الخميس ١١ تموز (يوليو) ٢٠١٩
بقلم نهى فرنسيس

أم تحولت صخرة

صراخ وعويل ونحيب ونشيج حولها وهي في حالة ذهول وشرود كأنها آدمي على شكل تمثال، مسته عصا سحرية فاضحى على تلك الصورة. عيناها كانتا تحدقان في الفراغ، ليس فيهما سوى حراك الموت، موت شيء ما، شيء لا تريد أن تعترف به ولا بوجوده في حياتها.
تنفتح شفتاها لتفتر عن ابتسامة صفراء كلونها الذي طلته السنين السبعة والثمانين بلونها الباهت. تدور حول نفسها لتحدق في العيون التي لا تكف عن ذرف الأسى واللوعة، وهي ثابتة لا يتحرك لها جفن ربما كانت تسأل في سرها: ما سبب هذا البكاء والنحيب؟ ولماذا أنا وحدي من لا تبكي أوتنتحب كالآخرين؟ أأنا امرأة قدت من ضلع بشر؟ أأنا من هؤلاء الناس الذين يحيطون بي؟ أم أنني مخلوق من كوكب آخر؟ أكل هؤلاء المحيطين بي حقا يذرفون الدمع الساخن أم أنها دموع تماسيح؟ هل هي دموع تعزيني أم تحرقني؟

تنكس رأسها جينا وترفعه أحيانا وتقول لنفسها بصمت عينيها "أنا من يجب أن ينتحب يا سادة...أنا من يجب أن تنتف ما تبقى من شعيرات رأسها البيضاء، لقد سُرق حقي حتى في النحيب والبكاء..... لم يبق لي دور في هذه الدنيا اللعينة، حتى الحزن ممنوع علي ومحرم.
أنا لا أهوى التمثيل ببضع قطرات من دموع يائسة، ولكن هل تعلمون يا سادة بأن "أقتل الدمع ما لا يلمح البصرُ"؟

أيها الموت تعالى واقذفني إلى لجتك... إرميني في حضنك الدافئ فبك رحمة تحميني وترحمني من هذه النظرات التي تقتلني وتقذفني بآلاف النعوت. "ما أقسى قلبها... ليس عندها قلب ولا رحمة ولا شفقة... لم تذرف دمعة على ابنتها، ما أقساها...".

"أيها الموت الرحيم لك أشكو....لقد سرقوا دوري، فما أسعفتني عيناي...همشوا حزني، فتعاليت عن الجرح الكبير الذي اصابني، تعالى... إقترب مني أكثر ولفني برحمتك...أنقذني من عذابي".

عيونها الكبيرة التائهة عادت من جديد لتحدق في الفراغ متلافية النظر في عيون المعزين. لم تتجرأ على سؤال من كانوا يحيطون بها "لمَ تبكون وأنا لا؟ أنا أعرف أن البكاء ربما يكون على شيْ فقدناه ولا ننتظر رجوعه....على شيئ ضاع إلى الأبد، لكن أنا لا أعرف بأن احدا يخصني تنطبق عليه هذه المواصفات. لا تصدقوا ما ترون.... من مات لا يخصني ولا يقاربني، من مات كان دجاجة أو ربما فرخ حمام أضاع أمه، وظل يبحث عنها حتى سئم التعب، ففضل أن ينهي حياته بهذه الطريقة الفجة.

وتهمس النسوة حولها وهم يلبسون ثوب الصمت الناضح بالكلام غير المفهوم.

هي صامتة زائغة العينين وجامدة كتمثال أبي الهول....

أنظروا....هذه المرأة تحولت حجرا يصعب كسره.

ويتعالى الهمس!!!!!

 لا بل صخرة..... كانت فيما مضى من صنع البشر، كانت فيما مضى كائنا حيا مثلنا، فربما نزلت عليها صاعقة أو مستها عصا ساحرة بها لمسة جن، فاستحالت صخرة.

اقف حائرة تائهة وأتمنى لو أن باستطاعتي دخول قلب هذه المرأة لنبش أحساسيها، ثم أعود فأستحلف من حولها كي لا يظلموها أكثر.... ربما يكفيها ظلم الماضي الرابض فوق كتفيها طوال هذه السينين وهي صامته.....

أنظر إليها نظرة فاحصة متمنية لو أدخل برهة إلى عقلها كي أسبر عمق تفكيرها، أو علني أقرأ ما بداخله من الكلمات التي تؤرقني.

صمت....بل وصمت مطبق...ثم تنبس شفتاها بكلمات خارجة عن الموضوع الحقيقي، وكأنها تتجاهل قطعة سلخت منها، كتلميذ يهرب من سؤال معلمه لأنه لم يدرس ولا يريد ان يتلو الدرس.

رحلت إبنتها...لا يهم....فجميعنا إلى زوال . هي لم تعلق صورتها في صدر الدار كباقي الامهات، فقد كرهت الصور. ولم تصنع سلسالا من ذهب يطوق رقبتها فهي نسيت كيف تلبس سلسله حول جيدها منذ أن نتش منها تلك السلسلة الذهبية العزيزة على قلبها وباعها كي يشتري تلاً من الحجارة سماها مأوى. هي تريد أن تنفض ذاكرتها وما تحمل من ألم ومرار وترمي في سلة الزمن كل ما يذكرها به....تريد أن تنسى وجهه الذي يشبه وجه ابنتها الراحلة، تريد أن تنزع نبرات صوته من أذنيها فنبرة صوتها كانت تذكرها بنبراته وصراخه وشتائمه والسباب، كل ذلك كانت تسترجعه وكأنها تسمعه الآن من بعيد وابنتها مسجاة في يومها الأخير.

تجاهلت بأنها ابنتها.... ولا أحد يجرؤ على السؤال ماذا حصل؟ هي تعيش ماضيها في الحاضر الحارق. أهو انتقام من ظلم بما هو أظلم؟ هل هي تنفض عنها ما علق بذاكرتها من ظلم وتعسف وخشونه.....تنفض صورته القبيحة التي كم تمنت لو لم تكن يوما؟

علقت صورته في صدر الدار ورفضت أن تزين الحائط بصورة إنسانة خرجت إلى النور من حشاها. ربما علقت الصورة لتلعنها صباحا ومساء و كلما التقت عيناها بعينيه.

لمَ تعلق صورته مرتين إذن؟ وتلعنه مرتين؟ طالما هي نسخة طبق الاصل عن حبيب قديم ما شعرت بحنانه يوما لا قبل ولا بعدما عاشا في بيت واحد.

ثلاثة وستون عاما قضتها معه ما عدا أيام الحب التي ربما عادلت تلك المدة كلها...مدة الحب المزعوم والوله من وراء الكوة، لم تذق فيها يوما حلاوة الكلمة ولا طعم التقدير والإعتراف بها وبقدراتها الفذه.

سافرت بها الذاكرة إلى بعيد أيام رأت دار أهلها مملوءا بالبنين ثم شاهدت الساكنين فيه، رأت الأخ والجار والخال والعم قد أحاطوا بالدار ليسدوا مكمن نسمة الهواء النقي ليوقفوه عن أداء دوره في ملء رئتيها بهواء نقي... وهي كيف ستتنفس هواء ملوثا رفضته منذ أن وعت الحياة والنوافذ والأبواب موصدة؟ إلى أين تهرب... إلى الجار الذي كان يتلصلص عليها من الكوة؟ أم إلى الأخ المُذِل والمهين والمبغض للأنثى وإسمها؟ أم أخ الزوج الذي راودها عن نفسها في ليلة كان زوجها يتسلى بلعب القمار؟ أم الأب الذي يعتبرها تكملة عدد، هل تستسلم لقدرها وتبقى تتحمل جبروت الأب المتسلط الذي يكره الأنثى ويتمنى أن يعود زمن الوأد؟ هي تريد أن تكون هي، وهم يريدون أن تكون أخرى. هي تريد أن تكون حرة وهم يريدونها صاغرة وخادمة للآخرين. أنت أنثى ألا تفقهين؟ أنت "صحن لبن" و "ثوب بستونة أبيض" كل شيئ حولك يفسدك... وأنت........ وأنت ......وهي أين هي....ومن هي؟

قالوا لها "وماذا يعني ذكاؤك وكفاحك وأنت أنثى...

إهدئي.... فلا علم الإجتماع ولا السياسية لك.

تقرأ ين! وما نفع الكتب؟

تسمعين الأخبار وتحللين وتناقشين! ولكن من يسمع؟

انت لا شيء يا امرأة...أنت لفظك عصرك والزمن، أنت فقط زوجةٌ وأنثى.....أنت لست معلمة ولا مدبرة ولا طبيبة ولا خبازة ولا عجانة ولا عاملة بالأجرة في حقول الزيتون والتبغ وقطاف العنب. أنت لست الزراّع والحصاد أنت فقط زوجة وانثى....

إهدئي يا امرأة فمن غيرك كانت لها جناحان تحلقان بهما حيثما شاءت؟

قالت الأمومه شيئ جميل وما وراء الكوة أفضل مما يوجد أمامها.....وليكن ما يكن سأكون زوجة وأما ولكني لن أستطيع أن أكون امرأة.

تتكوم الامومة في حضنها عبر السنين كأنها شيء دخيل عليها... تنظر إليها فلا تعيرها اهتماما، هي شيء سخيف تافه لا تريده. فرض عليها فرضا من أخيها وأبيها، وورثته عن أمها دون إرادة. لم تتفاعل فيها الأمومه ظلت تتمشي بمحاذاتها تلامسها ولكنها لا تنصهر فيها، لم تنعجن فيها ولم تذب لتصبح معها واحدا. ما دللت يوما أحدا من أبنائها، لا وقت لذلك فالحياة صعبة وتحتاج إلى الصمود والكفاح. كل ما كانت تركض وراءه تأمين لقمة العيش الكريم لسبعة جياع، . فهي لا تريد لعائلتها أن "تتبهدل". "تعلموا واقتنوا العلم سلاحا واعملوا فالعمل يعطيكم القيمة"، لا بديل عنه أولا وثانيا وأخيرا. المرحلة اللاحقة هي الحب والزواج والعائلة، لا تتعجلوا الأمر.

لم تستطع أن تحقق ذاتها طيلة تلك السنين الطوال، في عيون هذه المرأة انتقام مخفي ولكنه دائم، هي لا تريد شيئا من الدنيا إلا الإنتقام.... صمتها إنتقام....نظراتها انتقام.....حركاتها انتقام.....

ممن؟ هي لا تدري ولكنها تريد أن تنتقم ربما من الدهر وابنتها التي تذكرها به.
حملوا النعش ومشوا ترافقه الدموع....وضعوه على المحمل ولا زالت الدموع تغسله أما هي فظلت صامتة بلسانها وعيونها التي غفت قربه ولم تنبلج شفتاها بحرف.

اي أم أنت؟ تعود النسوه إلى الكلام والهمس، "المنظر يبكي الحجر". لقد نسوا جميعا لبرهة بأن هذه المرأة

"الأم" قد تحجرت حتى تحولت صخرة.

هي بحق أم تصخرت، فقد مستها صاعقة الظلم وستبقى كذلك حتى يأتي من يريحها من أداء هذا الدور ومن هذا الموقف ومن عيون المتفرجين.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى