الثلاثاء ١٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم هيثم خيري

رابعهم كلبهم

ضوء النهار كان يسبقهم في مد خيوطه إلى الأراضي وصفحة النيل، لمّا خرج ثلاثتهم من ديارهم يقصدون النهر. ثلاثة رابعهم كلبهم، يعبرون من ضفة "المريوطية" إلى الضفة الأخرى، عبر جسر خشبي رفيع يجاوره هاويس ضخم. المسافة بين الكوبري والترعة تزيد على العشرين متراً، مما يصيب أصغرهم بالدوار، يقرأ في سره: "قل لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا، هو مولانا وعليه فليتوكل المؤمنون". يهم بالرجوع والعودة إلى مدرسته الأزهرية، لولا أن شماتة عبد الهادي ومنصور فيه ستكون للركب، سيعايرانه أمام "الباجا" كلها بالجبن، فيتقدم للأمام محاولاً ألا ينظر لأسفل، بينما عبد الهادي ومنصور يسيران بسرعة تقترب من العدو، حتى يعبران إلى البر الآخر، وسرعان ما يلحق بهما إدريس وهو يلهث من فرط الانفعال، يضمه منصور تحت إبطه قائلاً: راجل من ضهر راجل.. أمال كانوا بيقولوا عليك غير كده ليه؟!
ينهره عبد الهادي بتصنع: إخرس با ابن الكوتش.

يسيرون بمحاذاة الترعة، حتى يصلوا إلى النهر.. يبدو أن النهار الشفيف سيرسل أشعته بسرعة، وأن الشمس ستكون ساطعة صبيحة أول أيام رمضان.
يقول إدريس بينه وبين نفسه: دي بركة رمضان.
يخلع عبد الهادي جلبابه الأبيض المتسخ، ويضع فوقه كيس الجبن والمش والطماطم والبصل وكسرات العيش الملدّن، ويتركها للهواء ولهو الكلب. بينما يشلّح منصور جلبابه إلى صدره ويتحسس مياه النيل بأطراف أصابعه، يستشعر دفء الماء، فما يلبث أن يخلع سترته كاملة إلا من شورت أصفر قصير(ماركةlotto) ، يقذف عبد الهادي وإدريس بالمياه المنعشة، ليستحثهم على النزول قبل أن تأتي نسوان العياط بالمواعين يشطفنها، فيتحسس عبد الهادي صدره العاري ويقول: طاب بس هما ييجوا كده..
يرد إدريس بسرعة: ف رمضان يا وله؟
يلتفت عبد الهادي لإدريس بقرف قائلاً: وحياة أمك! إنت جايبنا الكتّاب.
ينهض ويجري إلى الماء، ويغطس فور أن يلمس النيل، ولا يقب إلا بعد فترة. يصيح في صديقيه: المية حلوة يا ولاد الكلب.. انزلوا قبل ما تفتر.. إنزلوا قبل ما "ركس" يسبقكوا.

يخلع إدريس ملابسه ببطء ويتحسس الماء، فيجذبه منصور من يده، بينما الأول يصرخ بعزم ما فيه.
ثلاثتهم يقبع داخل الماء مع أسماك النيل التي تتقافز بسرعة مدهشة، يغطس عبد الهادي محاولاً الإمساك بواحدة منها دون جدوى، يعرف أنها محاولات يائسة، ربما يدرك منصور الأمر أكثر فيقول له:
ـ كان غيرك أشطر.
أما إدريس فيكتفي بالجلوس فوق الصخور الغطسانة في الماء، والنظر إلى صديقيه بشيء من الحذر. الهواجس تودي وتجيب في عقله بسرعة شديدة، التساؤلات تتعالي وتزيد القلب إخفاقاً: ماذا لو شمت أمي خبر بإني باستحمي في البحر. أكيد هاتموتني. طيب وأبوي؟ هايجيب الفاس ويشق راسي. لا يخرج من أفكاره إلا حين يقذفه عبد الهادي بلفات الهيش التي غطس واصطادها بدلاً من السمك.

تتنسم "العياط" نسمات الصباح بطيئاً بطيئاً، غير أن النشاط يدب في أهلها بسرعة، يخرجون كل إلى مقصده، تقترب بعض النسوة من النيل ـ في المكان الذي يسبح فيه الثلاثة إياهم ـ ومعهن المواعين والأطفال الصغار سواء كانوا أبناء أم إخوة، حينها يكون عبد الهادي وإدريس ومنصور قد خرجوا ولبسوا جلابيبهم، باستثناء منصور الذي استحلى النوم فوق الطمي الناشف والأعشاب عرياناً، يتحسس الشعيرات التي بدأت تنمو فوق صدره النحيل، ويحاول أن يختلس النظرات ـ كلما سمحت الفرصة ـ للنسوة الآتيات من البعيد.

يخرج عبد الهادي سيجارة سوبر من سروال جلبابه ويشعلها من ولاعة جديدة نوفى، اشتراها من الفلوس التي منحها له جده بمناسبة حلول الشهر الكريم. بعدما يشعل السيجارة، ويأخذ نفساً عميقاً على الريق يتأمل الولاعة بفخار شديد، تخترق رائحة الدخان أنف منصور، فيقوم من فوره تمهيداً للتخميس مع عبد الهادي. يناوله الأخير السيجارة، فليقمها منصور بتلذذ، وما إن يأخذ نفساً حتى ينفخه في وجه إدريس البائس، يسعل بشدة رغم اعتياده على دخان السجائر اللف والجوزة التي يدخنها جده ليل نهار.. رغم أنه اعتاد على ذلك إلا أن الإحساس بالإثم يجتاحه، يتذكر:"إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء". يرسم ابتسامة عريضة على صفحة وجهه الرقيق متظاهراً بعدم المبالاة، ثم يلتقط طوبة راشقة في الطين، ويقذف بها في النهر.. ينظر للدوائر التي تتسع وتكبر.
حين تأتي النسوة يكون عبد الهادي قد أخرج من سرواله خيطاً رفيعاً في آخره شمّاط، يرمي به في النيل ويلتقطه بسرعة كل بضع ثوانٍ، آملاً أن تأتيه البياضة أو مشط البلطي المرجو.

منصور ينسى صديقيه تماماً، يسرح في سيقان النسوة التي ستتكشف ـ حتماً ـ بعد لحظات، ستنهمك كل امرأة في مواعينها وصحونها وأطفالها، وتغفل عن وضع الجلباب المكشوف. غير أن النسوة تخيب رجاءه فيبتعد عنهن، ويقرفص أمام كسرات الخبر وطعامه الشهي. يفرك الجبن المش على الرغيف الملدن ويلتهمه بتلذذ، ثم يهمك قطعتين من الجبن على كسرتين ويعطيهما لصديقيه، يلتقم منصور طعامه، ويمد يده إلى الطماطم والبصل، بينما يأخذ إدريس طعامه ويضعه على كيس نايلون خرج لتوه من أحشاء النيل.. هو الآن فقط يشعر باكتمال رجولته، إنه يجالس لصوص وعزبجية البلد على حق ربنا، فهم يثيرون الرعب بصحبة كلبهم الأجرب ركس في أنحاء مدرسته.. هم الذين كانوا ينتظرونه والعيال صحابه في الخارج ويوسعونهم ضرباً، وهم الذين يفتخرون بأنهم يسرقون حزم البصل وحبات الطماطم التي تشبه التفاح من غيط أحمد بيه مندور، الذي يعمل لديه غفير تنظر إلى العمى ولا تنظر إلى سحنته. الشومة التي يتوكأ عليها لا يتورع أن يضرب بها أي لص، حتى وإن كان مثل عصفور ضعيف.. يشعر إدريس بانتشاء خفي بداخله، غير أن منصور يلحظ أن يد إدريس لم تمتد بعد إلى الطعام، فيلكز منصور إدريس ويصيح فيه: ما تاكل.. والا هاتقولي صايم.. طاب دا إحنا ف أول يوم، والشيخ عوض قال لي صوم لحد الضهر.
يضحك إدريس من سذاجة منصور، يقول: الصوم لحد المغرب يا وله.. ضهر إيه يا أبو جهل!.
يبدو أن الكلمة الأخيرة حزّت في نفس منصور كثيراً، إحساسه بالإهانة وبعثرة كرامته من هذا العيل جعلته يسب لإدريس، ويلتفت لعبد الهادي الذي لا يرضي بهذا الوضع المهين لمنصور؛ إذ كيف لهذا التافه أن يستهزئ بسادة عزبجية القرية؛ فيقول لإدريس:
ـ إنت هاتعمل لي فيها أزهري، هو ربنا لك وحدك، ماحنا كمان عارفينه وفي بينا وبينه عمار، طاب دا أنا مابسيبش مولد ولا حضرة إلا وأكون موتّد فيها.
يتراجع إدريس عن كلامه فيقول:
ـ يخرب بيت شيطانكو. أنا بس صايم النهاردة، أول يوم رمضان، وبعدين ربنا يبقى يسامحنا. يقول منصور بحزم:
ـ اللي يقعد معانا لازم يكون زينا، كل رغيفك وبعدين نتكلم.
لا يتمالك إدريس نفسه، فيتساءل بصوت عالٍ كأنه يكلم نفسه:
ـ يعني أروح معاكو النار؟!.

يقلب عبد الهادي المسألة في رأسه: يعنى إحنا هانروح النار والسفروت ده هو اللي يخش الجنة، وحياة أمي لا أنا ساحله من وراكه في النار.
أمسك بحبة طماطم كبيرة وغمز لمنصور، فالتف الاثنان حول إدريس، وظل عبد الهادي يزغد إدريس حتى فتح الأخير فمه وعلا صوته بالصراخ، حشر عبد الهادي حبة الطماطم في فمه وظل يضحك بهستيريا، لم يعبأ بالنسوة اللاتي ظللن يشتمنه وينهرنه، ولا بأبو بكر غفير أحمد بيه مندور الذي نزل من فوق الطريق العمومي صوب الاستغاثة المرسلة من إدريس، ولمّا رآهما (منصور وعبد الهادي) على هذا النحو، أوسعهما ضرباً بالشومة العتاقي، فهربا كل في طريق، أما كلبهما فقد ظل يعوي وهو يبتعد عن الأنظار.

حين فرغ أبو بكر منهما عاد إلى إدريس، مد يده ليعدل الصبي الصغير، ثم رجع إلى الخلف قليلاً، وانهال عليه ضرباً بطرف الشومة الرفيع المحلّى بجلد الماعز، فجري إدريس وسط كومات المواسير الكبيرة، وبجسده النحيل استطاع أن ينحشر في ثناياها، غير أن أبو بكر ثارت ثائرته، وألح عليه واجب الصداقة تجاه الشيخ مندور والد إدريس، فصعد على أكوام المواسير ينقّب على الابن الملعون، بينما الأخير يتصبب عرقاً، ولسانه يلهج:"إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جذوعاً، إلا المصلين.." ينحشر في ماسورة ويسجد بسرعة فيها، يدعو الله أن يخلصه من تلك الورطة، يتذكر منظر الشومة المروع فيمرمغ جبهته أكثر فأكثر، غير أن أبا بكر يسمع نقر صاحبنا، فيعرف مصدر الصوت، ويقف فوق الماسورة التي اندفس فيها إدريس، ويضرب بالشومة عليها بقوة شديدة، حتى يرهب ابن صاحب عمره، يطلق إدريس ساقيه للريح، ويعبر بسرعة إلى الجسر غير عابيء بالعشرين متر إياهم، يخرج إلى الهاويس، يمسك بالجنازير ويتشعلق فيها حتى يصل إلى بر المريوطية، ينخلع خفاه غير أنه لا يعبأ، لا ينظر للخلف إلا حين يصل إلى داره، وقتها فقط يعطي لصدره فرصة للتنفس، ثم يردد مراراً: آمنت بيك يا رب.. آمنت بيك يا رب!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى