الخميس ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم عزة رشاد

رؤية

بمجرد أن ينقر ظهري بأصابعه المدببة أو يجذبني من الفراش بحدة، فأدلي ساقيّ نحو الأرض حيث تنزلق قدمايّ في الشبشب الذي يكون قد وضعه لي في المكان الملائم لهما تماماً، أعرف أننا في يوم السبت. فقط في صباح السبت يصبح أبي عصبياً، يوقظني مبكراً، مع أنه يوم عطلتي من المدرسة، ويبدو مهموماً ومهتماً بأشياء كثيرة.
يحممني ثم يلف خصلات شعري المبتلة حول نفسها لعدة ساعات، تصيبني بالسأم الذي أنساه بمجرد أن أرى في المرآة ما تضيفه الخصلات الملتوية لملامحي من كبرياء يذكرني بالملكة "ماري أنطوانيت" التي أراني صورتها ذات مرة في كتاب قديم وهو يقول لي كلاماً غريباً عن جمال الوجوه الذي يخفي بواطن القلوب، لكنه لم يفصح لي قط لماذا يصر على هذه التسريحة لي في يوم السبت على خلاف الضفيرة المعتادة في الأيام الأخرى؟
بعد الإفطار يقوم بكيّ فستاني وقميصه، ثم يعلقهما على الشماعة حتى لا يتكرمشا من جديد. يرتشف شايه الساخن الذي يلسع لسانه في الغالب وهو يعد طعاماً سريعاً للغداء.

يقول: اليوم "تفليتة".
ما يعني أننا لن نأكل شيئاً عليه القيمة.
أثناء ذلك يعد لجدي طعاماً خالياً من الملح والدسم كما أوصى الطبيب، وينهرني إذا أطلت حديثي معه، أو أخذت المرآة لأضعها في حجره، ثم أرفعها قليلاً، أديرها يميناً لأريه بلكونة أبلة عبلة جارتنا الممرضة الشابة التي تحسب أصص ورودها النامية تخفي كتفيها المكشوفين، في القميص ذي الحمالتين الرفيعتين، أو يساراً لأريه نافذة الأستاذ رفعت جارنا العجوز الذي صنع لنفسه عائلة لا بأس بها من القطط الصغيرة التي يناديها بأسماء أبنائه الغائبين.

هذه المرآة الصغيرة سببت كثيراً من شكاوى الجيران الذين حسبوا أني وجَدي نتطفل علي خصوصياتهم، فأغضب ذلك أبي غضبة قصيرة، أذعن بعدها حين أدرك ما تعنيه هذه المرآة لجدي، فهي الشيء الوحيد الذي يخفف من وحشة رقاده الطويل. يضحك جدي كثيراً من مغامرات جيراننا القطط ويضحكني معه كذلك، ونتظاهر إذا فاجأنا أبي بأننا نضحك من أشياء أخرى. ثم نتعاون في إخفاء عالمنا اللامع.

بيني وبين جدي كثير وكثير من الأسرار، فكل الأشياء المدهشة التي أراها أوأسمعها في الشارع أرويها له، ولا أرويها لأبي.

لم أجرؤ أن أضع يدي في وسطي ـ ثم أشير بأصابع يدي الأخرى إشارات قبيحة مقلدة بائعة الجرجير، في شجارها مع عسكري البلدية الذي يتلذذ بنكش قفص خضرواتها ـ كما فعلت أمام جدي الذي وضع يده على فمه كاتماً ضحكه خشية أن ينتبه لنا أبي.
يقول أبي أن خيالي يجمح كثيراً، أما جدي فيصدق كل شيء، حتى حكاياتي عن العفاريت التي تخطف الصغار من أحضان أمهاتهم.

أبي يقصر كثيراً في متطلبات جدي يوم السبت، وجدي يعرف ذلك، لكنه لا يغضب، لأنه يحبني، ويحب أبي لأنه طيب، يعمل ويتعب، ويأتي لنا بكل الأشياء التي نحتاجها، ولا يعبأ كثيراً بمصمصة شفاه أم حمزة حين تراه ينشر ثيابنا فوق حبال الغسيل ثم يعود ليجمعها بنفسه في اليوم التالي. ولا مثيل لرائحة فطير الجبن والنعناع الذي يعجنه ويخبزه بيديه، كما أنه كان يضحك معنا، أنا وجدي، أحياناً. لكن ذلك توقف فقط منذ عدة أشهر...

يومها كان يصغي لكلمات المحامي بغضبٍ، دمج ملامح وجهه وجعله يلقي سماعة التليفون بعنف.
لا أعرف لماذا يهتم بكيّ ملابسه ولماذا يبخها بكل هذا العطر من أجل ملاقاة من تغضبه على هذا النحو؟
المرة الأولى التي قبلتني فيها جفلت وابتعدت، جمالها وزينتها ربما ساهما في ذلك أيضاً.

بعد ذلك صرت أترك لها خدي كي تقبله كما ترغب، وفي الحقيقة أردت أيضاً أن أقبلها كما أفعل عادة في مثل هذا الموقف كي أبدو بنتاً مهذبة، لكن نظرة واحدة لوجه أبي أشعرتني أن ذلك لن يسره، مع أنه يصافحها بطريقة تبدو عادية جداً.
يصافحها ثم يجلسان فترة الساعات الثلاث صامتين.

تسألني أحياناً عن جدي وعن أصحابي، وفي الغالب لا أجيب سوى بكلمة أو بكلمتين، وحينما تسألني عن الدراسة يتدخل أبي بوجه يوشك على التبسم ويأخذ في جرجرتي في الكلام شيئاً فشيئاً إلى كثير من التفاصيل التي تخص مدرسة اللغات التي يبدو أمامها فخوراً بها مع أنه يشكو لجدي دائماً من مصاريفها الباهظة.
ربع ساعة أو نصف ساعة على أعلى تقدير لن يتبقى هنالك بعدها أي كلام.
أتركهما وأجري، باتساع النادي وبكل الاتجاهات، حتى تنتهي بقية الساعات الثلاث التي كانت تبدو لي طويلة ومملة قبل أن أعرف "مريم".

الشيء المختلف في مريم عن زميلاتي بالمدرسة هو أنها لا تغضب لأتفه الأسباب، على عكس أولئك اللاتي يرتدين ثياباً زاهية ويتحدثن من أطراف أنوفهن، غاضبات من أتفه الأشياء.

لم أنتبه لها كثيراً حين رأيتها تجلس بجوار رجل على مقعدٍ، مقابل لآخر تجلس عليه امرأة تشبهها، كحال معظم الأولاد والبنات الذين تجمعهم حديقة النادي عصر يوم السبت.
ذات مرة سمعت صياحاً آتياً من ناحيتهم، ورأيت أناساً كثيرين يندفعون نحوهم، فأدركت أن شجاراً دار بين الرجل والمرأة اللذين يخصانها، إلتم على إثره هذا الحشد دافعاً بمريم خطوة فخطوة إلى الوراء، اقتربت منها ووجدت يدي في يدها...

رحنا نركض ونركض، ثم توقفنا في مكان قصي. رسمتُ على الأرض خطوطاً طولية وعرضية فبدأت مريم تحجل بقدمها في المربعات المتكونة دون أن تقول شيئاً. وفي المرات التالية كنا نلعب معاً دون أن نقول أي شيء تقريباً.
لا جد لمريم، هذا ما أخبرتني به، أما الشيء الذي لم أسألها عنه فهو ما يعنيه ألا يكون بالبيت شخص ثالث. مريم لا تتكلم كثيراً، ولا تضحك سوى نادراً.
عندما أشعر بتقدم الوقت وأعود، أجدهما مازالا صامتين كتمثالين رخاميين، وحدها المرة الأخيرة رأيتهما يتحدثان، ولمحت شبح ابتسامة تتردد فوق وجه أبي، سرعان ما تلاشت بمجرد أن اتجهت هي لسيارتها الكبيرة وشرعنا نحن، أبي وأنا، في العودة إلى البيت بخطوات سريعة.

يقول جدي: أمكِ طيبة لكن الظروف...
يقاطعه حزن أبي: بعد كل ما عملَته؟
يرق صوت جدي وهو يقول: هي أمها. لن يمكنك محو ذلك.
يلملم أبي كرمشات وجهه وأساه إلى غرفته ويغلق الباب.

لا أعرف إن كنت سأحب يوماً تلك المرأة، التي يدغدغ أذني الرنين الخافت لحليها الذهبية وهي تقبلني كما وهي تعطيني أنواعاً مدهشة وغالية من الحلوى، أم لا؟
ولا أعرف حقيقة صلتها، بذلك الطيف الحنون الذي مازال متبقياً منه بذاكرتي نتف ملامح لامرأة لا تشبهها كثيراً كانت تأتي لتقبلني في فراشي قبيل أن أنام، أو طبيعة ما يربطها بتلك الصورة التي أتذكر بالكاد أن أبي نزعها عن الجدار منذ فترة طويلة، فترك نزعها مربعاً داكناً مغايراً لباقي طلاء الجدار.

لا أظن أيضاً أني أفهم كل ما يقولونه عن المحكمة وحكم الرؤية.
أما الشيء الذي أخشاه فهو أن لا تأتي مريم، فعندئذ لن يكون هنالك من معنى لكدي في جمع أشيائي الصغيرة كي نلعب بها. عندئذ ستعود الساعات طويلة ومملة، ولن يكون لديّ ما أحكيه لجدي عند عودتي مساء سوى حكاية قديمة عن العفاريت التي انتزعت الحب من قلبيّ رجل وامرأة وأحالتهما إلى تمثالين من الرخام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى