقد عرفتم ابي ايضا. ومنذ الان تعرفونه وقد رايتموه!)/(يو 14: 6).

بولس الرسول، مواليد طرسوس الاغريقية، تتلمذ بكل معارف الاغريق، وهو مواطن روماني بالجنسية، ومن أصول يهودية بالعائلة. وفي كرازته كان يقدم نفسه انه: (بولس عبد يسوع المسيح، الرسول المدعو والمفرز لانجيل الله)/(رو1: 1)، (بولس رسول المسيح يسوع، المدعو بمشيئة الله)/(1كو 1: 1، 2كو 1: 1).

فكان بولس الطرسوسي هو نبي الاغارقة والرومان الجديد بدل سقراط، وسيتم قرن صفات ابولو اله الشمس، بيسوع المسيح نور العالم وشمس الشموس، والشفاء في اجنحتها. وتتلاقح خصائص ديانة زيوس والاله ديانا بالعقيدة اليسوعية، ويتم رفع صورة مريم العذراء لمرتبة الالهة ديانا.

* لاحظ هنا الاهمية الاستثنائية لربط مولد يسوع الجليلي بقرية بيت لحم القريبة من اورشالوم، أي موطن داود بن يسي بحسب (ميخا 5: 2) : (وأنت يا بيت لحم افراته، مع أنك قرية صغيرة بين ألوف قرى يهوذا، الا ان منك يخرج لي، من يصبح ملكا في اسرائيل، واصله منذ القدم، منذ الازل.).

[5]

"تعال الى مقدونيه وأنجدنا!"..

كيف تتغير أفكار الناس وعاداتهم من اتجاه الى اخر.. من مستوى الى غيره؟..

ما هي الاليات/(الكيفية)، والادوات/(أشخاص/ أفكار)، وطرق وبرامج التغيير؟..

ما هي الاسباب وراء نجاح بعض الاهداف، وفشل برامج أخرى؟..

هل تتعلق الاسباب بجهة التأثير/(صاحب الفكرة)، أم المتلقي/(الناس)، أم الطريقة وأداة التأثير؟..

يعتبر بولس الطرسوسي مدرسة شاملة في طرق وتقنيات التأثير في الرأي العام، وتوجيهه الوجهة التي يريدها. كنا قد عرفنا من قبله: سقراط أثينا الذي كان يتجول في الاسواق ويستخدم (الجدل) اداة لنشر أفكاره في صفوف العامة، حتى تعارف عليه الناس بحكيم اليونان، او الشخص الأكثر حكمة في اثينا، حسب وصف كاهنة دلفي؟..

جدل سقراط هو الذي سيتطور ويتحول الى (منطق) ارسطو الذي يعيد صياغة المعارف والافكار والمعتقدات الدينية الفاعلة حتى اليوم. يبقى.. ان الاغريق هم عقل العالم، وهم أهل الحكمة – الفكر والفلسفة والاخلاق-، وعنهم أخذ الجميع، ممن تقدم او تأخر. ومن هؤلاء المفكر اليهودي فيلون السكندري، وشاول/ بولس الطرسوسي: الفيلسوف اليهودي الذي حمل بشارة الصليب للامم.

ان ازدهار وانحطاط الحكومات والاحزاب والعقائد والمثقفين والثقافات والأفكار، يعود الى مدى نجاح اصحابها في تسويق بضاعتهم وترويجها، بحيث تطغى على حياة الناس – سلوكا وفكرا- وتجرى مجرى الطبيعة والفلك، بعد غياب اصحاب الفكرة.

حاجتنا لدراسة هاته النقطة، يساعد في تفكيك لغز فشل التنوير والحداثة، والثقافة العلمانية في مجتمعات الشرق الاوسط. فالواجب الوجيه هو اتقان [الالية- الكيفية والاسلوب] لانجاز عملية التوصيل والتلقي، اكثر من مجرد تجميع الافكار وترديدها. نحن لم نصل للان لاتقان اساليب وتقنيات فكرية منطقية، تضع حدا للدعاية/ الاشاعات الدينية والايديووجية التي ما زالت تلوي رقاب الاغلبية وتستلب عقولها وامزجتها!.

مكتبات العالم وارشيف الانترنت لا تغري احدا بالنهل منها او التأثر بها، من غير –اليات واساليب كيفية- للتسويق والترويج واختراق علم نفس وذوق المستهلكين. وقد زعم احدهم، ان من اسباب فشل النظام الاشتراكي- السوفيتي- هو عدم عنايته بفن الاعلان والتسويق. بينما سبب نجاح النظام الراسمالي والامبريالي هو تركيزها على فن الاعلان والتسويق والترويج.

الفاعلية التاريخية تعتمد على ساقين: انتاج الافكار، وطرق تسويقها وتوصيلها للمستهلكين والمعنيين.

المثقف يدور في عالم الافكار ويتالق في صومعته، ورجل الدين والسياسي يجول في الاسواق، ويستميل الناس بطرق رخيصة وسلسة، ولكنها تستميل الاغلبية، وتجعلهم يفتحون له جيوبهم وعقولهم!، -سيما عاطلي الفكر-، و(السلعة الرديئة تطرد السلعة الجيدة).

والان كيف نجح هذا (الفرد) البولسي في قلب تربة اليونان والرومان وجعلها حقلا للمسيحية – فكرا وسلوكا-؟.. كيف صنع كل ذلك بجهده الفردي ولغته المحنكة، ومن غير سلطة او سيف او جيش؟!.. وبفضل بولس الطرسوسي وثورته الثقافية، نجحت اوربا في احتكار الفكر والثقافة والاخلاق، وما زالت تسود العالم على كل صعيد لبقية هذا القرن؟..

مفتاح المحبة: لم يبدأ بولس معارضا ومنددا بالثقافة اليونانية واجتماعيات كورنثه، ولم يعلن التمرد ويدعو الى تهديم المعابد وتهشيم التماثيل الجليلة عند اهلها، والتي تمثل رموزهم. ومازلنا نعرف بولس فخورا بكونه: يوناني الثقافة روماني الجنسية.

بعبارة أهم، بولس لم يرفض الاطار الحضاري للمدنية الغربية ولم ينفِ مركزيتها العقلية، وانما اضاف اليها البعد الروحي المتمثل بالوحدانية المركزية، وامتياز يسوع كطريق وباب للاستنارة الروحية. وفي هاته النبذة السريعة اشارات مفتاحية، تبين طرق اتصاله وتواصله مع الناس، بشكل جعل نفسه مجرد [أداة توصيل] تناسب كل شخص او جماعة بحسب مداخلها..

ان افتخاركم ليس في محله. الستم تعلمون ان خميرة صغيرة تخمر العجين كله، فاعتزلوا الخميرة العتيقة من بينكم، لتكونوا عجينا جديدا، لأنكم فطير!.. فلنعيّد إذن، لا بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الخبث والشر، بل بفطير الخلاص والحق.

ان المسيح قد ارسلني، لا لأعمّد، بل لأبشّر بالانجيل، غير معتمد على حكمة الكلام، لئلا يصير صليب المسيح، كأنه بلا نفع!. لأن البشارة بالصليب جهالة عند الناس، واما عندنا نحن (المخلّصين)، فهو قدرة الله.

إذن اين الحكيم؟.. أين الكاتب؟.. اين المجادل في هذا الزمان؟.. ألم تنقلب حكمة العالم الى جهالة؟..

إذ ان اليهود يطلبون ايات.. واليونانيين يطلبون الحكمة، ولكننا نحن نبشّر بالمسيح مصلوبا، بوصفه قدرة الله وحكمته!..

رغم ان لي حكمة اتكلم بها بين البالغين، فانني ما جئت بالكلام البليغ ولا الحكمة، لأنني عزمت ألا اعرف بينكم الا يسوع المسيح، مصلوبا!.

لينظر الينا الناس باعتبارنا خداما للمسيح، والمطلوب من الوكيل ان يكون أمينا..

انا لا اتاجر بكلمة الله كما يفعل كثيرون، وانما باخلاص ومن قبل الله، وامام الله اتكلم في المسيح. لا امتدح نفسي، ولا احتاج – كبعضهم- الى رسائل توصية احملها اليكم او منكم. فأنتم رسالتي وتوصيتي المكتوبة في قلبي، ويستطيع الناس ان يروها ويعرفوها.

انا لا ابشر بنفسي، وانما بالمسيح ربا. وانا في خدمتكم من اجله.

الموت فعال فينا، والحياة فعالة فيكم!..

ان كانوا خداما للمسيح، فانا متفوق عليهم: في الاتعاب اوفر منهم جدا. عانيت السجن مرات عدة وسنوات طويلة. في الجلدات، تلقيت الجلد خمس مرات، كل مرة اربعين جلدة الا واحدة. ضربت بالعصي ثلاث مرات. رجمت بالحجارة مرة، تحطمت بي السفينة ثلاث مرات. سافرت اسفارا عديدة، وواجهتني اخطار السيول الجارفة واخطار قطاع الطرق واخطار من بني جنسي ومن الامم، اخطار في المدن وفي البراري وفي البحر، واخطار بين اخوة دجالين. عانيت التعب والكدّ والسهر الطويل، عانيت الجوع والعطش والصوم الطويل والبرد والعري. أهناك من يضعف ولا اضعف انا؟.. أهناك من يعثر ولا أتألم انا؟.. ان كان لابد من الافتخار، سأفتخر بامور ضعفي!.

والان، أنا افرح في الالام التي اقاسيها لاجلكم،وأتمم في جسدي ما نقص من ضيقات المسيح لاجل جسده الذي هو الكنيسة!.

مع اني حر، جعلت نفسي عبدا للجميع. لأكسب اكبر عدد منهم. فصرت لليهودي كأني يهودي، حتى اكسب اليهود. وللخاضعين لشريعة كأني خاضع لها، مع اني لست خاضعا لها، حتى اكسب الخاضعين لها. وللذين بلا شريعة كأني بلا شريعة، مع اني لست بلا ناموس عند الله، حتى اكسب الذين هم بلا شريعة. وصرت للضعفاء ضعيفا، حتى اكسب الضعفاء. صرت للجميع كل شيء، لانقذ بعضا منهم، مهما كلف الامر. وأني افعل كل شيء، من اجل الانجيل، لاكون شريكا في الانجيل مع الاخرين.!

والنص الاخير هو الاكثر صعوبة/ استحالة، والأكثر اشكالية في مجال التفسير والفهم والتطبيق لاهوتيا او عمليا، ولكنه الأكثر صدقا لفهم طبيعة وشخصية وقدرات بولس الديناميكية في التأثير الجماهيري.

ففي اوساط اثينا عاصمة الحكمة والعقل، استخدم معارفه الفلسفية والادبية الاغريقية، متحدثا لغتهم اليونانية العالية، بوصفه واحدا منهم، متعلما بعلومهم وملما بأفكارهم، متخذا منها اطارا ووسيلة، لتضمين رسالته التي هو خادم لها. بعبارة، انه لخادم لفكرته، ولاتقان خدمة الفكرة، يجتهد ان يكون خادما للمتلقي من اجل الفكرة.

"وبينما كان بولس ينتظر [سيلا وتيموثاوس] في أثينا، رأى المدينة مملوءة اصناما وتماثيل، فأخذ يكلم من يراهم في ساحة المدينة، وجرت مناقشة بينه وبين بعض الفلاسفة الابيقوريين والرواقيين. ولما وجدوا انه يبشر بيسوع والقيامة قال بعضهم: ماذا يعني هذا المدعي الاحمق بكلامه؟.. وقال اخرون: يبدو انه ينادي بالهة غريبة!..

ثم قادوه الى تلة أريوباغوس، حيث مجلس المدينة، وسألوه: هل لنا ان نعرف ما هو المذهب الجديد الذي تنادي به؟.. اننا نسمع منك اقوالا غريبة، نريد ان نعرف معناها. وكان اهل أثينا والاجانب فيها يمضون اوقات فراغهم في مناقشة الافكار الجديدة.

فوقف بولس في وسط الاريوباغوس، وقال..
يا أهل أثينا، أراكم متدينين كثيرا في كل أمر.
فبينما كنت أتجول في مدينتكم وأنظر الى معابدكم،
رأيت معبدا مكتوبا عليه –الى الاله المجهول-!.
فبهذا الاله الذي تعبدونه ولا تعرفونه، أنا أبشركم.
انه الله الذي خلق الكون وكل ما فيه،
وهو الذي لا يسكن في معابد بنتها أيدي البشر،
وليس بحاجة الى خدمة يقدّمها له الناس.
فهو يهب الخلق الحياة والنفس وكل شيء.
وقد أخرج الشعوب جميعا من اصل واحد،
وحدّد مسبقا أزمنة وجودهم وحدود أوطانهم..
وغايته ان يعرفه الناس ويتواصلوا معه،
فأنه ليس بعيدا عن كل واحد منا.
فنحن به نحيا، ونتحرك ونوجد،
أو كما قال احد شعرائكم: نحن أيضا ذريته!
فما دمنا نحن ذريته، لا فلا ننظر الى
الالوهية كصنم من ذهب او حجر او شهوة،
يستطيع ان ينحته انسان او يصوغه كما يتخيل.
وهو يدعو الجميع ان يعودوا اليه تائبين..
وقد حدّد يوما يدين فيه العالم بالعدل على يد يسوع
وقد قدّم برهانا للجميع، إذ أقامه من بين الاموات!.
فاستهزأ بعضهم منه. وآخرون طلبوا عودته للحديث ثانية.
ولكن بعضهم انضموا اليه، ومنهم ديونيسوس، عضو مجلس أريوباغوس،
وامرأة تسمها داماريس."-(اع 17: 16- 34)

خلاصة..

ومن المبشرين في بلاد اليونان الى جانب بولس ومساعديه، كان (شخص يهودي اسمه –أبلّوس-: سكندري المولد، فصيح اللسان، خبير في الكتاب. كان قد تلقن طريق الرب، فبدأ يخطب بحماسة شديدة، ويعلم الحقائق المختصة بيسوع تعليما صحيحا. ومع انه لم يكن يعرف سوى معمودية يوحنا المعمدان، كان يتكلم في مجمع أفسس بجرأة.)/(اع 18: 24- 26).

وفي (اع 19: 1) نقرأ: (بينما كان أبلّوس في كورنثوس، وصل بولس الى أفسس) التي سبق أن بشّر فيها ابلّوس. مما يعني ان (أبلّوس) سابق لبولس في حمل بشارة المسيح الى اوربا، وسوف يتعاون الاثنان ويكملان مشوارهما الواحد.

وفي مكان اخر يقول بولس: "أن واحدا منكم يقول: أنا مع بولس، وآخر: أنا مع أبلّوس، وآخر: أنا مع بطرس، وآخر: أنا مع المسيح، فهل تجزأ المسيح؟.."/(1كو 1: 12- 13).

وفي (1كو 3: 4- 6):" ما دام أحدكم يقول: أنا مع بولس، وآخر: أنا مع أبلّوس، ألا تكونون جسديين؟.. فمن هو بولس؟.. ومن هو أبلّوس؟.. انهما فقط خادمان، امنتم على ايديهما، بنعمة الرب على كل منهما. أنا غرست، وأبلّوس سقى، ولكن الله أنمى!".

والاصح، ان ابلوس هو الزارع، لسبقه بولس في المدن والمجامع اليونانية التي بشر فيها. ان عدم توثيق دور ابلّوس والعناية به، يشكل نقصا في المكتبة والتوثيق المسيحي، وبشكل يفتح الباب امام احتمال وجود مبشرين آخرين، ووقائع وآثار وأفكار أخرى، كان نصيبها النسيان والاهمال!..
وفي التقليد ان: (المؤمنين الذين تشتتوا بسبب الاضطهاد، الذي حدث بعد مقتل استفانوس، انتشروا نحو فينيقية وقبرص وانطاكية. وكان بعضهم لا يبشر الا اليهود، وبعضهم، ممن هم اصلا من قبرص والقيروان، كانوا يبشرون اليونانيين ايضا، آمن جمع كبير، ومنهم تكونت كنيسة انطاكية.)/(اع 11: 19- 21).

لكن امتياز بولس على سواه، هو ان دوره لم يقتصر على الخطابة والوعظ والردّ على الاسئلة، وانما كان حاذقا ونشيطا في زرع كنائس محلية واختيار قادة محليين لقيادتها والاشراف على حياتها وتوسيعها، ومتابعة المنضوين فيها. أي ان بولس هو مؤسس النظام الكنسي بكل تفاصيله الرئيسة، وما زالت رسائله الرعوية، مصدر ارشاد وتعليم لانتاج قادة جدد.

[6]

دخول الملكوت يقتضي صعوبات كثيرة..

لم تكن مهمة بولس الطرسوسي سهلة كما يفهم من نجاحها النهائي، وانما واجهت مختلف المعوقات والصعوبات التي تتكشف من رسائله وسفر اعمال الرسل. ولكنه..

أولا: لم تنجح المعوقات في تغيير هدفه ومسعاه الكفاحي في سبيله.

ثانيا: لم يسمح للصعوبات ان تؤثر على اسلوبه وطريقته في العمل ومشاعره الودية المتفهمة تجاه معارضيه.

ويمكن تقسيم جملة الاشكالات والصعوبات التي واجهت بولس الى عدة مستويات وأصناف..
اشكالات لاهوتية..

مشاكل مع الرسل والاخوة المسيحيين..

اشكالات ومشاكل مع اليهود والكهنة من جماعته السابقين..

مشاكل مع الموعوظين والمسيحيين الجدد..

مشاكل مع السلطات الحاكمة العائدة اساسا لوشايات جماعته..

وليس من اليسر التوقف مع كل واحدة منها بالتفصيل، واستنطاق جذورها واصولها وسياقاتها وانعكاساتها الراهنية واللاحقة. لكن كلا منها بالجملة، واجتماعها على شخص واحد رهن نفسه لتحقيق هدف نبيل حد التضحية بحياته لاجله، كان كافيا لثنيه عن سبيله، لولا قوة عزمه وقوته الداخلية وثقته بذاته.

بولس رسول المسيح..

من الجدليات الزمنية القائمة في الادب المسيحي، هي مصدر وأصول معرفة بولس للاهوت المسيح، وهو الذي كان خارج دائرة المسيح، ومن فريق المناهضين له. وعندما اختبر السيدد المسيح –(اع 9: 3- 19) في طريقه الى دمشق، اعتكف ثلاث سنوات في بادية دمشق، عاد بعدها الى مدينته في طرسوس، واعتزل اثني عشر عاما. تلك الخمسة عشر عاما [33- 48م] هي سنوات مجهولة في أول حياة بولس المسيحية. وإن كان البعض يعتبر رحلته لبادية العرب، اعتكافا صوفيا او تأملا روحيا او مرحلة استنارة واستعلانات الهية مستمرة.

والبعض يعتبرها رحلة كرازة للعرب، لكنها ضعيفة الاسس. ففي موقف عماده وقبوله الطريق الجديد، تعرض لأول وشاية يهودية، ولا يعرف كيف للحارث المسيحي حاكم دمشق يومها اضطهاد مسيحي كارز جديد، بحيث تم تهريب بولس من فوق السور ليلا للنجاة من الموت.

اعتقد ان بولس النذير/(غل 1: 15) من صغره، والمدفوع بقدره الروحي، كان بحاجة لوقت عزلة وتأمل، لاستيعاب انتقالته الروحية والفكرية والاجتماعية، من يهودي فريسي قائد ومجاهد، الى كارز تابع ليسوع المسيح، ورسول للامم مكرس باسمه.

المجاهد اليهودي صار كارزا مسيحيا. الفريسي العالم صار رسولا ليسوع. الشخص الذي كان يضطهد اتباع الطريق صار داعية للطريق ومؤازر لمن كان يضطهدهم. الناس لم يستوعبوا هذا التحول. هو ايضا، لم يستوعب هذا التحول بسهولة.

بادية العرب، هي ايضا وادي الاردن. وادي الاردن هي مغاور اتباع جماعة قمران، الجماعة الاسينية التي كان يوحنا المعمدان بن زكريا احد اعضائها او اقطابها. ولا يذكر التاريخ ان شاول الطرسوسي كان معارضا او مناوئا ليوحنا المعمدان وجماعته. ولكننا نعرف ان اليهود كان يعترفون بيوحنا المعمدان ويحيطونه بالتقدير والاحترام والطاعة، وهو نبي عندهم، وتعاليمه محفوظة.
ولكن شاول –وأتباعه الفريسيين، واليهود- لم ينتبهوا الى تبشير يوحنا بيسوع ودعوته للاتي من بعده، الكائن من قبله، الذي لا يستحق ان يحل رباط حذائه/(يو1: 15). "وقد بعث الله الى اسرائيل من نسل داود مخلصا، هو يسوع، اتماما لوعده.وقد سبق يوحنا المعمدان مجئ يسوع، داعيا الجميع الى معمودية التوبة. ولما أوشكت مهمة يوحنا المعمدان ان تنتهي، قال: من تظنونني؟.. لست أنا المخلص!.. بل انه آت بعدي، ولست استحق ان احل رباط حذائه"!-(اع 3: 23- 25)/[خطبة بولس في انطاكية الاناضول].

في رسالته الى كنيسة غلاطية/ الأناضول، يوضح بولس اصول علاقته بالانجيل والمسيحية قائلا: "أعلمكم ايها الاخوة، ان الانجيل الذي بشّرتكم به، ليس انجيلا بشريا. فلا أنا استلمته من انسان، ولا تلقنته من احد، بل، جاءني بغعلان من يسوع المسيح. فانكم قد سمعتم بسيرتي الماضية في الديانة اليهودية. كيف كنت اضطهد كنيسة الله متطرفا الى اقصى حد، ساعيا الى تخريبها. وكيف كنت متفوقا في الديانة اليهودية، على كثيرين من ابناء جيلي في أمتي، لكوني غيورا اكثر منهم جدا، على تقاليد آبائي. ولكن، لما سرّ الله، الذي كان قد أفرزني، وانا في بطن أمي، ثم دعاني بنعمته، أن يعلن ابنه فيّ، لأبشّر به بين الامم. في الحال لم استشر لحما ودما. ولا صعدت الى اورشليم، لأقابل الذين كانوا رسلا من قبلي، بل انطلقت الى بلاد العرب، وبعد ذلك رجعت الى دمشق. ثم صعدت الى اورشليم بعد ثلاث سنوات، لتعرف ببطرس. قد أقمت عنده خمسة عشر يوما. ولكنني لم اقابل غيره من الرسل، الا يعقوب، اخا الرب.."/(غل 1: 11- 19)

معنى كلمة برنابا هو (ابن التشجيع)، اما اسمه الحقيقي فهو (يوسف) – من يهود قبرص، وهو خال يوحنا مرقس كاتب الانجيل الثاني-. وهو الذي اهتم بأمر شاول الطرسوسي بعد خمسة عشر عاما من قبوله عماد المسيح: توجه برنابا الى طرسوس، يبحث عن شاول. ولما وجده جاء به الى انطاكية السورية. فكانوا يجتمعون فيها سوية لمدة سنة كاملة، وهما يعلمان في المجمع. وفي انطاكية، دعي تلاميذ المسيح لاول مرة، باسم المسيحيين."-(اع 11: 25- 26).

عقب عودته من طرسوس بمعونة برنابا، وبعد سنة من وجوده في انطاكية، يتجه بولس بمرافقة برنابا الى اورشالوم اليهودية/(اع 11: 30)، وفي أيام وجودهما –بولس وبرنابا- هناك، يموت هيرودس الادومي حاكم اليهودية-(اع12: 23).

وعن هاته الرحلة يقول بولس: "وبعد اربع عشرة سنة، صعدت مرة ثانية الى أورشليم بصحبة برنابا. وقد أخذت معي تيطس – يوناني من كريت- ايضا. صعدت اليها استجابة للوحي. وبسطت امامهم الانجيل الذي ابشّر به بين الامم. ولكن على انفراج، وامام البارزين منهم، لئلا يكون مسعاي في الحاضر والماضي بلا جدوى..(..) فلم يزيدوا شيئا على ما ابشّر به. بل بالعكس. رأوا انه عهد اليّ بالانجيل لاهل عدم الختان، كما عهد به الى بطرس، لأهل الختان. والذي استخدم بطرس في رسوليته الى اهل الختان، استخدمني ايضا بالنسبة للامم. فلما اتضحت النعمة الموهوبة لي عند يعقوب وبطرس ويوحنا، وهم البارزون باعتبارهم اعمدة، مدّوا اليّ والى برنابا، ايديهم اليمنى، اشارة الى المشاركة. فنتوجه نحن الى الامم، وهم الى اهل الختان. على ان لا نغفل أمر الفقراء، وهذا عينه طالما كنت مجتهدا، في ان أعمله."/(غل 2: 1- 3، 6- 10 ). وبعدها عاد بولس وبرنابا من اليهودية الى انطاكية السورية ومعهما يوحنا الملقب مرقس/(اع 12: 25)

فأول اجتماع رسولي لمناقشة اشكاليات التعليم اللاهوتي كان بين بولس وبرنابا وتيتوس، وثلاثتهم يونانيون بالولادة والثقافة [بولس من الأناضول، برنابا من قبرص، تيتوس من كريت]، واثنان منهم من يهود الشتات: بولس وبرنابا، فيما تيتوس يوناني المعتقد. وكانت المشكلة المطروحة تتعلق باصرار الغوغاء من يهود الشتات على ضرورة ختان من يقبل المسيح من غير اليهود/(رسالة غلاطية).

بيد ان ما وراء هاته المشكلة، اكبر من الظاهر – البسيط والساذج-. واقع الامر، هو اصرار اليهود على وجوب (التهوّد) أولا، كخطوة تسبق (المسيحية)!. وكان بعض اليهود الذين قبلوا المسيح، يتهمون (الرسول بولس بأنه يخفف المسيحية، ليجعلها اكثر قبولا عند الأمم. فكان هؤلاء لا يوافقون على اقوال الرسول بولس، بأنه ليس على الأمم أن يخضعوا للكثير من النواميس الدينية التي ظل اليهود يطيعونها قرونا عديدة. بل ان بعض هؤلاء المشتكين على بولس، تبعوه الى مدن غلاطية، وقالوا للمتجددين من الأمم، انهم لكي يخلصوا يجب ان يختتنوا، وأن يحفظوا الشرائع والعادات اليهودية. وبالايجاز، كان يجب، في رأي هؤلاء الناس، على الأمم أن يتهودوا اولا، لكي يصبحوا مسيحيين.)/ [التفسير التطبيقي للكتاب المقدس: رسالة غلاطية 1: 1/ ص2493- ط1998- الطبعة العربية]

فالمعروف ان اليهود في فلسطين والشتات، رفضوا رسالة السيد المسيح عامة، وبذلوا وسعهم لافشال دعوته وقتله وتصفية أتباعه. رافضين أية فكرة او محاولة تتعرض لعقيدتهم التاريخية:[ابراهام- موسى- داود]. وقد رفضوا بعنف كل اضافة وتجديد بعد (داود) الملك السياسي والروحي –الزعيم والنبي-، والذي اعتبروه (مسيح الربّ) المخلّص وصخرة اسرائيل الملجأ.

(داود- ديفيد): هو الصبي الذي هزم (جولياث) البطل الفلسطيني/(1صم 17)، له علامات شبه كثيرة مع شخصية شمشون/(قض 13- 16) وتماهيات بطولية معه، سيما في علاقته بالفلسطينيين وانتصاره التاريخي عليهم. وداود هو المؤسس الحقيقي لأول مملكة اسرائيلية واول سلالة حاكمة ممتدة في مملكة يهوذا. هو الذي أرسى دعائم أوروشالوم وثبتها عاصمة لحكمه، وصاحب فكرة بناء المعبد اليهودي الذي اجتمعت في شخصه فقط سلطاته الثلاثة:[الملك- النبي- الكاهن]. وبعد انهيار المملكة، صارت اوروشالوم رمزا سياسيا ودينيا مقدسا لليهودية والمسيحية تاليا.

تلك السلالة السياسية سوف تتحول بعد انهيار المملكة وتشتت اليهود الى فكرة السلالة/ السلسلة الدينية: (لن أطرح من أمامي كل اسرائيل، بل اخرج من صلب يعقوب ذرية، ومن يهوذا وارثا لجبالي، فيملكها مختاري ويقيم فيها عبيدي!)-(اش 65: 8- 9). ويتخصص سفر اشعياء بمعالجة الجانب المعنوي والديني ليهود الشتات، من خلال تعزيز التاريخ اليهودي ورموزه من جهة، وبعث الامل في خروج مخلص جديد يعيد لهم أمجادهم.

وفي ايام الشتات البابلي، تدخل فكرة دورة الزمن الفارسية الاصول، دورا في اقناع الشتات اليهودي، بأنه كما ظهر موسى مخلصا اليهود من عبودية مصر، سيظهر مخلص جديد لهم من سبي بابل. ويصف اشعياء بن اموص كورش الفارسي بأنه: مسيح الرب ومختاره/[اش 45: 1، 42: 1]. لكن كورش الفارسي ليس من ذرية يعقوب او من صلب يهوذا، وهو.. وان كان مخلصا مرحليا، ليس الملك الذي يدوم حكمه من خلال سلالته ونسله، مثل الملك داود.

ولكون الاخير الشخصية الاقوى والابرز في تاريخ اليهود، ومن ذرية يهوذا ابن يعقوب ابن اسحق ابن ابراهيم الذي باركه ابوه بالقول: (لا يزول صولجان الملك من يهوذا، ولا مشترع من صلبه، حتى يأتي شيلوه، فتطيعه الشعوب!)-(تك 49: 10)؛ كان (داود) هو المقصود في مرموزية (شيلوه) التي يفسرها الكتابيون بالمخلص (المسيح)، كما في أسفار العهد القديم. لكن داود مات وفسدت جثته في التراب/(اع 13: 36).

لا يغيب هنا مبدأ التعارض والجدل الذي لا تتحرك عجلة الزمن والحياة من غيره. وفضلا عن ارضية الخلاف التي قادت التحولات النوعية في تاريخ اليهود، من حال الى حالة، وصولا لمرحلة القبيلة والقضاة، ومن القبيلة الى المملكة [جدلية هيجل وانجلز: العائلة- القبيلة- الدولة].

ففي عقب موت شاول البنياميني، جرى تنصيب ابنه (ايشبوشت بن شاول) ملكا من بعده/(2صم 2: 8)، بينما كان داود ملكا في حبرون/(2صم 2: 11) منذ ايام شاول(*) وبينهما الحرب سجال في سفر صموئيل الاول، ومن بعد موت تستمر حرب داود ضد الملك الجديد ابن شاول حتى ينتهي الامر كله بيد داود في نهاية (2صم 4). وكانت تلك الحرب امتدادا للصراعات القبلية بين تحالف سبط بنيانين وتحالف سبط يهوذا، الذي يتداخل فيه الصراع على الارض/(يش 18: 11) الى جانب الثارات المتوارثة/(تك 29: 31، قض 20- 21). والذي سوف يعود للانفراط والتشتت بعد موت سليمان بن داود.

ويؤكد بولس الطرسوس الذي هو من سبط بنيامين: "طلب بنو اسرائيل ان يولي عليهم ملكا، فأقام الله عليهم شاول بن قيس، من سبط بنيامين، فملك عليهم اربعين سنة. ثم عزله الله وعيّن بدلا منه داود. وقد بعث الله من نسل داود مخلصا هو يسوع، اتماما لوعده."/(اع 13: 21- 23).

لم يخضع بنو بنيامين ليهوذا الا عقب مجازر وخيانات داخلية. ولهذا السبط جذور تاريخية وجينولوجية وتقاليد صارمة في الكفاح لاثبات وجودهم وعدم التهاون امام بقية الاسباط. بينيامين هو الابن الاصغر لراحيل بنت لابان بعد يوسف/(تك 35: 18) المولود في بيت لحم افراته. وكأن الصراع بين ليئة وراحيل/ (تك 29: 31) انتقل بين ابناء كل منهما، وهو الصراع الدموي والاخلاقي الذي ينتهي به سفر القضاة/(قض 20- 21).

لابدّ ان شاول الطرسوسي العالم الفريسي كان مدركا جيدا لحيثيات التاريخ العبراني وسرديات التناخ، واعيا لابعاد الغبن اللاحق بقبيلته، والمحالات المتكررة لتهميشه واخراجه من ميراث يعقوب. لذا.. يكاد بولس الطرسوسي ان يكون الوحيد بين رسل المسيحية، يستعيد مسألة التسبيط ويفتخر بأصوله القبلية، جامعا نفسه بشخصية اول ملوك اسرائيل: (شاول البنياميني). وكما جرى تهميش البنيامينيين من الحكم لصالح داود وسبط يهوذا، فقد اختاره الربّ مجددا لقيادة العهد الجديد. المعروف ان يوحنا المعمدان من سبط لاوي ابن يعقوب، ويسوع من سبط يهوذا ابن يعقوب بالجسد، وبولس من سبط بنيانين ابن يعقوب/(في 3: 5).

ويمكن القول ان اصطفاءه الشخصي من قبل يسوع مباشرة عقب ارتفاعه، دون غيره من اليهود، انصاف لما عاناه سبط بنيامين جورا وزورا، بعد طول انتظار. ومغزاه ان المجد والميراث الحقيقي ليس في ملك داود ومملكة يهوذا، وانما في ملك يسوع وملكوته الابدي.

فما اعتبره بولس الطرسوسي من اسباب افتخاره وامتيازه الشخصي، كان سببا محفزا على اضطهاده وملاحقته وتدمير مسعاه. وفي نفس الوقت لم يجرؤ كبار اليهود وعلماؤهم على مواجهته، محرضين ضدّه الغوغاء/(اع 14: 19) والنساء/(اع 13: 50). ولكنه بتكوينه الشخصي الراسخ وعمق ايمانه واختباره، كان امة في ذاته، وأصلا لأمم بالروح والثقافة، مقابل شخصية ابراهيم اب لجمهور من الامم بالجسد.

وقد نجح بولس وفريقه في مواجهة الشغب والاشكالات المثارة من قبل غوغاء اليهود، وحسمها نهائيا في زيارته الثانية الى اورشالوم ومواجهته بطرس ويعقوب بالامور، كما هو مدرج في (اع 15) وعظات بطرس المتعلقة بها. وبذلك ثبتت قانونية انجيل بولس للأمم الذي يؤكد ان الختان والعبادة الحقيقية هي بالقلب والروح، وليست بالجسد وعبودية التقاليد.

* يعقوب ابن اسحق ابن ابراهيم تزوج امرأتين اختين مرة واحدة: راحيل وليئة بنات لابان ابن بتوئيل الارامي من بني عمومته. لم تكن ليئة جميلة، بل كانت ولودا وانجبت ستة ابناء ليعقوب رابعهم يهوذا- معناه حمدا لله!-. وكانت راحيل جميلة احبها قلب يعقوب وكانت عاقرا، ثم انجبت ابنين هما يوسف وبنيامين. وبنيامين اصغر ابناء يعقوب وحبيبه بعد غدر ابناء ليئة بيوسف حسب القصة المعروفة. اما عداوة ليئة وابنائها لراحيل وابنائها، فهو مسجل في سفر التكوين، ومنه ان راؤبين بكر ليئة ضاجع (بلهة)/(تك 35: 22) سرية ابيه ووصيفة راحيل عقب موت الاخيرة. وقد زنا يهوذا بثامار ارملة ابنه وانجبت له فارص الذي منه داود الملك، واليه ينسب يسوع المسيح بشكل غير مباشر. فالصراع هو بين ابناء ليئة وراحيل، واستمرار يهوذا في التخلص من بنيامين بعد تهميش وتصفية اخيه يوسف.

* من الغريب ان يقوم صموئيل الكاهن الاعلى بمسح ملكين في وقت واحد [1صم 10: 1، 16: 13]، وقبل موت او عزل السابق. أما الأغرب منه فهو، ان الربّ يغير رأيه وقراره مع الزمن (1صم 16: 1).

(يتبع..)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى