الاثنين ٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٨
بقلم سلوى أبو مدين

قيثارة الشعر العربي نازك الملائكة

تفاصيل وجهك مختومة بالضباب
وروحي مختومة بالمدامع
محجبة في سواد براقع
وقلبي اغتراب
وبيني وبينك ينسدل في ألف ستر وباب
ويحجبني عنك ألف حجاب

تلك التي قالت : هيّا معي تبتسّمُ الدنيا إذا أنتَ ابتسمت !
ماذا يثيرُ أساك ما دُمنا نظلّ ، أنا وأنتَ ؟

ولدت الشاعرة نازك صادق الملائكة في بغداد عام 1923م ، ونشأت في بيت علمٍ وأدب في رعاية أمها الشاعرة سلمى عبد الرزاق أم نزار الملائكة وأبيها الأديب الباحث صادق الملائكة ، فتربَّت على الدعة وهُيئتْ لها أسباب الثقافة . وما أن أكملتْ دراستها الثانوية حتى انتقلت إلى دار المعلمين العالية وتخرجت فيها عام 1944 بدرجة امتياز ، ثم توجهت إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاستزادة من معين اللغة الانكليزية وآدابها عام 1950 بالإضافة إلى آداب اللغة العربية التي أُجيزت فيها . عملت أستاذة مساعدة في كلية التربية في جامعة البصرة .
قيل " الملائكة لقب أطلقه على عائلة الشاعرة بعض الجيران بسبب ما كان يسود البيت من هدوء ثم انتشر اللقب وشاع وحملته الأجيال التالية.
وصفت نازك الملائكة بأنها سمراء نحيلة الجسم ، سوداء الشعر والعينين لا تعني بهندامها وكانت جدية منذ طفولتها تكره المزاح ويؤذيها أن تعاقب مهما كان العقاب شاملاً لسواها . وكانت تحس بأنها تكره المدرسة من أجل الحساب . مع أنها تستطيع جيداً أن تفهم اللغة العربية والتاريخ والدين والجغرافيا .. .. ولكنها لا تستطيع أن تصطلح مع الحساب . وقد طبعت حياتها وهي صغيرة بطابع من الكآبة والقلق وعدم الثقة بالنفس .. ونازك في الصف الرابع وقد بدأت مظاهر الرومانسية والخيال والشعر تبدو عليها بوضوح .. .. فهي منعزلة خجول تحب المطالعة ، وتحلم كثيراً .
تجيد من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية ، بالإضافة إلى اللغة العربية ، وتحمل شهادة الليسانس باللغة العربية من كلية التربية ببغداد ، والماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونس أميركا .
مثّلت العراق في مؤتمر الأدباء العرب المنعقد في بغداد عام 1965 .

كتبها :
قضايا الشعر المعاصر .
التجزيئية في المجتمع العربي .
الصومعة والشرفة الحمراء .
سيكولوجية الشعر .

شعرها :
عاشقة الليل صدر عام 1947.
شظايا ورماد صدر عام 1949 .
قرارة الموجة صدر عام 1957 .
شجرة القمر صدر عام 1965 .
مأساة الحياة وأغنية للإنسان صدر عام 1977 .
للصلاة والثورة صدر عام 1978 .
يغير ألوانه البحر طبع عدة مرات .
الأعمال الكاملة - مجلدان - ( عدة طبعات ) .

هنالكَ سوف نضيع

و نأكلُ دفءَ الشتاء ، و نقطفُ ثلجَ الربيع

و نغزلُ صوفَ الصقيع

هناك لا طُولَ للظل في حلمنا ، لا قِصَر ،

و لا شىءَ يمكن أنْ يرتقيه النظر

سوى موجة أغنية تتحدّرُ عبرَ جبال القمر

و نضحك ، نبكي ، و عيناكَ تعكسُ لونَ البَحَر

وتعد نازك الملائكة من الشاعرات اللاتي من رواد الشعر العربي الذين نقلوا القصيدة من التفعيلة إلى الشعر الحر . يعتقد الكثيرون أن نازك هي أول من كتب الشعر الحر عام 1947 ، وتعتبر قصيدتها " الكوليرا من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي .
فأسهمت إيجابيا في تطوير القصيدة العربية في بنائها وموضوعاتها وقدمت مجهوداً نقدياً منظماً في بعض القضايا الفنية واللغوية والفكرية في أدبنا الحديث وكتابها " قضايا الشعر المعاصر " يعد أشهر إسهاماتها في هذا المجال .
وأذكر أن قصة تلك القصيدة أنه حدث في صيف عام 1947 أن حصد وباء الكوليرا الآلاف من أبناء الشعب المصري الشقيق ، وكانت كارثة فظيعة ردت عليها شاعرتنا نازك بقصيدة رائعة لها عنوان المرض نفسه ، قصيدة ليست كالقصائد التي كانت سائدة ذلك الوقت ، كانت جديدة في كل المقاييس ، مختلفة ، إيقاعها غريب عن الأذن العربية التي اعتادت ومنذ ألفي عام على أوزان الخليل ، وسرعان ما انتشر خبر القصيدة الجديدة كوليرا نازك الملائكة بين الشباب المثقف واستطاعت أن تؤثر على الذائقة الشعرية وتنتج ألاف من القصائد الشعرية ذات الأثواب الجديدة والأشكال الزاهية .

فتشدو في قصيدة الكوليرا :

في كهف الرعب مع الأشلاء
في صمت الموت القاسي حيث الموت دواء
استيقظ داء الكوليرا
وتنقلنا حيث الشجن آخر في قصيدة " أنا " فتتشدو :
الليلُ يسألُ مَن أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولففتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون ؟
الريحُ تسألُ مَنْ أنا
أنا روحُهَا الحيرانُ أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
نبقى نمرُّ ولا بقاءْ
فإذا بلغنا المُنْحَنَى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ
فإذا فضاءْ !
والدهرُ يسألُ مَنْ أنا
أنا مثله جبارةٌ أطوي عُصورْ
وأعودُ أمنحُها النشورْ
أنا أخلقُ الماضيْ البعيدْ
من فتنةِ الأملِ الرغيدْ
وأعودُ أدفنُهُ أنا
لأصوغَ لي أمساً جديدْ
غَدُهُ جليد
والذاتُ تسألُ مَنْ أنا
أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في الظلام
لا شيءَ يمنحُني السلامْ
أبقى أسائلُ والجوابْ
سيظَلّ يحجُبُه سرابْ
وأظلّ أحسبُهُ دَنَا
فإذا وصلتُ إليه ذابْ
وخبا وغابْ
قصائدها يسودها مسحة من الحزن العميق ، فقد تسمع البكاء والأنين والشجن .. فهل الشعر يحرض على مسحة الحزن ؟ أم أنه نتاج ما يحمله الشاعر من مرار الحياة يضفي على قصائدها هذا اللون القاتم ؟
وأقرأ لشوقي بغدادي هذه السطور فيقول فيها " جاءت كي تعلمنا صلوات الحب، والجمال والحزن، وبالتالي الفرح بالحياة وأن فيها محطات استراحة بهذه الروعة تأخذنا إليها كلما ضاقت بنا سُبل العيش ازداد إيماني بها أعمق فأعمق حين اجتمعت بها عام 1957 في مؤتمر الأدباء العرب في القاهرة.
كانت لا تتكلم كثيراً، فإذا فعلت ارتعش جسدها مع كل كلمة كانت تنطق بها، فإذا بالحاضرين يصمتون لا لشيء سوى أنهم شعروا أنهم فقدوا القدرة على الكلام أمام كاهنة الحب والشِعر. وحين كان يأتي دورهن للإلقاء في مهرجان الشعر كانت تبدو كمن يوشك أن يتحول إلى طيف يهم بالطيران بعيداً، غير أنه يبدو في الوقت ذاته مرتعدا كأنه فرخ في تجربته الأولى للطيران
لم يكن بين الحاضرين، نساء ورجالاً، امرأة من هذا النوع العجيب. كنا جميعا نبدو عاديين إلا في ساعات معينة متوهجة بنيران الشِعر، إلا نازك فقد كانت تبدو باستمرار امرأة غير عادية في جلوسها، وحريتها، وحركاتها، وعلى الكلام أو في مرابع التسلية التي كانوا يأخذونها إليها أحياناً .
أين هي نازك؟... هكذا كان أصحابها يسألون كلما غابت، فإذا حضرت سكتوا كأن كل شيء قد حضر معها .
لم يكن شِعرها وحده السبب في حضورها الرهيف وإنما في الهالة التي كانت تحيط بشخصها. وحين كنا نتناقش في أمور الشِعر كانت تصغي طويلا، فإذا شاركت بدا أن ليس ثمة مشكلة نختلف حولها ما دام هناك امرأة مؤمنة بما تقوله الى هذا الحد " .
ايه يا نازك وأنا انتقل من قصيدة لأخرى وأحاول أن أكفكف ذاك التعب والحزن فكلما انتقلت إلى القصيدة رادوني إحساس مختلف عن الذي سبقه .
ألا ينبغي لعاشقة الليل أن تهيم فيه كما يفعل المحب ؛ ولكن أبياتها التي أنشدتها لا تحمل سوى نشيج وأنين وآهة وحزن بمجمله فقد خبت لآلئ الفرح والسعادة في قصائدك .
ظلامَ الليــلِ يا طــاويَ أحزانِ القلوبِ
أُنْظُرِ الآنَ فهذا شَبَحٌ بادي الشُحـــوبِ
جاء يَسْعَى ، تحتَ أستاركَ ، كالطيفِ الغريبِ
حاملاً في كفِّه العــودَ يُغنّـــي للغُيوبِ
ليس يَعْنيهِ سُكونُ الليـلِ في الوادي الكئيبِ
إلى أن قالت :

أَنْصتي هذا صُراخُ الرعْدِ ، هذي العاصفاتُ
فارجِعي لن تُدْركي سرّاً طوتْهُ الكائنــاتُ
قد جَهِلْناهُ وضنَــتْ بخفايــاهُ الحيــاةُ
ليس يَدْري العاصـفُ المجنونُ شيئاً يا فتاةُ
فارحمي قلبَكِ ، لــن تَنْطِقُ هذي الظُلُماتُ
حتّى ظلام الليل الذي عشقته لن يجدي يا نازك فلملمت حزنها ولزمت الصمت
هكذا أراك فارجعي لن يدرك سراً طوته الكائنات .

وفاتها :

في 20 من يونيو عام 2007 توفيت الشاعرة نازك الملائكة عن عمر يناهز 83 ودفنت في القاهرة ، رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى