الجمعة ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

قارب الموت والظمأ العظيم (9)

تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي

"الإنسان حيوان شرّير"تحليل قصّة "النجدة"

"هل يستطيع الفن أن يتخذ الشر موضوعا ويستخلص منه صورا فنية جميلة؟ وبعبارة أدق وأوضح: هل في الشر جمال يصلح موضوعا للفن ؟ "

"طه حسين"

في قصّة "النجدة" نقف على شكل من الموت يمكن أن نصفه بأنه مزيج من الموت المقدّر والموت المُصنّع. وما أقصده بالمُقدّر هو الموت الذي تأتي به الأقدار (الحوادث العرضيّة، حوادث الطرق، الأمراض المُنهية.. وغيرها من الأسباب التي تحصل "مصادفة" والتي يبدو أن لا يد للإنسان فيها.. ويرى التحليل النفسي أنّ الكثير من هذا الحوادث هي من أشكال السلوك غير المباشر لتدمير الذات – indirect self destructive behaviore"، كما نصطلح عليه. أمّا الموت المُصنّع فهو الموت الذي تسبّبه يد الإنسان. وقد يكون النوع الأول من الفناء حسب إيمان الفرد صادراً عن الله.. "طبيعياً" إذا كان هذا الوصف دقيقاً، لكن الموت الثاني يأتي بتخطيط واعٍ وإرادي من قبل الإنسان الذي يجب أن يكون خصيماً مبيناً لفناء أبناء جنسه.

رجل يفتح عينيه فيحدّق في اللاشيء، مشوشّاً، مرتبكاً، مضطرب الوعي لا يدري ماذا اصابه، ليجد نفسه ملقىً على قفاه فوق الأرض، الألم يكاد يمزّق رأسه وصدره وذراعيه وساقيه.. يحاول أن يستند إلى ذراعه اليمنى كي ينهض فلم يُفلح فقد أصيبت بضرر بليغ وعليها بقعة دم أصابته بالذعر. المشكلة الشائكة التي أظنت عقله هي أن ذاكرته لا تستطيع تذكّر ما حصل له. لملم شتاتها، وفتح عينيه مرّة أخرى. إلى الأعلى / سماء زرقاء، أغصان خُضر، وعصافير بيض، لا تكفّ عن الزقزقة التي تتناهى إلى أذنيه دويّاً متّصلاً كدويّ منبعث من خلية نحل. ولكن إلى جانب شجرة مُكتنزة لمح سيّارة مُحطّمة تناثر الزجاج حولها. إتضحت ملامح كارثته الآن : لقد صدم الشجرة بسيّارته فتحطّمت وتناثر زجاجها وانقذف إلى الخارج بعيداً عنها وقد تهشّمت أوصاله (ص 269).

لقد نجى من موت "مُقدّر" مُحقّق كما يُقال. ترك له القدر فسحة من الحياة سيعتمد ظفره بها والبقاء حيّاً على من يأتي لينقذه. وها هو ينتظر "منقذه".. بقعة الدم تكبر وتكبر.. والوهن يدبّ في أوصاله.. وهو لا يستطيع الحركة، فالطريق الذي انقذف فيه طريق زراعي فرعيّ نادراً ما تمرّ منه السيّارات.. لا بيوت للفلاحين.. ولا أثر لماشية أو رعاة.

وفي وسط دوّامة اليأس المدوّخة، ومع اقتراب أقدام المثكل، "ينكص" الإنسان ليتوسّل الإنقاذ في أبسط أحبّته.. تذكّر ابنته الصغيرة.. لو أنها إلى جانبه الآن لشدّت الجرح بخرقة من قميصه فينقطع هذا النزيف المميت. صارت ابنته تمظهر "منقذه" الأول.. يتمنى أن يعود إليها.. يحتضنها.. يضمّها إلى صدره.. إنّه لا يريد أن يموت (ص 270).

وفي النصوص التي تعالج السقوط في حلبة الموت حيث يمضي العدّ النهائي قُدُماً، ألاحظ "ربكة" في توصيف الراوي – ومن ورائه القاص طبعاً - لردود أفعال واستجابات الضحيّة، وفي استخدام المفردات الدقيقة للتعبير عن مأزقها ومعاناتها المدمّرة. خذ هذه الأمثلة:

"حوّل بصره إلى ذراعه، فراعه منظر بقعة من الدم على كمّ سترته، ذُعِر، فصرخ بأقصى قوّته".
وكون بقعة الدم على كمّ القميص يعني أنّها صغيرة، وليس من المتوقّع أن تثير مثل هذا الرعب والذعر في نفس الرجل الجريح، إلّأ إذا أراد القاص أن يرسم لنا جانباً من خصائص دفينة في شخصيّة الرجل من تهويل نفسي وانرعاب مفرط لأبسط نُذر الموت، وهو ما لم يُدعّم في المقبل من تسلسل الحوادث واستجابات الشخصيّة أو في الماضي منها.

في موقفين تأتي التشبيهات التي يستخدمها الراوي لحالة الرجل الجريح "ثقافيّة" متعالية من الصعب الإقتناع إنّها – وفي نصّ عربي – تأتي إلى ذاكرة شخص محطّم يوشك أن يلفظ أنفاسه :
"إنّه في حالته هذه أشبه ما يكون برجل كافكا الصرصار، غير أنّه لا حراك به" (ص 269)
"النزيف يتواصل، وهو ساكن هناك في انتظار غودو، لا يستطيع أن يفعل شيئاً، حتى الكلام أو الهمس عنقاء يستحيل أن توجد" (ص 270).

أعتقد أنّ الثقافة الغربية قد تغلغلت عميقاً في وجداننا حتى اصبحنا نحزن على الطريقة الغربيّة، ونستعير الرموز المرجعيّة لانفعالاتنا "المحلّية" من آثارها الأدبيّة الشهيرة.

يستمر نزيف الدم من ذراع الرجل ويشتدّ ضعفه، ويقدّم الراوي وصفاً مُربكاً للضعف المُستشري :
"حوّل نظراته بسرعة إلى ذراعه... بقعة الدم تتّسع وتتّسع. الضعف يدبُّ في أوصاله كقاتل يرتدي طاقية الإخفاء" (ص 269).

وكأنّ الضعف في الحالات الأخرى قاتلاً منظوراً يمكن تحديده أو الإمساك به.

يستعيد الرجل المحطّم ذكرياته مع ابنته الصغيرة، ويرى أنّها لو كانت إلى جانبه لأنقذته وأوقفت نزيفه، مستعيناً بما كانت تقوم به حين كانت تضمّد له ذقنه بلصوق صغير، إذا ما انجرح في أثناء حلاقة الصباح (ص 270).

وشتّان بين تضميد الطفلة الصغيرة لجرح الحلاقة الصباحي الذي هو خدش، وبين الحاجة لمهارة كبيرة في معالجة جرح مُهلك وشديد النزف مثل الذي يعاني منه الآن. لكنّه علامة مُضافة على الإنهيار اليائس الذي يعاني منه الرجل.

إنّني أعتقد أنّ هناك "موقفاً نفسيّاً" يحيط بالكاتب ويعيشه في وقت إنجازه نصّه القصصي. هذا الموقف تتشابك فيه سمات التجربة "الموضوعية" / الحادثة التي يريد وصفها، والتي تنفذ من "الخارج" إلى ذهنه الذي يحاول صياغتها صياغة لا يمكن – حين يريد تحويلها إلى إيداع وليس خبرا أو رسالة نثرية – أن تكون إلّا "شخصيّة" حين يريد الغوص في عمق الشخصية (أو الشخصيات) التي تكون محور تلك الحادثة، وهذه السمة الشخصيّة لا تنبثق من الشعور أو الوعي الذي هو وكالة حسّية فقيرة، بل من اللاشعور. وهناك في مشغل اللاشعور تتمّ "المعالجة" الجديدة للحادثة حيث ستظهر في صورة حكاية تنسرب فيها صراعات الكاتب ومخاوفه وهواجسه ومواقفه من الحياة والموت ممتزجة بالمسارات الموضوعية للواقعة. وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك نصّ إبداعي – وأؤكد على صفة الإبداعي – لا يحمل بصمة شخصيّة من روح المبدع. وفي أكثر من موقف – كما رأينا وسنرى – تحصل هذه الربكة التي تعكس قوّة " قلق الموت – Death Anxiety" في أعماق المُبدع حين يقف ليراقب الكيفية التي تواجه فيها شخصياته شبح المُثكل أو حين تلفظ أنفاسها الأخيرة. وأعود للتأكيد على أنّ قلق الموت هو واحد من أهم محفّزات الإبداع الباحث عن الخلود إن لم يكن أهمّها على الإطلاق.

المهم، إنّ هذا الرجل الجريح المُحطّم لن ينقذه شيء غير "نجدة" تصله، وتحديداً "نجدة" إنسان. ها هو يسمع حركة قريبة منه، فيفتح عينيه بصعوبة، ويشاهد بقرة سائبة تتوقّف إزاءه، وتلتفت نحوه، ثم تواصل سيرها. وفي هذه "النجدة" التي لعبتها "المًصادفة" أوغلت طعنات الإحباط في نفسه ممزوجة بطعنات النزف الذي أوهنه وشوّش حواسّه (ولاحظ عبقرية اللغة فمن معاني الجذر نزف: سكِر وذهب عقلُه لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يَنْزِفُونَ ).
لكن الآن تجيء إليه "النجدة" الحقيقية التي لن يتمّ بها غوثه من محنته إلّا إذا كان "المُنقذ" الآتي إنساناً. وبهذا الإنقاذ يُسدل الستار على مسرح الحكاية. ولاحظ كم ستكون النهاية باهتة ومُبتذلة حين يأتي إنسان وينقذ هذا الرجل الذي يلفظ أنفاسه ويوشك على الموت. وكم شتكون الحكاية "حكاية" حين يحصل شيء ما رهيب يخالف توقّعاتنا، ونحن نستبشر بهذه المخالفة مسبقاً. هل نقول – من الناحية الفلسفية والنفسية – إنّ "الشرّ" يؤجج الإبداع أكثر من الخير. هل نتذكر هنا مقولة الأصمعي الشهيرة والعميقة الدلالة والتركيب:

"الشعر نكد، بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف"

وفيها الإجابة على تساؤلات لاحقة لطه حسين قال فيها:

"هل يستطيع الفن أن يتخذ الشر موضوعا ويستخلص منه صورا فنية جميلة؟ وبعبارة أدق وأوضح : هل في الشر جمال يصلح موضوعا للفن؟ "

والإجابة في كل ما قرأته من أدب وفن هو أنّ الشرّ بصورة رئيسية (ممثلاً بالموت طبعاً) والخير بدرجة أقل هو المنبع الرئيسي للأدب. هل هذا مرتبط بما يقوله إدغار ألان بو مثلاً عن الشرّ المتاصّل في نفوسنا:

(لست واثقا من وجودٍ روحيٍّ في الحياة أكثر من ثقتي في أن الانحراف واحد من النوازع البدئية في القلب البشري، واحد من الملكات أو المشاعر الأصيلة التي توجه سلوك الإنسان. مَنْ مِنّا لم يضبط نفسه عشرات المرات، وهو يقترف إثما أو حماقة، لا لسبب غير كون هذا العمل محرّماً؟ أليس لدينا ميل دائم حتى في أحسن حالات وعينا إلى خرق القانون لمجرد عِلْمِنا أنه قانون؟ روح الانحراف هذه هي التي تدفعني إلى السقوط النهائي. إنها رغبة النفس الدفينة لمشاكسة ذاتها، لتهشيم طبيعتها ذاتها، لاقتراف الإثم لوجه الإثم ).

ولندع علي القاسمي يختم لنا حكاية هذا الرجل المحطّم الممزّق الجسد والروح، وكيف تجعل "نجدة" الشر نهايتها تتلألأ كنصل ناعم وصغير يغور في سويداء قلب المتلقي، خصوصا وهو يفتتح المشهد الأخير – ليمعن في تأجيج إشراقة التناقض – بلمسة منعشة من نسيم الحياة:
(نسمة عليلة تمسّ وجهه مسّاً خفيفاً. يفتخ عينيه بجهد بالغ. يلمحُ شيئاً طويلاً داكناً يتحرّك من بعيد (...) يحسّ – وهو مغمض العينين – أنّ الرجل القادم يتوقّف عنده قليلاً، ينحني عليه، يضع أنامل يده اليمنى على الجانب الأيسر من صدره، تحت سترته. من المؤكّد أنّه يجسّ نبضه، ليتأكّد من بقائه حيّاً.. يحسّ بالرجل يُمرّر يده على صدره، تتعثر بجيب سترته. لا بُدّ أنه يريد تمسيد قلبه لتنشيطه. وبعد قليل تنتقل أنامل الرجل إلى معصم يده اليسرى. يضغط على المعصم قليلاً. لا شكّ أنّه يجسّ نبضه من معصمه بعد أن امتنعت عليه دقّات قلبه. لا.. لا.. إنّه يزيل ساعته من معصمه... ثمّ يسمع خطوات الرجل تبتعد عنه في اتجاه السيّارة) (ص 270 و271).

القصة التي تم تحليلها : الـنـجـدة

د. علي القاسمي

فتحَ عينيْه. لم يُبصر شيئًا. حدّقَ في اللاشيء، فَلمْ يرََ، أوَّل الأمر، سوى صفحةٍ من ضبابٍ كثيفٍ،أخذت تنقشع رويدًا رويدًا، ليتمكّن مِن تَـبَـيُّـن ما حوله شيئًا فشيئًا، كما تتمظهر مسودةُ صورةٍ فوتوغرافيّةٍ بعد وضعها في محلول كاشف الألوان في المختبر.

أحسَّ بألمٍ شديدٍ في رأسه، وفي صدره، وفي ذراعيْه، وساقيْه. كان مُمدَّدًا على قفاه على الأرض، بلافِراش ولا بساط. حاول أن ينهض، ولكنَّه لم يقوَ حتّى على رفع رأسه. حَسِبَ أَنّه يستطيع النهوض إذا اتكأَ على يده اليمنى، غير أنّ ذراعه لم تستجِب له بأيّة حركة، كما لو كانت خيوط الاتصال معها قد انقطعت بالمرَّة. حوَّل بصرَه إلى ذراعه، فراعه منظرُ بقعةٍ من الدمعلى كُمِّ سترته. ذُعر، فصرخ بأقصى قوّته، بَيْدَ أنّه لم يسمع صرخة، ولا صوتًا، ولا مجرَّد نأمة. أغمض عينيْه.

لماذا هو مُلقًى على الأرض؟ ولِمَ الإحساس بهذا الوجع الممضِّ في الرأس؟ ونصال الألم المغمدة في أطراف الجسد كلِّه؟ لا يعرف سببًا. لا يتذكّر شيئًا. إنّه في حالته هذه أشبه ما يكون برجل كافكا الصرصار، غير أنّه لا حراك به.

استجمعَ شظايا فكره. لملمَ شتات ذاكرته، وفتح عينيْه مرَّةً أُخرى. إلى الأعلى، سماءٌ زرقاء، أغصانٌ خضراء، وعصافيرٌ بيضاء لا تكف عن الزقزقة التي تتناهى إلى أذنيه دويًّا متصلاً كدويٍّ منبعثٍ من خليّة نحل. إلى الأمام شجرةٌ مكتنزةُ الجذع، وإلى جانبها سيّارةٌ محطمة تناثر زجاجُها حَوْلها. حَوَّلَ نظراته بسرعة إلى ذراعه... بقعة الدم تتَّسع وتتَّسع. الضَّعف يدبُّ في أوصاله كقاتلٍ يرتدي طاقية الإخفاء. وبمرور كلِّ ثانية، يزداد الوَهَنُ قوة، ويمسي سيّد الموقف. سيفه المسلول ذلك الدم الهارب خارج الجسد مع النبض، قطرة فقطرة. وبقعة الدم تكبر وتكبر. أيقن أنّ نهايته قريبة، ما لم ينقطع تدفّق الدم من جرحه. ولكنَّه لا يستطيع الحركة. لا يمكنه أن يفعل شيئًا.

طريقٌ زراعيٌّ فرعيٌّ، نادرًا ما تمرُّ منه السيّارات. ليس ثمَّة بيوت للفلاحين، ولا أثر لماشية أو رعاة. أَمَلُه الوحيد في النجاة نجدةٌ ما تصله من مكانٍ ما، قبل أن ينفد زيتُ الحياة. بقعةُ الدمِّ تتَّسع وتتَّسع. لماذا لا يَتَّجه هذا الدم الملعون إلى داخل الجسد بدلا من النزيز إلى الأعلى؟ النزيف يتواصل، وهو ساكنٌ هناك في انتظار غودو، لايستطيع أن يفعل شيئًا، حتّى الكلام أو الهمس عنقاءُ يستحيل أن توجد.

لو كانت ابنته الصغيرة إلى جانبه الآن لشدَّت الجرح بخرقة من قميصه فينقطع هذا النزيف. ما أيسر الأمر... كانت تُضمِّد له ذقنَه بلصوق صغير، إذا ما انجرح أثناء حلاقة الصباح، فيرقأ الدم. ما أرقّ أصابعها البضة وهي تلامس وجهه بحنان، أو وهي تحمل كأس ماء مثلج إليه... يشعر بظمأٍ شديدٍ... يتمنّى أن يعود إليها، يراها، يداعبها، يلعب معها، يضمّها إلى صدره، يقبّلها... لا يريد أن يموت... ولكنّ بقعة الدم تتَّسع وتتَّسع، والوَهَن يشتدُّ ويشتدُّ، ولا أثر لإنسان، ولا هدير لسيّارةٍ قادمة. أسبل جفونه.

سمعَ حركةً قريبة منه. مرهقًا فتح عينيْه بصعوبة. بقرةٌ سائبةٌ توقّفتْ إزاءه. التفتت نحوه. ثُمَّ واصلتْ سيرها عَبْرَ الطريق. تبعتْها نظراتُه. كانت وحيدة. اختفتْ في الحقل المجاور. وبقعة الدم تتحوَّل إلى الأرض بجانبه. والدوار يشتدّ. والوَهَن يزداد. انطبقتْ أجفانه.

نسمةٌ عليلة تَمَسُّ وجهَه مسًّا خفيفًا. يفتح عينيْه بجهد بالغ. يلمح شيئًا طويلاً داكنًا يتحرَّك من بعيد. بصعوبةٍ يُبقي جفنيْه الثقيليْن مواربيْن. يرى إنسانًا يسير. نعم، إنّه إنسان. إنّه يتَّجه صوبه. إنّه يقصده، بلا شكٍّ. إنّه يقترب منه. ترتفع ضربات قلبه قليلاً، كأنَّها تستحثّ القادم على الإسراع. تستعطفه. تستغيث به. النجدة! النجدة آتية. ولكنّ النزيف مستمرٌّ. وبقعة الدم على الأرض تتَّسع. والوَهَن يسود. وهو لا يستطيع أن يُبقي أجفانه مشرعة. يغمض عينيْه. دقات قلبه تتوانى، تتوارى، تكاد تندثر.

يحسُّ ـ وهو مغمض العينيْن ـ أنّ الرجل القادم يتوقَّف عنده قليلاً، ينحني عليه، يضع أَناملَ يده اليمنى على الجانب الأيسر من صدره، تحت سترته. من المؤكَّد أنّه يجسُّ نبضه، ليتأكّد من بقائه حيًّا. آه، لو كان يستطيع الكلام لقال له: "إنّني ما أزال على قيد الحياة، حتّى إن لم تتناهََ إليكَ دقاتُ قلبي. افعلْ شيئًا، أرجوكَ، أتوسل إليكَ."

يحسُّ بالرجل يُمرِّر يدَه على صدره، تتعثّر بجيب سترته. لا بُدّ أنّه يريد تمسيد قلبه لـتـنـشيطه. وبعد قليل تـنـتـقل أنامل الرجل إلى معصم يده اليسرى. يضغط على المعصم قليلاً. لا شك أنَّه يجسُّ نبضَه من مِعصمه بعد أن امتـنعت عليه دقات قلبه. لا. لا. إنَّه يزيل ساعته من معصمه... ثمَّ يسمع خطوات الرجل تبتعد عنه في اتِّجاه السيّارة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى