الجمعة ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم محمد السعيد جمعة عطية

ألعاب الزوجية الخَطِرة

طرح الزوج الطيب على زوجِهِ الطيبة خوض هذه اللعبة الغريبة، فوافقت على الفور. ولفظة "غريبة" ليست شاملة في التعبير عن أبعاد اللعبة، بل إن لفظة "لعبة" ليست دقيقة في التعبير عما فعلاه.

لكنهما أحبا تجميل ما حدث.

جلست على كرسيٍّ وجلس على آخر يواجهها، أقل من نصف متر يفصل بينهما. جلست بكامل زينتها، جلس بكامل أناقته. وكان الوقت مُنتشيًا بمروره.

أشارت له بالبدء فرفض وأشار لها. هزت رأسها ترحيبًا بالرفض وأغمضت عينيها وشهقت ببطء. قبل أحد عشر عامًا جلسا على كرسيين شبيهين، نفس الزينة ونفس الأناقة. الفارق الوحيد أنهما كانا متجاورين ولا يفصل بينهما أيُّ فراغ.

لكنَّ ذلك زمانٌ ولَّى.

زفرت ما شهقته وهي تفتح عينيها، ورفعت يدها في الهواء. في حين انكتمت أنفاس الزوج بصدره، وخفق قلبه، وتعلقت عيناه في الهواء...

لحظة جامدة لا يمكن الإحاطة بها.

من ثمَّ هوت اليد الناعمة على الصدغ الخَشِن بكل قوة، فأحدثت فرقعة انتشرت أصداؤها في كل ركن بالشقة: هذه لأنكَ تُشخِّر مثل جاموسٍ برِّي وتحرمني من النوم.

فرقعت هذه الجملة في صدر الزوجة بأصدائها المختلفة. ودَّت لو تنطق بها لكن قوانين اللعبة لا تنص على ذلك.

كانت بداية مثالية رغم صدمة الزوج واندهاشه. الآن عليه أن يردَّ الصفعة بخير منها، وعليه أن يُضمر سببًا لها. لكن صدمته تُعطِّل يده. كيف يمكن لها أن تكون بهذه القسوة، ومن أول صفعة؟ ما الذي دفعها؟ ما الجرم الذي ارتكبه ليستحق ما حصل عليه؟

تحسَّس صدغه المُلتهب ورمقها بنظرة تحتيه، خاطفة، دون أن يجرؤ على النظر المباشر في عينيها. كانت ملامحها باردة كلوحٍ من الثلج، لا خجل ولا خوف.

ليخفف الزوج الطيب من وطأة صدمته، أحب أن يراها ممثلة مُتقِنة تلبَّست دورها على أكمل وجه. ولأجل أن تتم عبقرية المشهد، عليه هو أيضًا إتقان دوره.

لذا فقد رفع رأسه المحني واعتدل في جلسته، أطلق عينيه في وجهها الجامد ورفع يده في الهواء...

وهوت اليد الخَشِنة على الصدغ الناعم، بكل قوة: هذه لأنكِ لا تجيدين طبخ الأكلات المفضلة لي.

الفرقعة هذه المرة كانت خيالية؛ ارتج رأس الزوجة وكادت تسقط من فوق الكرسي. وبدا أن كل الدم بجسمها تجمَّع على خدِّها الأيسر من فرط احمراره.

صُدمِت واهتاجت بواطنها، وشعرت بفضول شديد لمعرفة دافعه في هذه الصفعة المُجرمة.. أي امرأة أخرى كانت ستبكي حتى تمر الدموع من بين أصابع قدميها، إلا أنها أصرَّت على صلابتها المُفتَعلة وتصدَّت لأي إنفعال يريد أن يطفو.

بدلًا من البكاء، اعتدلت وتأهبت لصفعتها الثانية. عيناها محتقنتان بالشر وشفتها السفلى ترتعش قليلًا؛ مخيفة على نحو ما.

رفعت يدها، هوت بها..

فجاءت صفعة مثيرة للشفقة، لم تُحدِث فرقعة تُذكر. ولأن غيظها كان عظيمًا لم تكتفِ. خالفت قوانين اللعبة وأضافت صفعة ثانية وسط دهشة الزوج واستنكاره: لماذا لا ترد على الهاتف اللعين كلما اتصلت بك؟

كان بإمكانه الاعتراض على الصفعتين المتتاليتين أو يطلب مثلهما، إلا أنه لم ينطق. بهدوء المُحنَّكين رفع يده وطرق على الطبل. طرقة واحدة فحسب:

هذه لأنكِ تفتعلين المشاكل لمنعي من المقهى والأصدقاء كل ليلة.

خيط الدم الرفيع الذي تتدلى من فم الزوجة الطيبة كان شاعريًا للغاية، وشعرها الذي تمايل ورقص، وآهتها العذبة. في الحقيقة لقد اكتشف الزوج لتوِّه روعة أن تكون عنيفًا مع زوجتك.
أما هي فاستكشفت جرحها بسببابتها، وقامت من فوق الكرسي دون أن تنظر إليه. دخلت الحمام بخطوة انهزامية أشعرته بالذنب. وفي خلال الدقيقة التي قضتها هناك تُنظِّف جرحها، طرَّز الندمُ جلبابًا في صدره. كيف لي أن أفعل؟ كان لابد أن أكون أهدأ. اللعنة عليَّ. اللعنه علي.

قبل أحد عشر عامًا لم يكن يحسب أنه سيرفع يده عليها. كان وجهها حرمًا مُقدَّسًا لا تليق به إلا القُبَل. على كرسيين شبيهين جلسا، متجاورين، هي برداء الملائكة وهو بالأسود الرجولي. وكان الوقت عذبًا وخفيفًا. لا ينسى أبدًا تلك اللحظة التي نقل فيها الخاتم المقدس من يدها اليُمنى إلى اليُسرى. وحين أدخل أصابعه في أصابعها لم يعد هناك أية لحظة، لم يعد هنالك وقت، كل شيء أصبح مثاليًا فجأة.. كأنه عقد صفقة مع الملائكة من أجل السعادة.

لكنَّ ذلك زمانٌ ولَّى.

فور خروجها من الحمام نهض واقترب منها. حاول أن يقول شيئًا فمنعته، وطلبت منه مواصلة اللعب. توافق ذلك مع شعوره العميق بالذنب. سيجلس ويُسلِّم لها نفسه تمامًا، سيكون بمثابة العبد.. يُهان ولا يبدي ردة فعل.

جلسا،

وتبادلا هذه المرة نظرة طويلة. ظنَّ أنها ترغب في الحديث معه أكثر من رغبتها في صفعه، فازداد ندمًا وشعورًا بالذنب.. همَّ بتقديم جملة افتتاحية ليكسر أنف الصمت فتلقَّى ما لم يكن ينتظر.

هذه لأنكَ.. لأنني.. لأننا.. هذه لكل ما حدث بيننا ولم أكن راضية عنه.

صفعتها الرابعة لم تكن قوية كما لم تكن ضعيفة أيضًا، لكنها عبَّرت عن شيء مختلف. عن شيء غير محدود؛ رغبة لا نهائية في إرسال الصفعات وتلقيها.. ليس لحاجة في الانتقام أكثر منها حاجة في الفعل ذاته. عندما عرض عليها اللعبة لم تتردد في القبول، ظنت أنها ستستعيده إن ألقته بكل الحجارة المتراكمة على صدرها تجاهه. حجارة صغيرة، شديدة الصغر، لكنَّ تراكمها يصنع جبلًا من الهموم.

مع ذلك، ورغم اللعبة، تستمر الحجارة في التراكم وتجثم بثقلها على القلب. فكَّرت في أن توقف اللعبة، وتراجعت. بدا لها أن التمادي في الصفع قد يوجد حلًا، حتى وإن كان الحل شرخًا عريض بالقلب. ذلك أفضل من حالة الوسط العبثية التي تمتص عظام حبهما منذ سنوات.

لم يفقد الزوج الطيب هدوءه رغم الإهانة التي بلغت مداها. كأنه وصل إلى حقيقة أخرى مفادها؛ ما أروع أن تكون زوجتك عنيفة معك. لم يُضمر أي جملة، لم يصفع، فقط مسَّ خدها بأطراف أنامله. واستعدَّ للألم العذب الذي تتسبب فيه أصابعها الناعمة.

أربكها فعله لغمضة عين.. إلا أن صفعتها جاءت رشيقة، لاذعة، متحررة من أي ربكة. هي أيضًا لم تُضمر أي جملة.

لثلاث مرات متتالية مسَّ الزوج الطيب خدَّ زوجته الطيبة، ليزجى في كل مرة بصفعة فاخرة. حتى استُنزِف بالكامل مخرون شعوره بالذنب.

هنا بدأت لعبتهما الجديدة...

ليست لعبة جديدة في الحقيقة بقدر ما هي تطور للعبتهما الأصلية. إذ رفع الزوج الطيب يده في الهواء بعد أن طوى أصابعه، حصل على قوة دفع مناسبة وسدَّد لكمة احترافية.

لطالما كنتِ تجيدين قلب الأمور لصالحكِ.

قبيل أن تتلقى الزوجة الطيبة لكمته، ضيَّقت عينيها استنكارًا لطوي الأصابع وهمَّت بأن تعترض.. فاعترضتها الأصابع المطوية والتحمت بقسوة مع أنفها الرقيق.

سقط الكرسي بها فارتطمت مؤخرة رأسها بالأرض.

وكان ألمًا كبيرًا. في الظهر والكتف والرأس، وتدلت من الأنف خيوط. لحظة سقوطها لم تستطع كتم شهقتها الأشبه بصرخة دخلت إلى الصدر. وبعد السقوط انخرطت في نوبة بكاء حارة. بينما لم يستطع الزوج منع نفسه من الضحك. كان سقوطها كوميديًّا للغاية بالنسبة له، وودَّ لو يكرره.

خمس دقائق كاملة ما بين الضحك والبكاء، قبل أن تعاود الجلوس أمامه. وجهها مشوَّه بالدمع والدم والزينة. تصميمها أكبر على التمادي. نقلت خاتم الزواج من يدها اليسرى إلى اليمنى، واستخدمته في لكمة مباشرة إلى فكِّه.

أكرهكَ بكل قطرة دم تجري في عروقي.

لم يسقط، لكنه تأوه كمن خلع ضرسه للتو. ثم أخذ يضحك من أعماق قلبٍ أصيب ببلاهة لا نهائية. وفي ظل فاصل الخَبَل الذي سيطر على الكرسيين، سدَّد لكمته الثانية في عينها. فسقطت. وراحت تصرخ بكل طاقتها وتعضُّ يدها من فرط الغيظ.

وكما تنهض النمور الجريحة داخل المعركة، نهضت. قفزت فوقه فأسقطته وسلخت وجهه بأظافرها العشرة.

تقلبا على أرض عش الزوجية تقلُّب مشرَّديْن في مَعِدة مدينة جائعة.

اعتلته وأمسكت بخناقه.

كل ما أردته أن أكون زوجة صالحة. أحببتك. أفرطتُ في حبِّكَ.

ضغطت بكلتا يديها على الأحد عشر عامًا تريد أن تبتر تمدُّدها. الآن وفقط يمكنها أن تنهي المهزلة. لا يهم النتائج، المهم أن تحصل على انحرافة تبعدها عن الوسط.. عن كل هذا الملل. غير أن يديها الناعمتين أضعف من أن تفعلا.

اعتلاها وأمسك بخناقها، ضغط...

كل ما أردته أن أكون زوجًا طيبًا. فما الخطأ الذي ارتكبته؟ أحببتكِ. أفرطت في حبِّكِ.

الآن وفقط يمكنهما رؤية أحد عشر عامًا كاملة، بكل التفاصيل، في دقيقة واحدة. يمكنهما رؤية بذرة الحب، نضوجها، وسعيها غير المرئي نحو الضمور.

ضغط بكل عصبٍ في جسمه وتصالح مع مصيره المظلم. حتى وهي تختنق بين يديه بدت له جميلة. لعابها الذي تهادى على جانب فمها، لسانها الذي تمدَّد، وتفلُّصها من الموت الأشبه بتفلُّص الأطفال. كل شيء بها جميل وشاعري. لكنه لن يضعف للحظة ولن يجعلها تقلب الأمور لصالحها.

بدا أنه يستمتع للمرة الثانية في حياته بتلاشي الوقت. من جديد كل شيء مثالي، فجأة.

حتى أنه انتزع من هذا النهار حقيقة ثالثة:

ما أروع أن تقتل زوجتك.

هي أيضًا تستمتع على نحوٍ ما. صحيح هي تقاوم بكل ما تبقَّى لها، لكنها مقاومة لا إرادية يقوم بها الجسم ولا تشارك فيها النفس. في العمق هنالك رغبة كبرى في الاستسلام.. الموت يحقق الانحرافة المنشودة من جانب، ومن جانب آخر أكثر أهمية- سيلقى زوجها الطيب مصيرًا مُظلمًا يستحقه.

اضحك كالأبله، أما أنا فأضحك من عمقٍ بعيد.

بالنسبة للاثنين، تبدو نهاية هذا السيناريو مثالية. غير أن باب الشقة أصدر موسيقاه الخاصة، وظهر طفل في نحو العاشرة من عمره يحمل حقيبة كتف. فانهدم كلُّ مثاليٍّ في غمضة عين.
بعدها بشهر واحد- وشهر واحد يكفي لترميم صدع بجدار- جلس الزوج الطيب مع فنجان الشاي المسائي. على بعد خطوات منه جلست الزوجة الطيبة تُرتقُ فقتًا ببنطال طفلها.

الطفل بينهما يُلاعب نفسه في حيِّزٍ يُناسبه؛ يُدخل أصابع يمينه في أصابع شماله وينزعهما.

والوقت ضَجِرٌ لدرجة أنكَ تسمع صوت تململه كل لحظة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى