السبت ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧
بقلم نوميديا جروفي

ثلاثة أقمار سماوية تتألّق في مهرجان النور الثامن

افتتح مهرجان النور للإبداع الثامن (دورة الشاعر يحيى السماوي) يوم السبت 09-12-2017 لثلاثة أيام على التّوالي بحضور نخبة من الكتّاب و الشعراء و الناقدين، من بينهم الشاعر و الناقد السماوي هاتف بشبوش و الروائي كريم السماوي رفقة الشاعر القدير يحيى السماوي.

أشرقتْ سماء مالمو السويدية بالقامات السماوية الشّامخة هناك بوجود قمرها الساطع يحيى السماوي.

أشرف على الأمسية الأدبية لليوم الأول الفنان رياض محمد، مرحّبا بالشاعر الكبير يحيى السماوي و قد طلب منه قراءات شعرية في بداية الجلسة، كما طلب منه ذلك بين الفقرات التي تضمّنت أبحاثا لشعراء و أساتذة.

الشاعر حسن: الخرسان يا شيخ.. قلتُ له.. لكنّني قمح

الناقدة نبيلة علي: التناص التاريخي و الديني عند يحيى السماوي

د. سعدي عبد الكريم: تجليّات الدّهشة و تمظهرات المعنى في البثّ الحسّي و الفكري في القصائد الشعرية الوامضة للشاعر العراقي يحيى السماوي

الشاعر و الناقد هاتف بشبوش: يحيى السماةي بين العدمية و الآيروتيك الروائي كريم السماوي: المؤثرات المكانية في تكوين شخصية الشاعر يحى السماوي و أثرها في شعره و نثره و مواقفه السياسية و النضالية

د.خضير درويش: مستويات التشكيل الشعري في ديوان (قليلك لا كثيرهنّ) للشاعر يحيى السماوي

و هنا سأنقل لكم الدراسة التي قدّمها الشاعر و الناقد هاتف بشبوش و البحث القيّم للروائي كريم السماوي ليتسنّى للقارئ التعرف على الشاعر الكبير يحيى السماوي عن قرب.

 الشاعر و الناقد هاتف بشبوش قدّم دراسة ثمينة بعنوان (يحيى السماوي بين العدمية و الآيروتيك):

يحيى السماوي شاعرٌ أيكي، فيّاض بحنانه و وفائه، يُغنّي ألماً ويطيرُ شوقاً. شاعرٌ مطري و لم يكتفِ بهذا الوصف، بل يحاول جاهدا أن يكون مظلّة المطر فنراه يقول في حنوهِ المطري:

لأنّكِ النّخلة التي غدت بمفردها
بستاناً على سعة الدّنيا
أوقفتُ عليكِ أمطارَ عمري

يحيى السماوي شاعرٌ ومناضلٌ ورمزٌ لصبانا الثّوري في السبعينيات، لما ما لاقاه من مطاردة وتشريد وتعذيب في زمن البعث المجرم حتّى أصبح إسماً تتناقله الألسن منذ ذلك الوقت وديوانه الأوّل (عيناك دنيا 1970)، حتّى أكمل ديوانه الخامس والعشرين (حديقة من زهور الكلمات)، وهنا بالتّحديد استوقفني فأطلقتُ عليه بالشّاعر الجوراسي نسبة إلى الحديقة الجوراسيّة المفترضة في كوستاريكا الدّولة التي أعتبرت من الدّول الأولى في صداقتها للطبيعة والزّهور القادمة من الأزل حتّى صوب الأبديّة والتي خُصّص لها مُتحفا هائلا. أطلقتُ على يحيى السماوي بالشّاعر الجوراسي لأنّه قد داف ديوانه الأخير بعصارة زهور الكلمات التي سقاها من نسغه الصّاعد هو الآخر صوب الأبديّة نظرا للتّكريم الذي حصل عليه مؤخرا في تسجيل شارعٍ باسمه (شارع الشاعر يحيى السماوي) وهذه أوّل مرّة يُكرّم شاعر وهو على قيد الحياة فالعمر المديد لشاعرنا.. وهنا انطبقت عليه مقولة كزانتزاكيس اليوناني الشّهير برواية زوربا حين قال لطبيبه وهو على فراش المرض من أنّ الشعراء لا يموتون.

يحيى السماوي له من الحزن المميّز في شعره و هواه و قلقه على وطنه.. كما يقول المتنبي (بادٍ هواكَ صبرتَ أم لم تصبرا..وبكاكَ إن لم يجر دمعكَ أو جرا.. المتنبي العظيم)...

أو مظفر النواب (حزن لا مو حزن.. لكن حزين.. مثل بلبل كعد متأخر لكة البستان كله بلاية تين)...ولذلك يحيى السماوي و نتيجة مسحة هذا الحزن الشّعري إستحق بجدارة عالية ان يتأطّر بأحزان (جبران خليل جبران) فنال الجائزة الجبرانيّة العالميّة الكبيرة في أستراليا.

أغلبُ قصائد الشّاعر يحيى السماوي لا تـُحجب وراء الستار بل هي موصوفة على مقاساتنا نحن البؤساء في أغلب الأحيان والسّعداء قليلا بما يكرم علينا الزّمن بين الفينة والأخرى، فنرى يحيى في أغلب أعماله يتحدّث عن الإنسانيّة المعذّبة أو عن العامل الذي يئنّ تحت غول رأس المال، هو الشّاعر الذي ينضحُ حبّا لأحفاد عروة بن الورد حين يقول:

بـسـطـاءٌ
كـثـيـابِ أبـي ذرّ الـغـفـاري
خـفـافٌ
كـحـصـان عـروةَ بـن الـورد
يـكـرهـون الإسـتـغـلالَ
كـراهـةَ الـشـجـرةِ لـلـفـأس

يحيى تمثال حيّ يزوره مئات المعجبين لأنّه الكلمة الضّاربة في اللّغة وفي الصّورة وفي المخيال العجيب غريب، بنى مجده من أساسٍ صادق فلا يمكن له أن يذهب مع الرّيح وإذا ذهب فهو (كلارك كيبل) و (فيفيان لي)أولئك اللذينِ عثرا على حبّهما الحقيقيّ الصّاعد صوب الخلود في رائعة مارغريت ميتشل (ذهب مع الرّيح) الرّواية الوحيدة لها ثمّ مرضت و أجبرت على المكوث في البيت.

الشّاعر يحيى وهو في قمّة يأسه يرى على الدّوام تغييرا جديداً،هو ذلك الديالكتيكي الواضح وبلا مواربة مثلما تقول فرجينيا وولف (أرقبُ على الدّوام عصراً قادماً، أرقبُ الجشع، أرقبُ قنوطي الخاصّ، لكنّني أصرّ على أنْ أمضي هذا الوقت، في عمل أفضل الغايات)...

يحيى منذ أوّل شقائه في الشّعر وحتّى اليوم شاعرا عمودياً ثمّ ناثراً، سونيتياً ورباعياً، موشحياً، ثمّ له من البانوراما التي تسلّط الضّوء بشكل واضح للرّسالة التي يُريد إيصالها لنا....
من يقرأ يحيى السماوي وشعره التهكمي السّاخر من لصوص السّاسة سيفهم من أنّنا ضحايا عصرٍ إنتقالي كما في الثيمة أدناه:

سِــــيّـانِ عــنـدي جَنّـة وجـحـيـمُ
إنْ قــد تــســاوى نـاسِـــكٌ وأثــيــمُ
مانفعُ ضوءِ الشّمس إنْ كان الـدُّجى
في القلبِ؟ أو أنّ الـضميرَ هـشـيـمُ؟
الـسّـاسـةُ الــتـجّـارُ أصـلُ شــقـائِـنـا
فـهـمُ الـرّزيـئـةُ والـغــدُ الــمـشــؤومُ
إنْ لـم نُـطِحْ بالـمُـتـخَـمِـيـنَ فـيـومُـنـاداجـي الضـحـى ورغــيـفــنـا
قُّــومُ

حين نقرأ هذه الرباعية السّاخرة سنفهم (إنّ مشكلة عصرنا تكمن في أنّه قد أمسكَ بنا من الوسط)، لأنّ المتأسلمين سمّموا نظرتنا إلى الأشياء الماديّة. والدواعش سمّموا نظرتنا إلى الإسلام والمتأسلمين والعالم الرّوحي الذي هو أساس السّلوك الإسلامي، حتّى فقدنا تقديرنا العفوي لجمال العالم.

الشّاعر يحيى يكاد لايخلو ديوانا له من ذكر الجنس اللّطيف والتغزّل به وجدانيّا او آيروتيكيا من باب أنّ الشجاعة تتمثّل في إغواء المرأة ذاتها أكثر من مرّة.... وليست الشّجاعة في إغواء أكثر من إمرأة.

يكتب يحيى عن المرأة بالضدّ من أولئك الذين ينظرون لها بأنّها خطيئة تمشي على قدمين.. بينما هي الفردوس و اليوتوبيا.. هي التي أنجبت وتماهت في عشق روميو وباريس وقيس وجميل وشاترلي والهندي ديفداس، من أجلها تنازع النبيل الشاعر الروسي بوشكين حتّى قُتِل.

يحيى السماوي له صلصاله الذي جُبل عليه وما من مفرّ.

طينكِ الياقوتُ والتبرُ
وياقوتيَ طينٌ
والمنافي منزلي
مالذي أبقاِكِ حتّى الان لي؟
منذ نهرينِ ومشحوفٍ وهورٍ
وأنا أركضُ في بريةِ الحزن ولما أصلِ

حين نقرأ الشّاعر في غزليّاته، نجد أنفسنا في فردوسٍ من التّفاصيل، صغيرها وعظيمها: مثل النظرة الأولى، القدريّة في الحبّ، الإلتفاتة، ماذا نفعل حيال الحبّ؟ وصف الحبيب، تبادل النّظرات، العفويّة في اللّقاءات، النّدم، الجرأة، المراقبة، التّحديق، الإنجذاب، التعلّق، تبلّد الشّعور، السّأم، العذل، عظمة القلق، اللّواعج، وكلّ ما عرفناه وما لم نعرفه عن الجنس اللّطيف وما يخبئهُ عند التّمدد فوق طيّات الحرير:

تمدّدي على عرشِ سريرك
لأقصّ عليكِ باللّثم حكاياتِ
ألفِ قبلةٍ وقبلة
والتّفاحةِ الحلال
التي أعادتني إلى الجنة

وماذا يقصّ عليها بعدُ أكثر من ذلك، لقد صيّر اللّثم كلام، وربي هنا تكمنُ عبقرية الشّاعر، العبقريّة معرفة فطريّة لا يلجأ فيها العبقري إلى إستخدام القواعد المشاعة، لأنّها عكّاز يحتاج إليها الأعرج بالضّرورة وهي عائق للسّليم الجسم، وقد ألقى بها هوميروس بعيدا. ماذا يقول لها حين تنام على الحرير، مسترخيّة تماما في خدرها، مشمّرة ساعدها الأيمن فوق حافة السّرير الفردوسي الأبيض، مائلة برقبتها بحياء تامّ وكأنّها تريد أن تقول له: كفاك ياشهريار من كلّ هذا التّنويم المغناطيسي فأنا نمتُ مع الخدر الكلماتي الذي أسمعه منك.

(صحيحٌ من قال... أنّ المرأة تعشق بأذنها) ها هي تستمع إلى كلّ هذا الشّجن الشعري المسطّر والمداف مع اللّثم، إنّه يزفّ لها كلماته اللّثمية وكأنّه فراشة ملوّنة تريد أن تقضم بزغاب جلدها النّاعم فنراها مُدغدغة تماما ولا يسعها سوى أن تقول: يا شهرياري تصبح على ألف خير.

هناك الكثير مما يجب أن يُقال عن يحيى فأنا شخصيّا كتبتُ عنه أكثر من مائة صفحة، لكنّني هنا أستطيع القول أنّ من يقرأ يحيى السماوي سيرى من أنّ الإنسان محكومٌ بجبرية الكاتب الفرنسي الوجودي (البيركامو) وهي مثلثة (الجوع، الجنس، والوضع الإجتماعي) ماركس وفرويد وبافلوف.

وفي النهاية أقول من أنّ يحيى السماوي تقنيّة مذهلة في التوصيف والتورية والإنزياحية، لا أجد مألوفا ولاروتينا ولاغثيانا في أغلب أشعاره. إنّه الشّاعر الذي يمتلك أصابعا من أطرافها ينساب نهر،إنّه الشّاعر الذي يكاد يقترب ممّا قاله الجواهري (كلّما حُدثتُ عن نجمٍ بدا/ حدثتني النفسُ أنْ ذاك أنا!). فتحيّة للشّاعر الكبير يحيى الذي سنسمع منه اليوم الجميل والجميل.... والأجمل.....

 قدّم الروائي كريم السماوي بحث ثمين و قيّم بعنوان (المؤثرات المكانية في تكوين شخصية الشاعر يحى السماوي و أثرها في شعره و نثره و مواقفه السياسية و النضالية):

لو تخيلنا قمرا صناعيا يحوم في الفضاء البعيد، ووجهنا عدسة كامرته على العراق، ثم ركزنا عدسته الزوم على محافظة المثنى اليوم لوجدنا عدة محطات نختار منها خمسة لها أثرها الكبير وبعدها الحضاري والثوري والثقافي والإنساني الذي ساهم وانعكس في بناء شخصية الشاعر يحيى السماوي ومن ثم أثرها في شعره ونثره ومواقفه السياسية والنضالية.

المحطة الأولى: حضارة أوروك

أوروك (الوركاء) ذات الأسوار أقدم مدينة حضرية في التاريخ الإنساني. والتي تقع على بعد 30 كيلو متر شرق السماوة مركز محافظة المثنى. ومن أوروك انطلقت رحلة الكتابة المسمارية قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، فعرفت الإنسانية الكتابة لأول مرة. وكـُـتبت فيها ملحمة جلجامش، أقدم ملحمة إنسانية، أقدم من الإلياذة والأوديسة والراجفيدا. بل إنها كـُـتبت بصورة شعرية يمكن لنا أن نتغنى بأبياتها اليوم وكأنها كتبت بالأمس فقط، فهي ملحمة الخلود التي أغنت الفكر الإنساني بالكثير من الأفكار والقيم الجمالية، وهو ما يمكن أن نلمسه من أول مطلع هذه الملحمة:

هو الذي رأى كل شيء.. فغني بذكره يا بلادي

ومما تجدر الإشارة إليه أن العالم احتفل في زمن النظام السابق بمرور خمسة آلاف سنة على اكتشاف الكتابة في أوروك. وجاء علماء من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها ليحدثوننا عن أهمية أوروك في التاريخ الإنساني، ويعرفوننا بحضارتنا التي نهملها اليوم، والمؤسف يحيط بها أناس يجهلون أهميتها، بل إن بعض القاطنين حولها وبعض الرعاة ينتظرون نزول المطر ليقوموا بالبحث عما عرّته تلك الأمطار من التربة فيعثرون على الأرقم الطينية والأختام والآثار لا من أجل أن يتعرفوا على حضارتهم ويصونونها، بل ليبيعوا ما يعثرون عليه ببضعة مئات من الدولارات، فبهذه الطريقة وبأمثالها تسربت الكثير من آثارنا إلى متاحف العالم كما نراها اليوم.

وبالتأكيد إن مثل هذه الصورة تنطبع في ذهن كل سماوي، وأكثر مَن يتأثر بها مبدعو السماوة، والشاعر يحيى السماوي يستمد بالتأكيد بعده الحضاري الضارب في التاريخ من هذا المنطلق رغم الصورة البائسة المقابلة لإهمال هذه الآثار العظيمة.

المحطة الثانية: سجن الرميثة وثورة العشرين

انطلقت ثورة العشرين من الرميثة، وتحديدا بعد إطلاق سراح الشيخ شعلان أبو الجون شيخ عشيرة الظوالم عنوة من سجن الرميثة في حكاية العشر ليرات ذهب المعروفة والتي أوصى بجلبها له قبل ترحيله إلى بغداد من السجن، وكان يعني بها إرسال عشرة رجال أشداء كالذهب، فيما يُعرف بتقاليدنا بالحسجة التي يجيدها ساكني الفرات الأوسط.

وهذه الثورة التي انطلقت سنة 1920 وعُرفت فيما بعد بثورة العشرين وعمّت العراق كله كبدت الإنجليز خسائر توازي خسائره في احتلال العراق، ولم ينفع الإنجليز بعد أن حشدوا أكثر من 700 ألف عسكري إنجليزي وهندي من السيخ والكركة في إخماد هذه الثورة، ودارت معارك عديدة هنا وهناك، وخاصة عند جسر السوير، حيث تصدى رجال شجعان وأوقفوا تقدم القوات المحتلة. وحاول النظام السابق التقليل من أهمية هذه الثورة، لأنها تمد الروح الثورية ضده، فعمد إلى محاولة سرقة منجزات هذه الثورة فقام بتمويل فيلم بعنوان "المسألة الكبرى "ليوحي بأن الثورة انطلقت من مكان آخر غير الرميثة التي تبعد 30 كيلو متر شمال السماوة.

ولهذا أيضا صدح أحد الشعراء السماويين محتجا على هذه السرقة فهوس قائلا:

لو إن شعلان يدري انباكت الثورة جا فج التراب وطلع من قبره
إهي بالسوير المسألة الكبـــــــرى ها الشاهد والله الشاهد عدنا
أيتام من العشرين..

وهذا السجن الذي انطلقت منه شرارة ثورة العشرين لا يزال قائما غير أنه مهملا، مثله مثل آثار أوروك. ولكي أنقل لكم صورة مقربة عن مدى إهمال هذا السجن الأثري المهم أحدثكم بما قاله لي ابن العم الشاعر الغنائي ناظم السماوي مشيرا إلى سجن الرميثة الذي انطلقت منه شرارة ثورة العشرين: "هذا السجن يبكي على قوطية صبغ اليوم ".
ومع هذا أؤكد لكم أن الشاعر يحيى السماوي يستمد روحه الثورية في شعره من هذه الثورة العظيمة.

المحطة الثالثة: محطة قطار السماوة

بنى المستعمر الإنجليزي في أول احتلاله خط سكة حديد لنقل البضائع في محاذاة نهر الفرات ليسهل عليه نهب ثروات البلد. وبنى لهذا الخط ثلاث محطات رئيسية، الأولى في البصرة بالمعقل، والثانية في بغداد بعلاوي الحلة، والثالثة في السماوة لأنها تتوسط المسافة بين البصرة وبغداد، وتبعد عن كل منهما 270 كيلو متر. ومحطة قطار السماوة عبارة عن قلعة لها أبراج، وهي قائمة إلى اليوم.

وبعد فترة جلبوا قاطرات وعربات لنقل الركاب، مما ضاعف من أهمية هذه المحطات، وخاصة محطة قطار السماوة، وذلك لأن القطار الواصل إليها من البصرة أو بغداد أولا كان لابد له من انتظار القطار الثاني لأن خط السكة واحد. كان قطار البصرة ينطلق في نفس وقت انطلاق قطار بغداد في الساعة الثامنة صباحا، ويصلان محطة قطار السماوة في الساعة الثامنة مساء، ثم يواصلان طريقهما ليصلا في الساعة الثامنة صباحا من اليوم التالي. وبعد ذلك استحدث قطار سريع آخر يصل محطة قطار السماوة الساعة 12 مساءً.

وهذا كان يجعل من محطة قطار السماوة التي تقع وسط المدينة شعلة من الحركة في التوديع والاستقبال، وحتى التنزه، بل إن بعض الطلبة جعلوها مكانهم المفضل للدراسة خاصة مع قرب الامتحانات. وكانت الفسحة الزمنية بانتظار القطار القادم من الجهة الثانية طويلة وتتكرر مرتين مما ساعد الركاب على تناول طعامهم أو شرب الشاي والصلاة، وأوجد مهن للباعة المتجولين وغيرهم فتبدو المحطة في تلك الساعات بأضوائها المتعددة شعلة من الحركة بين مودع ومستقبل ومرتزق ومتفرج.

ولكن هذه المحطة تحولت في يوم من الأيام إلى بطلة بحق، واستحقت أن تكون كذلك على غرار جسر درينا الذي تحول إلى بطل لرواية اليوغسلافي الحائز على جائزة نوبل في الأدب إيفو أندريتش في روايته "جسر على نهر درينا ". ففي الرابع من تموز سنة 1963 استقبلت هذه المحطة خيرة رجال العراق وهم محشورون في فراكين من الحديد محكمة الإغلاق ومدهونة بالقار من الداخل، في عملية يراد منها إعدام هؤلاء الرجال وأن يصلوا إلى محطة قطار السماوة موتى من الحر والاختناق، وهي الحادثة التي عُرفت فيما بعد بقطار الموت.

فبعد أن قام العريف حسن سريع ابن السماوة البار في الثالث من تموز بانقلاب كاد أن ينجح لولا بعض الأخطاء، قرر النظام وضع أكثر من 500 ضابط وسياسي يمثلون خيرة قيادة العراق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وسيروا القطار في الهزيع الأخير من الليل، بعد أن أحضروا سائق القطار عبد عباس المفرجي من بيته، وأصدروا له الأوامر بالسير البطيء لأهمية حمولته، وكان هدفهم الظاهر إرسالهم إلى سجن نقرة السلمان في عمق صحراء السماوة، وهدفهم الحقيقي قتلهم بحرقهم في حر ذلك الصيف وليموتوا اختناقا، وهكذا يفرضوا الأمر الواقع. ولكن بعض الشرفاء أخبروا السائق مع بداية الرحلة أن حمولته من البشر، فما كان منه إلا السير بأقصى سرعة ودون التوقف في المحطات التالية، وعلم أهل السماوة بخبر القطار فهرعوا جميعا وأنقذوا الركاب وهم في الرمق الأخير بعد معركة مع الحرس القومي والشرطة.
وكان الشاعر يحيى السماوي من المشاركين هو وأهله وأبناء السماوة حين كان عمره أربع عشرة سنة، ولهذا انعكس ذلك في العديد من كتاباته النثرية والشعرية بتلك الحادثة. ففي معرض رده على مقال لزهدي الداوودي سنة 2013 عن قطار الموت قال مستذكرا:

ها أنت يا سيدي ترجع بي إلى الربع الأول من عام 1963... كنت آنذاك صبيا في الصفوف الأولى من دراسة المرحلة المتوسطة.. فوجئت بعمي بائع اللبن المرحوم "عبد الأمير "وأبي يحملان سطلين من اللبن الخضيضة والماء يطلبان مني مساعدتهما بحمل "رقية "كبيرة اختارها أبي من كومة الرقي في دكانه الصغير الواقع في سوق السماوة المسقوف.. أتذكر أن المرحوم "عبد الحسين افليسْ / وكان أحد أشهر الشيوعيين في السماوة "كان يصيح في السوق وهو يهرول: "يا أهل الغيرةْ والشرفْ ساعدوا إخوانكم الأحرار في المحطة". وصلنا المحطة لنجد أهل السماوة قد حطموا أبواب عربات قطار الشحن وثمة نحو 500 رجل كانوا منهكين على أرصفة المحطة يحيط بهم أهل السماوة ويحرسونهم حاملين "التواثي "والسكاكين والعصي... النسوة يحملن الخبز والمتيسر من الطعام، والصبية ـ وأنا منهم ـ نوزع الماء... أتذكر أن شابا وسيما ـ اتضح فيما بعد أنه الطبيب الجراح الشهير رافد أديب ـ طلب منا عدم تقديم الماء قبل أن نضع فيه قليلا من الملح أو الدواء. في المحطة رأيت خالي رسول وجارنا المعلم مكي كريم الجضعان يمارسون دور الممرضين بإشراف الشاب الوسيم الطبيب رافد.. (بعد سنوات عديدة شاءت المصادفة أن أراجع طبيبا جراحا تقع عيادته قريبا من ساحة الطيران فعقدت الدهشة لساني، كان نفس ذلك الشاب الوسيم، عالجني ورفض استلام أجور الفحص واكتفى بأن طلب مني نقل تحياته إلى أهالي السماوة.

هذه المحطة البطلة التي أصبحت رمزا عظيما، لم تعجب النظام السابق، فبنى محطة ثانية للقطار خارج المدينة، وتركها لتصبح في البداية اسطبلا للخيل والحمير، ثم تقدم المهندس أحمد فزاع (صديق طفولتنا أيضا) حين كان مديرا لبلدية السماوة بمشروع تحويلها إلى فندق ومطعم سياحي وهو ما كان. أما اليوم فقد استولى عليها رجال يزعمون أنهم من أهل العلم والفتوى في تقسيم مقيت لمراكز القوى والمحاصصة.

المحطة الرابعة: سجن نقرة السلمان

أحضر الحرس القومي المزيد من رجال الأمن والشرطة وسيطروا مجددا على محطة قطار السماوة بعد أن توفى أحد ركاب قطار الموت وعولج آخرين في المستشفى، ثم أحضروا 15 سيارة لنقل السجناء إلى نقرة السلمان بطريق ترابي. وقام أحد فضلاء السماوة بتحميل سيارة حمل كبيرة من المواد الغذائية وغيرها هدية لتعين السجناء في سجنهم الضارب في عمق الصحراء. وهناك كانت فصول الجحيم، وأرادوا إرسال فرقة إعدامات للتخلص من السجناء جميعا، غير أن النظام تخوف من ردود الفعل الداخلية والخارجية. وبعد ذلك أضيف لذلك السجن المزيد من السجناء مما اضطر السلطات إلى بناء عشرة قواويش جديدة، ومع ذلك ومن كثرة السجناء كان لا يُسمح للسجين بالنوم على بطنه أو ظهره وعملوا جدول للنوم لكي يسعهم المكان من كثرتهم.

هذا السجن تمكن السجناء فيما بعد من تحويله إلى جامعة ومجتمع حضاري متطور، يمكن لمَن لا يحسن القراءة والكتابة أن يتعلمها، والذي يريد دراسة اللغات يجد فرصته، ومَن يمتلك موهبة أدبية يطورها ويصقلها، ومَن يعشق الرياضة يمارسها، وهكذا كلٌ يجد ضالته ويطورها. كما بنوا مطبخا يوزع فيه الطعام ثلاث وجبات للجميع وبالتساوي، والماء يُجلب من الآبار المحيطة بثلاث مستويات، للسقي والغسل والشرب، وأقاموا برنامجا صحيا يشرف عليه الأطباء مع وجود خفارة ليلية، وحتى السجين الذي يدخن تحترم عادته وتقدم له السجائر بالمجان. كما تمكنوا من الحصول على راديو وأصدروا جريدة تزودهم بأخبار العالـَـم أولا بأول.

وكما هي مراكز الحضارة والرموز الثورية مهملة في محافظة المثنى، فإن هذا السجن اليوم فارغ ومهدم ولا يصلح لأي شيء، ولم يلتفت إليه أحد ليكون متحفا يعبر عن آهات السجناء الذين مروا به، وما أكثرهم، خاصة وأن بعضهم فقد حياته فيه. واليوم أستطيع وأنا أتصفح في ذاكرتي مَن سجنوا بهذا السجن فأجد صورهم مع الشاعر يحيى السماوي وهو يستمد منهم مواصلة منهجه الثوري والعقائدي، ولهذا أجد صورا مشتركة له مع مظفر النواب وألفريد سمعان وفاضل ثامر وسعدي الحديثى وزهير الدجيلي وناظم السماوي وغيرهم كثير، بل إن بعضهم ممن عمل معهم في إذاعة المعارضة.

المحطة الخامسة: مدينة السماوة

يقسم نهر الفرات مدينة السماوة إلى صوبين، الصغير وفيه معظم دوائر الدولة سابقا، والصوب الكبير الذي يقسمه السوق المسقوف المتعامد مع النهر إلى حيين، الغربي والشرقي، فإذا تركت النهر خلفك ودخلت هذا السوق المسقوف سيكون الحي الغربي على يمينك، هناك كانت مرابع طفولتنا أنا والشاعر يحيى السماوي، ومن قبلنا طفولة الشاعر كاظم السماوي الذي يكبرنا بثلاثة عقود. يتفرع من السوق المسقوف عدة طرق على الجانبين، فإذا سرت ووصلت ثلثه الأول تجد قيصرية الخياطين على يمينك، وهي من محلات معدودة بحدود العشر محلات تكثر فيها مهنة الخياطة سابقا، ثم يأتي زقاقنا أو كما نسميه "عجد "أو دربونة. هناك يواجهنا بيت أسرتي المكون من ثلاثة منازل، ويلاصق بيتنا من الجنب بيت جد الشاعر يحيى السماوي لأمه. هناك يظهر أثر الأمكنة الأكبر في رحلة الشاعر يحيى السماوي مع موهبته وعطائه، وهو الأثر الكبير الذي انعكس في الكثير من قصائده، وهناك كان الوعي الأول لنا، حيث سيل الذكريات. فإذا أضفنا إلى تأثير هذه الأمكنة تأثيرات المدرسة والبيت والمسجد والحسينية وغيرها نستطيع تكوين فكرة واضحة ومكينة عن تأثير الأمكنة في تكوين شخصية الشاعر يحيى السماوي وأثرها في شعره ونثره ومواقفه السياسية والنضالية، بعد أن نضيف لها بطبيعة الحال اضطراره إلى الهجرة والاغتراب لأكثر من ربع قرن والذي ضاعف وساهم في متانة الصور الشعرية والجمالية بمسيرة هذا الشاعر الكبير، وما نجده من فيض الحنين لهذه الأمكنة التي بلورت شخصيته وعطاءه.

فمن ديوانه الأخير "حديقة من زهور الكلمات"

وحدها أزقة "درابين "السماوة

تقود قدميّ

كما يقود الراعي القطيع

ومن ديوان. تعالي لأبحث فيك عني..

إنها السماوة.. فادخلي آمنة مطمئنة..
ها نحن في وادي السماوة
فاخلعي الخوف القديم
الناس ـ كلّ الناس باستثناء نذلٍ واحدٍ ـ أهلي
وكل بيوتها بيتي..

اطرقي ما شئتِ من أبوابها:

تجدي الرغيف..
الظل.. والماء القراح..
وما يسركِ من كلام
الناس باستثناء نذلٍ واحدٍ

طـُبعوا بطبع نخيلها:

يتقاسمون مع الضيوف
النبضَ قبل الظل..
كل الناس باستثناء نذلٍ:
يفرشون قلوبهم
قبل البساط
وقبل آنية الطعام!
فأنا وأنتِ وعشقنا المجنون
ثالوث المحبة والغرام
يومي بظلك
ألف عام

بقيت كلمة لابد من الإشارة إليها مع التركيز على مضمونها، وهي إن موهبة الشاعر يحيى السماوي النثرية تضاهي موهبته الشعرية، وندلل عليها من خلال كتابته لمذكراته التي عنونها (مذكرات الجندي المرقم 195635 / ج8) ونشرها في الفيسبوك وتظهر لنا هذه الموهبة. ومن هذه المذكرات ما يتعلق بي شخصيا وبأسرتي حيث كتب أنه أخذ إلى الشعبة الخامسة في بغداد ليسألوا عنا حين كنا بغربتنا في الكويت، وهناك أشبعوه ضربا لا لشيء إلا لأنه جارنا فقط ويعرف أسرتي. وهذه حكاية طويلة، كتبت له عنها ورد عليّ بما يسمح من خلالها وما كتبه عن مذكراته نثرا تأكيد هذه الموهبة حيث حثثته إلى أن يصدرها في كتاب مستقل.

وتأكيدا على موهبته النثرية، أستعير كلماته في الحدث الذي شطر الزمن إلى شطرين بالنسبة له، ففي يوم ليس ببعيد من الآن، في شهر سبتمبر من هذه السنة 2017 استيقظنا على إطلاق اسم الشاعر يحيى السماوي واسم ابن عمتي الشاعر كاظم السماوي الذي ولدنا أنا وهو في بيت العائلة الكبيرعلى شارعين عند ضفاف نهر الفرات بمدينة السماوة تكريما لهما.

ولهذا كتب الشاعر يحيى السماوي تغريدة على صفحته في الفيسبوك ذكر فيها هذا التكريم باعتزاز وبكلمات يعجز المرء عن وصفها قال فيها:

ما أحببتُ الحياةَ كما أحببتها اليوم... ولا اعتززتُ بشعري كما اعتززتُ به اليوم.. ولا استعذبتُ عذابات الأمس البعيد كما استعذبتها اليوم... ولعلها المرة الأولى في حياتي التي بكيت فيها من الفرح وأنا أفاجأ بإطلاق اسمي على شارع النهر في السماوة... الشارع الذي حفرتُ على جذوع أشجاره أول بيت شعر، والجسر الذي كتبت تحت مصابيحه أول مجموعة شعرية وأنا في مقتبل الحزن... الآن أقول ملء نبضي: "لا بأس من الموت مادمتُ قد كُرِّمتُ بأكثر مما أستحق، فاليوم قد تأكد لي أنني قد عشت حياتي!".

ها أنا أبكي من الفرح لأول مرة في حياتي..شكرا سماوة الأرضين والسماوات... شكرا يا آل السماوة.. شكرا يا كل الذين رشّحوا اسمي واحتفوا بميلادي الجديد..

و في الختام قدّم الشاعر يحيى السماوي شكره و تقديره للحضور الكرام و هو يستلم باقات من الورد تعبيرا عن حبّ الحاضرين و اعتزازهم بمنجزه الشّعري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى