الاثنين ١ تموز (يوليو) ٢٠١٩
قصة كوردية مترجمة
بقلم مكرم رشيد الطالباني

باقة نرجس على ضريحي

قصة: الدكتورة وهبية شوكت محمد ترجمة: مكرم رشيد الطالباني

تُحدث الكثير من الوقائع، فلن نقوم بدراستها في حينها بصورة جيدة، غير أنه يتضح فيما بعد بأن تلك الواقعة غريبة، فلم تدرس وتمحص في حينها؟

كنت أدرس خارج الوطن وفي كل عام كنت أنا والطلبة الكورد نحتفل بعيد نوروز. وكنت دوماً أحصل على باقات النرجس واشم منها عبق نوروز بمنأى عن الكون ففي إحدى السنين كنت في إحدى المدن.. وكنا قد قررنا في تلك السنة تأجيل الإحتفال بعيد نوروز لمدة ثلاثة ايام .
رغم إني كنت وحيدة فقد قررت الإحتفال بعيد نوروز في حينه.. لم احصل على النرجس في المدينة .. لكنني لم أيأس.. فقد انهيت أعمالي في ذلك اليوم مبكراً وتوجهت إلى مدينة اخرى تبعد عشرة كيلومترات وهناك حصلت على النرجس وأشتريته.

نظمت باقة النرجس على مهل ووضعتها في مزهرية.. جلست أرتشف فنجان قهوة.. فذهبت بي عبق وعطر نوروز والنرجس بعيداً نحو ذكريات السنين الخوالي.

رغم ان نرجس اوربا زاهية وبديعة غير أنها لا تمنح عبق نرجس جبالنا ذي العبق الطيب الطري. على أية حال فورود النرجس هذه هي التي جعلتني أتذكر ذكريات أول سنة بعيداً عن وطني الحبيب والتي جعلتني أتذكر ذكريات اول سنة بعيداً عن وطني الحبيب والتي جعلتني احتفل لأول مرة وكانت لأول مرة ايضاً أحصل على باقة نرجس.

وكان صاحب تلك الباقة من النرجس شاباً هادئاًٍ لطيفاً ذو مشاعر وأحاسيس طاهرة، يعشق الحياة .. بدر... دون شك ان الإسم هذا ليس إسماً كوردياً .. نعم كان بدر شاباً وكنت أتعرف عليه لأول مرة في مكتبة الجامعة.

كنت أنا وبعض صديقاتي واقفات في الطابور الطويل ليأتي دورنا للحصول على الكتب.. كان الطابور طويلاً جداً وكنا نحن في مؤخرة الطابور عقب جميع الطلبة.. وكان في المقدمة شاب أسمر قصير القامة قليلاً خفيف الدم واقفاً مع شاب أفغاني كنت أعرفه فاتقترب مني من بعيد ضاحكاً وقال لي:

ـ الأخت عربية طبعاً. أنا وقد استفزني هذا السؤال، اجبته قائلة:

ـ لا.. طبعاً.. كوردية. فلم تتغير ملامح الشاب بهذا الجواب، فضحك ثانية وقال: لتكوني كوردية وليس عربية فإنني لا أرى اي إختلاف وليس مهماً لدي.. تفضلي وقفي في المقدمة سيأتي دوري مبكراً لكي لا تنتظري طويلاً.

فندمت كثيراً على جوابي الذي أجبته غاضبة.. أجتذب إنتباهي شكل واسلوب كلامه وهدوئه ومن ثم أستلمنا سوية الكتب وغدونا اصحاباً، فغدونا أصدقاءاً من تلك اللحظة أنا وبدر.. رغم أنه كان كويتياً وكنت كوردية، لكنه كان شاباً وديعاً مؤدباً، وكان العديد من الطلبة يعتقدون بأننا شقيق وشقيقة من اب وام واحدة.

كان إحتفالنا بنوروز في السنة الأولى بهيجاً.. فدعوت بدوري عدداً غفيراً من الطلبة الأجانب شباناً وشابات، لكن في الحقيقة كنت قد نسيت بدراً.. أو إنه لم يحضر من تلقاء نفسه.
في صباح نوروز الباكر أستيقظت مبكراً وقمت بإيقاظ صديقتي ديمترا، وكانت فتاة يونانية، كانت في غرفتنا وكانت فتاة طيبة وصديقتي الحميمة، كنا نملك سماوراً كهربائياً صغيراً... في ذلك الصباح سخنت السماور.. فكنت وديمترا نتناول الفطور حين سمعنا طرقاً على الباب.. حين فتحت الباب وجدته بدراً وهو يحمل باقة ورد من النرجس الزاهي البديع واقفاً قبالة الباب، وحين رآني قدم لي باقة النرجس.

أرتبكت.. وفرحت بها كثيراً ورحبت ببدر بحرارة.. في الحقيقة فقد أستلمت العديد من باقات الورد والنرجس من الأصدقاء والمعارف حتى اللحظة، لكنها جميعاً لم تكن كتلك الباقة من النرجس جميلة وإيذاء للقلب، فمن المحتمل لأنها كانت بسب إن بدراً لم يكن كوردياً.. أو لأنني كنت قد نسيت بدراً في عيد نوروز..؟ أو بسبب إنها كانت أول باقة ورد تقدم لي خارج الوطن؟
حين شاهدني بدر وديمترا أنفتحت اساريري بسبب باقة النرجس طلبا مني التحدث عن نوروز.. ومن ثم أردفت ديمترا قائلة:

ـ في بلادنا لورد النرجس علاقة بأسطورة أغريقية قديمة.

فأضطرت ديمترا بإلحاح مني ومن بدر أن تتحدث لنا عن تلك الأسطورة، قالت ديمترا: يقال بأن أحد آلهة الأغريق القديمة كان يكنى بـ(نرجس).. وكان هذا شاباً وسيماً جداً.. كان يسير مرة في الطريق.. صادف نهراً.. كان النهر صافياً رائقاً جداً.. فجلس ليغسل وجهه بماء النهر.. عندما شاهد نفسه في الماء، من تلك اللحظة بدأ يفكر في جمال نفسه، وغدا لايأكل ولا يشرب بل ينظر إلى نفسه حتى أدركه الهزال والضعف يوماً بعد يوم وشحب لونه، فتحاول جميع آلهة الأغريق الاخرى معالجته لكن دون جدوى، ومن ثم قررت الآلهة جميعاً أن تحول نرجس إلى وردة وغرسها في ضفاف الأنهار.

لهذا نرى ورود النرجس جميلة وطرية وذات عبق فواح... فصمت بدر لحظة ومن ثم اقترب على مهل من باقة النرجس وشممها بعمق وقال : بالله عليكم لو مت أنا ضعوا باقة من النرجس على ضريحي. فقال ديمترا ضاحكة:

ـ بدر إنك تعشق الحياة أكثر من اي شخص آخر.. إنك تعلقت بالحياة بامل وسؤدد ..ومن المحتمل الا تموت مبكراً حتى تشيخ.. ومن الممكن أن نموت نحن وتبقى انت حياً ترزق .
ورغم أن بدراً قال قولته هذا بهزل.. لكن لا اعرف لماذا كنت لا استسيغه جداً...فقلت بعد لحظات صمت:

ـ يا بدر لو فارقت الحياة قبلي عهد عليّ أن احقق أمنيتك هذه.

فتخرجنا أنا وبدر من الجامعة وعاد بدر إلى الكويت وذهبت بدوري إلى بلد أجنبي آخر.. وأنقطعت أخبارنا عن بعضنا البعض.. وبعد سنتين ارسل لي احد الأصدقاء رسالة أخبرني بأسف بأن بدراً قد غرق اثناء ما كان يسبح.

نعم كان بدر قد أدرك بغريزته أنه سيترك الحياة مبكراً ويودع كل ما على الأرض ويتهرأ جماله تحت الثرى.

ها إنني ودعت نوروز عشر مرات... وذبلت لدي عشر باقات من النرجس ورغماً عن انني بقيت على عهدي...ولكن أسفاً فمن أين آت بضريح بدر لأضع عليه باقة النرجس..فربما في يوم من الأيام يوصل الفلك القاسي طريقي إلى ضريح بدر لأعيد له باقة نرجسه.

عن مجلة كاروان الكوردية العدد 24 أيلول 1984

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى