الأحد ١٥ تموز (يوليو) ٢٠١٨
بقلم سلوى أبو مدين

عفوك ألمي

كان عهده بها قديماً حينما كانت تلعب أمام ذاك الزقاق الضيق، وهي تُمسك بيديها الصغيرتين على قطعة الحلوى، خشية أن تقع في التراب وتتسخ، وضفائر شعرها الأحمر المجدول تلونه شريطة حمراء، كان يراقيها من بعيد مع فتيات الحي، الصغيرات وهن يتجمعن ساعة العصر، ويتبارين في السباق.

كان منظرهن يحفزه على الاستمرار في مراقبة لعبهن وعبثهن، وسرعان ما يغلق الباب عندما يسمع أبيه منادياً بصوته المجلجل، الذي يكاد دويه يحدث زلزلا في الحي الذي يقيم فيه.
فسرعان ما يركض إليه وهو يرتعد ويجيب بصوتِ مبحوح!

ــ ها أنا قادم يا أبتي.

يقف متصلبا أمام غضب والده وهو يتصبب عرقاً ويرتجف مثل عود قصب، ويتعتع في كلامه!

لحظات ويخرج أبوه نقوداً معدنية يلقيها إليه..

ـ قائلا: أمسك.. إذهب على الفور.. واشتر لنا طعام العشاء.

وبدون أية إجابة يخرج كمن يسابق الريح يوصد الباب خلفه، ثم يعود بعد دقائق يحمل في يده طبقا معدنيا مغطى، ويقف أمام أبيه وصدره يعلو وينخفض، ثم يلزم حجرته الموحشة الضيقة المُعتمة، بينما الفتيات الحي يلهين أنفسهن باللعب، فيحاول اختلاس نظرات سريعة من خلف نافذته الصغيرة المُتربة، وهو يراقب ضحكاتهن ولعبهن.
مرت الأيام بأسرع مما كانت.

ولازال لا يبرح تلك العادة التي ألفها، فقد أصبح في العشرين من عمره.. وهو ينظر من خلف الشقوق التي حفرها الزمن وأحدثت فيها تصدعات.

سعال طويل.. يعقبه صوت منهك ينادي بتعب وتوجع!

تستيقظ العمة مسرعة متجهة نحو الصوت.

تدخل مرتابة.. وتنادي: سعد، سعد، ألا تسمع صوت أبيك وهو ينادي.. إذهب لعله بحاجة إليك.. هيا يابني تتراجع كلمات في فمه.. وهو يحاول دفعها.

وبعد تردد يسأل أخبريني يا عمتي.. هل مازالت سعدة تقيم مع والدها وزوجته؟

ألقت العمة من صدرها تنهيدة طويييييلة أجابت: نعم..

بعد أن أصابتها الحروق وشوهت معالم جسدها..

لم يتقدم أحد للزواج منها!

ولكن لماذا تسأل؟

أجاب: لا شيء، سأذهب وأرى ما بال أبي؟

ضوء ضعيف ينبعث من منزل متهالك، وحجرة شوهت الرطوبة معالمها.. ومتكأ.. تعلوه وسادة قديمة.. وقطعة من صوف الخراف فوق أرضه الأسمنتية.

الساعة تجاوزت الحادية عشرة مساءً، ولازالت سعدة تتأمل تلك الحروق التي تركت آثارها على رقبتها وجسدها رغم مرور سنوات طويلة!

أطلقت من فمها آهة وهي تحاول أن تنسى ذاك اليوم الكئيب، الذي كاد أن يودي بحياتها يوم قادتها زوجة أبيها لطهو طعام الغذاء وهي ابنة الثانية عشرة!

ولازالت الصور المؤلمة تتراقص أمامها، ولا تعلم سبب تلك الدموع التي أطلقت لها العنان لتنساب، أهي دافع الألم الذي عاود شريط الذكريات أم للتشوهات التي أحدثتها تلك الحروق؟

ولا تعلم مصيرها حتى اللحظات التي ترقب طلة القمر وهو بدر مكتمل يختبئ بين السحاب، ابتسمت نصف ابتسامة انداحت شجونها حاولت نفضها، لكنها خانتها دموعها انسفحت لتغسل آلامها التي سكنت نفسها طويلا.

وحين يلوح لها فجر اليوم التالي.. تسرع إلى مخدعها وتلقي برأسها على أريكة خوص، تغط في سبات عميق حتى ساعات متأخرة من النهار محاولة لتنسى ذكرى قديمة في ثنايا ذاكرتها!


مشاركة منتدى

  • بجد من القصص التي أعشقها من قصص الأستاذة سلوى ... قصة رائعة تحمل في فحواها حرمان .. تعطش .. ألم وإنكسار لطلما كل واحد منهم يحلم على حدا من الأحلام البسيطة .. والفقر يعم البيت والقسوة من أب أو زوجة أباً كانت قاسية .. أستاذة سلوى نشكركي على كل ماتقدمينه من قصص جميلة تحمل في طياتها معاني أجمل .. أدعو الله لك مزيد من التقدم والنجح والإزدهار .. أحبك 🌹🌹

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى