الخميس ١٤ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم نهى فرنسيس

(جدتي تفقد الحلم) للدكتورة نجمة خليل حبيب

أن يفقد الإنسان الحلم يعني أنه فقد الأمل في كل شيء واتجه نحو الموت، وببساطة أنت تحلم إذا أنت حي.
بداية أود أن أشكر الأديبة الدكتورة نجمة خليل حبيب لأنها منحتني شرف الكلام عن كتابها "جدتي تفقد الحلم" كما أود أن أشكرها ثانية لانها أجبرتني طوعا على أن أقرأ الكتاب مرات عديدة مما أتاح لي فرصة الإستمتاع والتمعن بكل قصة من قصصه، فكلما كنت أقرأ واحدة منها أكتشف فيها شيئا جديدا. فما أشبه قراءة الكتاب بسماع أغنية، يشدك اللحن فيها والصوت والكلمات ولكنك كلما استمعت إليها أكثر، أحببتَها وطربت لها أكثر.
كان من الصعب علي أن اختار القصص الأحب إلى قلبي في الكتاب للتحدث عنها، كنت كمن يقف أمام عدد من اللوحات الأخّاذة محتارة بانتقاء الأجمل، فلكل قصة نكهة وميزة خاصة بها سوف يكتشفها قراء الكتاب، لذا أكتفي بالتعليق على البعض منها معتذرة من البعض الآخر لضيق الوقت.
دعوني أهنئ الكاتبة والأديبية الدكتورة نجمة خليل حبيب على إصدارها هذا، آملة أن يليه إصدارات، وأنا أكيدة بأن كتابها سيشد القراء من عنوانه كما شدني أنا.
هل فعلا فقدت جدتُها الحُلم، عندما اغتيلت زيتونَتَها الدهرية، ما دفعها لتفجير نفسها فدى عن زيتون فلسطين كله؟ أم أنها مهدت لأحلام الأجيال القادمة التي لم تولد بعد؟ كما حصل مع الحفيدة التي لا زال حلم العودة إلى فلسطينها يراودها مهما بعدت المسافة؟ فهي لم تفقد الحلم بالعودة إلى الأرض التي احتضنت الزيتونة وجسد الجدة، فالتصاقها الروحي بالجذور الذي يبرز في قصة "حثوة تراب" لا يقل عن التصاق جسد الجدة بأرضها.

من اليمن الدكتورة نجمة حبيب، وبعض المشاركات في حفل إشهار (جدتي تفقد الحلم)

عنوان الكتاب "جدتي تفقد الحلم" ينضح بمحتواه، فلا تكاد تقرأ العنوان حتى تشعر فورا بأن وراء قصصه مجموعة من المعاناة الإنسانية. فكل قصة، واقعية كانت أم رمزية، تختبىء وراءها واحدة من هذه المعاناة، فمن الإقتلاع من أرض فلسطين، إلى التهجيرداخل لبنان، ثم الهجرة إلى أستراليا وما تبعها من مشاكل التأقلم والعيش في وطن جديد، غريب عن عاداتنا وتقاليدنا ولغتنا كلها أثرت في حياة الأديبة التي استطاعت أن تصور لنا بأن هذه المعاناة عامة ولا تخصها وحدها.
تدخل في أبواب الكتاب الأربعة فتنفتح أمامك آفاق. وكلما توغلت فيه أكثر كلما نسيت نفسك بين صفحاته، تسحرك سلاسة الأسلوب، ورشاقة الكلمات التي تصف الواقع ببساطة وبعبارات سهلة الفهم، بعيدة عن أسلوب التفزلك في انتقائها، فأسلوب السهل الممتنع سيمة قصصه، لذا جاءت هذه القصص على سجيتها، طبيعية، سلسة، خفيقة الظل، سهلة الهضم وخالية من النفاق الأدبي، إذ أنك من النادر أن تجد كلمة غير مفهومة أو لا تؤدي المعنى وتخدمه. أضف إلى ذلك استعمال اللغة العامية الذي أضفى على الكتاب صفة الواقعية والصدق.

أما الطرافة وروح الدعابة وخفة الروح التي وردت في العديد من قصص الكتاب تجعلك تشعر أنك تعيش في قلب القصة. وهكذا تآلفت الكلمات والتعابيرواللغة العامية والأمثال كلها لتؤلف سيمفونية أعطت للكتاب رونقا وزادتها جمالا وألقا بحيث يرى القارئ نفسه منغمسا فيها حتى الثمالة.

روح الدعابة وخفة الظل تجلت في أبهى حللها في قصة الجد "أبو زكي" عندما صورت الكاتبة صراع الأجيال واختلاف الميول والمبادئ والآراء بينها، في جو مفعم بالمرح وخفة الروح والطرافة، فالشتائم التي كانت تخرج من فم الجد ابو زكي والذي "يختلف عيارها من يوم إلى آخر"كأن تقول مثلا "يا قرد شو بتجالص" أو " يللا انقبر فز على شغلك" والكثير الكثير مما يجعلك تضحك رغما عنك. (لا أريد أن أفسد عليكم لذة قراءة القصة) ولكني في الواقع تصورت نفسي وأنا أقرؤها بأنني جزء منها وأعيش أحداثها. ورأيتني أضحكُ وأنا أتخيل أبو زكي بكوفيته وعِقاله يحمل عصاه يهزها فتفاجئه نوبة سعال لا يسعلها إلا المدخنين، كلما لاح له رأي مخالف لرأيه، فالذي يقوله دستور ولا أحد غيره يعرف كما يعرف هو.

ما لفتني في الكتاب أيضا النزعة الإنسانية التي نضحت من القصص، فقد تخطى بعضها الفرد لتشمل مجتمعا بكامله يعاني ما يعاني من آلام الهجرة وضريبتها، فإلى جانب ما يؤمنه مجتمع الهجرة من رخاء ورغد عيش فإنه يأخذ الكثير منا. ومعاناة ثريا في قصة "ليس كل ما لمع كان ذهبا" " ومعاناة أيمن في "كم كان العبور صعبا" ربما تحاكي الكثير منا وتشبهنا في أحداثها فنتخيل أنفسنا مكان شخصيات القصة، ولكن الكاتبة عبرت عن ما يختلجنا بأسلوب شيق، سلس ومفعم بالمشاعر الإنسانية، واستخلصت في نهاية تلك القصص بأنه يوجد في كل منا قدرة على تغيير الواقع إلى ما نريده ونصبو إليه إذ بذلنا الجهد دون أن ننتظر مقابل، فهي تدعو المرأة بشكل عام إلى الإعتماد على النفس والخروج من عقدة الإتكال على الآخر وانتظار أن تُنقد ثمنا أتعابها كما تحث الرجل على التأقلم في الوضع الجديد دون النظر إلى الوراء والعيش في الماضي.
صراع الأجيال وصعوبة التأقلم في الوطن الجديد وتنشئة الأولاد صورتها في قصة "عقدة مايكل" حيث تكبر معاناة المهاجرين وتتسع الهوة بينهم وبين أبنائهم كما في قصة "بانتظار مازن" فتلك القصص تشير إلى صعوبة التواصل بين الأجيال التي نشأت في أستراليا وتلك التي جاءت من الوطن الأم، فلكل جيل اهتماماته ومشاغله وتفكيره الخاص به الذي لا يتلاءم في كثير من الأحيان مع تفكيرنا. ففي قصة "أنا وجدتي" نرى الهوة تتسع وتكبر وربما يستحيل ردمها مما يجعل الجيل الأول يعتصر ألما لعدم قدرته على التفاهم والتواصل مع الجيل الثاني وما بعده مهما اتسعت ثقافته وكثرت قراءاته. .فالجدة الأديبة لم تستطع أن تكسر الحاجزبينها وبين حفيدها الذي لم يكن يفقه ما تكتبه الجدة وما كان الأمر يعنيه.
معاناة الوحدة عند المسنين تجلت في قصة "غاري يذهب إلى المستشفى" والذي وجد نفسه وحيدا عندما احتاج لمن يكون إلى جانبه أثناء مرضه. هي قصة تصور الواقع بامتياز. فكم من مسنِّ مات دون أن يدري به أحد والأمثلة كثيرة.
التمييز العنصري والإسلاموفوبيا تجلت في قصة "الأوبرا هاوس" بكل ما فيها من بشاعة ورفض الشعب الأسترالي لفكرة العنصرية. وقصة "الحلم أجمل" التي تصور لنا صعوبة الحياة والعمل لساعات طويلة لتأمين متطلبات العيش في أرض الغربة وحاجة الأبناء لدعم الأهل في تأمين حياة مريحة لأبنائهم.

طرحت الكاتبة الموضوع المثير للجدل حول قبول مثلي الجنس كبشر متساويين مع غيرهم وهذا الموضوع يعتبر جريئا في طرحه في ظل ثقافتنا الشرقية التي لا تتقبل مثل هكذا مواضيع.
العلمانية تتجلى صورتها في قصة "بقع فوق أكتاف نعمان" الذي كان يتصور يوم استشهاده وأين سيدفن ومن سيتكلم خلال التأبين وإلى ما هناك ...
في قصة ذاكرة تتنفس في طائرة كوانتس يعتصر الألم أبو أيمن الذي ترك الوظيفة والحياة حيث كان الناس يقدرونه ويحترمون مقامه بالرغم من المآسي التي عاشها والجحيم الذي ذاق طعمه والرعب المتنقل من بيروت الشرقية حيث هرب من أبناء دينه إلى بيروت الغربية الذي اضطهد فيه كونه فلسطيني، فإلى أين يذهب وأين يهرب من نفسه، المتنفس كانت أستراليا الذي ذاق فيها مرارة الهجرة، وربما اعتبرها مضيعة الأصول. فالمهاجريعيش بجسده في بلد الهجرة أما عقله وقلبه فيبقى في الوطن.
يرتفع الألم إلى أعلى درجاته عندما تسرد الإديبة قصة اختطاف والدها واختفائه منذ ذلك الوقت لم يعرفوا عنه شيئا. هم لم يشيعوه إلى مثواه الأخير ولم يصلوا على جثمانه كما باقي الناس وصورة أبو سمير على الحائط تذكرهم بالفواجع التي لا نهاية لها.
تدعو الكاتبة المرأة الى تحديث نفسها في قصة "كاريكاتور" بطريقة راقية ودعتها بأن تنتفض على وضعها، لا ترضي من حولها على حسابها ولكن تثق بذاتها وبقدراتها.
مزجت الدكتورة نجمة في هذا الكتاب بين واقعين كلاهما مر، واقع الإقتلاع من أرض الجذور-فلسطين- إلى التهجير والإقتلاع مرة أخرى من المخيم التي كانت تعيش فيها مع العائلة، إلى الهجرة إلى وطن جديد أستراليا، الوطن الذي وهبها هوية وانتماء، ومع ذلك هي منحازة، فهي تحب بيروت عندما تخلع عنها ثوب الزيف تحبها بناسها وضجيجها وأصوات بائعيها وجميع المكافحين الذين وصفتهم بأنهم "خبزها وملحها وعملتها الصعبة". فهي بالرغم من المآسي التي عاشتها في لبنان إلا أنها أحبت الأرض التي ترعرت فيها وعاشت فترة صباها بكل أحلامها وصعوباتها متجاهلة المآسي التي ما استطاعت سحقها على الرغم من قساوتها.
قرأت الكتاب أكثر من ثلاثة مرات ففي المرة الأولى لم أستطع تركه حتى أتممته لما فيه من متعة وفائدة وعِبَر وجرأة في طرق مواضيع صعبة تقودك بسلاسة نحو شعور جميل بالتحرر من كل موروث أقله في الحلم.

الكاتبة نهى فرنسيس

لن أستطيع في هذه العجالة أن أعلق على كل قصة من قصص الكتاب التي تترك أثرا عظيما في النفس ويختلف تأثير تلك القصص على القارئ بقدر ما تلامسه وتلامس مشاعره. وما قرأته بين السطور هو مجموعة تجارب عاشتها الأديبة وعايشت بعضها لتشاركنا هذه التجارب.
في باب القصة القصيرة الكثير من التجارب الحَرية بأن تنشرليتعرف إليها القراء، وألفت النظر إلى القصة التي تتحدث عن الإختلاف بالرأي الذي لا يفسد للود قصية ولا يفسد لقاء ولا ليال حمراء في غرفة مغلقة.
في النهاية لا بد من التنويه هنا إلى اكتشاف بعض الأخطاء المطبعية التي كان بالإمكان تجنبها.
لن أتحدث عن الوجدانيات التي سحرتني ولكني سألقي عليكم هذه القصيدة الوجدانية لعلها تختصر هذا الباب من الكتاب لما فيها من ألم ومرارة على ما وصلت إليه حال بيروت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى