الأربعاء ٧ شباط (فبراير) ٢٠١٨
تطوير مناهج تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها
بقلم إلياس خاتري

في ضوء المكون السوسيولساني

تمهيد:

يعتبر إعداد المواد التعليمية واختيارها من أصعب الأمور التي تواجه المسؤولين عن البرامج التعليمية، لأن الأمر يحتاج لمجموعة من المعايير والضـوابط والشروط والمواصفات التي بدونـها لن تستقر هذه العملية بالشكل المطلوب. كما أن إعداد مواد بهذه الصفة ليس باستطاعة الكل، بل ولا يستطيع ذلك إلا من تخصص في علم اللغة التطبيقي وتمرّس في هذا الميدان.

أما الحديث عن إعداد مناهج وبرامج لتعليم اللغة لغير الناطقين بغيرها، فهي مسألة معقدة أكثر، لأن الأمر يحتاج إلى ضبط كل المكونات اللغوية، من المفردات والأصوات والصيغ الصرفية والتراكيب، إذ إنّ التأليف في هذا النوع من المقررات يختلف عن غيره.

أما من حيث طبيعة اللغة العربية كما هو معروف، فتتعرضها مجموعة من الإشكالات النظرية والتطبيقية التي تتعلق بتدريسها، كما أن تعليم العربية للناطقين بغيرها ليس عملية طفرية، وإنما فعل تراكمي يمر عبر مجموعة من المراحل. وعند تعرضنا لمناهج تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، كان لابد أن نأخذ بعين الاعتبار أن الهدف من ذلك هو جعل هؤلاء المتعلمين يمتلكون نسقا لغويا عربيا يتم التركيز في وظيفيته على الكفاية التواصلية والثقافية. لكن هذا المعطى مرهون أولا بالكفاية المعجمية والوعي التركيبي والصوتي لنسق هذه اللغة ومكوناتها. لأن التعليم للغة للناطقين بغيرها هي عملية منظمة وليست عشوائية أو ارتجالية. ونجاح هذا الفعل مرتبط بالاستراتيجيات والوسائل المعتمدة فيه، لتحقيق الأهداف المسطرة مسبقا.
مداخل ومنطلقات البحث:

ويمكن أن نحددها في بعض المكونات المتعلقة بالقراءة والفهم، كمدخلين أساسيين للتعلم:
الصعوبة الحاصلة على مستوى التمييز بين الأصوات المتشابهة(الحروف) في التمثيل الخطي. (العين والغين، الدال والذال، السين والشين الصاد والضاد في الخط)، والبديل السوسيولساني كفيل بمعالجة هذه التعثرات انطلاقا من وحدات دراسية نظرية وميدانية بالنسبة للمتعلمين
الميل إبدال بعض الأصوات بأخرى في بداية الكلمة ووسطها ونهايتها، وهذا ناتج عن افتقار برامج ومقررات تدريس العربية للناطقين بغيرها إلى النموذج الصوتي الأمثل الذي يساعد على التحقيق النطقي الأمثل للأصوات العربية، وذلك باعتماد المخارج الحقيقية السليمة لكل صوت، لأن المتعلم غير الناطق بالعربية لا يعرف قواعد تأليف المقاطع بالشكل الصحيح، وما يصاحب ذلك من تغيير في تحقيقها الخطي حسب موقعها في الكلمة. إضافة إلى بعض التمثلات التي تطرح في البرامج ولا تعطى مقابلات حقيقية لها. والانغماس في بيئة اللغة المتعلمة كفيل بطرح بديل تعليمي لتجاوز هذه المشاكل.

كل هذا جعلنا نستنتج أن هذه الصعوبات ترتبط بضعف عند المتعلمين، مما يحول دون اكتسابهم لمهارة القراءة والكتابة واستراتيجيتهما بالكيفية المحددة. وبالتالي وجب الأخذ بعين الاعتبار المكونات السوسيولسانية التي تتيح وفق استراتيجيات بيداغوجية عوامل التعلم التي تراعي التدرج من البسيط إلى المركب، ومن الجزء إلى الكل.

إشكالية البحث:

على الرغم من الأهمية التي المتزايدة التي يحظى بها مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها، إلا أن هذا الميدان يواجه مجموعة من المشاكل المتعددة، لعل أهمها الخلل في بناء برامج تعليمية تستجيب لخصوصيات الفئة غير الناطقة باللسان العربي. فمن المقومات الأساسية لنجاح أي برنامج تعليمي أن تتوفر فيه مواد تعليمية يتم إعدادها في ضوء مجموعة من المعايير، منها ما يمس طبيعة المعرفة، ومنها ما يتصل بخصوصيات الفئة المستهدفة. وهذه أمور تنبغي مراعاتها عند إعداد هذه البرامج.

لكن السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه في هذه الدراسة هو؛ كيف يمكن استثمار المكون السوسيو لساني انطلاقا من علاقة اللغة بالمجتمع، في بناء برامج ومناهج لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها؟

أهداف البحث:

إن أهمية الجانب السوسيولوجي تتمثل في كونه يضمن نظرة شاملة عن حياة الشعوب وأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، كما له مكانة هامـة في تعليم وتعلّم اللغات الأجنبية. أما بالنسبة لاستثماره في تعليم العربية للناطقين بغيرها فتعتبر مكوناً أساسياً ومكمـلاً مهماً لمحـتوى المـواد التعليمية في هذا الميـدان. وبالتالي من الأهداف المركزية التي نتغيا الوصول إليها في هذا البحث؛ دمج العناصـر الاجتماعية للغة العربية في مقررات برامج تعليم العربية للناطقين بغيرها، بشكل يخدم تعليمها ويضمن نجاعة تعليمة مرنة، تجعل من البعد السوسيولساني أهم مرجعياتها. بغية الوصـول إلى مستوى من القـدرة اللغـوية والثقافية التي تمكن المتعلمين من الاشتراك والاندماج مع متحدثي اللغـة بشكل لا يقـل كثيراً عن مستوى أهل اللغة ومتحدثيها، والتطـلع إلى التزوّد برؤية اجتماعية واضحـة تمكّنه من تحصيل المعلومات والمعـارف الثقافية التي تسـاعده على التعامـل مع هذه اللغة. وهذا يعني أن ما يقدم من الجانب اجتماعي، مم يلبي حاجات الدارسين واهتماماتهم وأهدافهم من تعلّم هذه اللغة.

فرضيات البحث:

أن المتعلم غير الناطق بالعربية يجد فرقا بين ما يوجد في هذه المقررات وبين ما يعكسه الواقع، مما يجعل ذهنه غير مستقر في عملية التعلم.

عدم الاحتكاك بالمجتمع في إطار لغة منتقاة يؤدي إلى صعوبات مرتبطة بضعف في الوعي الصوتي، وهذا يؤثر بشكل كبير على تعلم مهارة القراءة واستراتيجيتها، وهذا ما يحول دون بلوغ مرحلة الطلاقة في القراءة.

هناك ضعف ملحوظ (انطلاقا من بحث ميداني) في القراءة، وخاصة في نطق بعض الأصوات التي لا يسعف الجهاز الناطق تحقيقها لارتباطها باللغة الأم، خاصة في المراحل الدراسية المبكرة، مما يؤدي إلى التعثر في مختلف المستويات. هذا ما يستدعي الانفتاح على الوسط البيئي وخاصة في المستويات الابتدائية.

اعتبار الكلمة من لدن المتعلمين غير الناطقين بالعربية في المراحل الابتدائية نسقاً كليا لا يقبل التقسيم أو التجزئة.

أن التصورات البيداغوجية المطروحة في البرامج التعليمية، لا تأخذ بعين الاعتبار المكونات اللسانية، خاصة ما يتعلق بالمكون الصوتي التي يطرح تباينا كبيرا في بعض المخارج
محدودية الأنشطة الديداكتيكية في الفصل الدراسي التي لا ترقى إلى ممارسة جيدة على مستوى تدريس القراءة الكتابة، وتجاهل البعد السوسيولساني؛ مما لا يزرع في نفوس المتعلمين شغف القراءة.

البدائل المقترحة

تحديد بعض المواقف التي يُتوقع أن يمر بها الدارس من غير الناطقين بالعربية في تعامله اليومي، وفي المواقف العامة الأخرى التي يواجهها أثناء التعامل مع الناطقين باللغة العربية. ويقصد بالمواقف؛ تلك التي يشترك فيها معظم الدارسين الأجانب عند زيارتهم للبلدان العربية أو اتصالهم بثقافتها.وبذلك تكون هذه المقررات قد استبعدت بعض المواقف التي لا يحتاجها هؤلاء المتعلمون. كما تحتاج هذه الفئة من المتعلمين في برامجها الدراسية لتعلم اللغة العربية، تحديد المفردات الأساسية التي تلبي حاجيات التعلم، والتي تمكنهم من الاندماج والانفتاح على المحيط الذين يتعلمون فيه. وبالتالي وجب التفريق ههنا بين مستوين من التعامل مع هذه المفردات؛ أولهما مدى الاستخدام، وثانيهما درجة الفهم.

منهجية البحث:

من حيث المنهج سنعتمد على آليات المنهج الوصفي بناء على تشخيص العصوبات، لاستقراء ووصف كل مظاهر التعثر لدى هذه الفئة. إضافة إلى اعتماد المنهج التحليلي الذي طبقناه على بعض مقررات تعليمة. أما في الدراسة الميدانية، فقد حاولنا أن نستفيد من دراسة أجريناها في أحد المعاهد المختصة في تدريس العربية للناطقين بغيرها.

مستويات تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها:

بناء على أهمية هذا الموضوع، بات”المختصين بتعليم اللغة العربية للناطفين بغيرها منشغلين بمجموعة من القضايا، وفي كل واحدة منها تعترضهم مجموعة من المشاكل والإكراهات. ومن القضايا التي يتّفق الخبراء في هذا الميدان على أهميتها؛ قضية إعداد المواد التعليمية المناسبة للدارسين في كل مستوى من المستويات الثلاثة المتعارف عليها في هذا المجال؛ وهي المستوى الابتدائي والمستوى المتوسط والمستوى المتقدم.

ففي المستوى المتقدم، يواجه المختصون في إعداد البرامج التعليمية لتدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها، عددا من المشاكل في إعداد هذه المواد، لعل أهمها النقص في المواد التي تنطلق بالمتعلم -بعد التمكن من اللغة- لاستخدام اللغة في مواقفها الطبيعية. كما أن الدارس في هذا المستوى يكون بحاجة إلى مواد قرائية أكثر من غيرها، يستثمر فيها قدراته لملأ الفجوة بين مستويات اللغة في برامج ومناهج تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها.

وفي المستوى المتوسط تطرح مجموعة من المشاكل، لعل أهمها النقص في المواد المتدرجة التي تأخذ بيد المتعلم ببطء نحو عبور المسافة بين مواد تعليمية التي تكسبه المهارات الأساسية في تعلم اللغة، إلى مواد تعليمية أخرى تكسبه مهارات أكثر تعقيدا، توظف له ما تعلمه في مواقف أكثر سعة وأغزر مفردات وأعمق فكرا. إن الدارس في هذا المستوى يخطو نحو أمر هام في تعلم اللغة، حيث يبدأ في التعلم عن اللغة بعد أن تعلمها. كما أن قواعد اللغة في هذا المستوى تكون أكثر عمقا وتطبيقاتها أكثر اتساعا، وخصائص اللغة أكثر ظهورا. وإذا كان الحديث عن سمات اللغة في المرحلة الابتدائية أمر مرفوض، فهو أمر يطرح تدريجيا في المستوى المتوسط. وهذا ما يجعلنا نقول بأننا في حاجة إلى مواد تعليمية ذات طبيعة خاصة، وأن كانت تخضع إلى ما تخضع له المواد التعلمية في المرحلة الابتدائية من ضبط المفردات والتدرج في عرض المادة، ثم التكامل بين المهارات اللغوية المُعلّمة.

أما في المستوى الابتدائي؛ فالمشكلات التي تطرح في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها كثيرة، لعل أهمها عدم الاتفاق على الرصيد اللغوي اللازم تعليمه للدارسين في هذا المستوى، فضلا عن القصور في تحديد المواقف والملامح الثقافية التي يمكن أن يُظف فيها هذا الرصيد.

وعموما على جه التحديد، نفتقر في إعداد المواد والبرامج التعلمية للمبتدئين في تعلم اللغة العربية للناقطين بغيرها إلى ثلاثة أمور:

أولها؛ تحديد المواقف التي يُتوقع أن يمر بها الدارس غير الناطقين بالعربية، في المواقف العامة التي يواجهها أثناء التعامل مع الناطقين بهذه اللغة.

ثانيا؛ تحديد المفردات الأساسية التي تلبي حاجيات المبتدئين من المتعلمين، مما يمكنهم من الكفاية التواصلية أو على الأقل الاحتكاك بها.

ثالثا؛ التعرف على الملامح الثقافية البارزة التي ينبغي على متعلم العربية من غير الناطقين بها أن يتعرف عليها، وأن يلم بها كمنطلق لفهم ثقافة اللغة ومكوناتها. هذا ما تدعمه الكفاية الثقافية بالأساس وترتكز عليه.

نلاحظ بأن هذا التدرج في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، يراعي كل الخصوصيات المحتملة للمتعلمين بكل أشكالهم وأجناسهم، كونه ينطلق من السهل إلى المركب إلى الأكثر تعقيدا. ويربط كل هذا بالجانب التواصلي والثقافي الذي يمكن اعتباره من منظور سوسيولساني مدخلا رئيسا في استثمار المكون الاجتماعي لتعليم اللغة للناطقين بغيرها. ومن خلال هذا نلاحظ أن إعداد برامج تستجيب لخصوصيات هذه الفئة من المتعلمين تشكل عقبة، مما يدعو إلى تعميق البحث في جوانب إعداد هذه المقررات، لأن المشكلة ليست في اللغة العربية ذاتها، وإنما في طريقة عرضها وتقديمها للمتعلمين، خاصة الناطقين بغيرها.

موقع اللغة العربية في المجتمع المعاصر:

إن الحديث”عن إدراك واع لطبيعة اللغة العربية في المجتمع خصائصها، وعن تقدير دورها بين اللغات السامية ومكانتها، تصدر كلمة فرجسون ferguson التي ردت في مقالة عن اللغة العربية ببريطانيا يقول فيها،”إن اللغة العربية اليوم، سواء بالنسبة إلى عدد متحدثيها أو مدى تأثيرها، تعتبر أحد أعظم اللغات السامية جمعاء. كما ينبغي أن ننظر إليها كسائر اللغات العظمى في العالم اليوم". ويتجلى صدق هذه العبارة إذا نظرنا إلى اللغة العربية من المنظور الديني والاستراتيجي واللغوي، فضلا عن تأثيرها في اللغات السامية الأخرى. فعلى مستوى هذه المنظورات نجد:

دينيا: لقد اتخذ الإسلام من اللغة العربية لسانا له منذ أن نزل القرآن بها، وأصبت العربية لغة تعبدية للمسلين يفرضها الدين أينما حل، ويحلمها معه حيثما انتشر.

استراتيجيا: إن اللغة العربية ذات انتشار جغرافي واسع، وليس المقصود بالانتشار الجغرافي المكان فقط، بل ويقصد به أيضا عدد مستخدمي هذه اللغة وما يشغلونه من مكانة في المجتمع العالمي المعاصر. كما تعتبر اللغة العربية من حيث عدد المتحدثين بها السادسة في العالم، وهي وفق هذا المعيار من أكثر اللغات انتشارا في القارة الإفريقية وفي غرب آسيا، فضلا عن المكانة الكبيرة التي أصبت لها في المجتمع المعاصر.

تاريخيا: لقد استوعبت اللغة العربية بجدارة كلا من التراثين العربي والإسلامي، ولقد عبر عن هذه الحقيقة أنور شحنة بقوله:”منذ العصور الوسطى واللغة العربية تتمتع بعالمية جعلت منها إحدى لغات العالم العظمى على نفس المستوى الذي حظيت به الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وهذا لا يعزى إلى عدد متكلميها فحسب، بل إلى المكانة التي تشغلها في التاريخ والدور الذي لعبته فيه".

لغويا: وهذا هو الجانب الذي يهمنا في تعليم العربية للناطقين بغيرها، حيث إن هذه اللغة تتمتع بمزايا وتنفرد بها سواء في النحوها أو على مستوى المفردات والتراكيب أو القدرة على التعبير عن المعاني واستيفائها، ومن حيث تأثيرها على لغات أخرى أيضا. هذا ما يجعلها إضافة موقعها في المجتمع المعاصر، لغة تواكب كل التطورات اللسانية وتستجيب لها.

إن العربية لغة اشتقاقية كل فعل فيها يتكون من ثلاثة صوامت، ومن هذا الجدر الثلاثي تشتق في بعض الأحيان كلمات بصعب حصرها. هذه القدرة المعجمية على التوليد الكلمات، جعلتها تأخذ مكانة هامة بين لغات العالم المعاصر، وقد زاد الاهتمام بتعلمها من طرف الناطقين بغيرها في مختلف أنحاء العالم. الشيء الذي أدى إلى انتشار المعاهد والمؤسسات التي أنشأت برامج خاصة لتعليمها للناطقين بغيرها، وما أكثر الروابط التي جعلت من تعليم اللغة العربية محور اهتمامها ومنطلق عملها."

الملامح السوسيولسانية (la sociolinguistique) وتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها:
وتحاول هذه الدراسة أن تقوم إطلالة جديدة على الدرس اللغوي الاجتماعي في علاقته بتعليم اللغة، ومن الملاحظات اللغوية الجديرة بالاهتمام في هذا الإطار ما لاحظه الجاحظ في تأثير اللغة الأم الأصيلة في اللغة الثانية التي يكتسبها الإنسان بالانتقال أو الاختلاط، لكننا نريد أن نستقرأ هذه العلاقة من المنظور العكسي، من خلال تأثير لغة المجتمع (بيئة اللغة المتعَلمَة) في لسان غير الناطق بالعربية. وفي ذلك نجده يقول:”واللُّغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أُدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها، وهو يصرح بتأثير اللغة الأم في اللغة الجديدة الدخيلة، وكذلك الحال فإن اللغتين تصبحان محط تأثر وتأثير".

إن اللسانيات الاجتماعية في أساسها تعنى بدراسة التنوع المشترك بين الظواهر اللسانية والمجتمعية، كما ترصد العلاقات الموجودة بين هذه الظواهر بتحديد السبب والنتيجة. ويعني هذا ضرورة البحث عن أسباب التغيرات التي تحدث على المستوى اللساني، وربطها بمسبباتها الاجتماعية أو سياقها التلفظي والتواصلي. هذا التعريف سيجعل من القاعدة الاجتماعية منطلقا أساس يمكن الاعتماد عليه في بناء بعض المكونات الأساسية في برامج تعليم العربية للناطقين بغيرها، خاصة مكون النصوص الذي يجعل المتعلم في احتكاك أكثر مع اللغة، ومنه يتم الانفتاح على المكونات الأخرى، باعتبار النص هو الدعامة الأساسية في تمرير باقي المكونات الأخرى.

فإذا كانت اللسانيات الاجتماعية تركز على الوظيفة الاجتماعية للغة والإحاطة بمختلف التبدلات الاجتماعية لها في علاقتها بالمتكلمين الناطقين، من حيث السن، والجنس، والفئة الاجتماعية، والوسط، والمستوى المهني، والمستوى التعليمي، وتحليل العلاقة القائمة بين اللغة والممارسات الاجتماعية، ثم تفسير الوظيفة الاجتماعية للغة، والاهتمام بقضايا لغوية واجتماعية كبرى تتعلق باللغة الأم، وموت اللغات، وعلاقة اللغة باللهجة والفصيلة، والثنائية والتعددية اللغوية، والأنظمة اللغوية المركبة والمعقدة، وتدبير التعدد اللغوي، والسياسات اللغوية، والتخطيط اللغوي؛ فإن استثمارها بهذه الحمولة في البرامج الدراسية لغير الناطقين بالعربية سيختصر على هؤلاء المتعلمين مسافات ثقافية واجتماعية جد مهمة، لأن الباعث الأساسي من تعلم اللغة عند هؤلاء المتعلمون هو الاندماج في مجتمع هذه اللغة والانفتاح عليه.

إن السوسيولسانيات كما يعرفها فيشمان (FISHMAN)”علم يبحث في التفاعل في جانبي السلوك الإنساني: استعمال اللغة والتنظيم الاجتماعي للسلوك". في محاولة منه للإحاطة بكل ما له صلة باللغة والمجتمع. وبناء على هذا وجب تحديد الفرق المركزي مادام استعمال اللغة يحدد التنظيم الاجتماعي بين تعليم اللغة للناطقين بغيرها وللناطقين بغيرها، بحيث تمكننا هذه المقاربة من فهم الدور المركزي للمكون الاجتماعي في تعليم العربية للناطقين بغيرها. وفي علاقة بهذا التصور نقف بالأساس على”الفرق كبير بين تعليم اللغة لأبنائها وتعليمها لغير أبنائها. وقليل من الناس من يعرف ذلك، حتى بين المتخصصين في الدراسات العربية الذين لم يتح لهم فرصة لدراسة علم اللغة التطبيقي.

وتبعا لهذا فإنّه ينبغي أن يختلف الكتاب التعليمي لتعليم العربية لغير الناطقين بها عن الكتاب التعليمي لتعليم العربية لأبنائها، من حيث الغرض والبناء والوسيلة. وقد أغفل كثير من المهتمين بنشر اللغة العربية هذه الفروق الأساسية زمنا طويلا وكانوا – وما زالوا مع الأسف – يبعثون بالكتب التي نستعملها في مدارسنا العربية إلى البلدان الشقيقة غير العربية التي تطلب مساعدتنا في تعليم لغتنا في مدارسها.

وبصورة عامة يكمن الفرق الجوهري بين الكتاب المدرسي المخصص للعرب والكتاب المدرسي المخصص لغيرهم؛ في أنّ الأول يستعمله متعلمين ينتمون إلى الثقافة ذاتـها ويتكلمون اللغة العربية التي يتعلمونـها، أما الثاني فيستعمله آخرون لا ينتمون إلى الثقافة نفسها ولا يعرفون اللغة العربية. والكتاب المعدّ لغير الناطقين باللغة قد يحتاج إلى التحليل التقابلي للغة العربية ؛ بحيث يتحدد ما تتفق فيه اللغتان، وما تختلفان فيه للاستفادة من ذلك في معرفة الصعوبات التي يواجهها المتعلم في تعلم تراكيب العربية ونظامها الصوتي، كما يجب أن يتخذ هذا الكتاب بيئة الطالب ومجمل حضارته منطلقا له في تقديم الحضارة العربية. وهذا يعني أن الكتاب الذي يصلح لتدريس اللغة العربية لأبنائها لا يصلح لتدريسها لغير الناطقين بـها".

من خلال هذا التباين الحاصل على مستوى خصوصيات البرنامج الدراسي، يتضح لنا إضافة إلى الجانب النحوي والمعجمي والصوتي؛ ما يتعلق بالكفاية الثقافية التي لها علاقة بالمكون الاجتماعي بالأساس. ويمكن استثمارها لتثبيت الكفايات الأخرى. وهذا ما يبين بجلاء أهمية المكون اللسوسيو لساني في تمرير العناصر اللغوية كمضمون تربوي للناطقين بغير العربية، باعتبار المحيط الاجتماعي مجالا خصبا لبناء أرضية أولية في المقررات، تؤسس عليها الكفاية التواصلية ككل لمتعلم اللغة غير الناطق باللسان العربي.

إن أهمية الجانب السوسيولوجي تتمثل في كونه يضمن نظرة شاملة عن حياة الشعوب وأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، كما له مكانة هامـة في تعليم وتعلّم اللغات الأجنبية. أما بالنسبة لاستثماره في تعليم العربية للناطقين بغيرها فتعتبر مكوناً أساسياً ومكمـلاً مهماً لمحـتوى المـواد التعليمية في هذا الميـدان ؛ لذلك لا بـدّ أن تندمـج العناصـر الاجتماعية للغة العربية اندماجاً كامـلاً في البرامج التعليمية لهذه الفئة خاصة، وفي جميع أوجه التعلّم ووسائـله عامة.

لقد بات من المعروف أن المعطيات التي يتيحها الحقل السوسيو لساني تعتبر جانبا أساسيا لبناء مـادة تعليمية لتعلّم اللغة الأجنبـية، كما أنـه عامـل مهم من عوامـل النجاح في تعلم اللغـة واستخدامها. والجدير بالذكر أن الكثير من هـؤلاء الدارسين غير الناطقين بالعربية يتوقّعون عندما يبدؤون تعلّم اللغة، أن يحصلوا على قدر معيّن من إمكانية توظيف المكون الاجتماعي كمحـتوى للغة، بنفس القـدر الذي يحصلون عليه من اللغة كوعاء للثقافة. وبالتالي فإننا نقترح أن يكون المدخل الأساسي لتكوين أرضية خصبة لتعليم العربية للناطقين بغيرها هو الإطار السوسيولساني والممكنات المتحصلة التي يتيحها.

إنّ اللغة هي وعاء الثقافة، والثقافة تنشأ وتتطور وتتأرخ في المجتمع، وليس من اليسير تعلم لغة ما دون التعرّض لثقافة مجتمعها، وقيمه واتجاهاته وأنماط معيشته. وهذه العناصر نؤكد على أخذها بعين الاعتبار فوق طاولت الإعداد القبلي لبرامج تعليم العربية للناطقين بغيرها، لأن اللسان الاجتماعي العفوي في البداية، دعامة لاكتساب التقنيات الأولى للمكون الصوتي والمعجمي في تعلم اللغة العربية. مما يعبِّد الطريق لاكتساب، الجوانب اللغوية في المستويات المتقدمة.

وإذا كانت اللغة”من أقوى روابط المجتمع الواحد، فهي من أكثر الوسائل قدرة على نقل ثقافتهم إلى المجتمع العالمي كلّه؛ وهنا تبرز القيمة الكبيرة لما تبذله الشعوب في سبيل تعليم لغاتـها لغيرها من الشعوب، وهنا أيضا تكمن الدوافع الحقيقية وراء استنـهاض الهمم وبذل الجهود نحو تأليف كتب لتعليم العربية في السنوات الأخيرة، إنّ الأمر ليس مجرد حرص على تدريب الآخرين على نطق أصوات العربية، أو حفظ كلماتـها أو تعرف تراكيبـها. إنّه أبعد من ذلك وأعمق. إنّ كتابا يؤلف لتعليم العربية لن يكون مجرد وسيلة لتنمية مهاراتـها أو إتقان استعمالـها وإنما هو ناقل لتاريخ أمة عريقة التراث، ومعبر عن حضارة شعب متميز الملامح، ترتبط لغته بأعز ما لديه، وأغلى ما عنده إنـها لسان عقيدته ولغة كتابه المبين".

ومن الأسس المركزية التي تدفع إلى ضرورة اعتماد المكون السوسيولساني واعتباره جـزءاً أساسياً في برامج تعليم العربية للناطقين بغيرها نجد:

"أنّ القدرة على التفاعل مع الناطقين باللغة لا تعتمد فقط على إتقـان مهارات اللغة، بل تعتمد أيضاً على فهم ثقافـة أهل اللغة وعاداتـها وآمالـها وتطلعاتـها.

إنّ فهم اللغة الأجنبية فقط لا يعين على فهم حـياة متحدثيها وواقعهم؛ لـذا فالاهتمام بالمجتمع في برنامج تعليم اللغـة يؤدّي إلى نتيجة فعّالة في عملية الاتصـال باللغة، قـد يفوق ما يقدمـه تعلم مهاراتـها فقط، وهذا يؤدّي إلى حقيقة بارزة وهي أنّ الاتصال الثقافي بين متحدثي لغتين؛ يساعد على تنمية مهارات اللغة وإتقانـها.

إنّ فهم ثقافة اللغة الأجنبية والتفاعـل معها أمر مهم في حدّ ذاته، فالتفاهم العالمي أصـبح الآن من الأهداف الأساسية للتعليم في أي بلد من بلـدان العالم. كما أنّ فهم التشابه والاختلاف بين الثقافات أصـبح أمراً ضرورياً لإحداث تقارب وتعاون بين الشعوب كأساس لتقدم الحياة واستقرارها في هذا العالم، ولأنّ السـلام العالمي يعتمد بشكل كبير على الفهم والتعاون العالميين. ومن هنا أصبح أمراً ضرورياً الاهتمام بتزويد المـادة التعليمية بمـلامح المجتمعية الأساسية، ثم بأوجه التشابه والاختلاف الأساسية بين هذه الثقافـة وبين ثقافات المتعلمين.

أنّ الدارسين أنفسهم عـادة ما يكونوا مشغوفين بالناس الذين يتكلمون اللغـة التي يتعلمونـها، ويودون معرفـة أشـياء كثيرة عنهم: من هم؟ ما طبيعة حياتهم؟ كيف يعيشون؟... هذا في الوقت الذي لا يعـرف فيه هـؤلاء الدارسون إلا القليل جـداً عن العناصر الأساسية لهذه المجتمعات، وأيضاً القليل جداً والسطحي والخاطئ عن ثقافة المجتمعات الأخرى.

أنّ العادات الاجتماعية تشبه إلى حد كبير المهارات اللغوية، فالمتحدث باللغة يتصـرّف بشكل معّين وبطريقة تلقائية، كما أنه يتحدث اللغة بنفس الطريقـة، ومن ثم ينبغي أن نعامل عادات الاجماعية كما نتعامـل مهارات اللغة في المواد التعليمية.

أنّ الكثير من الكتابات والدراسات في ميدان تعليم اللغات الأجنبية تكاد تجمع على أن الثقافة المجتمعية هي الهدف النـهائي من أي مقرر لتعلم لغـة أجنبية.

أنّ علماء علم الأجناس ودراسـة الإنسـان يقـررون أن سلوك الفـرد في المجتمع يكمن في حدود النظام العام لأنماط التعلّم. وفي هذا السياق يصبح من الممكن مقارنة دراسـة المجتمع بدراسـة اللغة.

أنّ المجتمع ميدان واسع ومعقد بالشكل الذي لا يتوقـع معه أن يستوعب الدارسون كلّ عادات الثقافة لمتحدثي اللغة، ولكنهم في ذات الوقـت قد يألفون تلك العناصر المهمّـة لفهم الناس والشعـوب وطرائق حياتهم، كما أنّ مدى الألفة الذي يودّ أن يصل إليه الدارسون بالثقافة الثانية يعتمد بشكل كبير على هؤلاء الدارسين أنفسهم. فالبعض يكفيه مجرد المعرفة، والبعض الآخر يرغب في دراسـة اللغة في وطنـها. ومن ثم يتطلعون للوصـول إلى مستوى من القـدرة اللغـوية والثقافية يمكنهم من الاشتراك والاندماج مع متحدثي اللغـة بشكل لا يقـل كثيراً عن مستوى أهل اللغة ومتحدثيها.

أنّ البعض يتطـلع إلى التزوّد برؤية اجتماعية واضحـة تمكّنه من تحصيل المعلومات والمعـارف الثقافية التي تسـاعده على التعامـل مع هذه اللغة. وهذا يعني أن ما يقدم من الجانب اجتماعي، ينبغي أن ينتقي ويختار في المقررات، في ضـوء حاجات الدارسين واهتماماتهم وأهدافهم من تعلّم اللغة والثقافة".

ويمكن أن نجمع من خلال هذا أنه إذا كان للغـة مستويات، فإنّ للبنية اللغوية الاجتماعية أيضاً مستويات، حيث لـها مسـتوى حسي ومستوى تجريدي معنوي، ولـها مستويات تبدأ بالفـرد وتتسع للمجتمع. ومن هنا ينبغي وفي المرحلة الأساسية من إعداد برامج تعليم العربية للناطقين بغريها، اعتماد التدرج في تعليم اللغـة بمستويات، من الحسي إلى المعنوي ومن الفرد إلى إلى المجتمـع الأوسع. ومن ثّم ينبغي أن يضبط المحتوى السوسيولساني بالإطار اللغوي الأساسي؛ بحيث يؤدّي الارتفاع بالمسـتوى الاجتماعي في المقررات إلى الارتفاع بالمستوى اللغوي.

البنية للسوسيولسانية واحتياجات المتعلمين غير الناطقين باللغة العربية:

تتأسس البنية السوسيولسانية كما هو معروف على”الربط بين اللغة بوصفها نظاما وبين الجماعة المستخدمة له والمؤثرة فيه. وتتجلى إمكانية إبراز أهمية الدراسة الاجتماعية للغة، وفي الاهتمام بأبعاد تلك الصلة القوية وأشكالها في إطار علم أطلق عليه (علم اللغة الاجتماعي) أو (علم اجتماع اللغة). وفي إطار الترابط بين اللغة ومحيطها، وفي علاقة بتعليم هذه اللغة للناطقين بغيرها، يبقى الاحتياج المركزي لتكوين أرضية مناسبة لطوير الكفايات المطلوبة لهذا المتعلم، هو التمكن من فهم المحيط الذي تتوالد فيه هذه اللغة وتتطور، حيث يمكن اعتباره مؤسسة غير منظمة لحد ما لتحديد بعض ملامح اللغة العربية. لأن العلاقة بين اللغة والمجتمع هي علاقة تأثير وتأثر. وأي موقع احتله هذا المتعلم في إطار هذه الثنائية، سيخدم تعلمه لهذه اللغة أو على الأقل التمهيد لاستعداد تعلمي.

فالحركة التي ستتحكم في العلاقة بين المتعلم العربية غير الناطق بها والمجتمع، ستشكل مجموعة من الأفكار الاجتماعية والدعائم النفسية اللغوية، مما سيطور هذه العلاقة إلى مستويات متقدمة من الاستعداد لتلقي اللغة العربية. لكن الملاحظ على كثير من كثب تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها أنها تفتقد للنظرة الاجتماعية التي يحتاجها المتعلم إلى حدا ما. كما يحتاج هذا المتعلم أن تكون المقررات التي أُعدت خصيصا له، متنوعة في مداخلها أثناء استحضار المكون السوسيولساني في إعداد هذه الكتب التعليمية. وتجاوز المنهجية الآلية التي تعتمد على نظام جاف في التأليف.

ومن الأساسيات التي يحتاجها متعلم العربية غير الناطق بها في البرامج المعد لهذا الغرض،”تحديد بعض المواقف التي يُتوقع أن يمر بها الدارس من غير الناطقين بالعربية في تعامله اليومي، وفي المواقف العامة الأخرى التي يواجهها أثناء التعامل مع الناطقين باللغة العربية. ويقصد بالمواقف؛ تلك التي يشترك فيها معظم الدارسين الأجانب عند زيارتهم للبلدان العربية أو اتصالهم بثقافتها".وبذلك تكون هذه المقررات قد استبعدت بعض المواقف التي لا يحتاجها هؤلاء المتعلمون. كما تحتاج هذه الفئة من المتعلمين في برامجها الدراسية لتعلم اللغة العربية،”تحديد المفردات الأساسية التي تلبي حاجيات التعلم، والتي تمكنهم من الاندماج والانفتاح على المحيط الذين يتعلمون فيه. وبالتالي وجب التفريق ههنا بين مستوين من التعامل مع هذه المفردات:

أولهما مدى الاستخدام، وثانيهما درجة الفهم.

والذي سيحدد بنية هذه المفردات على مستوى الاستعمال والفهم هي البيئة، إذ فيها سيتم استخدام هذه المفردات وفيها ستعالج مستويات فهمها. وهذا لا يعني أن هذه المفردات يجب أن تتشبع بالخصوصية المجتمعية لعامية محددة، بل يجب أن تراعي مسألة الفهم في كل الأقطار العربية. وإذا كان الاتصال هو الغرض الأساسي الذي أقيمة من أجله اللغة، فإن الاتصال الذي يبتغيه هؤلاء المتعلمون الذين لا يمتلكون ناصية اللسان العربي هو الاتصال مع الناطقين به. وهذا ما يؤكد إصرارنا على استثمار المكون السوسيولساني في برامج تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، والبدء بما يتيحه المجتمع لتعلم هذه اللغة، لأن الاندماج في مدخلاته ومخرجاته في الأخير؛ هو الهدف من تعلم هذه اللغة.

وفي إطار الحديث عن البنية السوسيولسانية للبلدان العربية التي ندعوا إلى استثمارها في بناء البرامج والمناهج التعليمية لغير الناطقين بالعربية، وجب أن نستحضر خصوصية هامة لهذه البنية، وخاصة ما يتعلق فيها بالتداخلات اللغوية من حيث الثنائية والازدواجية اللغوية، حتى إذا خرج هذا المتعلم وانفتح على المحيط يدرك هذه الخصوصية. ونقصد هنا الجانب الفرنكفوني الذي يهيمن على مجموعة من الجوانب الأساسية في الممارسة اللغوية الاجتماعية بالمغرب خاصة.”وقد نسلم (أو لا نسلم) بأن للفرنسية دورا خاصا في المحيط اللغوي المغربي، (بالنظر إلى اللغات الأجنبية الأخرى). ولا يمكن أن نقبل الاختزال اللغوي الأحادي. إن قصدنا ليس إيقاف النقاش اللغوي حول التوازنات اللغوية ومشروعيتها وعلاقتها بالمشروع المجتمعي". بل في اختيار العصارة اللسانية التي يمكن أن توصل المادة اللغوية لمتعلم اللغة العربية غير الناطق بها. وبالتالي توفير برنامج دراسي يستجيب للآليات الملائمة للتعلم الفعال.

والجدير بالذكر أن”بعض واضعي برامج التدريس ينطلقون من اعتبار الظاهرة اللغوية ظاهرة سلوكية، مثلها مثل كل السلوكات البشرية، خاضعة للوصف والتصنيف والإحصاء، ومستجيبة للقواعد السلوكية التالية:

كل مثير يولد استجابة
كل استجابة يمكن أن تتحول إلى مثير جديد
تكرار الاستجابة لمثير ما تعزز العلاقة بينهما

وبهذا شكَّل المتن اللغوي CORPUS منطلق الدرس اللساني السلوكي ومدارس تدريس اللغات أيضا".

وعلى أساس هذه المقاربة التي تنهل من علم النفس التربوي، نطرح احتياجا آخر لمتعلم هذه اللغة غير الناطق بها، ولا يتعلق الأمر هذه المرة بإقحام المكون السوسيولساني والنهل منه في البرامج الدارسية، وإنما اعتماد مجموعة من الدروس التطبيقية التي تجعل من المجتمع والممكنات اللغوية التي يتيحها وسيلة لتعلم هذه اللغة واكتسابها. على اعتبار أنه كلما تكرر المثير اللغوي الذي هو المجتمع في هذه الحالة، كلما ترسخت البنية اللغوية على مستوى المكونين المعجمي والصوتي.

لكن هذا لا يعني أننا ندعو إلى تعلم العامية، باعتبارها اللغة المهيمنة على أنساق التواصل في الوسط الاجتماعي،”لأن الطريق الصحيح لتعليم العربية هو تعليم الفصحى ؛ ومن يجيد الفصحى سوف يفهم العاميّة، ومن يتعلّم العامية فإنّه ليس بالضرورة يستفيد منها في تعلّم الفصحى بالقدر المناسب. أما استثمار لغة المجتمع؛ فنقصد به المكون اللغوي الذي لا يمكن فصله عن الثقافي في المحيط الاجتماعي، حيث قد يتداخل الرمزي باللغوي، وهذا مستوى آخر يؤكد على استثمار المكون السميائي أيضا في هذه البرامج الدراسية. أما العامية التي سيسمعها المتعلم، يجب أن ننتقي منها ما يخدم الجانب الصوتي والمعجمي لإعداد أرضية لتعلم العربية الفصحى. ونضيف هنا أنّ تعلّم الفصحى أسهل من تعلّم العامية بكثير، وليس صحيحا ما يشاع من أنّ العاميّة أسهل من الفصحى، إلى جانب ذلك هناك عاميات وليست عامية، هذا ما يدعو إلى انتقاء هذه العناصر السوسيولسانية المتعددة واختيار ما يخدم تعلم اللغة. بينما الفصحى لا تطرح هذا التعدد لأنها واحدة.

أما فيما يتعلق باللغة الوسيط التي سيضمر به المكون السوسيولساني ويصل للمتعلمين،”فإن الاستعانة به عند تأليف كتاب لتعليم العربية لغير الناطقين بها؛ فهي مسألة مرفوضة كما يرى الأستاذ رشدي أحمد طعيمة. وبذلك سيصبح محتواه صالحاً لدارسين مختلفي اللغات متبايني الجنسيات. ومبررات هذا الرأي كثيرة لعـل من أهمها تثبيت الكلمة العربية في ذهن الدارس، وتدريبه على بذل الجهد في تعلم اللغـة، وتمكينه من أن يفكـر باللغـة ذاتـها وبطريقة مباشرة من خـلال عملية عقلية واحـدة وليس عـدة عمليات.

استنتاج:

يتأسس تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها على مجموعة من المبادئ التي تنطلق من مرجعيات متعددة، أهمها الإطار السوسيولساني الذي يحلل كل المكونات اللغوية في علاقتها بالمجتمع بشكل إجرائي. واستثمار في بناء المناهج والمقررات التعليمية للفئة غير الناطقة باللسان العربي؛ سيكسب المتعلم الكفايات اللغوية اللازمة. هذا بإقرار البحث اللساني الاجتماعي الذي يقوم أساسا في وصف الظاهرة اللغوية وتحليلها على مبدأ الفصل بين نظامين مختلفين: نظام لغوي منطوق وآخر مكتوب. وهذا ما يدعو إلى تبني مدخل شفوي في تقديم للتراكيب النّحويّة، بصورة عامة، مع التركيز على الحوارات المصطنعة والتدريبات الشفوية وحفظ الأنماط اللغوية ومحاكاتها، والاستعانة بالأنشطة التواصلية التي تتيحها اللغة الاجتماعية المعزولة لهذا الغرض التعليمي. إضافة إلى تحديد بعض المواقف التي يُتوقع أن يمر بها الدارس من غير الناطقين بالعربية في تعامله اليومي، وفي المواقف العامة الأخرى التي يواجهها أثناء التعامل مع الناطقين باللغة العربية.

وقد ركزنا بالأساس على استثمار علاقة اللغة بالمجتمع نظرا للإمكانيات التي تتيحها البيئة في تعليم اللغة، وأن يكون هذا البرنامج منطلقا من المجتمع لأن تعليم اللغة سينتهي بغرض الاندماج فيه في الآخر. ومن خلال هذا الجرد الموجز للتصورات التي عرضناها بشكل عام، فيما يخص استثمار المكون السوسيولساني في برامج تعليم العربية للناطقين بغيرها، بمكن اعتبار اللغة الاجتماعية المنتقاة، في علاقتها في المكون الثقافي مدخلا رئيسا لضخ دم جديد في مقررات تعليم اللسان العربي لغير أهله. لأن هذه العلمية تستثمر رؤية شمولية تقارب إعداد هذه الوسائل التعليمية، بناء على جرأة تجعل اللغة التي يفرزها المجتمع -في إطار إخضاعها لمبدأ الانتقاء- منطلقا لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. مما سيجعل علمية الإعداد هذه موجهة ومرشّدة وفق مجال حيوي تتلاقى فيه كل الممكنات، وهو المجتمع.

مقترحات:

بناء على مخرجات هذا البحث، نهتدي من خلال احتكاكنا بالأبعاد التعليمية التي يتوخى تحقيقها إلى مجموعة من الاقتراحات، والتي نرى في تنزيلها تجاوزا لمجموع من الإكراهات المطروحة فيما بتعلم بتعليم العربية للناطقين بغيرها؛ بناء على استثمار المكون السوسيولساني الذي اعتبرناه مدخلا لتجويد كل الكفايات المتعلقة بمكونات اللغة العربية عند الناطقين بغيرها. ومما اهتدينا إليه ما يلي:

لازالت برامج تعليم اللغة العربيّة للناطقين بغيرها في حاجة ماسّة للتطوير من حيث تعزيز مضامينها باعتماد المعطى الاجتماعي اللغوي. مما يدعو إلى تكوين فرق بحث ولجان مختصة لهذا الغرض، وتجنب الارتجال والعشوائية، لتواكب هذه المقررات المتغيّرات الحديثة، ذات الأثر المنشود في المناهج التعليميّة، لاسيما في تعليم اللغات الأجنبيّة وتعلمها.

تحتاج هذه البرامج للضبط والتخصيص، كما تحتاج إلى إعادة صياغةٍ سلوكيّةٍ ذات بعد لساني اجتماعي، تحدّدُ حاجات المتعلّمين المُتمثلة في التعرّف على ما تتميّز اللغة العربيّة، من خصائص تميِّزُها عن سواها في الاستعمال الاجتماعي داخل البيئة العربية، واستثمار ما يخدم هذا الجانب من حيث الجمل والتراكيب.

مراعاة أسس إعداد هذه البرامج باعتماد المكون السوسيولساني والتعرف على المراحل التي سبقت إخراج الكتاب في شكله النهائي بما في ذلك الدراسات والبحوث التي رجع إليها المؤلفون وكذلك المنطلقات المستند إليها في الإعداد، لبناء نظرة شاملة تجنب هذه المقررات تكرار الأخطاء السابقة.

التدقيق في محتوى هذه البرامج من حيث المادة اللغوية والثقافية، واعتبار مسألة اختيار المحتوى على الأساس المتصل بعلم الاجتماع اللغوي وتنظيمه، مدخلان أساسيان لإعداد هذه البرامج.

مراعاة المهارات اللغوية، ويقصد بها المهارات العامة والدقيقة التي يتوخّى الكتاب إكسابـها للدارسين، على المستويين المسموع والمنطوق، والقراءة والكتابة.

إعادة النظر في طريقة التدريس والتعرف على طريق ناجعة في تعليم في تعلم العربية للناطقين بغيرها، والتي تضمن جودة تعلمية تنمي الكفايات المنشودة عند المتعلمين.
تنزيل الإطار النظري لهذه المضامين إلى الحيز الإجرائي، من خلال تحديد بعض أنواع التدريبات اللغوية وعددها ومدى قدرتها على تثبيت المهارات اللغوية التي يسعى المدرس لاكتسابـها للدارسين. وكذلك التعرف على أسلوب التقويم الذي يمكن من خلاله معرفة مدى تحقيق أهداف الكتاب.

البيبليوغرافيا

عبد الرحمن بن إبراهيم الفوزان، إعداد مواد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بـها، دط 1428،
الأسس المعجمية والثقافية لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، رشدي أحمد طعيمة، سلسلة دراسات في تعليم اللغة العرية، مكتبة مكة المكرمة، 1982.

محمود فهمي حجازي، مكانة اللغة العربية بين لغات العالم المعاصر. بحث ألقي في الندوة العربية الألمانية بالقاهرة، مارس 1977.

تمثلات اللغة والمجتمع في البيان والتبيين، عيسة عودة برهومة. منشورات الجامعة الهاشمية بالأردن2007.

عبد الكريم بوفرة: علم اللغة الاجتماعي، مقدمة نظرية، مطبوع جامعي، جامعة محمد الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، المغرب، الموسم الجامعي2011-2012م، ص:11.

علم اجتماع اللغة، توماس لوكمان، تر أبو بكر أحمد باقادر، علامات ج 16، 1995.

عبد القادر الفاسي الفهري، اللغة والبيئة، منشورات الزمن، الكتاب 38، 2003.

دليل عمل في إعداد المواد التعليمية لبرامج تعليم العربية د. رشدي أحمد طعيمة.

المراجع المترجمة:

C.A. ferguson , 1971, arabic langugage i, the encycopedia britannica
Jean Dubois et autres: Dictionnaire de Linguistique, Larousse, Paris,1991
FISHMAN J.A: the soilogy of language. in socitéy ROWLEY. New buvy house. 1972.
Skinnre frederic. Verbal behavior. New york. Appleton- centure- Cofsts. 1957


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى