الأحد ٢١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم عبده حقي

عيون ونظرات مجتمع

قد تبوح العينان بما لا يجرؤ اللسان على إفشائه من نوايا وأسرار جوانية.. فهما النافذتان المشرعتان على طقس نشرتنا النفسية...

في أحيان كثيرة قد لا نكون في حاجة لكي تفشي الألسنة ما يمور في العلب السوداء لنفوسنا من طقوس الرضا والفرح أو القلق والتوجس أو الانتظار والترقب أو الصحة والمرض أو الحب والهيام..

تلك هي حقيقة فراسة عيوننا التي تخفي لغتها السرية الخاصة سواء كانت مكشوفة للعيان أم متخفية خلف نظارات طبية.

قد نكون - والله أعلم- الشعب الوحيد على كوكب هذه الأرض المحترف بمهارة نادرة في التواصل والتلاغز فقط بغمزة عين دالة بين رأسين سواء في أبهاء الإدارات أو في قاعات الحفلات وخيمات المآتم أو باحات المقاهي أو اجتماعات الأحزاب و في كل المحافل الحاشدة.. غمزة واحدة بين هذا الرأس وذاك يختصر تيارها الخاطف رسالة بكاملها تكون مهمتها من صنف "سري للغاية".. غمزة كافية لوحدها كي تعقد بها صفقات وتوضب تواطؤات وتبعث في ظرفها إحساسات ومشاعر وتتوخى منها توسلات وتضرعات..إلخ

كل هذا يحدث في أيامنا هاته ونحن نسير في الشارع العام فنرى كيف أن تبادل النظرات بيننا يحمل وميضها رسائل لا تقل نجاعة عن رسائل البرق والتلغراف بالأمس والرسائل النصية القصيرة SMS في عالمنا اليوم إذ لا نحتاج إلى جهد كبير لتفكيك شفراتها وفهم خطابها العابر في الجو.

قد يكون فلاش نظرة من عابر سبيل في الدرب تغني عن مصافحة ممهورة بالود والسلام والتعايش... وقد تكون نظرة فضولية جاحظة تمشط قامة جسدك مثل آلة السكانير أو الماسح الضوئي لا لشيء جدير بالفحص فيك سوى لأننا مع الأسف مجتمع جبل على سلوك عادة بذيئة جعلت من عيوننا منظارات مجهرية للتجسس المجاني عن بعد على تفاصيل العابرين من قبعاتهم وتسريحة شعورهم حتى لون جواربهم وخيوط الحذاء الذي ينتعلونه.

إننا لم نتربى منذ طفولتنا على تقدير نعمة البصر وجعل عيوننا جوارح لاستكناه جماليات الأمكنة وقراءة نتوءاتها بصريا على مستوى تشكيل الهندسات والظلال والأضواء والألوان وطلاء الأفاريز وعدد أصص الشرفات وكل المؤثثات الجميلة أو كذلك لتشغيل عيوننا في البحث عن العلل البيئية أو اقتناص صور جميلة لنوثقها في أرشيف الذاكرة عن لحظات مائزة يجود بها علينا الزمن المغربي العابر من فينة لأخرى.

سألني قبل عقود سائح فرنسي في مكناس لماذا من عاداتنا المجتمعية أن نمشي متهادين بمحاذاة الحيطان ونحن مطأطئي الرؤوس كأنما نتأهب للركوع.. فعقبت على سؤاله بجواب ساذج وقلت: ربما كان ذلك بحثا عن الظل واتقاء لضربة الشمس الحارة المستدامة في فصولنا الأربعة على مدار السنة... لكن في نظر بعض خبراء علم الاجتماع قد يكون هذا السلوك على الأرجح تعبيرا تلقائيا عن خجل عام وسمة من سمات التأدب وعلامة من علامات الطاعة السائدة بيننا بحيث أن رفع العينين في وجه من هم أكبر منا سنا أو أعلى منا وجاهة وجاها كان يعتبر من قلة الأدب ونقصا في (الترابي) ونوعا من (الدسارة) الزائدة ولذلك كان مربوننا ومعلمونا قديما في البيت والمدرسة وورشات الحرف التقليدية غالبا ما ينهروننا في حصص التوبيخ بالقول: (احدر عينيك!!) أي إخفض بصرك.

لم تعد رسائل نظرات الأمس المشوبة بالتوادد والخجل والتوقير هي ذات النظرات السائحة في سماء مجتمعنا حيث أضحينا اليوم فريسة أكثر من أي وقت مضى لصراع المظاهر والتباهي في التصريح بالممتلكات والملحقات البرانية الذي ليس هو في الحقيقة سوى صراعا شرسا بين الماركات العالمية العملاقة وليس أيضا سوى مؤشرا سوسيولوجيا واضحا على انتقالنا من مجتمع الاستهلاك البسيط والقنوع إلى مجتمع الاستهلاك الذكي بدء من الساعة اليدوية إلى الهاتف والسيارة والتجهيزات المنزلية..إلخ وكلها آلات ذكية (سمارت) تشتغل وفق برنامج رقمي وإلكتروني يغني الإنسان عن الكثير من متاعب الخدمات اليدوية التقليدية وهذا ما أثر كثيرا في تعميق هوة الفوارق الاجتماعية بيننا وبالتالي التأثير في عديد من عادات سلوكنا لعل منها بصمة نظراتنا في الفضاءات العامة التي بعد أن كانت مشبعة بقيم التوادد والمحبة والتوقير أضحت نظرات معبأة برصاصات الحقد الثاقبة ومدججة بالنزوع إلى عنف "التشرميل" والنشل والسرقة لتلبية حاجات العصر الذكية فيما تحولت نظرات الطبقات الميسورة من جهتها إلى نظرات مشوبة بالتوجس والحيطة والحذر من كل العابرين والغرباء لا فرق بين أن يكونوا مواطنين مسالمين وأبرياء أو مواطنين متربصين ومجرمين حقيقيين...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى