الأربعاء ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧

رحلة الغربة في حروف إمرأة تشرينية الولادة

كريم القاسم

مَـلـحـوظـة

(من يعشق الادب يتحمل الاطناب والإطالة، فدراسة نقدية بعنوان (رحلة) لابد ان تستغرق زمناً ضمن فضاءات متنوعة لاشباع المتلقي بالفائدة.... ونشرها على شكل اجزاء او حلقات قد تجعل ذاكرة المتلقي يعتريها شيء من النسيان، لذا فقراءة المقال بضخة واحدة يجعل الافكار مترابطة ويعمم الفائدة اكثر... احترامي وتقديري)

ــــ الغربة تعني البعد والنوى، ومَن منا لايعيش غربة في ذاته، او غربة بين سطوره وبين اروقة حروفه وثنايا نصوصه، او غربة زمان ومكان، فمرة غربة تخفيها السطور ومرة غربة تصرخ تحاول التحليق او العبور.

الغربة والاغتراب اجنحة قد حلَّقتْ في فضاءات كثير من شعراء العرب القدماء، فما ان يتغير منزله أو يسمو في فكرهِ ويكثر حاسدوه حتى تتباين رؤاه تجاه محيطه الخارجي ليبدأ رحلة اغتراب تثقل وتخف حسب مدركات وقوة شخصية المتعاطي معها.

وقد اهتم بهذه الظاهرة الكثير من الفلاسفة قديما وحديثاً وعلماء النفس والتربويين، حتى تشعبتْ فروعها وتنوعت نتائجها بتنوع أسبابها وتنوع وسائل التعامل معها.

تتنوع طرق ترجمة الذات والبوح باسرارها بتنوع الذائقة والاداة، وقد يترجم الفنان والمبدع هذا الشعور بما يجيده من فنٍّ، فقد رسم البارعون اجمل اللوحات العالمية تحت هذا العنوان، ومنهم الرسام (إدوارد هوبر) الذي ترجمت لوحاته شعور الغربة والاغتراب، والفنان الصيني (واي منغ) الذي جسد بلوحاته لحظات الاغتراب في مراحل الطفولة في بلده. وهكذا الموسيقيون وغيرهم من الفنانين.

الكثير من االافراد يود ان يطرح مايعتريه من شجون وما يحمله من ذكريات على شكل نتاج ادبي بعنوان جنس ادبي معين وحسب مايجيده صاحبه من ابداع. فالبعض يترجم حاله على شكل قصائد ان كان شاعراً أو رواية وخواطر ان كان يجيد النثر والقصة والرواية والذي لايملك الموهبة نجده يستعين بكاتب ومؤلف ليضع ذكرياته بين دفتي كتاب.

واجمل مافي الشاعر هو تطويع هذا الشعور وابرازه بصور شعرية غاية في الروعة والابداع. وتتباين هذه الصور مع تباين الثقافات المتنوعة للشعراء، حتى كتبَ في ذلك المتنبي وابن زريق وابو فراس الحمداني واحمد شوقي وشعراء المهجر وبدر شاكر السياب وغيرهم الكثير، فنظموا بذلك اجمل القصائد واحلاها.

ومن خلال متابعتي لكتابات وقصائد الشاعرة اللبنانية الدكتورة (هدلا القصار) وجدت ان كتاباتها عبارة عن نزيف متدفق لذكريات لاتنفك عن ذاتها، وابرز ملامحها هي الغربة، وسابحر في هذا المحيط مستنداً بعلامات دلالية سأخضعها للوصف والتحليل في كثير من نصوصها، وليس القصد هو سبر الغور الشخصي للشاعرة بقدر ما هو نتاج ومحطات نقدية لهذا اللون (الغربة) في الادب العربي المعاصر.

من هذه السطور المتقدمة ننطلق للمشاركة في محطات رحلة الاغتراب في نصوص الشاعرة الرائدة هدلا القصار.

ــ لعلي ساتحسس زاوية شخصية مؤلمة، او ذاكرة كالبركان الذي لاتُخمَد ناره، وهذا ليس من مبتكرات قلم ناقد، إنما حقيقة أجدها متجسدة في كتابات الشاعرة رغم تغليفها بأغلفة رمزية زاهية اللفظ والتي تجيدها كاتبتنا أيَّما إجادة، كونها قلم من ذوي المداد الرائع والرائق والمتميز، ولها نكهتها الخاصة والتي اجدها لاتكتب الا بوجود حافز ذاتي أوقَدْحٍ للمَلَكَة التأليفية.

ــ اجد هذه الرحلة تحتاج الى قراءة استكشافية لمراحل وعتبات تختفي تحت لسان صاحبة الشأن وهي من الصعوبة بمكان بحيث تجعل المحلل امام خيارات صعبة، فالنتائج التي تأتي بفضاءات سلبية لايمكن ان تكون عنصر جذب للمتلقي، لذا فالعناية والتأني والقراءة الخاضعة الى الضوابط والذوق والادب النقدي ستأتي بكل مايفيد لعكس عالم الغربة وما يحويه من جمال الصوره الادبية التي طرَّزَتها نصوص الشاعرة هدلا القصار.

ــ من خلال تفحصنا للنصوص وجدنا الشاعرة قد نثرت علامات دلالة لرحلة (الغربة) بين الكثير من قصائدها، وهذه العلامات والدلائل لم تكن متواجدة في نصٍّ واحد بذاته، انما هي إرهاصات شاعرة توزعت في نصوصها هنا وهناك، فهي محطات ممتدة على طول طريق الرحلة، وبأزمان واوقات مختلفة، حاولنا الوصول اليها، وفتح ابوابها، لمشاركة القافلة في هذه الرحلة، ولنثبت مفرداتها بما يفيد المتلقي كونها محطات جديرة بالدراسة والعرض، لاكتنازها بخواطر صادقة، وعنفوان ادبي، ومفردات سلسلة رشيقة، ورمزية دالة.

ــ الشاعرة تستعمل اسلوب الاستفهام في كثير من العتبات. ورغم تنوع المقاصد البلاغية في الاستفهام، لكن القصد هنا تَمحوَرَ في بؤرة واحدة وهي البحث عن جواب يرضي ذاتها وليزيد قناعتها في التصديق، وهي لاتخفي شعورها هذا، فقد رافقتها الغربة في رحلة طويلة تبدأ من خطوات الطفولة وحتى خطوات الثبات الحالية المثقلة بالمسؤولية والكد والتعب، والتي تتخللها ارهاصات متنوعة ومتشابكة بين عشق وطن، وآهات، وآلام قلب وجسد، وغربة ذات، والتي صوَرَتها بأنها رحلة مستمرة مازالت تستطلع الافق لرؤية علامات عالم جديد.

ــ استخدمت الشاعرة اسلوب الخطاب بضمير المتكلم في أكثر قصائدها، وهذه ميزة معظم قصائدها في هذه الدراسة وهي دليل قوي على اثبات وجودها ساعة الخطاب.

ــ سنلازم هذه الرحلة الطويلة بطريقة السفر الموازي لنقل الحدث وصفاً وتحليلاً، فالعالم الانثوي ميال الى الوصف والتوصيف والتحليل. وستكون توقفاتنا النقدية في محطات متنوعة (زمانية ومكانية ونفسية وعاطفية).

(الـتـعـريـف الـشـخـصـي)

يبدو ان كاتبتنا تشرينية الولادة، فلنسمع صرختها في احدى قصائدها الرائعة:

"تَخرجُ امرأَةُ تشرين عن نصوصِ الأسئلة
حين تجدُ الدِّفْءَ في كتاباتِها
كصهواتِ الغيمِ
تَصرخُ في عتمةِ البوحِ
تَحفرُ بين هسِيسِ أَصَابعِها
قبْرَ ميلادِها"

ــ كم جميل هذا المَجاز (تَحفرُ بين هسِيسِ أَصَابعِها قبْرَ ميلادِها) و(الهسيس) هو الكلام الخفي الغير مفهوم، حيث اجادت الشاعرة في وصف ما ستكتبه اناملها من قصيد، فهي ستبدأ في البوح منذ يوم ولادتها التشريني والذي شَـبَّهته بالقبر، ومن منا لايعيش في قبر ولادته الدنيوي؟؟.... وهنا اول محطة بوح ذاتية:

"إمرأةٌ
تَسْألُ
تُعاتِبُ
تُخاصِمُ أَحْزانَها"

ــ انها (تسأل وتعاتب وتخاصم) احزانها. هنا اسقطتْ الشاعرة هذه الالفاظ على مساحة البوح والتي تعكس حالة الصراع الذاتي الكبير فهي لاتكتفي بالسؤال فقط انما هناك عتاب وملامة وخصام وجدال ونزاع، انها ثورة داخليه افرزتها غربة الجسد والروح، وهذه المحطة التعريفية لمسيرة الغربة، ستكون منارة كشف واستكشاف لما سيأتي من مشاعر اغتراب.

(بـدايـة الـحـكـايـة)

امامنا كلمات قد رُصِفَتْ بعناية ودراية، رصفتها الشاعرة (هدلا القصار) لتفتح لنا صناديق الذاكرة بعد ان صورَتْ غربتها بـ (الموت) حسب ماجاء على لسان القاضي الشاخص في بعض نصوصها. وقد استعملت لفظة (القاضي) للدلالة على القدر، وهذا التصوير البليغ الاشارة لرحلة الاغتراب الطويلة وبكل تصنيفاتها وتفرعاتها جعلتْ منها دائرة حديث بينها وبين القاضي، هذه الدائرة ستلقي بضلالها على كل ما سيأتي من تحليل واقتناص للشواهد والدلالات، والمقطع التالي الماثل امامنا لهو خير معين، كونه يحمل مفاتيح المغاليق الكثيرة المتناثرة على اشطر قصائدها، فهي قد اعترفتْ وهي تسرد حكاية الرحلة فتقول: (كنتٌ تائهة)، وورود الفعل الماضي الناقص (كنتُ) دليل على ثبوت الذكرى في الماضي، ثم الاعتراف بالهزيمة نتيجة فقدان الحبل السري بينها وبين رحم الوطن، حتى وصل بها الحال ان تصبح جثة هامدة وسط ارض لاتنتمي اليها، وهل بعد هذا الاغتراب من حال؟؟

فلنقرأ اعترافاتها التى اخرجتها من صندوق ذاكرتها:

" كنتُ تائهةً!!
هَزمَني الشعورُ وانفرطَ حبلُ المكانِ الآمنِ"
 
القاضي يقول:
 
"لنرى بأي زاويةِ سندفنُ جثتَك ِالمغتربة!"

ــ الشعور بالغربة لابد ان يبدأ من لحظةٍ ما، وراكبها ينتظر لحظة الرسو عند ميناء الوطن. الكاتبة تجد في نفسها قوة البوح منذ ولادتها، وهذا الوصف فيه عمق كبير يهز وجدان القلم، كونه يكتنز ألم مكتوم سينفجر ذات يوم على شكل قصائد رائعة، وهذا مانجده شاخصاً في احدى قصائدها فتقول:

"امرأَةُ تشرينِ!
في التاسعةِ والعشرينِ من مِيلادِها
تُسرجُ جيادَها في الصحارى
تسبحُ برغبةِ قولِ الحقيقة
و كلَّما نشدَ البنفسجُ نشوتَه"

(الـحـنـيـن)

قرارات العودة وقطع صلة الهجرة لاتأتي جزافاً، بل ان اول وشيجة تهز كيان الفرد هي (الحنين) والحنين هو صوت ونداء المشتاق، وهذا الصوت لايصدر جهراً بل أنيناً مصدره الفؤاد، فاذا ظهرتْ زفرته فكأنما خَلعَتْ معها كل الشراسيف. ولشدة هذا الحنين جعَلتهُ الشاعرة عنوانا لإحدى قصائدها (حنين الى لبنان) وجاءت بلفظة الحنين نكرة للتكثير والتفخيم. فهي لاتلبث ان تُشبِّه نفسها مرة اخرى بـ (الطير المهاجر) حين تهزّها الذكريات، والاهتزاز هو الحركة المصاحبة للقوة، وهو من اجود اللفظ المناسب لهكذا شجون وإرهاصات:

"تهزّني خواطرُ الذكريات
يجتاحُني شعورٌ كحنينِ الطيورِ لأوطانِها"

ــ وفي قصيدة أخرى تخبرنا صراحة بالحنين الى الوطن:

"أتاني الحنينُ والشوقُ لبيروتَ"

ــ ويبدو ان هنالك وطن شريك تصرّح به:

"وسااااعاتٍ لأقطعَ الشوقَ بينَ بيروتَ وغزةَ
يوماً.. لأصدّقَ أنني بين الأهلِ"

ــ في الاشطر التالية تبدأ الشاعرة بوصف هذا الحنين مستخدمة الفاظاً ومفردات تناسب هذا الفضاء الذكرياتي الكبير( غادرتُ، اغترابي، معاناة، مخبأة، شقاء، أتلاشى، هذياني، جنون، موحشة) هذه المفردات كفيلة بانزياح كبير للوجدان ليفيض بالشجن الجارف قي اودية الحنين.

فهي تتذكر لحظات مغادرتها سواحل لبنان ونجوم وكواكب سمائه المتلألئة وكيف تتفجر داخلها براكين المعاناة المخبأة داخل حدود إغترابها، وقد وصفت اغترابها بـ (النهر) للدلالة على استمرارية جريان هذه اللآلام كما في قولها:

"منذ أنْ غادرْتُ ساحِلَكَ وكوكبَ أُمسياتِك
أَجلسُ كلَّ يومٍ أُذّرِرُ نهرَ اغترابي
داخلَ حدودِ ملعبي
لأُفجرَ معاناتي المخبأةَ
أتهيأُ للشقاءِ المتدرجِ
تنهالُ أظافرُ هذياني
أتلاشى لِلَحظاتٍ الجنونْ
وبريشةٍ موحشةٍ أُدَوِّنُ كلماتي"

(إعــتــراف)

في قصيدة (النبتة البرية) تبدا الشاعرة بفتح مياسمها، وتطلق اثيرها على شكل مقذوفات رمزية فتصف نفسها بـ (الطير المهاجر) وهذه العبارة دليل واف على ان كاتبة النص قد عاشت الغربة في دارين وعالمين مختلفين، فالطير المهاجر لايحط رحاله الا في ربوع ديار اخرى بعد كَـدٍّ وتعبٍ ومشقة، وهذه المشقة تأطرتْ بعبارة (امتدتْ الأرضُ) وكما نقرأ الاتي:

"كالطائرِ المهاجرِ لحِقتُ بأوراقِ الأشجارِ المتطايرِة
هربتْ مني كالرياحِ.... امتدتْ الأرضُ وهدأتْ"

(قــرار الــرحــلــة)

من خلال دراستي لمفردات نصوصها وجدتُ علامات قرار فيها نوع من الحيرة، فالقرار ليس سهلاً وخاصة عندما يكون القرار وحيداً بلا معاون او ناصح او دليل، فهل نتصور حال قافلة بلا دليل؟؟؟، فهي تقول:

"أنا أفكرُ
أنا وحدي أفكرُ"

ــ نجد في المقطع التالي امامنا (لو) تصدرت بداية المقطع، وهذا النسج لايمكن أن يأتي لمجرد اشباع رغبة تأليفية، او رصف حروف وكلمات عابرة للتنزه في عالم القصيد، فكل ماموجود يدل صريحاً بأن هذا الخاطر وهذا السبك هو خلجات وشجون رسمته (هدلا القصار) بصورة شعرية بديعة وهو دلالة وجدانية حقيقية وصراع ذات لايمكن التملص منه. وحرف (لو) يفيد ويستعمل في الامتناع أو في غير الإمكان.... لنقرأ الآتي:

"لو فكرتُ بالسفرِ ماذا أحتاجُ؟
أحتاجُ شهراً لتفتحَ بوابةُ غزةَ
أحتاج يوماً لأصدقَ نفسي
أحتاج يوماً لأحضِّرَ الشنطةَ
أحتاج يوماً لأشتريَ البهجةَ.
يوماً لأشحذَ البسمةَ
ويوماً لألملمَ الشوقَ
ويوماً لأصلَ المَعْبرَ"

ــ وبعد هذه الاحتياجات التي تصارعها، نجد الشاعرة قد أدركت صعوبة هذه الرحلة واحتمالات الضياع، فقالت:

"ويوماً لأقطعَ الصحراءَ
ويوماً لأتوهَ في أرضِ مصر"

(الـحـيـرةُ والـتـردد)

هذه المحطة من اهم محطات الصراع الذاتي، لانها محطة فارقة، لايفيد الندم بعدها، فالقرار هو القرار، لذا نجد الشاعرة يصيبها نوع من التردد، فهل تكتفي بالارتحال والسفر والخلاص من الغربة عن طريق رسم الكلمات على القراطيس والورق؟؟؟ وهل تكتفي بأمتطاء صهوة القلم لتسقيه بمداد الذاكرة وتقطع فيافي العمر للوصول الى ربوع الوطن بزمن لايتعدى لحظات تحرك الانامل على الورق لاغير ودون اجتياز حدود السرير او المنضدة؟؟؟ او لتجعل هذا الوجد والشوق عبارة عن رسالة بريدية لاتتجاوز رحلتها زمن رحلة حقيبة ساعي البريد لاغير؟؟؟

وهل يُشبِع ذلك ظمأ الروح وجوع الجوارح والجسد؟؟؟

هذه الحيرة والظنون سكبتها الشاعرة بصراحة صارخة في التالي:

"تُرى؟!!
لو استبدلتُ السفرَ بالورقِ؟؟؟
ماذا أحتاجُ؟
أحتاج شهراً لتصلَ رسالتي إلى الوطنِ"

(الــــحــلـــم)

كانت لحظة احتضان جسد الوطن هي كالحلم لدى (هدلا القصار) فالفضاء سحيق والبحر عميق واليابسة في عالم العدم، حتى كاد اليأس يقتلها وخافت ان يسبق الموت ذلك الحلم:

"بعد أن أضعُ أحزاني بينَ السطورِ
لتبتسمَ في اللحنِ شكوى
وتصبحَ ككلماتِ الطيرِ
يَخُطُّها برفرفةِ ريشهِ
أُسرعُ.. وأُسرعُ...
قبلَ أنْ يسبقنيَ الموتُ
لا أدري مَنْ مِنَّا سيصمدُ أكثرْ
نحــنُ أمْ الحُلُـــمُ؟"

(الـتـهـيـوء لـلـرحـلـة)

يبدو ان هذه الغربة قد صَقلتْ شخصية الكاتبة لتجعل منها انسانة تضع لنفسها منهاجا خاصا بها، وقوانيناً تحكم ذاتها لتبدأ في شد الرحال لمثل هذه الرحلة القاسية، فاختارت لنفسها قانون تعبيد الطرق الوعرة كي تستطيع قافلتها قطع الفلوات باليسر والسهولة، ولتسرح جيادها في ارض الله الواسعة، وقد استعارت آلة التعبيد بما يناسب الشاعر فاختارت (مناجاة القرنفل) فياله من اختيار موفق، لتحصد به متاعب السنين.

إذاً هي زراعة ضمنية، وتذليل العقبات امام الذات، وهذا من اروع علاجات الازمة، واكثر اطواق النجاة متانة للعبور الى شواطيء القوة والامان:

"تُسرجُ جيادَها في الصحارى
تسبحُ برغبةِ قولِ الحقيقة
و كلَّما نشدَ البنفسجُ نشوتَه
تمسِّدُ الطرقات بمناجاةِ القرنفلِ
كلما طوقُتها تعرجاتُ السنين"

(الـثـقـة بـالـنـفـس)

هذه الرحلة لابد لها من قيادة لزمام الدابة بثقة وثبات وسيطرة تامة على عِنان لجامها، حتى وإن حفرت السنون معالمها على الجسد، فالرحلة لاتتحمل الاخطاء، ولاتسمح للاجساد والعقول المنهكة من المشاركة في القافلة، فجاءت الكاتبة بأجمل سيلٍ من الكلمات، وقد اعجبتي هذه الاستعارة الرائعة:

"سأسيطرُ على القصيدةِ
حتى لو وضعتِ السنونُ على رأسي قبعةَ الشيبِ"

( الـــذكــريـــات)

والهجرة ليستْ بالقرار الهيّن والسهل، فآلام الهجرة لايتحسسها الا من يكابدها، بل ويبقى في دوامة وتجاذبات وارهاصات، وتتمثل هذه التجاذبات في (المكان والزمان وكل الذكريات) وهذا ما صورته الشاعرة (هدلا) في هذه الاشطر:

"سمعتُ لحـناً قـديمـاً من خلفِ التاريخِ يناديني
سمعتُ لحـناً جـديـداً يذكرُني بطفولةٍ تاهتْ
سمعتُ لحـناً بعيـداً يصرخُ... اِرجعْي هنا!!
سمعتُ لحـناً من خيوطِ الـذاكـرةِ يتأرجحُ"

ــ وفي موضع آخر تصرخ الشاعرة بقوة وبصهيل يشق الفضاء، فتقول:

"ضــاقَ الهمسُ فـي صـدري
هربْتُ مِنْ كَتِفِ الجدرانِ"

ــ وهل بعد هذا الكلام كلام؟؟؟ لاأعتقد هناك وضوح أكثر من ذلك.

(الاعــلان عـن مـوعـد الـرحـلـة)

تتجسد الغربة في قصائد الشاعرة بعدة صور وثيمات غاية في الابداع. فهي شبَّهتْ انطلاق رحلتها بـ (الصراخ) الروحي، والصراخ لايحدث الا طلباً للاستغاثة عند المرور في مراحل الخوف. واي خوف؟؟؟

الخوف من المجهول عند انفصال الروح عن الوطن. والوطن كالجسد الاكبر الذي يحتظن بداخله ارواح الانسانية جمعاء. ولشدة امتزاج الغربة مع الذات نجدها تقول:

"إمرأة
تنطلقُ كصراخ الأرواح بلا وطن"

ــ مما تقدَّم يجعلنا امام سؤال: هل نتصور روحاً بلا جسد أو وطن؟؟

لاشك انها صرخة مدوية رهيبة تحمل بين اوتارها قصة لرحلة عنيفة عميقة واعية.

الشاعرة (هدلا) تؤمن بأن (الكلام أولاً والقصيدة فيما بعد) فهي ترفض قوانين الشعر التي تمتزج بالكذب التصويري ــ كما تقول ــ والذي يأتي مقامه بالدرجة الثانية في معتقدها الوجداني، وللكلام الصدارة في مزاجها وصرخة ذاتها، فالكلام هو المفردة والعبارة المسؤولة التي ينطق بها اللسان قبل القلم، فلنقرأ رؤيتها:

"الكلام أولاً... والقصيدةُ فيما بعد
ما معنى الشِّعرُ يُكتبُ
وَهُو لا يقبلُ الكذبَ ولا يصدِّقُ الحقيقة؟
كيف أطرقُ أبوابَ القصيدةِ
وطبيبُ الشِّعرِ يَضَعُ قانوناً للكتابةِ!؟
ويقول بالكذبِ تتجمَّلُ الكلماتْ؟!
العاقلُ منا يفكِّرُ ويكتبُ
ليكسر صُورَ الحزنِ بالحقيقةِ
نفسي لا ترضى بمكانِها
ولا ترضى أن تكتبَ الشعرَ وحدَها
ماذا أفعل؟"

(بــوصــلــة الاتــجــاهــات)

الرحلة تحتاج الى بوصلة وتحديد الاتجاه الصحيح، وبدونها يكون الضياع والهلاك. بدأت الشاعرة رحلتها بسؤال (ماذا افعل؟) واي طريق سأسلك؟؟ وامامها مفترقات كثيرة قد تنتهي بمحطات مجهولة، فلابد من تحكيم العقل وهو ميزان العاقل، لذلك نجدها قد اختارت سلوك طريق تريده هي، وستطلق الكلمات التي تخدش الصمت بــ (أظافر الكلمات) لتحرك اسباب الاختيار ولتكون الحَكَم، لان الغربة هي ذكريات متشرنقة بين الماضي والحاضر وبين ما سيأتي به المستقبل المجهول:

"ماذا أفعل؟
هنا رمتني العواصفُ والسنونُ
ولم تعنيني الصداقةُ وحدَها
ولم تتركْني للتفكيرِ وحدي
إذَن سأسلك الطريقَ الذي أريدُ
وأُطلقُ الكلماتِ تَحكُمُ بين الخيالِ والحقيقةِ
هنا كلماتٌ لها أظافرٌ تدخلُ صمتَ الأفكارِ
وهناكَ كأن الحياةَ ليستْ سِوى حبلٍ يَشدُّنا لِلْوراءِ والأمام"

(احــتــمــالات الازمــة)

هذه المحطة الاحتمالية، هي قمة الابتعاد عن معالم الحقيقة واليقين، ومادامت قد وصلتْ الى هذه المحطة، فلابد ان تتنوع الخيارات، لذا فهي صورتْ هذه الخيارات والاحتمالات المتنوعة باجمل صورها وباسلوبٍ سلسٍ واقعيّ. وفلسفة الاحتمالية لاتقود الى اليقين بتاتاً.

إذاً شاعرتنا في محطةِ تخبّط في القرار، وتَـيّـهٍ جارف، وتَشَّوِش في رؤية العلامات الدالة. فقد جاءت الالفاظ (احتمال، قلق، أتوه، لاافطَم، أقاطع) لتدل على سمك الغشاوة وزوغان البصر، فثقل الغربة لابد ان يفرز هذه المعطيات، وهذا الثقل النفسي قد انعكس في خطابها وخاصة في الشطر الثاني من النص التالي عندما استخدمت لفظة (القلق)، وهي تعترف بأن القلق، هو عنوان الغرباء، ولنقرأ هذه الاحتمالات:

"احتمال
أغمزُ نفسي بشهواتِ الانتظارِ
أو... أرتبُ وصْفاتِ القلقِ كالغرباءِ"
"واحتماال
تنتهي صلاحياتُ جوازَ سفري
و أ تـــوه
احتمالٌ
أصلُ الحدودِ... وأعودُ"
"واحتماااالٌ
يملأُ فمي أربعونَ ضرساً
ولا أُفطَمُ من حليبِ الوطن"
"واحتمالٌ
أقاطعُ نشراتِ الأخبارِ كلِّها
وألاحقُ تجذُّري في الأرضِ"

ــ في الاحتمالات الاتية أدركت الشاعرة إن ادراك الحقيقة وسط هذه الاحتمالات وعشوائية القرار والاضطراب المتفاقم لايمكن لقافلتها ان تحطّ الرحال بجنائن الحقيقة، لان محطة الحقيقة واليقين هي عين الثبات والصواب، وتناثر الالفاظ (الخمسين، استسلامي، اغمض، سنموت ونحيا، عنكبوت، نسرٍ عارٍ) بين متن النص، هو خير دليل على هذا التشوش والاضطراب، ولشدة ضغط الاحتمالات على الذات جَعلتْ حتى الحقيقة هي ضمن إحتمالاتها الاستسلامية، وكما نقرأ في الاتي:

"واحتمااالٌ
أبقى كحقيقةٍ أزليةٍ غيرَ قابلةٍ للفناءِ"
"وفي الخمسين
احتمالٌ أنْ أغْمضَ إرادتي
وأُعلنَ استسلامي"
"ذات نـــــــومٍ!!
سنموتُ ونحيا كالعنكبوتِ فوقَ الذكرى
بإشاراتٍ تمضي من نافذةِ العين وتبكي
وذات ليـلــــةٍ!!
سألملم ريشَا لأصحو على نسرٍ عارٍ."

ــ وكم اعجبني هذا المَجاز في هذا الشطر (سألملم ريشَا لأصحو على نسرٍ عارٍ) وهذا تصوير بالغ الروعة والابداع، يصور حالة اليأس والخيبة والقنوط.

(الــهــذيــان وغـربــة وطــن)

ان غربة الاوطان هي من أشد حالات الاغتراب التي تعصف بالكيان الانساني. فبعد النمو والالفة والتعايش والاندماج النفسي والحضاري والاجتماعي والفلسفي في بقعةٍ ما، نجد من الصعوبة ان تقلع النبتة لتغرسها في ارض اخرى وبمناخات اجتماعية ومادية وفلسفية مختلفة، بحيث تجعل الكيان مُجبراً على التعايش والاندماج الالزامي، وهذا ما يجعل النفس يعتريها العزوف في بعض الفضاءات الزمنية والمكانية.

ــ الشاعرة تصارعها افكار كثيرة جعلتها تعيش حالة تخاطب ذاتي اسمته (الهذيان) وهو الاختلاط والاضطراب المؤقت للوعي، وما ان ينتهي هذا العصف حتى يرجع العقل البشري لجادته الاولى، ولنقرأ شيء مقتطف من هذا الهذيان:

"أيّتُها الروحَ
أَطلِقِيني
وأَطلِقِي هذياني"
"وأنقلُ خُطواتي
من عاصفةٍ إلى أُخرى
لأَلمعُ فوقَ رقعةِ الأرض
حين ينتابني ألماً
أُسميهِ
الوطنَ في الجحود"

(مــخــاطــبــة الــوجــدان)

من غير الممكن ان يبقى الانسان بين كونين (أكون أو لاأكون) وهذا السؤال التعجبي تضعه هدلا القصار امام كيانها المغترب:

"فكيف أكونُ أو لا أكونْ!؟"

ــ السؤال المتقدم لم يأتِ من فراغ، بل من تداعيات كثيرة تجمعتْ في وجدانها، فهي تبدأ بلفظة (هنا) وتقصد أرض الاغتراب، فتقول:

"هنا لا السماءُ خيمتي
ولا الشوارعُ وطني
ولا الكواكبُ عائلتي
وليس الزمانُ مَأْمَنِي
ولا الشواطئُ مَرْفَأي
هذه الأرضُ ما زالتْ تجهلُ نيراني"

ــ وبعد فقدان الخيمة والعائلة والمأمن والمرفأ في عالم الغربة تأتي بالشطر الاخير (هذه الأرضُ ما زالتْ تجهلُ نيراني) والنيران لابد انها عاطفة جياشة تجيش بها ذاتها، وسنرصد احداثياتها في الآتي من محطات الرحلة.

( الــعــاطــفــة)

هنا محطة جديدة من محطات الغربة التي تعيشها الشاعرة، فبعد المحطات السابقة، نجد هنا محطة غربة نفسية عاطفية عاصفة نازفة، وهذا ماوجدتُهُ في نزفها التالي عندما خاطَبتْ الرياح الاتية من شرق لبنان للبحث عنها ولترسل لها ابتسامة لعلها تريح حزنها كي لاتتجاوز (حدود سريرها) أو (تتجول كالمهاجرين في الوطن السري). وهذا السبك فيه دلالة على إن موطن الاغتراب هو غرب لبنان مادامت تخاطب رياح الشرق:

"بين حروفِكِ الفينيقيةِ
اِبْحثي عن غيابي
ومع رياحِ الشرقِ أَرسلي لي ابتساماتِكِ
حتى لا أتجاوزَ حدودَ سريري
لا تتركيني أتجوَّلُ كالمهاجرينَ في الوطنِ السِّرِّي"

ــ والشاعرة تعيش حالة رعب وخوف من الاستسلام امام هذه العواصف، فهي تناشد لبنان أن لا تتنصَلَ عنها:

"لا تتركيني أستسلمُ لضَياعِي"

(دفــع الــضــريــبــة)

خلال هذه الرحلة وجراحات الغربة، وهذه المحطة العُمْرية الزمنية لابد للسنين ان تمرُّ بها، والعمر يبدأ بالرحيل رويداً رويداً الى عالم مجهول، وأشد العوالم قسوة هو عالم تقدم العمر، وخاصة اذا لم تتحقق كل الاحلام بعد، والشاعرة صريحة الى الحد الذي لاتعتبره سراً لاتصرح به كعادات الاناث من البشر، فهيَّ قد جَهَّـزَتْ لرحلتها كل عناصر النجاح والامان وحملت معها كل الملفات السرية والعلنية:

"قبل أنْ تبدأَ علاماتُ الشيخوخةِ
وأعزفُ على أوتارِ غُربتي
أَرْقصُ على طبولِ أَحْلامي"

(إعـــتـــذار)

ضمن زحف الزمان على مائدة العمر لابد من مراجعة الذات ومراجعة كل الحسابات مع كل خرائط العاطفة، والشاعرة في احدى قصائدها قَدمتْ اعتذاراً لشرائح اجتماعية معينة ضمن لغز زماني موزَع حسب تنوع الطقس فابتدأتْ اعتذارها لـ (المحب القديم والجديد) في شهر كانون الثاني وهو موسم البرد:

"في كانونِ الثاني سنةٌ....
قدمْتُ اعتذاري للمحبِّ القديمِ... الجديدِ
كما قدمتُ اعتذاري للمنزلِ الذي تركتُهُ
وللجيرانِ الذين حَرَمْتُهُم مُراقَبتي"

ــ ثم تُقدم الشاعرة اعتذاراً آخر في شهرنيسان وهو شهر الربيع لـ (المجاملين ولمفردات ذاتية تخصها هي):

"وفي شـهرِ نيسـانَ
قدمتُ اعتذاري للمعجبينِ... والمجاملين
وللشوارعَ التي فقدتْ بعضَ آثاري
لِحُوَّاراتِ البحرِ الخرساءِ،
ولن أنسى صخورَ إرادتي كالمدِّ والجَزْرِ
للمرأةِ المنسيةِ
وسخونةِ الطمأنينةِ
وقُصاصاتِ شعري
واللعبِ بِحَصَواتِ الأرضِ
ومن الدائنِ والسارقِ"

ــ ثم اعتذار آخر في موسم الحر في شهري حزيران وآب لـ (لقلبها الذي يعاني من آلام عضوية) مع شيء من علامات اليأس النفسي واغتراب الروح:

"في شهرِ حزيران
اعتذرتُ مِنْ دقاتِ قلبي السريعةِ
ومِنْ أوْردَتي المحقونةِ بالمهدئاتِ
والدموعِ الملونةِ بالغباءِ
ومِنْ زيارةِ قبري
ودعواتِ الأرواحِ
كما اعتذرتُ مِنَ الزهورِ التي اشتريتُها لنفسي
فـي شـهرِ آبٍ
اعتذرتُ مِنَ الأسئلةِ المُخَبَّأةِ
والخواطرِ المدفونةِ
ومِنَ الأمواجِ التي كَسَّرَتْها الصدماتُ
واليومَ أعتذرُ مِنْ كلماتي
التي تَوَّهَتْ قصيدتي"

ــ هذه الاعتذارات المقتطفة من احدى قصائدها انما تأتي لتجعلنا امام محطة نفسية، قد عاشتها الشاعرة لتنقلها الى مرحلة جديدة ستختلف مفرداتها عمَّا سَبَق. فهي أرادتْ بها تطهير الذات ولتجعلها اكثر نقاءً ولمعاناً، فأمامها مشوار طويل يحتاج الى رعاية وصبر وشروع.

(الاســتــدراك)

لابد للعواصف ان تهب في الصحارى والقفار، فرحلة طويلة على ارض إرتدَتْ لباس الرمال لابد ان تكون عواصفها شديدة الاغبرار، وستنعدم فيها الرؤيا لبعض الوقت، وقد تختفي علامات الطريق.

في هذه المحطة لاتلبثْ الشاعرة ان تستدرك حالها لتصوِّر سبب البعد حيث رمزتْ لها بـ (الرياح) وهي دلالة على قوة الدفع، فالرياح هي القوة التي تحمل معها كل شيء وتعصف بكل شيء، وهي عنوان قوة غير مُسَيطر عليها، وهذه المعطيات لابد ان تجعل الفرد امام خيارين، اما الانقلاع والاجتثاث من الجذور، وأما الثبات والرسوخ، وفي الاحتمال الثاني يكون عنده صقل شخصية الفرد فيجعل منه جذرا عميقا ينحني مع الريح ولاينكسر وهكذا هي (النبتة البرية).... ولنقرأ هذه الاشطر الصارخة:

"لكنّ الرياحَ أبعدتني
وَلَمْ أَعُدْ أرى وجوداً لوطني
حتـى أصبحتُ بريةَ النبتةِ"

(الـتـحـدي ومـخـاطـبـة الـمـوت)

يبدو ان الغربة قد بدأ دائها يتودد الى جوارح الشاعرة ليصيب منها مقتلا، ومن خلال الحوار الاتي نجد هناك محطة عرضية قد تنهي الرحلة بغير المتوقع، فقد وردت مفردات (الموت، تحطيم، إفساد) وتكررت لفظة الموت في هذا المقطع أربع مرات، وهذا التكرار وتلك المعاني هي علامات دالة على النزوع الى انعطافة غير صحية عنيفة، مما حدا بها ان تبدأ بتحدي المرض والتخاطب الذاتي باستخدام علاجها السابق، فهي قد تعودت على التعايش مع هكذا منعطفات، حتى نجد استخدامها المتكرر لفعل الامر (كُف) وكأن الخطاب بدأ بقوة اللفظ لشدة وطئة المرض عليها، واقتراب نبضات القلب من التوقف عن العزف، ولعزوفها عن الامتثال لاعراضه المميته، ترجمتْ حالها بما يأتي:

"كُف أيُّها الموتُ عن دوراتِ فلكي
كُف عن تحطيمِ زجاج ِرغباتي
ومداعبةِ خواطِري
أجّل الموتَ الذي يتبعُني"
"كُفَّ أيُّها الموتُ عن إفسادِ أسواري
وملاحقةِ آثاري
اذهبْ واحتملْ الموتَ بعيداً"

(الــســــــراب)

لابد ان تتأزم الذات بعض الشيء عند توارد الخواطر المخيفة أو تتشوش الرؤيا أحياناً لتجعل الفرد يحس بنوع من هجرة الذات، لذا نجد الشاعرة في قصيدتها (سؤال اليوم) ازدحمت مخيلتها بالاسئلة، وكأنها بدأت تنظر الى السراب الخادع، فكثرة السؤال إنما يوحي الى الحيرة في اتخاذ القرار، لذا فقد تغيرتْ معاني الفاظها بعض الشيء وبدأ نهر النزف يحفر اخاديداً جديدة وباتجاهات اخرى. فمثلا تقول:

"كالمهرةِ العرجاءِ، أمارسُ اليومَ أسئلتي
قبلَ أنْ أسهرَ على دمعةِ غُربتي"

ــ هنا رسمت الصورة باحداثيات لغوية جديدة (عرجاء، أسهر، دمعة، غربتي) كلها تدل على تقاطعات وجدانية لتحدد منطقة المسارات الجديدة ولإتخاذ القرار المحدد الثابت.

ـــ ولنستكشف الآن هذه المنطقة الوجدانية كي نضع علامات دالة للمسير، ومن هذه العلامات:

• كثرة الأسئلة عن خواطر محددة لديها /

1- البحث عن الكذب خلال مرحلة زمنية

"أفتحُ بابَ مخيلتي
كان السؤالُ؟ عن كذبةِ اليومِ
الأمسِ والغدِ"

2- النهج الايماني

"عن الملحدِ والمؤمنِ
ونهجِ الصلاةِ"

3- ارهاصات العالم

"وضعفِ العالمِ
وفصولِهِ المبرمجةِ
ومعجزاتِ الصمتِ"

4- اليأس والاحباط

"وعن هويتي المحتضِرَة
عن المنفى
والبقاءِ المرممْ؟"

5- الموت وفضاءات منتهية

"كـــان السؤالُ؟ عن تحولِ الأصدقاءِ
وعن ما وراءِ كوارثِ البشرِ
انهيارُ الأشياءِ.. واللعبُ بالسياسةِ
وغش الطفلِ في الامتحاناتِ
تبريرُ القتلِ
وفضحُ الخفايا
زجاجةُ السُمِّ المفتوحةِ
وانتشارُ الأقنعةُ المخبأةُ بالمودةِ
وفاتورةُ الموتِ... التي تنتظرُ الجميع"

6- جمرة عشق مكنونة

"كان السؤالُ؟ عن أسرارِ الفراشِ المتعددةِ المواعيدِ
وطوفانِ الحبِّ فوقَ بضعةِ ليراتٍ
ومرونةِ المحبينَ"

7- أتون الغربة والاغتراب

"كما كــــان السؤالُ؟
لماذا أبكي على عالمٍ مسعورٍ؟
داخلَ مدينةٍ تكشفُ عَنْ ساقيها
وغدٍ سوفَ تكشفُ عن فخذيها
وربما ستكشفُ يوماً عن عورتِها
ولماذا أبحثُ عن وطني وأهربُ للبقاء!؟"

8- الاحباط واليأس

"فحينَ حاولتُ الإجابةَ على أسئلةِ اليومِ
توقفَ القلمُ عن طاعتي..."

(الادراك)

لاتلبث (هدلا القصار) في النهاية أن تنتبه لحالها ولمحاولة ترميم ماتهشم من جدار الذات نتيجة هذا النزف الجارف في اودية الاغتراب لتعترف بشطر جميل:

"ليصبحَ السؤالُ! كِذْبةً أرمِمُ فيها بقائي"

(الـــــصـــــــراع)

هنا تعترف شاعرتنا اعترافاً صريحاً بأنها تحاول البقاء على عناصر الذات القوية كي لا تُشَـل عن المسير، فهي مازالت (مهرة عرجاء)، وخاصة عندما أتت بلفظة (أرَمِمُ) وهي محطة ترضية خواطر ومحاولة اصلاح للخروج من هذا الاحباط المعنوي.

ــ وكعادة الشعراء، فهم الاكثر توجساً وتحسساً عند اقتناص العقل لِـلَـقـطَةٍ مؤثرة من شريط الحياة المستمر في العرض، فكيف اذا كانت الاقتناص هو فيلم كامل وباجزاء لاتنتهي، عندها لابد ان تكون الشاعرة ذلك الطرف الذي تتفاعل معه رغم جراح الغربة، لأن عدم معرفة نهاية الفيلم هو الاغتراب بعينه، ويبدو ان شاعرتنا تراقب من نافذة كوخ غربتها مايجري في الوطن وماجاوره:

"مِنْ بحورِ الشِّعْرِ...
أُطِلُّ على مفارقاتِ اليابسةِ
أتأملُ رموزَ السماءِ
وشرعيةَ القتلِ والفساد"

ــ ثم تستأذن الشاعرة ذاتها بعبارة واضحة جليَّة، فهي تخاطبها:

"فهل يحقُّ لي أنْ أتكلمَ؟"

ــ هذا الاستئذان يوضح مقدار وحجم انشغال بالها وخاطرها بحيثيات الغربة وبواطن الاغتراب، حتى لم يبقَ حَيَز غير مشغول او مسكون بخاطرةٍ او شجنٍ، وقدَّمت تسائلها هذا لذاتها، عَـلَّها تجد فسحة احتياط لوجدٍ جديد؟

لذا فهي تطرح خيارات استفهاماتها المبطنة بالايحاء، كي لاتجعل للذات فرصة للرفض:

"وهل يجبُ أنْ أدوِّنَ كلماتي بالحبرِ السِرِّي؟
هل أخافُ على قلمي أنْ تخدشَهُ العباراتُ؟
أمْ أصمتُ وأغشُّ داخلَ مُعجمٍ من العبواتِ؟
أأصمتُ وأتركُ حروفي مبللةً بالخوفِ؟"

(الـــتــصــويــريــة)

وبعد الموافقة والاستعداد للخوض في هذه الارهاصات الجديدة المتزامنة مع غربتها بدأت ترسم صورها الشعرية لهذه الاحداث، نقتطف منها الآتي:

"أأتكلمُ عن تضخُّم تضاريسُ الفكرِ؟
داخلَ مدينةٍ حاصَرَتها الظروفُ
وحجبتْ عنها نجومَ الأُفقِ"
"أأتكلمُ عَن سنةٍ فتلتْ عضلاتِها
داخلَ حروبِ لا تكفُّ نيرانُها"
"أأغمضُ عينايَ عن صيفٍ لا يشبهُ إخوانَهُ
وصهيلٌ لا يشبهُ صوتَ العربِ؟"
"أأبكي على مدينةٍ لاحقتها أمراضُ ذنوبِها
وأصبحتْ كشبكةٍ دونَ حبالٍ؟
تُلاحقُ الصمتَ بالهزيمةِ"

(مــخــاطــبــة الــــذات)

إن الملكة الشعرية للشاعرة تجبرها على تدوين هذا الشعور وهذا الالم الذي شَبَّهته لشدة الوجد والفراق بـ (الجنون) وقد استخدمت المَجاز الجميل لوصف عملية التذكر بـ (أظافر هذياني) وهذه العبارة تدل على الذكريات التي لاتخلو من الجراح والخدوش، ومع ذلك فهي ترسم ذكرياتها بـ (ريشة موحشة) وهذا وصف دقيق لما آلت اليها النفس في الغربة والعيش في عوالم الاغتراب:

"أتهيأُ للشقاءِ المتدرجِ
تنهالُ أظافرُ هذياني
أتلاشى لِلَحظاتٍ الجنونْ
وبريشةٍ موحشةٍ أُدَوِّنُ كلمات"

ــ يبدو ان هدلا القصار لم يهدأ لها بال او يسكن لها خاطر، فما زالت لبنان عنوان قصائدها، وبوابة عشقها، وحتى حين تحاول الفرار من التفكير او الاختباء عنه في زاوية ما، فمازال هو الباحث المستمر عنها، ليحيلها الى نار من الذكريات، وقد صَوَرَتْ هذه اللحظات باجمل وصف وحتى اعقبتها بعلامة تعجب لهذا البحث:

"يبحثُ عَنِّي تفكيري!"

(الاعــــيــــــــــــاء)

ثم تصل الشاعرة الى مرحلة الاعياء، والارهاق والتعب الشديد، ففصول الفيلم غير واضحة المعالم كغربتها، وقد بدأ الجسد يسير في طريق موحشة، واصبحت كل السبل غير واضحة المعالم، فختمتْ هذه المعاناة باعتراف آخر:

"وننامُ على طرحِ الســـؤالِ
ونصحو على اللاّ... جواب!
ونعيشُ بين أسلحةٍ تحملُ ألفَ حقدٍ... وعتاب"

ــ مَنْ لم يَعِش الغربة لايمكن له ان يتحسس مفرداتها او أن يتخيل لحظات الهجرة الذاتية التي تنتاب صاحبها بل ولايمكن ان يفهم مايجري مهما بلغت التوصيفات والشرح والاسهاب، فالمفردات الزمنية للغربة لاتشابه مفردات الزمن الاعتيادي، وحتى المكان تتغير زواياه واقطاره رغم ثبات حيزه، فهي عالم يقود الى الثورة والجنون إن لم يستطع الفرد تدريب ذاته، ويضع منهجاً مدروساً للتغلب عليها.

ــ الشاعرة (هدلا) قد قررتْ فيما سبق ان تكون نبتة برية، عميقة الجذور صعبة الاقتلاع تبحث عن الماء وأن شفَّ، وترصد كل مايؤدي الى ينابيع الحياة لتغوص جذورها في تخوم الارض ولتصبح اكثر ثباتا ورسوخاً رغم حالات الاحباط التي جعلت منها مهرة عرجاء بعد ان كانت مهرة جَموح. لكن من نبتتْ وأورقَتْ وثَبتتْ في بداية الازمة لابد لها من إكمال مشوارها لتزهر وتثمر رغم قساوة الظروف والمعطيات، ولابد للجرح أن يندمل، ولابد للكسر أن ينجبر، وهي المهرة الجموح، فبدأت بخطوة شجاعة جديدة وهي:

• اشراك الذات بذات أخرى /

ان لحظات الاغتراب كالاعصار تضرب كل جوارح الجسد وذرات الروح ويبقى عنصر الثقة شبه معدوم مع الكائنات الاخرى، لذا لابد من معايشة الذات لكائنٍ ما ولو كان مستتراً، او شخصية من عالم الخيال يُجسِّدها الحرف بابهى حلّة، كي يشغل الخاطر ويمنع الذات من الانهيار، وهذا السلوك من اهم عناصر العيش في مثل هذه الظروف والتي يوصي بها علماء النفس، وهو نوع من الاسلحة المناعية التي تُدرَّس للجيوش المتطورة عندما يمر المقاتل في ظروف والأسر والإغتراب المفروضة لسببٍ ما.

ــ بدأت شاعرتنا بمخاطبة شخص وقلدتّه وسام (الصديق) إن كان شخصه المرسوم في القصيدة من عالم الحقيقة او من عالم اللاحقيقة، فهو عنصر يخاطب الذات للوصول الى نوع من التوطن والأنس والسكن، لذا اخذتْ تخاطبه بحرية مطلقة وبلا خوف أو وَجَل، فالمخاطَب في اية قصيدة يُعتبَر عنصر أمان وثقة مادام محكوماً بقوانين حروفها، لذلك جعلتْ قصيدتها تحمل اسم (ثرثرة) فلنتابع هذه المفردات:

"اذهبْ يا صديقي.. اذهبْ
أو تمهلْ..."

ــ إن وجود لفظة (اذهب، تَمهَّل) يدل على الحيرة والتردد، وهنا سَبَكتْ الشاعرة قصيدتها بذكاء حين استعملت حوار التخاطب بالاسئلة، فمثل هكذا حوار مباشر مع شخص لابد ان يبدأ بسؤال او أسئلة، لذلك نجد الحوار التالي مع الصديق يحمل بصمة الحوار الاستفهامي:

"مَنْ مِنَّا ولِدَ قَبْلاَ؟"
"ماذا بالنسبةِ للقلمِ؟
هل نحن أفرغنا حِبْرَهُ؟"

ــ وهذا التصوير يذكرني بقصة الرجل (روبنسن كروزو) الذي قذفه البحر الى جزيرة مجهولة بعد تحطم السفينة، وخوفاً على ذاته ونفسه من الاغتراب والوحشة، اخذ يخاطب نفسه، وأسكَنَ معه (ببغاء) ليعيش حالة تخاطبية معها، وهو من العلاجات الناجحة لمثل هذه الظروف.

(الاصــــــــــــرار)

كل الادوات التي رافقت (هدلا القصار) في رحلتها الطويلة، استطاعت الشاعرة ان تنجح في استعمالها وتوظيفها بما يلائم ذاتها والظرف الذي تعيشه، حتى اصبحت قادرة على الاصرار والتصميم للوصول الى بغيتها المنشودة الا وهي الوطن الأم، وخاصة عندما باتت اكثر ثقة وقدرة على الثبات، وهذا ما نلاحظه عندما وصفتْ ذاتها بـ (سيدة الجذور):

"لا أريدُ أنْ أنتقمَ
منْ كلِّ الأوطانِ
ولن أتركَ وَطَني حراً دوني..
وأنا سيدةُ الجذورِ
فالوطنُ وحدَهُ
يستطيعُ أنْ يسرجَ خيولي
ويختارَ اللجامَ لمراكبي؛
فلنْ أقبلَهُ
عاجزاً أو مخاناً
يُلقينِي بخواءٍ يمنحُني نهايةَ العالم
كبذرةٍ خاويةٍ"
"لئلاّ أضيعُ
في فوضى العالم
وأنا في سِباتٍ معَ الظلِّ
الملقيّ على شوارعِ الذاكرةِ
أو كعودِ قابلٍ للاشتعالِ!"

ــ فهي تريده وطنا بعنوان الشباب، تريده وطنا غير متهالك، بل قادرعلى لملمة جراحها، فهي عانت من اجله الكثير، وإلا لافرق بينه وبين الاغتراب وبين بذرة خاوية، وكي لايكون مصيرها مجرد حرف في عناوين الذاكرة او (عود قابل للاشتعال)... فياله من مَجاز رائع ووصف دقيق يا (هدلا القصار).

(الـــــــــنـــــهايـــــة)

لابد للرحلة من محطة ختام ولابد للفرس من نزع اللجام للحرية والراحة.
في النصوص التالية نجد الشاعرة هدلا القصار، قد تهيأت فعلا لتخطي هذه العوالم الاغترابية وبجميع محطاتها، فقد صقلتها مفردات الحياة في هذه الرحلة الطويلة، وبات اتخاذ القرار من الاولويات المحتومة، لاسيما وإن الذي بقى ماهو الا عبارة عن طرقات وعقبات قصيرة بسيطة متهالكة لاتقوى على الصمود امام إصرارها، فقررت ان تتخطى كل مطارق العالم:

"سأتخطَّى مطارقَ العالمِ
كيْ أهيئُ نفسي لِمَا تبقىّ منَ الطُرقاتِ
المنهكةِ الأوصال"

(الـحُـداء عـلـى مـشـارف الـوطـن)

لقد بانت مشارف الوطن، واستبشرّت القافلة، وهاجت الشجون، فكل الذي كان اصبح مجرد فضاءات محزونة في طي الذاكرة.استوقفتني هذه الاشطر القِصار الجميلة وكأن حادي القاقلة يحدي بها عند رؤية مشارف الوطن واشراقة ربوعه الخضراء، للتعريف بأسم القافلة ونوعها والتعريف براكبيها، فلنسمع حداء هدلا القصار:

"أنا منكُم
أنا مثلكُم
... إليكُم آآآتٍ"
"سمعتُ بكاءَ الطيورِ فجأةً!
نظرتُ إلى السماءَ..
رأيتُ شرنقةَ النهارِ تلتفُّ حولَ الشمسِ
فصفقَّ الغروبُ بجناحيهِ حزناً"

ــ هذه الاشطر هي المحطة التي انتهت عندها خطوات القافلة وآثار الرحلة والغربة، هذه الاشطر هي صرخة انتماء واصالة (انا منكم، انا مثلكم) ثم اتخاذ القرار الجريء (اليكم آآآت) واستخدمت لفظة (آتٍ) للمذكَّر بدل لفظة (آتية) للمؤنث استعارة لقوة الذات وثبات الجنان وتقمص شخصية القائد للقافلة، فالذي مَـرَّ والذي جرى لايتحمله كيان أنثى، وهذا من بديع السبك والاختيار، وكررت حرف (آ) عندما قالت (آآآتٍ) ثلاث مرات لقوة الدلالة وصدق النية الى العودة واحتضان ارض الوطن، وهي محملة بخزانة اسرار، ستفتحها ذات يوم وستفضّها ذات قصيدة، وهذا ما دَلَّـتْ علية الاشطر التالية:

"علمتُ أنَّ رحلتي لليابسةِ قد انتـهتْ"
"رجعتُ للجدرانِ أتمرَّدُ
نظرتُ خلفَ النوافذِ أُودّعُ أسرارَ النهارِ
ووضعْتُ السرَّ في خزانةِ الأسرارِ المليئة.."

ــ وعبارة (رحلتي لليابسةِ قد انتـهتْ) تدل على إن موطن الغربة كان محاطاً بعوالم البحار والمياه، وهذه الاحاطة تجعل الغربة والاغتراب من بواكير الهواجس التي تلسع النفس وتخنق الروح وتشعل الخاطر وتذيب الوجد والوجدان.

(عــــــنـــــــــاق)

ــ من إجمل اللحظات التي يهتم الفنان في عكسها الى الواقع او تشخيص دقائقها هي لحظات (اللقاء) بعد الشوق والفراق، لذلك يهتم الرسامون في تصويرها ويهتم المخرجون السينمائيون بأخراجها ويهتم الشعراء بسبكها ونسجها بأمتن نسج وامهر نَول، وإلا لاتصوير ولا قصيدة ولاشاعر، امامنا مقتطفات تصور هذه اللحظات، فلنستمتع بقرائتها:

"أسرعـتْ خُطواتي
أسرعـتُ بعدَها
أسرعـتُ قبلها
توغلتُ عمقِ الغابةِ
راقصتْ قدماي العُشبَ
داعبَ لغزَ الجسدِ وتنحى
احتضنتُ الأرضَ كالزهرةِ
شعَّتْ السماءُ حولي كالنبتة."

ــ نلاحظ عبارة (أسرعـتُ بعدَها) وعبارة (أسرعـتُ قبلها) هما من اجمل الصور الدقيقة، فرسم الخطوات بهذا الشكل هو وصف رائع ودقيق يناسب مقام القول. ثم تُكمِل هذا الوصف:

"رميتُ آلامَ الحزنِ الآتي مِنَ الجدران!
انتفضَ جسدي كالرمالِ وانتصبْ
حاولتُ البحثَ عن أسمي كالزهرة
عانقتُ أشجارَ النخيلِ الواحدةَ تلوَ الأُخرى
وسألتُ؟
لَمْ أجدْ الرَّدَ
توجّهتُ للأخرى
قبلَ السؤالِ.... سألَتني مَنْ أنت؟
هَمسْتُ أشواكَ العشبِ أسألْ؟
خَشخَشَ العشبُ واستبقَ السؤالَ!!
مِنْ أين أتيتِ أيُّتُها النبتةُ؟!"

ــ جاءت الشاعرة بالالفاظ (رميتُ، حاولتُ، عانقتُ،سألتُ، توجهتُ، همستُ) كلها افعال قد فعلتها الشاعرة وهي تتضمن معاني تناسب (اللقاء) وتختمها بشطر اشبه بالواقع عندما سألها العشب بتعجب: مِنْ أين أتيتِ أيُّتُها النبتةُ؟!

وهذه دلالة لطول الفترة الزمنية وماتركته من آثار على اشراقة المُحَيّا.

ــ ثم لاتلبث الشاعر ان تجمع شتاتها لتتحول الى قطعة ممتزجة مع الروح والوطن، فتقول:

"أيَّتُها الروحَ
إنّي جاهزةٌ الآن لعناقِكِ
لنْ أفْلتَ منْ أجنحتي المطرزةِ
بأحمرِ الدمِ
وأبيضِ الثلجِ
وأخضرِ الأرضِ
على أوراقِ الميلادِ"

ـــ نعم هنا اوراق الميلاد، وهنا موطن الذاكرة، وهنا مستودع الاسرار.

(أصــــالــــة الإنــــتـــمـــاء)

الانتماء هو شعور وجداني ذاتي لايمكن التنصل عنه مهما ابتعدتْ ذرات الجسد، والشعراء والادباء العرب يتغنون في انتمائهم الى الأرض وتربة الوطن برمز (النخلة) لشموخها وعمق تجذرها، وكم جميل عندما تصف شاعرتنا النخلة وتقول (وهي لِنفسِها وطنٌ) إن هذه الصور الشعرية هي التي تحتاجها القصيدة في مثل هذه المواقع لترتفع بعناوينها ومعطياتها، وهذا ماجاء على لسان الشاعرة:

"أنا كشجرةِ النخيلِ تراها في كلِّ الأوطـانِ
وهي لِنفسِها وطنٌ"

ــ مما تقدم..

نجد امامنا تأليفات تستحق العناية دراسة ونقداً، وخاصة عندما تحيط بها مرايا صدق وعناوين دلالة حقيقية مرسومة ومسبوكة بدقة وعناية، ومصهورة في بودقة الادب الرصين حاملة معها الفاظاً ومفرداتٍ ومعانٍ تعكس لمعاناً وبريقاً ذاتياً، يجذب المتسوق في سوق العرض الادبي، مما يجعلها اكثر تأثيراً في المتلقي، وأكثر استجابة للذائقة الانسانية، مادامت تحمل خاصية الجذب لا التنافر.

إن هذه السمات هي التي يجب ان يضعها المؤلف ــ ناظماً كان أم ناثراً ــ نصب عينيه، كي يرتقي ويسمو في بناء جسد أدبي يخضع لمعايير النقد والتقويم والتقييم
.
الدكتورة الشاعرة هدلا القصار.... وافر الاحترام والتقدير.

كريم القاسم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى