الخميس ٢٢ حزيران (يونيو) ٢٠١٧
بقلم نوزاد جعدان جعدان

هزيمة الضوء

كان يوما بعد كل يوم، مختلفا ومضطربا، وأنا أقود سيارتي وسط هذه الصحراء، كانت الأسئلة تشدني والأفكار تراود خاطري بطريقة جنونية، أحاول أن أصنع وشائج بينها ، ولكن كل شيء يبدو ضوءا منهزما تحت ظل شجرة؛ حين يرتبط الأمر بالدين والفلسفة.
فكرتُ كثيرا !، من هي التي تغادر الروح أم النفس أثناء الموت والنوم !؛ فالروح نُفخت من روح الله ومحال أن تموت بذلك، والنفس ذُكرت في الكتب السماوية أكثر من مرة و هي التي تغادر كما ذكر في القرآن الكريم، وإن كان الجسم عربة والروح مولدة العربة؛ فالنفس إذاً هي سائقها وتتوقف الحياة بتوقف السائق، ولكن في الحلم هل تأخذ النفس استراحة كأي سائق ثم تعود من جديد لمتابعة طريقها ؛ يتبضع في الطريق أو يذهب إلى الحمامات العمومية، كما أفعل في طريقي الآن وأنا ذاهب لزيارة بيت جدي، أو تتوقف الرحلة بحادث يموت فيه السائق، ولكن الأحلام ما هي إلا ثمار لجذور الماضي وهي نتاج انفعالاتنا وتصوراتنا وكبتنا، وهي بذلك تكون نتيجة موضوعية للنفس - بأنواعها الإمارة بالسوء واللوامة.. الخ- أن ترحل يوم تآزف الساعة.
بدأت أفقد تركيزي وأنا أقود السيارة بكل هذه المسائل التي تشغل بالي، إذ بدت الرحلة طويلة، حتى إني لم أنتبه إلى مؤشر الوقود ، توقفت سيارتي ونزلتُ منها ألعنُ حظي، كان الطقس حارا ومغبرا جدا، صحراء قاحلة حولي لا أثر لشيء يتحرك، كل ما هنا ساكن جدا، تتبعثر الأفكار في خاطري كحبيبات الرمل التي تحيط بي، لماذا سلكت هذا الطريق ولم أسلك الأخر المعتاد؛ و الذي أسلكه مثل كل مرة، وقفتُ أتضرع إلى الله بالنجاة وأصلي حتى بدون وضوء فلا تراب حولي يفيد التيمم كله أصفر جدا، ولسوء الحظ لا تغطية في هاتفي المتحرك، وقد نفذ الماء أيضا من قنينة مائي، ولا غيمة تعصر منديلها على جبيني المحموم، كما أن معدتي بدأت تعزف موسيقاها ، ولا حيوان في هذه الصحراء أقتله وأسد جوعي بموته؛ كي أحيا.
مشيتُ وأنا أنتظر أي فرصة للنجاة، الصحراء كبيرة جدا ولا خيمة أنصب أوتاد الأمل عليها، تركتُ الروح والنفس وكل تلك الترهات التي أفكر فيها، والشيء الوحيد الذي أفكر به هل أحافظ على وجوديتي في هذا العالم، تساءلت مرة لمن كل هذا العالم الكبير ، كان يكفيني بيت جدي وحارة وشرفة حبيبتي لأكون سعيدا في هذا العالم المضحك جدا لدرجة البكاء، في غضون هذه الساعات الحرجة ربما يبدأ الإنسان يغربل خطاياه، يتذكر كل ما فعله وتصبح الذاكرة عندها حديد ويصبح ضميرك الشاهد الوحيد.
بعد ساعات وقبل أن يرمي الليل جلبابه، سمعتُ صوت زمور سيارة تقترب مني، لم أصدق أذني، حسبت الصوت سرابا كما يحدث في الصحراء عادة، لم أتيقن أنها حقيقة حتى توقفتْ قربي، كانت شاحنة لنقل السجناء إلى الزنزانة التي تقع خلف قريتي، فرحتُ جدا عندما قال السجان لي أنه سينقلني إلى هناك، شكرته وزجني في الخلف بين المجرمين، فطمس كل السواد الذي يحيط بي بنور من هذه السيارة المخصصة لنقل المساجين، لا مشكلة عندي، كنتُ مستعدا لأي شيء فقط أن أنتهي من هذه الصحراء التي تحيط بي، كان كل شيء أصفر أصفر جدا، وأنا أبحث عن وشيجة تعيدني إلى حياتي المعتادة.
جلستُ قرب المساجين الذين حولي، كانت أيديهم مكبلة بالأصفاد وجاء شرطي وكبّل يدي وقدمي أيضا خشية أن أقوم بتهريبهم، طمأنني السجّانون بأنهم يفعلون ذلك في سبيل الاحتياط ريثما أصل إلى قريتي حتى يفكّوا السلاسل، فربما كنت من إحدى العصابات المتفقة مع المجرمين.
كانت السلاسل ثقيلة، وكانت عيون السجناء مكسورة الآمال، لا بريق فيها مطلقا، يتهامسون بصوت خفيف جدا، كأنه هسيس الشفتين، سمعتُ من أحدهم أنه كان لصا وهو نادم جدا، والأخر كتب في السياسة وناضل في سبيل قضيته، تمتمتُ مع نفسي وأنا مثلك فكرتُ في الفلسفة، كان السجناء من مختلف الألوان؛ الأسود والأبيض والأشقر والأصفر، وأنا تارة أسمع كلامهم وتارة أفكر في بيت جدي، وكيف ستستقبلني جدتي التي صبغتْ أغنامَها بالحناء، كنت صغيرا وقتها لم أكن أعلم يومها أن الخراف تتبرج
أو ربما كي تغطي فروها الأشيب وأنا في آخر مكان بالجرّار، أجلس على بساط من جلد خروف وفير الوبر
اشتريته من راعي قريتنا الذي كبر كرشه كثيراً كي تصلي عليه جدّتي، كان ذلك الراعي يتهم ذئاب قريتنا الوديعة مراراً كلما سها القمر عن إحصاء أغنام قريتنا، كنتُ أتذكر تلك الحادثة وأنا ابتسم إلى أن سعل أحد المساجين حتى ملأ المكان بالدماء.
لم أكن أعرف عدد المساجين بالضبط، كانت الزاوية التي زجوني بها خانقة ، زاوية رطبة تفوح منها رائحة التراب المبلل بمياه المجاري، وكان السائق يقود الشاحنة بسرعة جدا دون أن يفكر برؤوسنا التي ترتطم بسقف الشاحنة الضيقة، رائحة القيء بدأت تملأ المكان وأنا صرت أفكر كأي سجين بوسيلة فقط أنتهي بها من هذا العذاب.
عاد كل شيء أصفر أصفر جدا حولي ، والدوار لا يفارقني، خبّطت على البلّور الفاصل بيننا وبين السجّانين ولكن لا أحد أجابني، رفستُ الزجاج بقدمي المكبلتين فقد وصلت إلى قريتي ولم يتوقفوا، ولكن الزجاج لا يتأثر فهذه شاحنة مصممة لهذا الغرض، حاولتُ جاهدا.. صرختُ.. استغثتُ.. ضربتُ.. لا أذن تلتقط صرخاتي.
وصلنا السجن وأخرجونا واحدا تلو الأخر، عاملوني كأي سجين وأنا أبحث عن السجان الذي أنقذني، لم أجده، بحثتُ عنه كثيرا، أنكر الجميع شخصا بهذه الصفات، شرحتُ للسجانين القصة و لم يصدقني أحد ، زجّوني في سجن معتم جدا، أصبح حولي كل شيء أصفرا جدا مرة أخرى وأنا بانتظار محاكمتي الصفراء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى