الأحد ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

فلسفة التعرّي

بدأت الحكاية في يومٍ من ذلك الزمان...عندما خلعتِ الأزاهيرُ أحلى حُللها.وتعرّتْ...وتمايلت سيقانُها بفعلِ النُّسيمات الربيعية... فبانَ من حسنها ما بانْ.. وتطاير الشذا في كل مكانْ... وشاهد العصفور من عليائه تناثر الأزاهيرفي تلك الجنانْ.. فنفض ريشه و صدح بأعذب الألحانْ... فقد أطلّ الرّبيع العربي...

يومها استفاقت الشمس مترنّحةً..سَكرى بخمر الليل الطويلْ.. حُبلى بأطياف النهارِ الجميلْ... جذلى بيومٍ لنْ يكونَ له مثيلْ....

أما حواء فقد بردت ساقيها حتى اللّمعانْ..ودوّرت ثدييها كثمرة الرّمانْ... ونادت أنا خُلِقتُ للحبِّ فهيّا أيها الفرسانْ...وركن آدمُ حصانَه في المرآبْ..وقوّم شاربيه بتِرياق الشبابْ.... ولم يبقَ إلا أن يطرق ذلك البابْ..

وفجأة صاح الدّيك فأدرك شهرزاد الصباح....وسكتتْ عن الكلام المُباح...الحربُ الضّروسُ ما تزال قائمةً خلفَ التلالْ..وملائكةُ الموتِ مازالوا يحومون ويحصدون الرجالْ...وأعلنت الإذاعة الرّسمية أنّ جيشَ الوطن منتصرٌ لا محالة ولكنْ لابدّ من تصفيةِ الفلول...والأعداء كُثُر..منهم من جاء من وراء البحار ومنهم من نبع من الأنفاق والأوكار...لكنّ الحقيقة ما زالت مخبّأة..مفخّخة...وكلّ شيئ أصبح مفخخاً في وطني..السيارات والمعلّبات والكلمات والنساء وحتى الأطفال...كل شيئٍ مزيّف و معرّض للانفجار...

وانشغلَ البعضُ بحمل السلاح...والبعض الآخر بإحصاء الأرواح...والبعض رسم على صدره الصليب..والآخرون صلّوا على الحبيب...وانصهر الجميع في بوتقة - الفوضى الخلاقة -...
لذلك من الخير لك أن تلقي سلاحك...ثم تتعرّى كما خلقتكَ أمك...وتسجد بين يدي آلهة الحب..فيهونُ الزّمن الصّعب...فتأكل حُبّاً وتشرب حباً وتموت حبا...وتصطفّ في قوافل الشهداء الزّاحفة نحو الجنة...

نعم ياأخي..تعرّى من همومك..من الأثقال فوق كاهلك..من تاريخكَ المجبولِ بالدم...من طموحاتكَ غيرِ الواقعيّة والتي ستموت قبل أن تتحقّق...وعُدْ لحقيقتِك الحقيقية...وواقعِك الواقعيّ...

ويسخرُ البعضُ قائلين:

 أتنادي بالتعرّي ونحن نسكن العراءْ؟....وتشكو مَعِدتُنا الخواءْ؟...وتتفلسفُ وقد داهمَنا الغلاءْ؟...أصبحْنا عراةً عن الصحة..وعن الطعام..وعن الأخلاق..وعن الكهرباءْ..

 نعم يا أخي أنادي بالتعرّي..فهو فلسفة الحياة..هو الحقيقة المطلقة..سوف يجرّدونك من ثيابك فورَ موتِكَ..وقد يغسلونك لتواجه ربك نظيفاً حقيقياً...ويُعرّونك على طاولة العمليات قبل أن يمزّقك مبضعُ الجرّاح...وتتعرى وتُعري على فراش الحب..فتعود آدم الحقيقي وحواء الحقيقية ومنهما ينبثق المولود العاري...

وقد سبقني الى هذه الفلسفة أبو العلاء...فسمى نفسه المُعرّي وليس المَعرّي...لأنه حلّل الكثير من القضايا..وعرّاها..فجسّ الحقيقة بيديه وبصيرته تاركاً البصر لأهل النّظر...أولئك الذين أطلق عليهم (النظريون) أي أصحاب النظريات...

ولم يلجأ الناس في البلاد المتحضّرة إلى شواطئ العُراة رغبة بالجنس المبتذل الرّخيص.. فالجنسُ عندهم مُتاح.. بل على العكس اقترن البَغيُ بالظلام والغرف المغلقة بعيداً عن الشمس... نعم ذهبوا الى هناك ليواجهوا الأزمات المتفاعلة والمتراكمة في النفوس فيقلعوها عنهم..ويعودوا إلى براءة الأطفال...

المُتعرّي لن يحملَ عليك مسدّساً أو سيفا..أو حزاماً ناسفاً...فالمتعري مكشوفٌ كراحة اليد الممدودة للسلام....

لذلك يا أهل بلدي أنتم الآن بأمسّ الحاجة للتعرّي..وهكذا تُلقُون أسلحتكم...وتَلقَون ربكم...وتغسلون أحقادكم..وتفقِدون ذاكرتكم.. فتتبخّر أدران الشرّ من ثناياكم...ثم تجلسون في عين الشمس أطهارا... نعم تخلعون أحقادكم..... ثم تخلعُون على بعضكم حلّةَ المصالحة فتعودُون إلى النقاء...

بلدكم امرأةٌ عجوز لكنّها لم تصلْ بعد إلى سنّ اليأس...كانت تُرضِعُ صغارها على باب الخيمة في ظلّ نخلةٍ باسقة...فخطفها الفرسان على حينِ غرّة...حيث انشغل عنها رجالها....وصارتْ جاريةً مسبيّة...وهناك عرّوها..وصلبوها..وغرسوا فيها حرابهم....وعاثوا فيها خراباً ودمارا...ثم عرضوها للبيع في سوق النخاسة بسعرٍ بخس...وهناك نادى المنادي:

 من يشتري الشّمطاء من؟؟ فليدفع الثمن...فيها كلّ ما لذّ وطابْ..عجوزٌ في سنّ الشباب.... ضِرعها غذاءٌ للكبير وللصغير..

وشاهدها العصفور من عليائه –الذي سبق ذكره في أول الحديث - واكتفى بأنْ نفض ريشه..وصفق بجناحيه مستنكراً وطار مهاجراً....وأصبح لاجئاً في بلد ما...ولما لم يجدوا من يشتريها...قسّموها وباعوها قِطعاً...فمنهم من اقتطع نهودها الخضراء..ومنهم من ارتشف رضابها...ومنهم من خيّم فوق سهولها...ومنهم من عسكر بين ثناياها....

بلدي الآن عارية...مع أن رجالها ما زالوا باللباس الكامل...لباس القتال وجُعب الرّصاص... والأحزمة الناسفة...أما أمهم فعارية..كعُري المخطوفة بعد الاغتصاب...ذليلة بعد ان فقدت أعزّ ما تملك...نازفة بعد ان نكّل فيها النزلاء في خان الربيع...وتنتظر من يمسح دمعها....ويعالج جرحها...ثم يخلع عليها حلّة المجد...

وكم حاول العصفور المهاجر أن يعود..حاملاً غصناً من الزيتون...لكنّ البنادقَ أبعدته...وما زال بعيداً..وقالت الإذاعة الرّسمية :صبراً على البلوى فقد تطول غربتكم عن الوطن...ولن يصبح وطنكم في الغربة.!!!!!!!!!!!!!!!!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى