السبت ١٩ آب (أغسطس) ٢٠١٧
بقلم عصام شرتح

الدوافع الجمالية في شعر محمد الماغوط

لاشك في أن الدوافع الجمالية من محفزات الشعرية المعاصرة، هذه الشعرية التي تستقي مثيراتها من تراكم الدوافع والمثيرات وتعددها في النص،وهذه الدوافع تسهم في إثارة الشعرية في القصيدة الحداثية؛ بوصفها لبنة جوهرية في تشكيلها، فالنص الشعري الذي لا دوافع جمالية له، لا قيمة له، ولا أهمية في حيز الإبداع الشعري المميز، أو حيز الخلق الجمالي الممتع.ووفق هذا التصور،

فإن الدافع الجمالي هو أساس الفنون جميعها، فالفن لا يصدر إلا نتيجة حراك هذا الدافع الجمالي الذي يدفع المبدع أو الفنان إلى ممارسة إبداعه بانقطاع، وتأمل عميق؛ وبهذا:" يصبح انقطاع الفنان، بمثابة إنقاذ، ولحظة من لحظات عبقريته"(1). فالفنان بانقطاعه عن العالم، يستغرق في تأملاته؛ ومن ثم تتولد – لديه- دوافع جمالية إلى ترجمة هذه التأملات إلى منتوجات إبداعية، فالفن هو لحظة من لحظات التأمل، والاستغراق في الوجود، وهذا ينتج بدوافع جمالية؛ تستثير المبدع في لحظات تأملاته، يقول (بيرجسون):" إن الأشياء الجميلة عسيرة... بمعنى أنها صعبة التنفيذ، بل ربما في حالات معينة صعبة الفهم والاستيعاب"(2).

وبهذا، يبدو الدافع الجمالي محفزاً إبداعياً مؤثراً في تلقي المنتج الجمالي، بل في إنتاجه، وهنا، نصل إلى مقولة دقيقة، وهي: أن ثمة قيوداً لذيذة تفجرها الشعرية. ولا نبالغ إذا قلنا: إن هذه القيود هي دوافع جمالية تدفع الفنان إلى التكامل الجمالي في منتوجه الفني؛ يقول جان برتليمي:" إنه من المؤكد أن الفنان في حاجة إلى حرية يتحدد هو فيها؛ لأنه يبدع شكلاً. فعبقريته، الخاصة، يخصبها الوعي، تود لو تصادف ملابسات ملموسة واضحة قدر المستطاع، فهو يصنع من العوائق المادية ضرورة جمالية، ولهذا، يتعين عليه الانتصار عليها بعد أن يكون قد جعل منها مثيراً، وفي نفسه لاعباً فناناً"(3).

وهذه الحرية هي التي تشكل دافعاً جمالياً مضاعفاً في التحريض الإبداعي؛ والكشف الجمالي؛ وهذا القول يجعلنا نقف على مقولة عكسية: وهي أن العقبات أو المطبات التي يقع فيها المبدع أو الفنان قد تشكل دوافع جمالية تحثه على ممارسة الإبداع، خاصة حين تتوافر في المبدع الحساس الموهبة التي تخوله إلى تحويل هذه العوائق إلى طاقات إبداعية خلاقة، تفجر ينابيع إبداعية؛ وبهذا المقترب الرؤيوي يقول جان برتليمي:" باختصار، فإن القواعد لا تساعد العبقري إلا بقدر قابليتها للتوافق، ورغباته العميقة؛ بصفته إنساناً لتجاوزها، وإلا بقدر كونه إنساناً حياً تعمل هي على إذكاء حيويته، وحساسيته الجمالية"(4).

وهنا قد يتساءل الكثيرون:

هل الدافع الجمالي تؤثثه المثبطات الفنية أم المحفزات الشعورية؟ ومتى تتحول المثبطات إلى دوافع جمالية؟ أو محفزات جمالية تساعد المبدع والمتلقي على السواء، في تفعيل المنتج الفني؛ ومكاشفته جمالياً؟!

لا شك في أن المبدع الجمالي هو القادر دوماً على تحويل المثبطات إلى دوافع جمالية، فالشاعر الحاذق أو الماهر فنياً هو الذي يبني قصيدته بدوافع جمالية، وشعورية تخرج من ذاته المكلومة/ أو المأزومة، إذ يملك مقدرة فائقة على نقل المحفزات، إلى دوافع فنية تستثير المشاعر، وتلهب الأحاسيس ؛ لأن المنتج الجمالي الشعري- تحديداً- هو الذي لا يمكن ترجمته إلى لغة أخرى؛ إذ كيف للأقوال والصيغ الكلامية بوقعها وجرسها الصوتي أن تُنْقَل إلى لغة أخرى؛ لأن للصوت إيحاءً بحد ذاته، إذا تُرْجِم فقد هذا الدفق، والحرارة، والقوة الشعورية؛ يقول رينيه ويليك:" القصيدة لا تُنْثَر، ولا تترجم فهي عالم متماسك، قوامه الأصوات، والمعاني، ويبلغ من تلاحم عناصرها أننا لا نستطيع فصل الشكل عن المضمون. والشعر يستغل إمكانات اللغة إلى أبعد حد ممكن، مبتعداً بنفسه عن الكلام العادي بواسطة الأصوات والأوزان وكل الوسائل التي تتيحها الصور الشعرية واللغة الشعرية هي لغة ضمن اللغة، أي أنها لغة لها شكلها المستقل تمام الاستقلال؛ والشعر- عند فاليري- ليس حساب وتمرين، بل لعبة، وأغنية، وترنم، وسحر، وتعويذة، إنه فن يقوم على الصور البلاغية والترنيم، وهو مواءمة بين الصوت والمعنى ليصل حسب تقاليده هو، حتى؛ ولو كانت تعسفية إلى درجة المثال، الذي تشكل عناصره وحدة واحدة؛ تتجاوز الزمن، وتصل عالم المطلق"(5).

ومن هذا المنطلق، فالمنتج الجمالي المثير هو نتاج مواءمة بين الصوت والمعنى؛ ولا تنتج هذه المواءمة إلا عن دافع جمالي وإحساس شعوري عميق؛ يقول الشاعر شوقي بزيع:" الجمال بقدر ما يشعرنا بمتعة النظر إليه يشعرنا بالمرارة وعدم امتلاكه... إن الجمال ينبع من ذاته بفعل جاذبية داخلية، بفعل انسجام ما، بفعل نسق ما.. ولذلك، يقال عن الجمالي تعبيرات مثل الجمال الفاتن، والجمال الرائع، والجمال الطاغي، والجمال الساحر"(6)

والجمال تأسيساً على هذا، لا يكتسب قيمته إلا نتيجة إحساس داخلي، أو دافع داخلي يولد في الإنسان لحظة تلقي العمل الفني ؛أو المنتج الجمالي تلقياً جمالياً مؤثراً؛ فالدافع الجمالي، لدى المبدع،دافع إبداعي هو نتيجة إفراز تأملي؛ يتولد لحظة تلقي المثير/ أو الحدث جمالياً، يعكس هذا الأثر ناتجاً جمالياً، في حين أن المتلقي يقوم بترجمة هذا الناتج إحساساً وتأملاً، ومن ثم التفاعل مع مؤشراته الجمالية، كما لو أنه صانعها أو مبدعها الحقيقي؛ فالدوافع الجمالية تتولد لدى المبدع؛ وهي ما نطلق عليها دوافع جمالية رئيسة أو جذرية، ودوافع جمالية في المتلقي؛ وهي ما نطلق عليها دوافع ثانوية أو فرعية. ولا غنى للدوافع الرئيسة عن الدوافع الثانوية، أو الفرعية في تلقي المنتج الجمالي؛ وإكسابه قيمته الجمالية المثلى، وبقدر ما تتعزز فاعلية الدوافع الرئيسة في إبراز المنتوج الجمالي بمنحى مغاير؛ أو لا متوقع تزداد الدوافع الثانوية أهمية في تلقي هذا المنتوج الإبداعي، لتكون جوهرية في الحكم على قيمة المنتج الفني جمالياً، وبهذا يزداد أثر المتلقي قيمة وأهمية بالنسبة للمنتج الإبداعي المنقود؛ يقول بودليير:" هناك فرق كبير جداً بين قطعة فنية مجهزة وأخرى (منتهية) ؛ فالشيء المنتهي قد لا يكون مجهزاً على الإطلاق، بمعنى أن اللمسة الروحية الهامة التي يضعها الفنان في موضعها ذات قيمة ضخمة"(7).

إن قيمة المنجز الفني تتحقق في اللمسة الفنية التي تأتي في موضعها اللائق بدافع جمالي نابع عن إحساس شعوري عميق من جهة، وخبرة جمالية إبداعية من جهة ثانية، وهذه القيمة لن تتحقق إلا في ظل إدراك جمالي ووعي فني إبداعي خاص بالعمل الفني المنتج، سواء أكان ذلك من قبل المبدع أم من قبل المتلقي الذي يتلقى هذا العمل كقيمة جمالية إبداعية عظمى.

وبتقديرنا: إن الدوافع الجمالية في تجربة الشاعر محمد الماغوط تتبدى في إثارة الصور الدهشة أو الصادمة التي تخلق متعتها بتناغمها الجمالي، وحياكتها النسقية الفاعلة، كما في النسق الشعري التالي:

"مذ كانت رائحةُ الخبز
شهيةً كالورد
كرائحةِ الأوطان على ثيابِ المسافرين
وأنا أسرِّحُ شعري كلَّ صباح
وأرتدي أجمل ثيابي
وأهرعُ كالعاشق في موعده الأول
لانتظارها."(8)

بادئ ذي بدء، نقول: إن الدوافع الجمالية في تشكيل الصورة الدهشة هي من أهم مغريات تشكيل القصيدة، لاسيما في الصور الصادمة التي تتلون بالدلالات والإيحاءات العظيمة،كما في الصور الصادمة التالية:[ مذ كانت رائحةُ الخبز /شهيةً كالوردِ/ كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين]،وهنا نلحظ بلاغة الإزاحة التشكيلية بين رائحة الورد/ ورائحة الأوطان/ التي تفوح على ثياب المسافرين، وهذا يعني غنى الدوافع الرؤيوية الصادمة التي تكسر رتابة السرد، وتقليدية الصور،وتخلق المتعة الجمالية، على شاكلة المقطع الشعري التالي:

"بلا أملٍ...
وبقلبي الذي يخفقُ كوردةٍ حمراء
سأُوِّدعُ أشيائي الحزينة في ليلةٍ ما,,
بقعَ الحبرِ
وآثارَ الخمرةِ الباردةِ على المشمَّعِ اللزج
وصمت الشهورِ الطويله
والناموس الذي يمصُّ دمي
هي أشيائي الحزينة"(9).

إن القارئ هنا، يلحظ بداعة التشكيل اللغوي عبر فاعلية الإزاحة اللغوية؛ وهذه الإزاحة الجمالية خلقت هذه التوليفة التشكيلية التي جعلت الصورة ذات إيقاع رؤيوي/ مختلف، صحيح أن اللغة تبدو بسيطة مأنوسة، لكنها تخفي درجة من المباغتة والخلخلة الجمالية غير المتوقعة، كما في النسق التالي:[بلا أملٍ... وبقلبي الذي يخفقُ كوردة حمراء.. سأودِّع أشيائي الحزينة في ليلةٍ ما.. يقعُ الحبرُ وآثارَ الخمرةِ الباردة على المشمعِ اللزج]؛ وهنا تحقق الصور قيمتها من تفاعل الأنساق وتوازنها، كما في قوله:

"فأنا رجلٌ طويلُ القامه
وفي خطواتي المفعمة بالبؤسِ والشاعريه
تكمنُ أجيالٌ ساقطةٌ بلهاء
مكتنزة بالنعاسِ والخيبة والتوتر
فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى
وحرية التلصص من شقوقِ الأبواب
وبنيةً جميله
تقدمُ لي الوردَ والقهوة عند الصباح
لأركضَ كالبنفسجة الصغيرة بين السطور
لأطلق نداءاتِ العبيدِ
من خناجرِ الفولاذ"(10).

لاشك بداية إلى أن الصور الصادمة الوهاجة التي تخلق زوغانها الإسنادي المميز هي التي ترتقي بالحدث والمشهد الشعري المؤثر، ولعل الدقة والإزاحة الفنية الصادمة التي نلمسها في الأنساق التالية:[ فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى/وحرية التلصص من شقوقِ الأبواب/وبنيةً جميله /تقدمُ لي الوردَ والقهوة عند الصباح/لأركضَ كالبنفسجة الصغيرة بين السطور]،هي التي فعَّلت القيمة الجمالية للأنساق الاغترابية.

ولعل أبرز الدوافع الجمالية تكمن في خلق خلق المتعة الضدية عبر الأنساق التصويرية المتضادة، ذلك"أن استحضار المسمى، ومقابله من أهم الوسائل اللغوية الأسلوبية لنقل الإحساس بالمعنى والفكرة والموقف نقلاً صادقاً. وتعد هذه القيمة أهم قيم التقابل اللفظي على المستوى الدلالي"(11). وهذا يعني أن التضاد يثير الحركة الجمالية في القصيدة، لاسيما في تحريك الصور، وبهذا المعنى تؤكد الناقدة خيرة حمر العين مايلي:" إن التقابل في الشعر العربي الحديث يعمق الفضاء الدلالي بتفجير دلالات مضمرة،وخلق علاقات داخل النص بين وحداته المختلقة"(12).

والملاحظ أن التضاد من الدوافع الجمالية التي تشعل الدلالات بنقيضها، وترفع وتيرتها الجمالية، لاسيما التضاد الدلالي الذي قالت عنه الناقدة أسيمة درويش قائلة:" إن التضاد الأكثر أهمية في القصيدة هو التضاد الدلالي، أي الدلالات الضدية التي تنتجها حركة العلاقات الداخلية للنص؛ والتي لايمكن رصدها عبر متابعة أنظمة النص،وحركته الداخلية"(13). فإذا كانت التباينات هي سر الخلق الإبداعي؛ فإن معظم النصوص الشعرية تعمد إلى نسق من التجاذب والتناسق بين الدوال،قصد تحقيق إيقاعية رمزية المحمول والمدلول من خلال تناغم الرموز وتنافرها"(13).

وبتقديرنا: إن التضاد الدلالي الأسلوبي من دوافع الإثارة الشعرية في قصائد محمد الماغوط التي يقول فيها:

"أيتها الحمامةُ التي تزورني
وجناحاها معقودانِ كشريطةِ المدرسة
كفاك تحديقاً في راحتيَّ
بحثاً عن خطوط الوعمرِ والحظِ والمستقبل
لقد امحت كلها من حمل الحقائب
وشدِّ القلوع في الأحلام
وعبثاً تنقصين أسرارَ حزني
من إضبارتي المدرسي
أو رفاقي في المقهى
فحزني لاحسب له ولا نسب
كالأرصفه
كجنين ولد في مبغى"(14).

بادئ ذي بدء،نشير إلى التضاد الدلالي من مؤثرات الشعرية في قصائد محمد الماغوط، الذي يعتمده من حيث جدلية الأنساق والإسناد اللغوي العبثي اللاهي،كما في الأنساق التالية:[القلوع/ الأحلام][ وجناحاها معقودانِ كشريطةِ المدرسة]،فلا يوجد أي تناسب بين الجناحين وشريطة المدرسة،وهذا الأسلوب الجدلي العبثي الضدي يدل على عبثه ولهوه الوجودي بالأشياء، بوصفه شكلاً من أشكال الاغتراب اللغوي في التشكيل والصياغة،وهذا دليل أن" علاقات الملامح اللغوية التي يتضمنها نص أدبي متشابكة فيما بينها،وذات درجة عالية من التراتب والتعالق،وهي علاقات ذات طابع إيقاعي وصوتي،تؤسس لأعراف النظم والإيقاع من جانب،وذات طابع مرتبط بالأبنية الدلالية والمجازية ذات سمات انحرافية أو تكرارية من جانب آخر"(15).

وبتقديرنا: إن الجمالية الفنية – في قصائد محمد الماغوط – ماثلة في النسق اللغوي المنزاح على صعيد الإسناد اللغوي المتضاد أو المتنافر،كما في قوله:

"يقف ذليلاً على الباب
والدموعُ ترفرفُ في عينيهِ كالعصافير
يقفُ وحيداً أمام العالم
ليشقَّ طريقه كالملاح إلى سريري
في الظلمة
الظلمة العميقة الآسنه
حيثُ الريحُ تزأرُ
والأشجارُ المبللة تنوحُ كنسوةٍ مغتصبات
يطوقني بين ذراعيه
وينغرس بلحمي كالصبيان"(16).

لابد من الإشارة بداية إلى أن التشكيل الجمالي هو من مثيرات الشعرية التي تحقق المتعة بالإسنادات الجدلية المفاجئة التي تثير التجربة،وترتقي بموحياتها الخلاقة، يقول محمد حماسة عبد اللطيف:" إن القصيدة الجيدة تُبنى فيها الجمل بدقة محكمة،وتنتقى لها العبارات بعفوية آسرة،وتخلق الكلمات فيها سياقها الملائم،وتتفاعل فيها عناصر التعبير تفاعلاً يعمل على إشعاع عدد غير محدود من الدلالات"(17)

وهنا، نلحظ عمق الاستعارات والصور الجدلية التي ترتقي بالنسق اللغوي إلى قمة الاستثارة والجمال،وهذا ما يحفز النسق الشعري،ويخلق فيها اللذة الجمالية، كما في قوله:[ والدموعُ ترفرفُ في عينيهِ كالعصافير/ والأشجارُ المبللة تنوحُ كنسوةٍ مغتصبات]؛إن هذه المسندات الجمالية ترتقي برهافة الصور الرومانسية المغتربة التي تشي بالمواربة والاختلاف.وهكذا، يمكن القول: إن الجمالية في النص ماثلة في نظام التركيب اللغوي للنص،أي في بنية تركيب الجمل والمفردات،كما في بنية الزمان والمكان التي تولد فضاء النص،وتخلق فيه مسافة ينمو فيها،وأرضاً يتحقق عليها فينسج العلاقات على أكثر من محور تتقاطع،وتلتقي،وتتصادم، وتخلق غنى النص،وتعدد إمكانيات الدلالة فيه"(18).

ولعل ما يميز شعرية الكثير من الأنساق الشعرية اعتمادها الدوافع النفسية، والمؤثرات المدهشة، كما في قوله:

"آه ياصديقي
ما أشهى النسيم الذي مرَّ بنا منذ عام
في نفسِ الصيف
ونفس المكان
لقد كان بارداً ولاذعاً كالوحش
يدخل سراويلنا كألسنة الخراف البيضاء(19)

هنا، نلحظ قيمة الدوافع الجمالية في تشكيل الصور الصادمة التي تشي بالعمق والخصوبة والإيحاء، كما في الصورة الصادمة التالية:[ لقد كان بارداً ولاذعاً كالوحش يدخل سراويلنا كألسنة الخراف البيضاء]، وهكذا، يؤسس الشاعر شعرية قصائده على الصور الصادمة المباغتة التي تدل على حس جمالي وحساسية فنية عالية في التشكيل النصي.

واللافت أن الدوافع الجمالية تتعلق لدى الماغوط بحركة الدلالات وانفتاحها، وتتعلق كذلك بالدوافع النفسية التي تثير الحدث والرؤيا الجمالية، كما في قوله:

"وفي خطواتي المفعمةِ بالبؤس والشاعريهْ
تكمن أجيالٌ ساقطةٌ بلهاء
مكتنزةً بالنعاسِ والخيبة والتوتر
فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى
وحريةِ التلصلصِ من شقوقِ الأبواب
وبنيَّة جميلة
تقدم لي الوردةِ والقهوة عند الصباح
لأركضَ كالبنفسجة الصغيرةِ بين السطور
لأطلق نداءات العبيد
من حناجرِ الفولاذ"(20).

بادئ ذي بدء،نشير إلى أن الدوافع الجمالية من محفزات الشعرية التي تتعلق باختيار نسق لغوي دون آخر، ذلك " أن إبداع الشاعر لا يعزى إلى الكلمات فحسب، وإنما إلى نظم الكلمات وترتيبها، واستغلال خواصها الصوتية والصرفية في سبيل تنسيقها في تراكيب متجانسة يضفي عليها الشاعر الكثير من مشاعره؛ وههنا، تتحقق جمالية النظم عن طريق التلاحم القائم بين التركيب المبدع والشعور الخاص، أي بين الوسيلة الفنية والرؤية الداخلية لدى الشاعر"(21).
وبالعودة إلى النص الشعري نلحظ أن الماغوط كثف من فاعلية الصورة الصادمة (أطلق نداءات العبيد من حناجر الفولاذ)، مما أدى إلى تراكم الدلالات الاغترابية الصادمة التي تثير الموقف،وترفع حرارة الموقف الشعري،لاسيما في الدلالة على الحرقة والتشرد، والأسى المرير، كما في قوله:" فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى /وحريةِ التلصلصِ من شقوقِ الأبواب.. لأطلق نداءات العبيد من حناجرِ الفولاذ)،وهذا يدل على رغبة الشاعر العميقة في تعميق الموقف الشعري وتحميله من الدلالات مالا يحتمل،وتبعاً لهذا التصور، يمكن القول: إن الدلالات الاغترابية تسيطر على الدوافع الشعورية وتطغى عليها، ومن ثم تنعكس مؤثرات الدوافع الشعورية على الدوافع الجمالية، وربما تسمها بإيقاع التعروي الشعوري الغاضب، كما في قوله:

"لا تصفعني أيها القدر
على وجهي أمتارٌ من الصفعات
ها أنا
والريحُ تعصفُ في الشوارع
أخرجُ من الكتب والحانات والقواميس
خروج الأسرى من الخنادق"(22).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الدوافع النفسية هي التي تتحكم بالدلالات والمحركات الشعورية، وهي التي تدلل بمنعكساتها على الكثير من الدوافع الجمالية وراء هذا الشكل الجمالي أو ذاك، وهنا، على ما يبدو تشير الدوافع النفسية إلى حالات من التوتر، والنفي، والقلق، والإحساس المتناهي بالأسى، والحزن، والتمزق الشعوري:(لا تصفعني أيها القدر/على وجهي أمتارٌ من الصفعات)،وكأن وجه الشاعر ما عاد يحتمل أي شيء،لدرجة أصبح لايقوى على المواجهة لشدة الصفعات التي تراكمت على وجهه،وهذا دليل إحساس بالوجاعة والمرارة التي لازمته فترة من الزمن، فما عاد بقادر على الصمود في وجه هذه الصفعات التي ارتفعت أمتاراً لتراكمها المرير على وجهه، وهذا الأسلوب المتواتر ارتفع من نسق شعري إلى آخر،كما في قوله:

"أيها العصرُ الحقيرُ كالحشره
يامن أغريتني بالمروحةِ بدل العواصف
وبالثقابِ بدل البراكين
لن أغفرَ لك أبداَ"(23).

هنا، يلحظ القارئ إيقاع السخرية الكاشف عن حرقة واغتراب شعوري عميق، فالشاعر هنا، يبحث عن واقع جميل، يحلم به لكنه لايحصله، فقد أغراه بحياة كريمة فأذاقه الذل والخزي وجرعه الهوان:[ يامن أغريتني بالمروحةِ بدل العواصف]،وقد جاءت صيحته الغاضبة[ لن أغفر لك] بمثابة الجرس الذي يؤذن بالاحتجاج و النفي والاغتراب،وهكذا يؤسسى محمد الماغوط إيقاع قصائده على النفي والتعرية والمكاشفة الفاضحة للواقع المرير.

أشكال الدوافع الجمالية في شعر محمد الماغوط:

لاشك في أن قارئ قصائد الماغوط بإتقان يدرك أن شعرية قصائده تتأسس على دينامية الصور،وحراك الدلالات المشبعة بالألم والأسى والوجاعة والنفي والاستلاب، فقصائده تفيض بصوت (الأنا) الجريحة المتصدعة التي تبحث عن وجود آمن،وحياة كريمة لكن دون جدوى، فما زال بحثه عقيماً وصوته مبحوحاً، وأناه الداخلية تفيض بجراحات مؤلمة تزيده أسًى وحرقةً واغتراباً، ولعل أبرز أشكال الدوافع الجمالية مايلي:

التشكيلات الصادمة:

تتأسس شعرية الكثير من الأنساق الشعرية في قصائد الماغوط بالارتكاز على التشكيلات الصادمة المفاجئة في نسقها الشعري، وكأن حالة من الوجاعة والانكسار ترافق الذات الشاعرة لتعبر عن اغترابه وأساه الداخلي؛ فالشاعر يعاني الكثير من المشاعر الاغترابية المريرة، التي ترتج على الشكل اللغوي لتظهر اغترابه اللغوي ارتداداً أو انعكاساً عن اعترابه الشعوري، كما في قوله:

"ياشعبي.. احتضني
أنتَ الأبُ الحكيم
وأنا الطفلُ الضالُّ
أنتَ السيلُ الجارفُ
وأنا الكوخُ المتداعي
أعطني فرصةً أخيرة وانتظر
سأحبُّ عمالك وفلاحيكَ
سأعتزُّ حتى ببغاياك وأوحالك
وأطلي بها جبيني كالجندي المحارب"(24).

لابد من الإشارة إلى أن خلق الإثارة الشعرية في قصائد الماغوط ينشأ من التشكيلات الصادمة التي ترفع وتيرة الشعرية، لاسيما في الصور المفاجئة التي تأتي نتيجة دوافع شعورية – جمالية في اختيار نسق لغوي دون آخر، وهذا ما يحقق الاستثارة والحساسية والجمال، كما في قوله:[ سأعتزُّ حتى ببغاياك وأوحالك /وأطلي بها جبيني كالجندي المحارب]؛ وهذا يعني قدرة الشاعر على تلوين الأنساق الشعرية بالدلالات، المفاجئة التي تنشأ من حجم الدوافع الشعورية أو النفسية الضاغطة على ذات الشاعر.

وقد يعتمد الماغوط على الصور الصادمة أو الصور الجدلية التي تعكس اغتراباً نفسياً وشعورياً مؤلماً، يصل حد التأزم والاغتراب،لاسيما في الصور السردية البوحية التي تشي باغتراب نفسي شعوري مؤلم، على شاكلة قوله:

"يقفُ ذليلاً على الباب
والدموعُ ترفرفُ في عينيه كالعصافير
يقفُ وحيداً أمام العالم
ليشقَّ طريقه كالملاح إلى سريري
في الظلمة
الظلمة الآسنة
حيث الريحُ تزأرُ
والأشجارُ المبللة تنوحُ كنسوةٍ مغتصبات
يطوقني بين ذراعيه
وينغرس في لحمي كالصئبان"(25).

إن القارئ يلحظ هنا التشكيلات اللغوية الصادمة من خلال دهشة الصور الملتقطة التي تباغت القارئ بأساليبها الشعرية الخلاقة،ودلالاتها البليغة عن إحساسه الشعوري المأزوم، محققاً شعرية البث والشكوى والاغتراب الشعوري،وهذا يعني طغيان إيقاع الصور السردية التي تثير الحساسية الجمالية في نقل المشاعر الصادمة التي تشي بالتوتر والاغتراب.

وصفوة القول: إن التشكيلات اللغوية الصادمة أو المراوغة تشي بالغربة والنفي والاغتراب كارتداد نفسي شعوري عميق عما يعانيه الشاعر من توتر وإحساس متصدع بالواقع الذي يعيشه، مكثفاً من رؤاه الصادمة وأحاسيسه المتوترة.

واللافت أن الماغوط يكثر من الدلالات الاغترابية التي تشي بالقلق والتوتر، كما في قوله:

"أمي...
ياذات النهدِ الملوَّنِ كالأكواخِ الأفريقيه
أسرعي لنجدتي
تعالي وخبئيني في جيبكِ الريفيِّ العميق
مع الإبرِ والخيطانِ والأزرار
فالموتُ يحيقُ بي من كلِّ جانب
والسماءُ تظلمُ
والريحُ تصفرُ
والكلابُ السوداء
تنهشُ الكتب الداميةُ من حقائبِ المارة"(26).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن التشكيلات اللغوية الصادمة من أبرز محفزات البنى الدالة في الأنساق الشعرية التي تفعِّل الحدث والموقف الشعري،كما في قوله:[ ياذات النهدِ الملون كالأكواخِ الأفريقيه/ تعالي وخبئيني في جيبكِ الريفيِّ العميق]، وهذا يعني أن التشكيلات اللغوية الصادمة من المؤثرات الفاعلة التي تحرك البنى الدالة في القصيدة،مما يدل على بلاغة في الموقف، ورؤيا عميقة في الحياكة الشعرية.

وانطلاقاً، من هذا التصور يمكن القول: إن شعرية الأنساق الشعرية تتمحور على الحدث الشعري والموقف المراوغ، والتشكيلات اللغوية الصادمة التي تشي بالبراعة والحياكة الجمالية البليغة، كما في قوله:

"يا زميلَ الحرمانِ والتسكع
حزني طويلٌ كشجرِ الحور
لأنني لستُ ممدداً إلي جوارك
ولكنني قد أحلّ ضيفاً عليك
في أي لحظة
موشحاً بكفني الأبيض كالنساء المغربيات
لا تضع سراجاً على قبرك
سأهتدي إليه
كما يهتدي السكيرُ إلى زجاجته
والرضيعُ إلى ثديهِ"(27).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن التشكيلات اللغوية الصادمة من فواعل الاستثارة الجمالية التي تحققها النصوص الشعرية المحركة للأنساق اللغوية الفاعلة التي تحرك الأنساق الشعرية بالتكثيف والإيحاء، وهذا ما يزيد من القيمة البلاغية للأنساق الشعرية المكثفة التي تحرك الأنساق،وترفع وتيرة الحراك الجمالي[سأهتدي إليه كما يهتدي السكيرُ إلى زجاجته/ والرضيعُ إلى ثديهِ]، واللافت أن الشاعر يحرك الأنساق الشعرية لتبث إيقاعها الصاخب، كما في قوله:

"يُخيَّلُ لي أنني أتهاوى على الأرصفهْ
سأموتُ عند المنعطفِ ذاتَ ليلة
وأصابعي تتلوى على الحجارةِ كديدانِ التفاح
دون أن ينظر إليَّ أحد.
إنني أرى نهايتي
ألمحُ خنجراً ما في الظلام ِ مصوباً إلى قلبي
عربةً مطفأة"(28).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن اللذة الجمالية التي تخلقها قصائد الماغوط تتأسس على مرجعية الحدث،وفاعلية الرؤيا التي تحرك الأنساق، وتشي ببكارتها الإسنادية، وهذا الأسلوب التشكيلي المراوغ،يشي بالعمق، والفاعلية، والاستثارة الجمالية،كما في الأنساق التالية:

[أصابعي تتلوى على الحجارة كديدان التفاح]،وهذا دليل على حراك الأنساق الشعرية،وتفعيلها للموقف الجمالي الخلاق.

وثمة تشكيلات لغوية ترتبط بالحدث الشعري، وتشي بالعمق والإثارة، كما في قول الماغوط:

"فهنا على الكراسي العتيقهْ
ذات الصريرِ الجريح
حيثُ يلتقي المطر والحب والعيون العسليه
كان فمكِ الصغير
يضطربُ على شفتيَّ كقطراتِ العطر
فترتسمُ الدموعُ في عيني
وأشعرُ بأنني أتصاعدُ كرائحةِ الغاباتِ الوحشيه
كهديرِ الأقدام الحافية في يوم قائظ"(29).

بادئ ذي بدء نشير إلى أن التشكيلات اللغوية الفاعلة التي يعتمدها الماغوط تخوله أن يكون من الشعراء المهمين عربياً في هذا الجانب العبثي التصويري، لاسيما عندما يحرك الأنساق الشعرية، ويحفز المداليل الشعرية الخلاقة، وهذا ما تشي به الصور الصادمة بإيحاءاتها النشطة[ كان فمك الصغيرُ... يضطربُ على شفتيَّ كقطراتِ العطر]،وهذه الصور الصادمة هي التي تحقق الاستثارة والفاعلية والإيحاء.

ولعل ما يميز الأنساق الشعرية الفاعلة في قصائد محمد الماغوط اعتمادها التشكيلات الصادمة التي تشي بالعمق والإثارة والبكارة الإسنادية، كما في قوله:

"ليتني مطرٌ ذهبي
يتساقطٌ على كل رصيف وقبضةًِ سوط
أو نسيمٌ مقبلٌ من غابةٍ بعيدة
لألملمَ عطرَ حبيبتي المضطجعة على سريرها
كطيرٍ استوائي حنون"(30).

هنا، لابد من الإشارة إلى أن التشكيلات اللغوية الصادمة هي نتيجة دوافع شعورية ونفسية محتدمة تشي بها الأنساق الشعرية، والتشكيلات المراوغة التي تحمل دلالات اغترابية مأزومة،تشي بالاغتراب والتشظي الداخلي تارة، وبالتوتر العاطفي المحموم، كما في قوله:[ لألملمَ عطرَ حبيبتي المضطجعة على سريرها /كطيرٍ استوائي حنون]،وهذا يدلنا على أن الشعرية التي تؤسسها الأنساق اللغوية ذات قيمة بلاغية مؤثرة.

ومن الأنساق اللغوية ما تحتفي بإيقاعات جمالية تشي بالعمق والانفتاح الجمالي، كما في قوله:

"يا ربة الشعر
أيتها الداخلة إلى قلبي كطعنة السكين
عندما أفكر بأنني أتغزل بفتاة مجهولة
ببلاد خرساء
تأكل وتضاجع من أذنيها
أستطيع أن أضحك، حتى يسيل الدمُ على شفتي
أنا الزهرةُ المحاربه
والنسرُ الذي يضربُ فريسته بلا شفقه"(31).

لابد من الإشارة إلى الدوافع النفسية هي من منعكسات الدوافع الجمالية والعكس صحيح كذلك، فالنص الشعري المؤثر هو من فواعل الرؤية الخلاق والدوافع الجمالية المؤثرة، وهذا يمنح القصيدة العمق والاستثارة والجمال، كما في قوله:[ تأكل وتضاجع من أذنيها /أستطيع أن أضحك، حتى يسيل الدمُ على شفتي /أنا الزهرةُ المحاربه]، واللافت أن الشاعر يحرك الحدث والموقف الشعري، مما يدل على بلاغة في تفعيل الأنساق المبتكرة وحياكتها النسقية.
المناورة التشكيلية:

ونقصد ب (المناورة التشكيلية): المهارة في الانتقال من نسق تشكيلي إلى آخر، مما ينعكس على شعرية النسق، محفزاً دلالاته، ومغرياته الجمالية، خاصة إذا أدركنا أن"لغة الشعر تتطلب نمطاً معيناً من القول؛ وإن كانت لاتتطلب مفردات خاصة.ولذلك، فإنها تصل إلى أرقى الدرجات من خلال استخدام الشاعر جميع وسائل التركيب الممكنة،وهذا يقودنا إلى القول: تعتمد جمالية الأسلوب على طريقة تشكيل المفردات في جمل تدخل في سياق يفصله الشاعر نفسه في أثناء عملية الإبداع الشعري"(32).

وتعد المناورة التشكيلية من محفزات الإثارة الشعرية التي تخلق المتعة الجمالية في الأنساق الشعرية،لاسيما باعتماد عنصر الدهشة والمفاجأة في الإسناد على شاكلة قوله:

"أحبُّ التسكعَ والثيابَ الجميلة
ويدي تتلمس عنقَ المرأة الباردة
وبين أهدابها العمياءْ
ألمح دموعاً قديمة تذكرني بالمطر
والعصافير الميتة في الربيع
كنتُ أرى قارةً من الصخر
تشهقُ بالألمِ والحرير
والأذرعِ الهائجةِ في الشوارع"(33).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن المناورة التشكيلية من مغريات القصيدة الماغوطية التي تتأسس على فواعل المناورات التشكيلية ومحفزاتها الجمالية لاسيما إذا أدركنا أن اللعبة الشعرية بتمامها تتأسس على هذه المناورات الخلاقة التي تثيرها الأنساق الشعرية الفاعلة في سياقها، وهاهنا نلمح بلاغة المناورات التشكيلية التي تأتي بالانتقال من صورة إلى صورة أشد تأزماً وأعمق دلالة على الموقف الشعري، كما في الأنساق التالية:[ ألمح دموعاً قديمة تذكرني بالمطر/والعصافير الميتة في الربيع/كنتُ أرى قارةً من الصخر/تشهقُ بالألمِ والحرير]،وهذه المناورة تتمثل في توليف الأنساق البعيدة، لخلق درجة من المباغتة والإثارة الجمالية.

وقد يعتمد الماغوط المناورة النسقية الفاعلة التي تحرك الأنساق الشعرية،وترفع وتيرة الحس الجمالي في تلقي القصيدة والتفاعل مع حيثياتها الجمالية، كما في قوله:

"نامي تحت الأعلام الممزقة
أيتها الحمامةُ المنسية.
الوحلُ يتهادى كالأمير
يتألق على سرجه الذهبي
والشتاء الأخير
ينحني كالمتسول على أقدامك يابردى"(34).

هنا،يباغتنا الماغوط بالمناورات التصويرية البليغة، فكل صورة نسقية في سلسلة الصور السابقة تنطوي على مناورة تشكيلية بليغة يرمي الشاعر من خلالها خلق صورة مؤثرة تدلل على شعريته حساسيته الجمالية.ودليلنا هذه الصور التوصيفية الدقيقة:[ الوحلُ يتهادى كالأمير يتألق على سرجه الذهبي/ والشتاء الأخير ينحني كالمتسول على أقدامك يا بردى]؛وهنا، يرتقي الشاعر بالنسق الشعري محققاً بلاغته وإيقاعه الجذاب.

وثمة مناورات تشكيلية- في شعر الماغوط- تعتمد الدهشة الجمالية في الإسناد، لإبراز ملمحها الجمالي الخلاق، كما في قوله:

"شعركِ الذي كان ينبض على وسادتي
كشلالٍ من العصافير
يلهو على وساداتٍ غريبه
يخونني ياليلى
فلن أشتري له الأمشاط المذهبه بعد الآن
سامحيني أنا فقير يا جميله
حياتي حبر ٌ ومغلفاتٌ وليلٌ بلا نجوم
شبابي باردٌ كالوحل
عتيق كالطفولة"(35)

بادئ ذي بدء، إلى أن المناورة التشكيلية البليغة هي التي ترفع سوية النسق الشعري جمالياً، من حيث فاعلية الرؤيا وحساسية التعبير، فالماغوط هنا اختار الأنساق التصويرية الصادمة التي تعتمد المناورة التشكيلية الصادمة التي تشي بحرفنة جمالية ومخيلة وهاجة، كما في قوله:[شبابي باردٌ كالوحل/ عتيق كالطفولة]، وهكذا يؤسس الماغوط إيقاع قصائده على المناورات التشكيلية البليغة التي تصيب مرماها من حيث الحساسية والجمال.
وصفوة القول: إن اللعبة التشكيلية البليغة هي التي ترتكز على بلاغة التشكيلات اللغوية ودوافعها ومحفزاتها الجمالية التي تأتي غاية في الاستثارة والحساسية الجمالية.

ونخلص بعد هذه الدراسة المختصرة إلى النتائج التالية:

إن الدوافع الجمالية في تشكيل القصيدة عند الماغوط،تتمثل في التقاط الصور الصادمة أو الصور الدهشة التي ترتقي بالنسق الشعري جمالياً،وهذا ما يحسب للقصيدة في مسارها الإبداعي
إن الدوافع الجمالية في قصائد الماغوط تتأسس على تكثيف الرؤى الاغترابية من حيث الاغتراب والسخرية والقلق والتوتر،والألم،وهذا ما يجعل الصور متوترة وقلقة في نسقها الشعري.

إن الدوافع الجمالية في قصائد الماغوط دوافع شعورية ترتبط مباشرة بالرؤيا والتجربة الشعرية القلقة التي تشي بها حركة هذه القصائد في مدها الجمالي والرؤيوي المفتوح.
إن الدوافع الجمالية هي وراء الكثير من المناورات التشكيلية التي ترتقي بالحدث والموقف الشعري البليغ، وهذا ما ينعكس على التجربة الشعرية قيمة وحساسية جمالية مفعلة للحدث والموقف الشعري.

إن أبرز المحفزات الجمالية هي التي ترتبط بالرؤية،ولولاها لما حققت تجربته الغنى والتنامي الجمالي.

الحواشي:

برتليمي،جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 89.

المرجع نفسه، ص 146.

المرجع نفسه، ص 159.

المرجع نفسه، ص 161.

ويليك، رينيه، 1987- مفاهيم نقدية، تر: محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ع110، ص 478، نقلاً من ترمانيني، خلود، 2004 الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص 478.
شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص 440-441.

برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 246.

الماغوط، محمد،1973- ديوان محمد الماغوط،دار العودة، بيروت، ص28.

المصدر نفسه،ص32.

المصدر نفسه،ص38- 39.

العبد،محمد،1988-إبداع الدلالة في الشعر الجاهلي،دار المعارف،ط1،ص71.

حمرة العين،1990-جدل الحداثة في نقد الشعر العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،ص139.

درويش، أسيمة، 1995- مسار التحولات (قراءة في شعر أدونيس)،ص243.

الماغوط، محمد،1973- ديوان محمد الماغوط،ص302-303.

فضل،صلاح، بلاغة الخطاب وعلم النص،ص223.

الماغوط،محمد،1973- ديوان محمد الماغوط،،ص163.

عبد المطلب،محمد حماسة،2001- اللغة وبناء الشعر،دارغريب، القاهرة،مصر،ص125.

العيد، يمنى،1985- في معرفة النص، منشورات دار الأفاق،بيروت،ص127.

الماغوط، محمد،1973- الديوان،ص168- 169.

المصدرنفسه،ص39-40.

ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص95.

الماغوط، محمد،1973-ديوان محمد الماغوط، ص323.

المصدر نفسه، ص323-324.

المصدر نفسه، ص320

المصدر نفسه،ص163.

المصدر نفسه،ص291-292.

المصدر نفسه، ص297-298.

المصدر نفسه،ص180-181.

المصدر نفسه،ص41.

المصدر نفسه،ص42-43.

المصدر نفسه،ص70.

ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص96.

الماغوط،محمد،1973- الديوان،ص29.

المصدر نفسه،ص33.

المصدر نفسه،ص44.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى