الاثنين ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم أحمد عامر

بور تريه لجسد محترق - قسم 4 من 4 أقسام

صالح جالساً فى مندرته، ما زالت دائرة من الأجساد مفتوحة من اليمين، ذراع الشيشة يتنقل بين أفواههم .. انتظار طويل فى صفوف غير منتظمة لإلقاء أوراقهم فى صندوق أعلن عن مسابقة من أجل الحصول على وظيفة، ترك صالح ظهره فى أحضان الحائط .. مد يده إلى وجهه .. ابتسم .. يسمح لقطرات الدموع أن تنطلق .. هز رأسه .. يشدو بأغنية قديمة عن الفراق.

أقف أمام الباب .. أطرقة للمرة الألف .. أسب غبائى .. أطرق الباب المغلق.. هذه المرة الألف وواحد – الهواء البارد يضاجع أطرافى .. أشم حريق فى صدرى، أتحسس أوراقاً قديمة ما زالت فى رأسى – الساعة تدور ببطء .. الليل يزحف .. أتذكر كلمات قلتها وضحكوا، أكتشف أن هذه الكلمات حقيقية ومن الغباء أن انتظر نهاراً، انتحر تحت تهديد السلاح، وترك اللصوص يمرحون ويلهون بخيوط عرائس صامتة، صوت محرك الجماجم يرتفع ليعبر عن ما لا ترغب العرائس التفوه به، الجماجم تهرول، تختبئ فى الظلام، أمال عارية الآن، عرفوا ذلك من صوتها وصوت رجل مجهول يسرق متعة، زوجها بعيد عنها منذ أن عاد من الكويت، ترك هناك ما ذهب من أجله، انتشل عمره عائدا – جلب معه دموع لا تنقطع .. تتقلب آمال يمينا ويساراً بعد أن خرج مبتسماً ( سامحنى يا رب .. أعمل إيه يعنى .. أكل العيش مر ).

جاء الصوت من ناحية المقابر قوياً، ارتعشت الأجساد، ابتسم العسكر، قال محرك الجماجم ( أريدهم نيام )، ارتفع الصوت تدريجيا، خرج الصوت هذه المرة من داخلهم، تحولت جميع لهب الكيروسين إلى نسخ متعددة من عفريت أبو خفاخى، ترتعش أجساد العجائز، الصغار يصرخن، الأمهات يضعن الأيادى فوق أفواه الصغار.

وحيد يصرخ ( قوموا يا ناس، اعملوا حاجة بدل الكلام ) .. ( يا ناس حيجوا بالطيارات والمدافع)، يقابله الصمت، عفريت أبى خفاجى فى رؤوسهم، الفئران تعبث بأعواد الحطب فوق السطوح، القطط تتربص بهم، القمر يرسل ضوءاً متقطعاً – يرسم أحجاما كبيرة للقطط فوق الجدران، أعبث بقدمى غير مبال بالبرد القادم من الشمال، السطح يحاول طرد جسدى إلى الشارع المظلم، اتمسك بالكراكيب، أطرد المشاهد الملحة من رأسى، أشعل سيجارة أخرى، اتخيل أنى أقف أمام الملك، هل أطالب الملحة بحقوق الفقراء أم أطلب منه ما يساوى صمتى، ابتسم، احاول أن أصاحبها إلى هناك، رأى رجال الثورة .. ابتسم لهم .. أصرخ مع الهياكل ( لا تتنحى )، أكرر المحاولة، أفضل فى إحصاء النجوم، ابتعدت عن الدور المهدمة، أتجاهل صوت أم صالح، تصرخ فى وجه ابنها ( قوم يا بنى شوف لك شغلانه – حتقعد كده زى العمل الرضى ) .. يتجاهل صوتها، يشعل سيجارة بانجو، تبحث تحت المنضدة عن لقيمات جافة تضع لقمة فى فهمها، يترك ظهره فى حضن الجدار.

تجاهلت إيمان أيامها، فتحت قلبها، خرج صالح متدللا، ابتسم لها، سألت نفسها من أين يأتى الحب إلى القلب المختبئ تحت لحم ذلك الجسد، فتحته قبله طويلة، تحسس جسدها العارى، كانت الضحكات تخرج بسرعة مذهلة، يقبلها على خدها، تضحك، شعرت بقدوم الزوج، أغلقت قلبها على صالح، عدلت رأسها فى اتجاه الأيام، أرسلت أصابعها فاكتشفت أن العينين قد أمطرتا وظلت السحب تجوب القلب، لملمت الجسد على صرير الباب وابتسامة الزوج العائد، تحسست ساقها المكشوف .. ( من هنا مرت أصابع صالح ) عادت معه إلى جوف مندرته – همسة الذى كان ( أحبك جداً .. وأنت وطنى أشتاق إليه دائما ) .. علاقتنا غير شرعية – هذه الورقة العرفية ملاذنا – نتحدى بها العيب والحرام واللا يصح، رفعت صوتها فى وجه الزوج "خلصنى بقى "، أدار وجهه إلى المرآه، نهض تاركاً الفراش، نظر إلى صدره العارى فى المرآه، ابتسم، تناول السترة واتجه ناحية الباب.

شريفة تصب الماء المعطر فوق جسدها – يتابعها سعداوى بعيون مستيقظة – سألته ( لماذا يحارب الناس الناس ؟ ) .. قال : ( كل ما أعرفه أننى أريد جسدك الطازج .. هذا ما يجعلنى أتى إلى هنا محملا برغبتى والمال ).
سمحت لرأسها بالمحاولة – تريد أن تعبر الحدود – تصل إلى زوجها فى العراق – منعتها الأسلاك الشائكة، الجنود بملابسهم الغامقة والمموهة، كانت تطير إلى السحب عندما ينادى ساعى البريد .. جواب من العراق يا ست "شريفة"، تضع القرش على القرش، تقول ( القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود )، قالت أيضا سامحنى حافظت على جسدى "مملكتك" طويلا .. كان يناديك فيصلنى خطابك والحوالة بداخله تشبعنى، ضاع كل شئ، ضحك سعداوى، يتابع قطرات الماء المسرعة، تهبط من الرأس – تلامس الوجه – تتضاعف القطرات – انتبهت شريفة ( ضحكت ).

الجدة العجوز تستعد لترك عرش الحكم لأبنها – طلق زوجته، تجاهل طست المياه العفنة الذى ألصق الملابس بالجسد، لم تمت أبدا صورة أخت الزوج، ولم تستطع أن تطردها من رأسها، ظلت كلماتها تتكرر فى حارات العقل "فضحتنا" قلت نستعين بـ ( كارل ماركس)، ربما نجد لديه خطة جاهزة للخروج من هذه الدائرة – قالت "اسكت"، قلت – يا أمى ما جرى جرت به المقادير ونحن لا نملك سوى الصمت وعد الأيام إلى النهاية القريبة، قالت "اسكت" عرفت أنها ذهبت برأسها إلى البحر، ارسلت بصرها ليتابع المياة الجارية – تركتها – رفعت جريدة العربى عن خزان الماء، وجدته مهدداً بالسقوط، قلت .. لابد أن تحميه الهياكل .. ان غرق السطح سيرحل محرك الجماجم والتابعون إلى أماكن جافة .. لديهم أكياس من دمائنا تساعدهم على الرحيل .. فقط سنكتفى بالمقاومة أو نستسلم للغرق.

انطلق صوت عمى "توفيق" بدا مرتفعا ..
( مفيش أمل اللى بنيناه بالقوى ضاع بالاستسلام، راح السوق وأرضنا راحت حتى الجوامع قاعد فيها شوية …… ).
اشعلت سيجارة – عدلت جسدى، اصطدمت قدمى اليسرى بعلبة صغيرة من الصاج، نظرت إلى السماء، اعلم أن الله هناك جالسا فوق عرشه، الملائكة يسبحونه، فلماذا ترك آلهه الأرض يصنعون من الهياكل ملائكة تسبحهم، يسجنون الشياطين الملاعين ؟!!

صرخ الشيخ "إسلام" ما زال واقفا فوق المنبر .. "لابد أن نخرج للجهاد نحرر إخواننا، اهتزت الهياكل، شيخ صغير احتضن ولده الجالس إلى جواره، مسح الغبار العالق بشعر رأسه، اهتزت الكلمات فى صدره، عاد بذاكرته إلى الحروب الماضية .. لحم مبعثر .. أجساد محترقة .. دماء تضاجع الرمال .. أوامر القادة من بعيد .. استدعى كل الأموات من عائلته .. ارتفع صوت الشيخ "إسلام".
[ ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا … ].
ارتفعت الأصوات، خرجت مسرعة من المسجد، صدها الضباب، تحسس الشيخ الصغير معدته، خرج صوته متقطعاً .. " الله أكبر .. الله أكبر".

أشعل العم "توفيق" ناراً مد يده المرتعشة ناحية الفراغ، نظر إلى ابنه "عوض" ها هو يراه مرتدياً بدلة كاملة وسلاح معلق على الجانب الأيمن، دفع دم قلبه لأحد القادرين ليشترى هذه البدلة والسلاح وقروش قليلة، جاءه الأمر بحراسة أحد المقاومين وحمايته من الجماجم والهياكل الشريرة، نظر إلى أولاده بعين واحدة، استطاع أن يفعل ذلك، جذب الدخان إلى صدره، صرخ ابنه الأصغر "بعدين يابه، الأرض ماتت واحنا حنموت معاها" ..
احيا فى رأسه أعواد النخيل المرتفعة، احتمائه من شمس الظهيرة بشجرة الصفصاف، النار التى يصنع شايه فوق لهبها، هز رأسه .. ادرك انه ذهب إلى زمن بعيد قد جفت ذكرياته، ولم تعد قادرة على رسم ابتسامة تغير ملامح الوجه الذى أصبح صلباً، مد بصره إلى الأولاد ثم إلى الأرض الجافة، همس خاشياً أن تلتقط آذانهم كلماته.
"يله حسن الختام" ..

كانت السماء مبللة بخطوط حمراء، الدماء تنزف من رأسى، ربما اصطدمت بشئ، أغلق الليل جميع المنافذ، جلست منكفأ واضعاً رأسى فوق ركبتى، الدموع ملتصفة بقلبى، مسجون أنا، الأشباح تدور فى رأسى، أجرى بين أعواد الذرة الجافة، لم يكن حلمى بنتاً أرتاح إلى جسدها أو أوراقا ملونة تجعلنى فوق رؤوس الجماجم، أرسلت يدى تبحث عن ثمار جافة، ظننت مراراً أن الحقيقة فى انتظارى، نهضت أبحث عن الطريق، تركت ظهرى لجدار شريفة، كان "سعداوى" وافقاً .. اعلن أن الدنيا لا تساوى قطرة بنفقها على جسد أثنى، قال .. أشترى متعتى، ابتسمت بلا خجل .. رفعت ضحكتها، استسلمت لوجع الرأس وكلمات عمى "توفيق" .. الناس فى بلدنا طيبين، كلمى توديهم وكلمة تجبهم".
سلكت طريقى إلى جوف القرية، كان الظلام هائجا، رأست المنازل والخرائب سواء.

دفع "وحيد" باب الصندوق الخشبى من الداخل، أظل برأسه من داخل الصندوق، الشعر الذى ملئ وجهه جعل قطة تبحث عن لقيمات فى الحجرة، تبتعد مسرعة، نهض متكاسلا، نظر إلى باب الحجرة المفتوح، بعث اليدين ليضغطا على الرأس، أهتز فى وقفته، أرسل عقلة إلى الزمن البعيد، أبوه اشترى له قميصا وبنطالا، وضع فى جيبه عشرة جنيهات، ودع الحقول، كانت وقتها ترتدى زيها الأخضر، كانت "عبير" تنتظره عند الساقية، وجدها تبكى، حاول أن يرسم فى الفضاء قلبين ومستقبلا مشرقاً، قبله مؤجلة وسرير جديد، حاول أن يتركها مع أشجار التوت وأعواد البرسيم الطرية، تجاهل كلماتها .. "لازم التعليم فى مصر ؟!".
حاول العودة إلى ذلك الزمن مرة ثانية، صده الجدار الطينى، لم ير عبير، لم ير أشجار، جلس مستسلماً.

ألقى صالح أيامه تحت قدمى الانكسار، راقب عجلة الطاحونة، حبات القمح تتحول إلى دقيق، أرسل يده تتحس شاربه، ابتسم، رست على رصيف عقله ورقة قديمة، قرأها عند وحيد قبل أن يعود بشكله النهائى .. "لابد أن يكون هناك مطحونين ليكونوا خبزاً للأغنياء، وضع إيمان اسفل الرأس، هكذا تمر الحياة ولا تتوقف عندنا أبداً، أدرك أنه لا يستطيع أن يرفع الرأس وهم يتغنون بأنها تبيع الجسد باللا شيئ.

وحيد يحاول التخلص من الألم الذى سيطر على الرقبة، تحسس قفاه، يوم عاد إلى القرية مشتعلاً، جلس فى المقهى، تحدث عن الحاكم الخائن، الثورة، قال .. "الحق أمامنا .. لماذا نتركه للكلاب مقطوعة الزيول ؟ .. لامه أبوه بصوت منخفض.
" يا ابنى سيبك من الكلام ده واحنا مالنا" ..
"ليه هى مش بلدنا ؟ ".
" لا .. دى مش بلدنا .. دى بلدهم .. احنا يا دوب اسمنا مواطنين".
"انت مالك ياله ومال السياسة".
لم يستطع أن يحصى الأيام التى قضاها فى الزنزانه منكسراً، نظر إلى الهياكل بصمت، ارتفعت ضحكاتهم، وجدهم يتحدثون عن "عبير" وكيف تمنح الرجل ما لا تستطيع أنثى أن تمنحه له.. دخل داره ولم ير النهار بعدها أبداً.

تحركت إلى المقهى، لم يكن هناك شئ آخر ذو أهمية، هذه القرية أصبحت زنزانه كبيرة حول جسدى، على شاشة التلفاز شاهدت مسئولا كبيراً يعلن عن النهار القريب الذى سيضيئ البلاد، ثم اختفى وظهرت جثث القتلى فى أماكن متفرقة، أتى النادل بفنجان قهوة لم أطلبه، سحب سيجارة من علبتى، لم تبتعد "شريفة" كثيرا، اقترب منها سعداوى، أبطأت خطواتها، همس "يله".
نظرت إليه نظرة طويلة، اخرج من جيبه بعض الأوراق الملونة، سارت أمامه، خرجا إلى الحقول، نزل كلب من فوق كلبة سمعا صوت الأقدام، أسرع سعداوى، جذبها من يدها، ارسلت عينيها إلى النجوم، جددها، فرش قطعة قماش كانت معلقة على جسد شجرة التوت، سترها بجسده، قام ومعه البرهان، علامات كثيرة فوق جسده، ترك الدماء فوق جسده، يعرف أنهم ينتظرونه هناك، ينتظرون الحكاية، يتحدث عن فحولته، صوتها الضعيف، ضحكتها الشبقية، الظلام ستر دموعها وهى ترتدى ملابسها، دست الأوراق الملونة فى صدرها، انطلقت الدموع، صوت طفلها ..
أريد حذاء جديداً يا أمى.
حاضر يا حبيبتى.
حذاء جديد يا أمى.
جديد يا حبة عينى.
تحركت ببطء وضعت يدها اليمنى فوق كتفها الأيسر، ويدها اليسرى فوق كتفها الأيمن، ببطء شديد بللت كم جلبابها بالماء المتساقط، بعثت يدها تتحسس الأوراق فى صدرها، أخرجت الأوراق الملونة مختلطة بدماء الصدر، حركت الرأس يميناً ويساراً، الضباب بدا كسحب قريبة من الأرض، السماء تلقى ما حملته طويلاً، أرسلت رأسها إلى هناك .
نعم سيكون فى المنزل ممداً على سريرنا.
نعم سريرنا الذى أصبح قبراً.
نعم قبراً منذ عاد بالخيبة.
طفلى يحتاج إلى الطعام.
طعام بأى طريقة.
دفعت الباب، أحدث صريراً، صعدت درجات السلم بتكاسل ظاهر، دفعت باب الحجرة، نظر إليها، أدارات بصرها إلى الصغير، ابتسم، ابتسمت، بكت، ثم بكت.
* * *
تحركت إلى مكانى، سئمت التحرك إلى اللاشئ، حركت مؤشر الراديو القديم، خرجت من أحشائه موسيقى صاخبة غريبة، ضاعت با جدتى أيامك الجافة، جلوسنا فوق سطح الفرن الذى ملأت جوفه حطباً، ارتشفنا أكواب اللبن الدافئ، زهور اللوتس التى زرعها جدى، كوخه المتهالك بين الحقول ضاع حلمنا الكبير أيضا، الظلام لايسمح لى برؤية الأشياء، هو وحده القادر على كل شئ، كل الأشياء، ربما يسعده إنكسارى وجثثهم، ربما صمتهم وتحليهم بالصبر الإجبارى سبباً فى غضبه أو رضاه، لن أوجه إليه إنكسارى، لن أبكى لأن دموعى مدفونة فى صدرى وحدى.
* * *
ارتمت إيمان على سريرها، بلل وجهها سترة السرير، صف طويل يجوب فى رأسها، رجال افترسوا الجسد العارى، منحوه بهجة الوقت، ضحكتها الشبقية فى أحضانهم، مندرة صالح مرت ببطء، جذبت حبل لا نهائى من الدموع، ابتسامتها فى وجهه وهو عائد من المدينة البعيدة، فشل يتكرر، التصاقها به، ابتسامة قبلاته الغاضبة :
قالت له :
استناك.
مفيش فايدة.
بحبك.
مش مهم.
خرجت مسرعة، عرف زوجى أن جسدى معك، قلبى يتتبع خطاك فى الوحل، ديله لم أخلعها من أصبعها ولم يباركها الأهل، رمانى فى بيت أبى، أنا الآن معه لا أملك سوى …
* * *
جلست بجوار حوض الماء، طلمبة الماء تبصق فى الحوض، لم يسقط منها تاريخها المهمل، بدت كعجوز وهى تمسح برقة جسد الصغير الذى يصرخ، لم تحاول منع صراخه المتلاحق، تجاهلت الصوت القادم من بعيد، ارتفع الصوت، جاء جامعاً بين أصوات الحيوانات والطيور واحتكاك الحديد بالحديد، وصوت ابن آدم، تركت البصر يخترق الحصن، يجرى مع البحر البعيد، ولم تتابع مائدة الطعام ورجال الحق حولها مشكلين حلقة كاملة لم يقولوا (خفف عنها) ولم تتابع رجال الثورة، ابتسمت للأصوات القادمة من بعيد ( لا تتنحى ).
أعادتها الجدة بصوت مرتفع .. البهايم نايمة فى الوحل، شفيهم بدل القاعدة الفاضية دى.. وصعت الصغير فوق قطعة قماش سوداء كانت قريبة من يدها، نهضت وضعت طست الروث فوق رأسها، تركت الجدة مع رجال الحق.
* * *
رائحة الكمون وجسد بلون الشمع فوق السرير ويد رجل مجهول يسرق متعته متلذذا بصوت أمال التى ترفع ساقها وتخفضها، تفعل ذلك منذ أن حاولت خنق زوجها بعدها، رحل إلى المدينة البعيدة، كان عائدا من المقهى الحشيش أخذه بعيداً عن الجماجم وخط النار، لم ير الهياكل فى الطريقة، ذهب إلى السحب البعيدة لكنه هبط رغماً عنه عندما سمع ضحكتها العالية، دفع الباب بتردد، كانا عاريين تماما، أو كما قال …
"زى ما ولدتهم أمهامتهم".
لم يستطع أن يفعل مثل الرجال ويمسك بسلاحه، أى سلاح قريب، فقط تحسس أيامه معها، عجزه عن إطفاء نار الحرب وناره التى خمدت وأصبحت رمادأً تحمله الألسنة، أنتشل عمره، وعاد هاربا ترك ما ذهب من أجله، من أجلها، انتفض، صرخ فى وجهها ! أجابته .. ارتدى الرجل الآخر ملابسه، وخرج مسرعاً إلى الشارع، لم يستطع أن يسأل الذاكرة أن كان قد دفع الثمن أم لا.
حاول الزوج أن يصفعها، وضع أمامه شرف العائلة وكرامته، نظر إلى بعيد لم يرى أولاده بملابسهم الرثة وجد الكبرى فى حضن أحد القادرين، الأصغر ينتظر الثمن.
قال : "فاجرة".
رمته فوق السرير، ضغطت على رقبته.
عادت برأسها مرة أخرى، انتبهت للرجل الذى يعبث بالجسد.
ضحكت ضحكة عالية، ابتسم الرجل، هوت بوجهها إلى جسد الوسادة.
* * *
كنت واقفاً – بلا موعد انتظر سرب العصافير، مازلت أخشى الخفافيش والطيور الليلية الأخرى، حافظت على الصلاة، أديتها بانتظام، ربما يغير دعائى شيئاً، جربت البصق على الكائنات بلا جدوى، ربما خانتنى الذاكرة مع الماضى، لم أتمكن من إثبات هذه الخيانة، أو الخيانات الأخرى من الأشياء المحيطة لا أرى سواى وكل المخدوعين سوى ستائر مهترئة تتوارى خلفها الخيانة.
قالها وحيد : (خونة)
يسجن الأسم فى قلبه عبـ … ير، يدوس الأرض مقدما ساق ومرخاً الأخرى، يرتك يده تعبث بشعره الكثيف، تسقط الحشرات، تفر هاربة، يحاول طرد العسكر من رأسه، لم يستطع أن يكرر الأسم، لم تتدلل فى مشيتها كانت تحاول أن تخطف العيون، ودع الدور بنظرة جامدة، التصقت شفتاه، رفع قدمه إلى أعلى، وتركها تهوى على الأرض، فرت الكلاب المحتمية بالحارات الضيقة، أرسل بصره إلى بابه المغلق، دفع الباب، تسلل ضوء مصباح خافت، بدقة دفع الباب خلفه.
* * *
تآمرت إيمان على بصرها، تركته معلقاً فى سقف الحجرة، جسدها أمره بات تفعل ذلك، جاهدة كانت تبحث عن صالح، قالت : الآن أعيش بنصف قلب ونصف جسد، أبى وضعنى رهينة هذه الحجرة خوفاً من الفضيحة همست : هذا ما كان أبى، هذا ما كان، كان وسيماً، قال أحبك، لم أدركها، كنت أشعر به ناراً أوقدها فى جسدى كحتكاك أعواد الحطب بصدرى ونحن نحمله لنصفه فوق السطح، نعم يا أبى أوقدنى فى الشتاء، أطفأنى فى الصيف، فرحت بورقة عرفية، مدرة ضيقة، مكان يجمعنا. أرسلت الأصابع تتحسس أسفل العينين، نهضت نظرة إلى نفسها فى المرآة، ابتسمت، حاولت مسح دموعها.
* * *
كان مذاق الشاى مختلفاً حول حلقة النار، جلست لم يتحرك لسان أحدنا، لم أتمكن وقتها من رؤية الهياكل والجماجم، جاء الصوت من ناحية المقابر، كان جامعاً بين أصوات الأقوياء القادرين، أصبح الصمت بيننا سيداً كرباج خفى نحت مكانه فى عقلى، هل أستطيع أن أتكلم؟ كلهم كانوا أقوياء، يصيحون، ويعلنون أنه ليس من حقى، أستاذى فى المدرسة، ضابط الشرطة، رئيسى فى العمل، الشيخ. هم وحدهم يعرفون وبإمكانهم تحديد مصيرى.
ابتسم أحد الجالسين
"ضاع كل شيئ"
صوت عمى توفيق الدافئ : "الأرض أرض السادة، رجع الزمن المعلون تانى" حاول أن يذهب بالبصر الذى ضعف إلى صورته القديمة، كان بملابسه العسكرية، يده قابضة على مدفع، همس "الأرض أرضهم وأحنا خدامها"، سمعت صوت طفل يصرخ خلف جدار قريب، كانت المسافة إلى الصومال قريبة جداً.
على الشاشة ظهر المطرب، يغنى يرقص
"الله الله ع المستقبل"
تأملت الأشياء .. قسوتهم، صبرك، جدتى، لم يختلف مذاق الحرمان، الكتب مرصوصة فوق الأرفف، إذا من أين تأتى الخيانة.
قالوا إيمان مخطئة فى حق نفسها، أدار صالح ظهره، ترك أيامه القادمة للحكايات والألسن الكثيرة المتحركة. الحكم كان كبيراً، أكبر من أهرامات الجيزة أطول من نهر النيل، صغيرة كانت، ضفائرها بلون ليل لم يكن له وجود، كانت الهياكل محتفظة بلحمها، كنا من بنى آدم، ترك ظهره فى حضن الجدار، يحاول الاستسلام، يدفع قميصه الأبيض الممزق، يتحرك إليها، كانت عارية تماماً، خرجت من دخان البانجو، وقفت بجوار السرير، أشارت إليه بأن يقترب، حاول أن يفعل ذلك، وقفت أمامه الهياكل والأجساد، صده الصوت القادم من المقابر، نظر إلى الأرض : هذه الأرض يا أبى كانت ملكك تركتها، تركت كرهى لها، أوراق بعت عمرى من أجلها، كادت تتمزق فى مكاتب العمل. لم أجد سوى اهتزاز الرؤوس لم أملك سوى العودة إلى هذه المندرة، هل هناك أمل فى النجاة؟
* * *
صوت عمى توفيق مستسلماً، ينظر إلى الفراغ، هزات يده المتكررة نفت موته، خرج صوته هذه المرة متقطعاً.
[فين .. أيـ .. ا .. مك .. يا أبو .. ياسر، الأرض اللى حاربت علشانها والبيت إللى بنيته، كله حيروح]. هززت رأسى .. عمى منصور بعد موت أبى ياسر ابتنى زريبه كبيرة لتربية البهائم، تجاهل إكمال البيت، فرحت أم ياسر والأولاد والجيران والقرية بأكملها بالضروع المنتفخة، جاءهم النور مبكراً أما العم حسن وحكايات سمعتها عنه من عمى توفيق والله أعلم، أنه وبعد وفاة عمى منصور مباشرة أراد إكمال الطريق وإزالة الشرخ فباع كل شيئ.
* * *
دفعت باب المقهى، حاولت هذه المرة أن اتجاهل الصور المتحركة فوق الشاشة، جذبت فنجان قهوة، أحضره الخادم، أدركت أن المحلل السياسى قد جذب الجالسين، اتسعت الأذان، خرجت أشعة غير معروفة من الفجوات، حاولت الأشعة أن تلمس البذلة الأنيقة، أصبحت رأسه بحجم الشاشة. قال مبتسماً "إن العواطف والتعامل بشكل إنسانى مع الجمهور وكشف الحقيقة أمامهم واجبنا حتى ولو كانوا لا يمتلكون الثقافة والوعى الكافى لاستيعاب الموقف" أعلنت انتصار المحلل الساسى وانكسار عبوتهم، نظرت إلى الرجل الذى يرتدى ملابس عسكرية قديمة، شمر عن الساقين، ملابسه ملطخة بالروق، بدا كمحارب مهزوم، يطرد الدخان من صدره سعل : (طول عمرنا فى الطين، يا لـ..ـه يعنى اللى جى حيكون أحسن؟!
* * *
لم تتغير الأشياء، مازالت جالسة أمام الباب الموارب، تركت حديثهم، لم تلتفت أو تجهد نفسها لتلتقط أسمها الذى يتكرر، تركت المرض يغزو الجسد، مازالت تبتسم لرجال الثورة، قلت يا أمى : ماتت الثورة، نظرت إلى البحر البعيد، قلت يا أمى : البحر أخد الـ …. نكاد نظرت إلى الفضاء، كان الظلام قويا. لم استطع أن أفسر، ولم أستطع أن أبكى معها.
[الحزن أطول من العمر] كتر الحزن بيعلم البكا ودمع الرجال عزيز]. عمى توفيق منكسراً، راقد فى فراشه، الخبز الذى وضعته زوجته إلى جواره أصابة العفن، هز رأسه، هز رأسه، حاول أن يحرك يده، لم تطاوعه، فرت دموع زوجته، ملابسها السوداء ملتصقة بركن المندرة : "حيموت بحصرته، لا الأرض عادت تجيب خير، ولا العيال لاقين شغل. هز رأسه : زمان أيام أبو ياسر ..
ملهوش لزمة (العايط على الفايت نقصان م العقل).
تركت عمى توفيق جالساً، هززت رأسى، قفزت شريفة إلى الشارع، تنظر إلى الأجساد بعيون قوية، تختار الثرى، تكشف ساقها، تتصارع الهياكل، تحاول جاهدة حبس الجسد الطرى فى الرأس.
وقفت أمام الباب
كل الطرق متاهات
كل البلاد ميقتة
العصافير تساقط ريشها
بصفتها الأشجار فى وجه الظلام
ربما نعود يوما، نتجاهل الأنباء
راقصات القصور
والملك
ربما ..
ربما ..



* * *
(كانوا يحتفلون بانتزاع الأرض من براثن الأغراب، الكلاب، راقصة القصر تتلوى. تتلوا آيات النصر. كوب الشاى يتماوج فى يدى، دخان سيجارتى يرسم أشباحاً، رأسى لا تعتدل : نحن خدام لقمة عيش لا تمر على أفواهنا نحن خدام القصر).
صالح فى مندرته، صمت يحاصره، يعبث بأصابع يده، أمه صامتة، سحاب أزرق يتخبط بالجدران، أغنية قديمة تجوب رأسه.
جرب أن يعمل خادماً مجتهداً فى محلات الطعام البعيدة، قال : هناك لحوم لها أناس يأكلونها، يتحدثون بلغتهنا، لكن ربما خلقوا من طينة ثانية، ليس هناك شبه بيننا وبينهم، يرمى الرجل على المنضدة أموالاً، ويصحب خلفه أمرأة "تحل من على حبل المشنقة"، تنهد، لم يسأل أمه التى مازالت تنظر إليه عن حاجاته، جسد إيمان الذى راح مع الدخان.
ابتسم عندما سمع الصوت القوى القادم من ناحية المقابر، لم يثنى ساقه، تركها حرة، انطلقت رأسه إلى أماكن متعددة، لم يجذبها، لم يحاول وضعها داخل الصندوق الخشبى القديم مع الأوراق التى باع عمره من أجلها ولم تستطع الرأس أن تجذب الجسد معها إلى الخارج قال : العسكر هناك، تردد، أغلق باب المندرة، ترك عقله بداخلها، يراقص الدخان، ضحك عندما سمع الصوت القوى.
الشيخ إسلام فوق منبره، عاد إليه مرة أخرى، جلبابه بلون اللبن الذى جف من ضروع البهائم، القرية ساكنة، وحيد أدرك الهزيمة مبكراً، دخل فى جوف الصندوق وأغلقه على جسده فى انتظار ما هو أفضل من الحياة.
نظر الشيخ إسلام إليهم نظرة قوية، قال : تحدث عن الديمقراطية فى الإسلام "الطاعة لله الواحد الأحد" أتركوا الخلق للخالق "وأطيعوا …." الصورة لم تختلف كثيراً، كلامنا ولون الدماء وجهان لعملة واحدة.
خطف العيون المضطربة إلى بعيد، اختلف كلامه. محرك الجماجم فوق الروؤس، الشيخ إسلام يحاول جاهداً إبعاد الكلمات الطائشة عن جسده، أيادى العسكر الثقيلة، عفريت أبى خفاجى، الأصوات القادمة من المقابر، هذه الأشياء منعت أجسادنا من اختراق الحصن.
مدت أم صالح يدها بقطع صغيرة جداً من الخبز، ظلت يد الأم معلقة، ابتسمت، كان ينظر إلى اللاشيئ، أخذ الخبز، وضعه إلى جواره : قالت "مالك"؟
  ……
  "عملت آيه"؟
  ……
  "سقطت فى كشوف التطوع فى الجيش"؟
  ……
كان ينظر إلى المجهور وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عميقة، قفزت الدموع إلى صدر الجلباب الغامق .. كان المشهد يستعد فى رأسه، بدت هى مقبلة نحوه كمومياء، ابتسم، نادى عليها بأعلى صوته "إيماااان" تحسس موضع قلبه، ابتسم، تجاهل المومياء القادمة، أغلق المندرة، ظل جالساً، ترك رأسه للجدار، بدأ الجير يتساقط ببطء شديد.
* * *
مر عمى توفيق بيده المرتعشة فوق جبهته، لم تسقط أشجار النخيل من هذه الرأس القديمة، انكسر ظهره عندما لمح الأشجار تتساقط مهزومة مفسحة الطريق للرياح الغربية. كان يصعد النخلة العالية يربط جسديهما حبل قوى، ينظر إلى الصغار من أعلى، ينتظرون سقوط الثمار، من أعلى كانت الحقول فى ثوبها الأخضر تبدوا كعروس فى انتظار الزفاف، كان للمحصول فرحته وزواج ولد بلغ فحولته ببنت اشتعل جسدها، غمغم : "ماتت العروس، مات الأولاد فى رحم امتلكه محرك الجماجم" نظر إلى الفضاء، نظر إلى الأرض كانت متشحة بثوب الحداد، كان أولاده من حوله، عيونهم منكسرة …
نظر إليهم
  خـ..لو..ا.. بالكم .. من نفسكم .. أيامكم صعبة.
  …
  زمن أغبر.
ثبت بصره فى مواجهة سقف الحجرة، زوجته تتخلص من الكلمات التى تبدغ لسانها. – "حيموت الراجل، حيموت بحسرته .. يا لهوى ..".
نظر الأولاد إلى الجدار القديم. الجير تخلى عنه، حل محله سواد، كانت صورة الأب قديمة، حاملاً المدفع، يرتدى ملابسه العسكرية، ظلوا صامتين، ناظرين إلى السماء فى انتظار نهاية قريبة عاجلة.
* * *
من فوق أحد الجدران رن صوت الديك فى قلب القرية الساكنة، الظلام مازال ساكناً، قال الشيخ إسلام : يبدو أنه فجر كاذب.
تحركت، ربما كان نداء الديك صادقاً، وعاد الهدوء إلى هذا المكان، حاولت أن أترك السطح، اتنازل عن مملكتى، أنظم إلى الهياكل، ربما عاد إليهم اللحم مرة أخرى، حلت العيون محل الفجوات، وجدت الأشياء كما تركتها.
المقهى مازالت مكتظة بروادها، الهياكل ملتصقة بالمقاعد، الضوء يحاول الانتصار، الأفق بلون لبن عكر، ظهرت الأشياء بصورة باهتة، التلفاز يعرض الجثث المبعثرة، المحلل السياسى يعدل رابطة العنق ويبتسم، أحاول أن أنتزع صورتها من رأسى، أضعها أمامى، أحدثها، أبعد الإغنام عنها، أخطف بصرها الذى يجرى مع ماء البحر، لم استطع أن تكمل الطريق، فجأة يقف البصر الذى ضعف، يعود إليها خائباً، أقول : "يا أمى البحر أخذ الملك والعمدة.."، رجال الثورة، لم نرى سوى تماثيل تذكرنا، لابد أن نحطم هذه التماثيل يا أمى حتى لا يعبدوها الضعفاء، كفى .. كفى يا أمى، لابد أن نحدد مصائرنا، لماذا نتعاطف مع الجثث والصوماليين؟!، لم تجهد أذنها معنا؟!، لم تتحرك من مكانها، رجال الحق يأتون، يذهبون، لم تجهد أذنها التى أصبحت تلتقط الكلمات بصعوبة، لم تهتم بتاريخها المهمل، فقط انطلقت دمعة حمراء، لم أرفع اليد، أو أضع رأسى على صدرها، ولم أجرب البكاء.
* * *
تنحت إيمان عن الوسادة التى كانت تمطيها، تتحسس جسدها الطازج، نظرت فى المرآة، وجدت مومياء تنظر إليها، رفعت الساق إلى أعلى، حاولت أن تسرق الكلمات من الألسنة، صدها باب الحجرة المغلق، الأب فى الخارج معه المفتاح الصدئ، عادت بالأيام، كان أحد الهياكل فوقها، صرخت فى وجهه
  "كفاية جنس .. أقولى بحبك". مازال يعذب الجسد. قال بصوت متقطع: أحـ..بـ..ك"، صرخت.
لم تفلح الذاكرة فى التراجع إلى مندرة صالح، نهضت مسرعة، بكت، لم تتعرف على أحد المارة، كانت تنظر من النافذة، رأتهم، الهياكل تحمل النفس، العم توفيق بداخله، أولاده يبكون، ابنه عوض يسير ببطء شديد مرتدياً بذلته السوداء، لم تر صالح، لم تر الدخان الأزرق والأصدقاء، كان الأفق بلون عكر، ابتسمت. ثم بكت.
ارتسمت ابتسامه فوق الوجوه الشاحبة، ألقيت نظرة على دورنا الطينية، الخرسانية، كانت الدور مهدمة، جذبت فنجان القهوة، هل ضللت الطريق؟ لم استطع التحرك، أريد السطح، أشعلت سيجارة. أيقنت أن الحقيقة كانت ملكى وتجاهلتها.
نظروا إلى الأفق العكر، رسموا فى رؤوسهم أرضاً مثمرة، مصانع تنتظرهم، نور الشمس، ابتسم مرتدى الملابس العسكرية المهترئة، ربما تصبح الأيام القادمة أحسن حالاً، دخان السجائر يرسم راقصات وصوت مطرب يترنح "الله الله ع المستقبل".
الحلم يخطو نحوهم، لا يتذكرون الأقوياء، فجأة يفقدوا السيطرة على أجسادهم الضعيفة، الخفر والعسكر أمامهم، الأيادى الثقيلة، الزنازين المظلمة، يصيح الخفير فى وجه الرجل الذى شبه عود النخلة (يا بان العاهرة) فيحترق صدره، ولا يستطيع اللسان أن يغادر وكره.
* * *
شريفة تنظر إلى الراديو، أنقطع لسانه منذ أن عاد زوجها من العراق، تحسست جسدها، تحاول أن تنظر، تبيع الأيام المرة، تشترى ابتسامة طفلها، ترى صف الهياكل ينظرون امتلاك جسدها دقائق معدودة، تضع الأوراق الملونة فى صدرها الملطخ بالدماء، تودع الرجل بابتسامة، تمنحه ما جاء من أجله، علامات كثيرة فوق الجسد تكون برهاناً على فحولته، يبيع القراريط المتبقية بعد أن ثمل الهياكل من تكرار الحكاية عن ذلك الجسد وأصواتها وضحكها، تجفف دموعها قبل دخول رجل جديد.
تحركت إلى السطح، السوس يزاحمنا، الصوت جاء هذه المرة قوياً، جامعاً بين أصوات الطيور الجارجة، الكبش الحارس، عفريت أبى خفاجى، لم أحاول أن أجهد نفسى، وأذهب إلى هناك، أريد أن أصعد أشجار النبق، أتحدى النهموس، أخطف ثمرة نبق وأهرب، تحديث الصوت، جلست بين الكراكيب، لم أستطع أن أسيطر على مملكتى، أن أصبح الحاكم والمحكوم، الظالم والمظلوم، منعتنى كل الأشياء، وقفت أمام الباب، أصبح سداً بينى وبين الحياة، كانت مهدمة، الحشرات القارضة والفئران تهرول من تحت التلال، صورتي الطفيلية وجدتها ملقاة، تفحصتها، حاولت إصلاح الشروخ التى أصابتها، نظرت إلى الدماء التى بللت أصابعى، تركت الصورة لم أجدنى بداخلها، وجدت طفلاً صغيراً فى جلباله الكستور، مبتسماً، وضعتها فوق جدار مهدم، لا أعرف لماذا أنطلقت دموعى هذه المرة.
* * *
حاولت أن أعطى عقلى إجازة ليرتاح قليلاً، أشجار النبق تتماوج، لن أصعد فوق المقابر، التى على جانبى الطريق، أكتفى بقراءة الفاتحة على أرواح الموتى جميعاً، فى أصبعى هذا علامة بارزة، مزقته أشواك أشجار النبق، قلبى يرتعش، عفريت أبى خفاجى هناك، لم أره، سعداوى يحكى عنه .. فيضحك وحيد وترتعش الأجساد، بسرعة مذهلة تنغلق الأبواب، ترتعش أجساد العجائز، الرجال، النساء، الأطفال، نكتفى بمراقبة الوقت والانتظار الطويل.
* * *
الظلام تخلى عن القرية، الرؤية واضحة تماماً، ضربت آمال صدرها بظهر يدها، وقفوا كتماثيل حجرية، نظروا إلى الدور المهدمة، الأطفال يبكون، النسوة تمسك الواحدة منهن بطرفى غطاء الرأس وترفعه إلى أعلى بكلتا يديها وتشده، ثم تتركه يتراخى، ثم تعاود جذبه، الرجال ينظرون إلى الافق فلا يرون سوى خرائب ممتدة.
* * *
كانوا جميعاً منتظرين،
أتى الصباح،
قفزت قلوبهم فرحاً
نظروا إلى الدور المهدمة
توسلوا جميعاً إلى عيونهم
لكى تعتدل،
فاعتدلت، وظلت الدور مهدمة
، كانت كل الأشياء مبعثرة
مبهمة فى وضح النهار.
تحولت عيونهم إلى الشمس،
كانت السحب ترميها خلف ظرها
فتبصق قليلاً من الضوء إلى الأرض
المشققة.
* * *
فى هذا الوقت تحديداً بدأت قطرات المطر تتساقط، وترمى السماء الأرض بقطع من الثلج، ظهر الضوء الخافت، كانت الشمس قد أعطت ظهرها للقرية متجهة إلى ناحية الغرب، خرجوا جميعاً من الدور المهدمة، تذكروا حاجة الأمعاء لكسرة خبز، أقسم الشيخ إسلام أن القيامة على أعتاب الدور، وعلينا أن نعمل من أجل إرضاء الله، دخلوا دورهم، تحايلوا على النوم وفى هدوء تام تركوا الجماجم والأصوات القادمة من المقابر وعفريت أبى خفاجى يفعلون ما يريدونه فى انتظار الموت والجنة.
* * *
التلفاز مازال يعرض جثثاً لقتلى ومحلل سياسى ببذلة أنيقة، ويعرض حفلات ساهرة، ولد يركض خلف فرشاات ملونة، يعالج الوقت بابتسامة واسعة، مذيعة نصف صدرها عار، هل شاركوا فى الإعداد المبكر للقيامة، التى أتت من جميع الجهات؟، اهتز جسدى، أقسمت بأننى لن أطرق باباً مغلقاً، وخطوت إلى أوراقى بعد فشلى فى التحرك فى الظلام.
تمت
200 /2002
المؤلف

تنويه هام
لم أستطع أن أكون دقيقاً متماسكاً، فابحثوا معى عن الأشياء التى تسكننى والأشياء التى تسكنكم. ما أعرفه وما تعرفونه. نتبادل المواقع، ننظر معاً من ثقب إبرة، نتلصص على ما يخصنا وما يخص الآخر الذى يصنع الأحداث التى تؤثر فينا، ألا ترى معى أننا عرائس ورقية تحركها الأصابع؟ (أصابع الأقوياء، فلماذا نهتم بحدث منتظم أياً كان؟".

المؤلف


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى