الأربعاء ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٧
بقلم سماح خليفة

كل شيء حزين

لم تكن أمي لتسمح لنا مغادرة المنزل إلى المدرسة دون تناول الفطور وشرب كأس من الحليب.

ذات صباح بينما كانت أختي تصنع ضفائري المعتادة وتزينها بالزهر الأبيض الذي كنا نتسابق على شرائه من دكان جارنا بفرح كبير، كانت أمي تعد الحليب وتصبه في كؤوس ليشرب كل منا كأسه ثم يتوجه إلى مدرسته.

أخي الأوسط يبدو أنه كان على عجلة من أمره، غادر المنزل دون أن يشرب كأسه، لم نلحظ مغادرته من بيننا، كأنه طيف.

أذكر كيف كنا نجتمع في المطبخ على تلك الطاولة المستطيلة الشكل -المقابلة لتلك النافذة المجاورة للمجلى المطلة على الشارع الرئيس- نشرب الحليب. بينما أمي كانت تقف قبالة المجلى بجوار النافذة. وما إن أدارت رأسها في تلك اللحظة ونظرت من النافذة حتى رأت أخي الأوسط يعبر الشارع الرئيس متجها إلى المدرسة، التفتت بسرعة إلى كأس الحليب فوجدته مازال ممتلئا، نظرت إلى أخي الأكبر وقالت: "أخوك ما شرب الحليب، قوم ناديه بسرعة" انتفض أخي عن الكرسي وانطلق نحو النافذة، صرخ بأعلى صوته: "محمد ارجع اشرب الحليب". هذا النداء تزامن مع مرور دورية جيش صهيونية من نفس الشارع، مما جعلها تتوقف وتنظر صوب النافذة مطلقة رصاصها. ثم بلمح البصر انتشرت في المنطقة وهي تتخبط ذعرا كأن بها مسس، وما هي إلا ثوان حتى اقتحمت بيتنا، أسرع أحد الجنود وقبض على رقبة أخي بعنف قائلا: "انت تنادي محمد يرمي حجارة علينا؟!!!". أسرعت أمي نحو الجندي تحاول تخليص أخي من بين يديه وهي تقول: :والله أنا طلبت منه ينادي أخوه يشرب الحليب حتى شوف بعده سخن على الطاولة". لم يكترث الجندي لأمي ورجائها، كبل يدي أخي واصطحبوه إلى الدورية، بينما كان أخي يهديء من روعنا قائلا: "ما تخافوا رح أرجع"، في تلك اللحظات أمي انهارت بالبكاء وظلت تلوم نفسها بأنها السبب، وأما نحن كأن عاصفة ثلجية أطاحت بنا وجعلتنا كالأصنام من هول الصدمة.
أخي محمد لم يلبي النداء، يبدو أن هناك ما كان يشغل عقله ويشده إلى المدرسة. وأما نحن فقد طلبت أمي منا أن نتوجه إلى المدرسة. لم أشعر في تلك اللحظات بقدمي، ولا كيف حملاني إلى المدرسة، وكيف أصبحت في مقعد الدراسة، كنت أشبه بروبوت إلى أن خاطبتي المعلمة بصوت دافئ ومسحة رقيقة دافئة على شعري أذابت الجليد المتراكم على جسدي ولساني: "شو هالحلو يا سماح؟! مين عملك السبلة بشعرك؟ ومن وين هالبكل الحلوات؟! يا بتعطيني شعرك يا الزهر الحلو يا بتشتريلي نفس البكل"، أجبتها بصوت مكسور: "اليهود أخذوا أخوي".

في ذلك اليوم وبعد تلك اللحظة شعرت بالزمن قد توقف والحياة انعدمت، والحركة شلت، لا أذكر أين كان والدي في ذلك اليوم!! لم تعبق الأمكنة برائحة القهوة، لا البيت ولا المدرسة ولا حتى الشارع، رغم حاجتي الشديدة لما ينعش أنفاسي ويرد نبض قلبي!! كل شيء كان حزينا!
أما مصير أخي فظل مجهولا مصحوبا بدموع أمي وحسرتها إلى أن..............يتبع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى