الاثنين ٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم عزة رشاد

منتصف أغسطس

لم تنزعج حين رأتنا!
صفٌ من نساء غريبات يقتحمن عليها بيتها على هذا النحو، مكانها لكنت انزعجت، لكن الانفراج البسيط لشفتيها وشى بابتسامة مرحبة:
 أهلاً وسهلاً
ثم قادتنا إلى الداخل، حيث توزعنا على كنبتين بلديتين منجدتين بالكريتون المشجر.
ودون أن تلقي نظرة متفحصة على الحمّام، دون حتى أن يبدو عليها أنها تفكر بذلك، أشارت نحوه قائلة:
 إتفضلوا
نهضتْ على الفور واحدة من زميلاتي، بينما توارت صاحبة البيت عن أعيننا عدة دقائق أتحن لي فرصة تأمل المكان، في محاولةٍ لتجاوز الحنق الذي لازمني طيلة الثمانية وأربعين ساعة الأخيرة، منذ تحرك بنا الأوتوبيس من ميدان التحرير.

كل شيء كان يلهث.. الناس والسيارات، وأيضاً دفقات الصهد التي كانت تبخها شمس منتصف أغسطس. بدا لي أن الإسكندرية قررت أن تعاقبنا لأننا أردنا أن نأخذها بهذه العجلة، أو بهذا الاستخفاف، خميس وجمعة.. عطلة نهاية الأسبوع، وأول إجازة لي منذ سنين.

أمضينا أغلب الوقت داخل الأوتوبيس بسبب زحام الطرق، وأغلقت معظم المنتزهات الجميلة التي كانت تستقبلنا من قبل أبوابها في وجوهنا، وتسبب الانتظار الممل بالمطاعم في وأد شهية معظمنا للطعام، أما البحر فأطفأت لهفتنا عليه القناديل الحارقة.

ضاق صدري واكتنفني شعورً بالاختناق وندمت على اليوم الذي خسرته من رصيد إجازاتي "الحافل بالطبع" ولم أتنفس الصعداء إلا حين أقفلنا عائدين في طريق زراعي طويل اندهشت أن ينتمي للإسكندرية، التي ما كانت تعني لديَّ سوى البحر.
الشيء الوحيد الذي تمنيته أكثر من العودة للبيت فوراً هو أن آخذ عينة من هذه التربة التي تطل منها عرانيس الذرة، مضيئة مبهرة، لاختبارها بمركز البحوث الذي أعمل به، وبالفعل واتتني الفرصة لذلك حينما توقف المسير، بعد ثلاثة أرباع الساعة، لاستراحةٍ جبرية، بسبب عطل طارئ بالحافلة، ركن أثناءها زوجي مع قسم من زملائنا الرجال لمقهى فقير لاحتساء الشاي، وتوجه قسم آخر للمسجد بغرض الصلاة ولاستعمال المرحاض، بينما تطوع عجوز من أهالي المنطقة وأخذنا "أنا وزميلاتي" لبيت ابنه.

وجدت نفسي في مدخل يشبه صالة صغيرة لبيتٍ اضطررت لهبوط درجتين من الحجر كي أصل لبابه المغروز بالأرض. الشباك الوحيد بهذا المكان لا يبدو مطلاً على أي شارع. الجدران مطلية بجير سماوي اللون، وخالية من أية لوحات أو ساعات حائط. لاشيء سوى صورة فوتوغرافية بحجم كف اليد يؤطرها برواز ذهبي شاحب ويطل منها أكثر من عشرين وجه. الطاولة الوحيدة خشبية، قديمة، وعليها أشياء من كل نوع: بكرات خيوط بكل الألوان، أكواب فارغة، أوراق مهملة من صحف قديمة.
لاحظت عندما ظهرت صاحبة البيت أنها تماثلني في العمر وذات ملامح مريحة.
كانت ترتدي جلباباً بيتياً من القطن المشجر، ذا كمين قصيرين ومنفوشين، يقيناً أنهما كانا المفضلين لديّ عندما كنت صغيرة.

بدا شعرها مبللاً ولامعاً كأنها أنهت استحمامها قبيل وصولنا مباشرة.
بخطوات هادئة ـ جعلتني أسخر من طقطقات ركبتيّ المؤلمة من جراء المشي السريع ـ تقدمت حاملة صينية عليها أكواب عديدة من الكركديه الأحمر المثلج وشرعت في تقديمه لنا.
تذكرت عندما فاجأني المذاق الحلو كم كنت أحبه......

كانت أمي تغسله وتنقعه لعدة ساعات ثم تغليه وتحليه وتبرده ثم تقدمه لنا في النهاية في كئوس كبيرة وشفافة، كنا "أنا واخوتي" نحبها هي أيضاً ونتخاطفها بنفس اللهفة والمرح اللذين كانا يجعلاننا نعتلي الجسر في العصاري لنسابق فراشاته الملونة، أو نتسابق في الركض على جانبي طريق الشجيرات، مأخوذين بملاحقة ظلالنا المتطاولة فوقه ثم، عندما يدخل الليل، نثب فوق بعضنا أمام الفاترينة الزجاجية لأول محل ألعاب يظهر ببلدتنا. كان ذلك عندما كنا صغاراً نعيش كل لحظة بفرح وبدون هموم التفكير في اللحظة التالية، عندما كان الوقت بلا حساب، وقبل أن أستبدل كركديه أمي بزجاجات المياه الغازية التي لا تحتاج إلى تحضير.

أدهشتني نداوة طيبة ومفاجئة بالجو، لم أحس بمثلها، لا في القاهرة ولا في إسكندرية منتصف أغسطس الصاهدة، ولم أعرف إن كان مصدرها هو ذلك الشباك الذي لا يطل على أي شارع، أم الكركديه المثلج أم زخم الطفولة الذي زج بي الطعم القديم نحوه أم حبات الماء المتساقطة من شعر تلك المرأة!؟ ذلك أنها جذبت كرسياً وجلست بالقرب مني فيما راحت زميلاتي تتناوبن الجلوس والنهوض لاستعمال الحمام.
بإيقاع هادئ حكتّ لي أنها من قرية بعيدة تابعة للغربية، أتت بعد زواجها لتعيش بالإسكندرية.

ضحكتُ في سِري من حقول الذرة التي تعتبرها جزءًا من إسكندرية.
فكرتُ بأني كنت سأشفق عليها لو رأت شقتي، شقة العمر، المطلة على النيل مباشرة، التي شحذت كل إمكانياتي لأخذها بهذا الموقع. لابد أنها كانت ستُذهل كثيراً من أثاثها الفخم ومن ساعات الحائط البديعة التي تزين الجدران.
عرفتها بنفسي بكلمات سريعة مقتضبة، وخوفاً من أن أبدو قليلة الذوق ذكرت لها على استحياء وظيفتي الهامة بمركز البحوث، ووظيفة زوجي الحساسة، فلم تنبهر ولم تضطرب، كما يحدث في العادة مع من يسمعون بهذا لأول مرة، من يفهمون أهمية تلك الوظائف أو من يؤخذون بفخامة الكلمات المعبرة عنها. لكنها استرسلت، كأنها لم تسمعني، تحكي ببساطة عن ارتياحها للإسكندرية ولطبائع أهلها.
دق بوق الأوتوبيس فوقفتُ على الفور، مقاطعة كلامها، وأخذت في التحرك نحو الباب، رغم إلحاحها عليّ كي أكمل الكوب.
الشيء الوحيد الذي جعلني أتمهل هو الصورة، إذ اكتشفت عندما اقتربت منها أنها صورة زفافها.
ابتسمت لي وهي تشير بسبابتها نحو زوجها وأخيها وعمها وابن عمها وخالها و...

لاح بذهني في تلك اللحظة وجه المصور السينمائي الذي استأجرناه خصيصاً لأجل صور زفافنا، ابتدع أكثر من عشرين لقطة مختلفة...
في أكثر من عشرين لقطة كنا وحدنا.. أنا وزوجي، نتبادل الجلوس والوقوف، حركة الأذرع والأكف، ونعدِّل من موضع باقة الورد، ومن خلفيات الصور.
ما حدث في حفل الزفاف نفسه كان مشابهاً لذلك، وجدنا نفسينا نجلس على كرسيين رائعين في نصف دائرة تمثل مسرحاً كبيراً، مبطناً بالورود النادرة ومزيناً بديكورات مذهلة، منعزلاً وعالياً، أعلى من أن تصله ثرثرات، وهمهمات المدعوين.

عند الباب تحاملت على نفسي كي أبتسم لها ممتنة على كل شيء ولم أنسَ أن أسجل اسمها وعنوانها في ورقة صغيرة، كنت أعلم مسبقاً أني لن أنظر فيها مرة أخرى.
عند الباب أيضاً تذكرت أني لم أستعمل الحمّام، لكني أحسست أن مثانتي كانت فارغة.

بمجرد أن صعدت درجتيّ الحجر عاودني الإحساس بالاختناق وضيق الصدر، وفاجأني الصداع من جراء مراقبتي الدءوبة لعقارب ساعتي وأنا محشورة داخل كرسي الأوتوبيس كي أطمئن إلى أننا سنصل إلى البيت في الوقت المناسب، البيت الذي ورطت نفسي بشحذ كل إمكانياتي الحالية والمستقبلية لآخذه بهذا الموقع ، وحمدت الله أن لساني لم ينزلق ويذكر لها شيئاً عن التنافس المرير بين العاملين بالمركز، ولا عن صور الزفاف التي لا يمكنني التخلص من إحساسي بأنها وسمت حياتي بوحشتها الفريدة.

رجني صوت المنبه في الصباح فقفزت بسرعة من الفراش.. ومضت أيام لم أفتح فيها نافذتي، وشهور.. شهور لا تختلف كثيراً عن أغسطس..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى