السبت ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم هدى أيمن حلمي علي حسين

ادخلوا مساكنكم

لا أدري من أين أبدأ سأبدو سخيفة جدا إن أخبرتكم بأنني نملة صغيرة تعيش على بعد عشرة أمتار من سطح الأرض، بعيدا عن الكتل الطينية والتي للأسف في معظم الحالات تسبب تشققات عميقة تدفع بالماء إلى ان يتسرب منها ويفسد غذائنا الذي قضينا لأجله نصف عام من العمل الدؤوب في جمعه وفي أسوأ الظروف يأتينا الماء على شكل فيضانات بالرغم من فتحات النافدة التي صنعناها حتى نغير مجرى الماء بعيدا عن مخازن الغذاء والسرب الأمن من صغارنا وعلى بعد المسافة بيني وبين الطبقة الطينية أستطيع سماع دبيب أقدامكم والضجيج الذي لا تتوقفون عنه ليلا ونهارا، انني أحب حياتكم كثيرا فهي لا تنطوي على العمل وحسب بل لديكم احتفالات وأنوارا وعوالم أكبر بكثير من عالمنا الصغير المظلم والمنطوي على الأنفاق والأتربة، والافضل من ذلك انكم تملكون في وطنكم الواسع "المكتبات والكتب والمتاحف و الأوبرا والمسرح " أمور لا أعرف عنها سوى أسمائها فكنت كلما سمعت عن نملة زارت عالمكم ورأت شيئا من تلك الرحلة الشيقة أذهب إليها ركضا وأجلس أستمع في فترة الراحة ما تجود به علينا من أوصاف تجعلني أفقد ماهيتي لثوانٍ وأنسلخ من جلدي فأتحول تدريجيا إلى نملة بشرية تتحرك وتسمع وترى وجلٌ ما تمنيته أن أزور عالمكم، أن أصعد إلى إحدى المكتبات العظيمة وأقرأ، نعم لقد تعلمت القراءة على يد النملة الحكيمة إنها أقدم نملة في العشيرة وقد عايشت البشر طوال فترة حياتها ورغم حديثها المذهل عن مجتمعكم الراقي والمنير إلا إنني كنت أرى دائما في عينيها الشائختين حزنا كبير وجراحا لم تندمل، وفي كل خاتمة حديث معنا كانت تحذرنا من أن نأمن جانب البشر فبالرغم انهم يمتلكون عقلا إلا انهم لا يفهمون باننا كائنات لديها ايضا أرواح عزيزة كما هي لديهم وإننا نحزن إن فُقد أحدنا.. لم أكن أعير كلمها الأخير انتباها فأنا لا أتخيل حتى أنني سأقيم حوارا مباشرا معكم لأدفعكم لقتلي أو انني سأسبب أذى لكم يوما يؤجج أحقادكم اتجاهنا، كل ما في الأمر أنني مشدوهة إلى عالمكم وإن نزهاتي السرية إلى القشرة الطينية والتي أخاطر فيها بحياتي لم تعد تكفيني، لم تعد رؤية أقدامكم الراكضة او المتبخترة فوق العشب الأخضر تثيرني ولا حتى أشكال طعامكم الملون وكمياته الهائلة وتلك الأشياء التي تتساقط من صغاركم تبدو لي كانهيار صخرة ضخمة فوق مستعمرتنا وبالرغم من هذا اراكم تلهون بها وتقذفونها هنا وهناك بأقدامكم واياديكم الملوثة بالحلوى والطين في فرح وتهلل، أجلس في زاوية ثغري السري وأنظر إلى السماء البعيدة جدا والمضاءة بحبيبات سكر لامعة وأتساءل هل لديكم أيضا عالما أكبر من عالمكم!

هل فكرتم يوما أن تنظروا له وتتمنوا ان تكبر أقدامكم بطول السماء لتخرجوا من بؤرتكم التي تبدو صغيرة مقارنة بالعالم الأكبر ! أنظر إلي تلك الحالة وأجد أننا أشبه بعوالم صغيرة داخل عوالم أكبر فأكبر كدوائر تتسع وفي كل مرة تسكن أحدهم في رحم الأخرى، وعالمنا صغيرا جدا ربما يبدو منظما وكادح إلا ان حياتنا فيه تنطوي على أمرين جمع الطعام في نصف عام وأكله في النصف الأخر إن لم يحدث كوارث طبيعية تمنع ذلك وأرى إن تلك الدائرة ضيقة للغاية ولا تلائمني، أشعر بالاختناق منها والشوق الجارف إلى المساحة الأعظم من هذا الكوكب، والدتي تخبرني أنني أملك خلل ما ولا تصدق انني أكره ان اكون نملة في حين ان حياتنا هادئة ومسالمة وان حياة البشر أشدٌ فتكا منٌا، ولكني قد قررتُ مذ زمن ودون رجعة أن أخوض غمار التجربة ولعلي لست محظوظة كثيرا ان تجربتي آلت بي إلى ثقب سفلي في أرضية منزل وليس مكتبة أو متحف ولكني حقا قد تهالك فكي و أطرافي في الحفر والسير لليالي طويلة و كاد الجوع والعطش أن يؤديان بي إلى حتفي قبل ان تنعم عيناي برؤية عالمكم البديع وأخيرا ها أنا أقف الآن فوق أرضية ناعمة باردة وملساء لاتشبه تلك الطينية التي تدفعني لأغوص حتى هوائيتي، هناك حركة ما قوية تضرب الأرض وتدفع بقلبي إلى الخروج من مكمنه.، أرى أقداما بشكل ضبابي من شدة الضوء هنا ولكن لا أستطيع تمييز مخرجا بعيدا عنها.. الأصوات المختلطة والجلبة تزيد من تعرج سيري في البحث عن مكان أمن بعيدا عن الأقدام العمياء ولكن الخطوات توقفت وتوقفت أنا معها، ثوان طويلة لا اسمع فيها شيء ولم أحاول حتى أن ألتفت لرؤية ما يحدث فأنا أشعر بعتمة شديدة تغشي عينيٌ، نقطة مظلمة رمادية بعيدة تقترب ببطء مني مع صوت أقرب لزئير الرياح، وكلما اقتربت أكثر كلما ازدادت ظلالها قتامة واتساع حيث شملت جسدي وما حوله ولكنها توقفت عن الحركة وعن التمدد وسمحت حينها لنفسي بأن آخذ شهيق عميق يهدأ من ضربات قلبي المضطرب قليلا، وأنا أُمنٌي نفسي بمغامرة مماثلة في إحدى المكتبات كل ما عليٌ فعله الآن هو أن أزحف بعيدا عن تلك النقطة السوداء وأفكر مليٌا في الخروج حيث إيجاد المكتبة العظيمة التي سمعتُ عنها من أقراني.. ولكن حركتي بدت وكأنها مربوطة بخيوط رفيعة مع تلك السُحب الرمادية فمع كل خطوة مني أرها تتبعني بلا كلل في لعبة سباق سيكولوجي مميت تتمزق فيها أعصابي، وهنا قررت أن أسرع أكثر حتى أصبحت أهرول مع تلك الظلال وصوت حديث الحكيمة يعود إلي أوضح الآن وليتني أخذته على محمل الجد " نحن لسنا سوى ألعاب مصغرة في يد البشر، تلاعبنا متى أرادت وإن ملٌت تمحينا بدعسة ساحقة "، أصبحت قريبة جدا من الثقب الذي خرجت منه، أشعر بالغبطة فما يفصلني عن منفذ نجاتي إلا حركة واحدة، حركة فقط وقد علمت إنها لن تصدر مني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى