الأحد ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠١٨
بقلم سلوى أبو مدين

الاختيار المرّ

رائحة الخبز تنبعث من ذاك التنور ذي الحرارة الملتهبة.. كانت تجلس على كرسي من الخوص وأناملها البضة تقلب أرغفة الخبز بمهارة فائقة.

وتخرج الواحدة تلو الأخرى

أكسبت النار خديها حمرة شديدة.. وأخذ جبينها يتفصد عرقاً.

صوت فيه بحة ينادي: زكية.. زكية العشاء.. كانت زكية تسرح بنظرها في ألسنة النار المندفعة من التنور!

وما أن أنهت إعداد العشاء لوالديها.. حتى عكفت على ماكينة الخياطة لتخيط لفتيات الحي ملابسهن.

كانت زكية في العقد الرابع من عمرها.. لم يتقدم لخطبتها أحد.. وتعول والديها الطاعنين في السن.. وتعكف على خدمتهما.

أصوات طبول.. وغناء متواصل تصدر من المنزل المجاور.. صعدت درجات السلم.. وهي تلهث.. وصوت خلخالها يصدر إيقاعاً هادئاً.. وأخذت تنظر من جدار سطح المنزل المتآكل من الرطوبة..
قالت بنبرة يتخللها الحزن: ـ فرح فاطمة اليوم!

يا لحظي التعس!

لمعت عيناها برهة وكادت تخذلها دمعة.. ولكنها تماسكت وأخذت تدندن بنبراتها وتفتح ضفائر شعرها الأجعد الكثيف.. لتعيد ترتيبه.

ساعات طويلة مرت ببطء متكاسل.. وفجأة عم الهدوء أطراف الحي.. وأطفأت المصابيح.. انتهت مراسم حفل الزواج مازالت زكية تلتحف غطاءها الرث الممزق.. وتمعن النظر إلى وميض نجمات السماء المحاطة بالسواد.

تنهيدة طويلة ألقتها من صدرها قالت: ببحتها المعتادة يا الله.. لم يعد في الحي سوى خديجة وأنا، ارزقني يا رب برجل أقضي معه ما تبقى من عمري!

مر الليل طويلا وزكية لا تمل النظر إلى النجوم، التي أحالت السماء بوميضها إلى منظر خلاب
جاء الصباح.. بدأت الحركة تدب في الحي المتلاصق البيوت الطينية

استيقظت متعبة الجسد والفكر.. وهي تتمطى فوق فراشها الممزق.

طرقات سريعة متوالية على الباب الخشبي ذي العتبة الخضراء

مشت بخطوات وئيدة تتهادى بجسدها المكتنز لترى من الطارق؟

فتحت الباب بكسل غير معهود.. وهي تعقد خصلة شعرها المتناثر.

كانت فتاة صغيرة تقرع الباب.. وهي تمسك بيدها حلوى.. ويعلو وجهها شحوب واضح!

قالت الفتاة: ـ أمي ستأتي مع نساء الحي لزيارتكن هذا المساء أخبري الخالة.

أغلقت الباب.. أخذتها الأفكار بعيداً، زُج في نفسها إحساساً غريباً..

قالت باستفهام: نساء الحي يأتين لماذا؟

وقفت قليلا تستوعب الأمر، ثم رفعت.. كتفيها وحاجبيها تعجباً!

كانت زكية تحلم بأن تتزوج من بائع لخضرة العم (حمزة) الذي توفيت زوجته قبل عامين.. وأحلام العذارى مازالت تداعب مخدعها.

حل المساء.. وهدأت الحركة في الحي الصغير.. إلا دكان العم (حمزة) الذي أخذ يهم بإغلاق بابه.

في المساء اجتمعت النسوة في دار زكية.. ودار الحديث بين بعضهن البعض.

وسرعان ما ارتفع صوت"زغاريد".. فارتاحت أسارير زكية.. وتورد خداها خجلاً.. من شدة الفرحة وهي تقف فوق سطح بيتها المتهالك من الرطوبة!

الحمد لله لقد استجاب الله لدعوتي كم أنا سعيدة!

سوف أنير حياتك من جديد يا عم حمزة قالتها: بسعادة غامرة.

مر أسبوع.. وتلاه آخر.. والفرحة ترفرف على قلبها.. وهي تستعد لخياطة ثوب زفافها وأخذت تنثر فوقه حبات الخرز الملون.. وهي لا تكل السهر لتنجز ثوب فرحتها التي طالما انتظرتها.

قالت والدتها العجوز: غدا سوف تزفين إلى زوجك يا زكية!

ومضت نحو حجرتها ذات الضوء الخافت الذي أخذ وميضه ينخفض شيئا فشيئا.

فيما كان والدها يسرع بترتيب زينة الفرح مع بعض صبية الحي!

في تلك الليلة هجر الرقاد مضجعها.

امتزجت أحاسيس مختلفة في نفسها بين فرحة لا تقاوم وحزن دفين على السنوات الطويلة الماضية.

خمسة وأربعون عاماً مضت!

جالت بعينيها.. في الدار الصغيرة التي قضت فيها أيام الطفولة والصبا

الفرحة تقرع قلبها مثل طبول الحرب!

حجرتها الصغيرة بسقفها المنخفض ورطوبتها على جدارها

مرآتها القديمة.. وعاء معدني تنبعث منه رائحة الحناء!

في اليوم التالي.. تهافت رجال الحي يهنئون والد زكية، بينما توقفت أنفاسها من شدة الفرحة.

حناء مزركشة ذات أشكال جميلة تزين كفيها وقدميها.

اقتربت أم محمود وطبعت قبلة طويلة فوق جبينها مباركة لها

توردت خداها، وأخذ جبينها يندى عرقاً

لحظة زفافها لعريسها المنتظر

مازال صوت الطبول والدفوف والزغاريد تتعالى

في حين حضر والد زكية وأمسك بيدها.. مشى بها بخطوات وئيدة، ثم قدمها إلى زوجها العم (مختار) الذي تجاوز السبعين من عمره!

رفعت رأسها نظرت خجلاً فإذا به العم (مختار) ذي الظهر الأحدب.. والأسنان المتساقطة.. تيبّست في نصف ابتسامة شاحبة وفي لحظة ماتت فرحتها.. ووأدت أحلامها!

وقفت عاجزة، سرت رعشة في جسدها وما أن وصلت إلى عتبة الدار حتى سقطت مغشياً عليها!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى