الأحد ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم هشام آدم

بـعـض الـهـدايـا مـسـروقـة

ينهض "سميث باول" من سريره بتثاقل، كأنه يستعير رأسه من الوسادة. يراقب أبو الحِناء واقفاً على شرفته المُطلة على شارع " بكاديلي - Piccadilly " الأكثر ضجيجاً في المدينة. يُنزل قدميه إلى الأرض. إنه يوم كبقية الأيام. عليه أخذ حمام ساخن في هذا البرد القارص. غرفته الصغيرة ذات النوافذ الثلاث نافذتان في الأسفل وواحدة علوية يبني عليها أبو الحناء عشّه. ينهض ويتمّطى لتبرز صُرته من تحت قميص نومه القصير. رجلٌ في منتصف الثلاثينيات من عمره، ذو شعر ناعمٍ وخفيف، عيناه كثيفتا الحواجب، ووجهه ممتلئ بالبثور الصغيرة. شفتاه المتشققتان يجعلانك تجزم بأنه مدخن شَرِه، وهو كذلك فعلاً. تتناثر على أرضية الغرفة عشرات من علب السجائر، بعضها فارغة وبعضها بها القليل. لا شيء مرتب في هذه الغرفة، كما لا شيء في مكانه المناسب عدا صورة ابنه الذي لقي حتفه في انقلاب حافلة المدرسة؛ وهي تُقله مع مجموعة من الطلاب في رحلة داخل اسكتلندا.

خرج من منزله متوجهاً إلى محله، مكتبة صغيرة في إحدى الشوارع الضيّقة. حيث تكثر الحركة والضجيج. فتيات مراهقات يعبرن الشارع، صبي يمسك بالجرائد على الطرف الثاني من الشارع، رجل يقف ودراجته على ظل لافتة دعائية لمشروب غازي، ثلاثة رجال في إحدى المقاهي القريبة تتعالى أصوات ضحكاتهم، سيدة تسير برفقة كلبها المُدلل، شابٌ يلعب الوامبو(1) قريباً من المحل، حلاّق الحي ينفض شرشفه على الشارع مبتسماً للمارة، بائع الخضراوات يلقي نظرة متفحصة على خضراواته، ويُعدّل لافتة الأسعار، ساعي البريد يرن جرس دراجته منادياً بأعلى صوته "الآنسة ليز ماك فرجير، بريد مستعجل!"، أحدهم يلقي التحية عليه، فيرد بإيماءة رأسٍ وابتسامة خفيفة. يفتح مكتبته الصغيرة ويدخل. لقد نسي أن يطفأ المروحة قبل مغادرته ليلة البارحة، "تباً هذا النسيان ما يجعلني أدفع كثيراً عندما تأتي فاتورة الكهرباء!" يشعل أنوار المكتبة ويتجه نحو "الكاونتر" يفتح إحدى الأدراج يأخذ منها مفتاح صندوق الصحف، يتناول جرائده اليومية، ويعود خلف الكاونتر ليُدير المذياع ويجلس كعادته ليقرأ الجرائد، بكل هدوء. بين الفينة والأخرى، ينادي على "روجيه" صبي في الثالثة عشر يعمل في المغسلة المجاورة، ليأتي له ببعض الطعام، ويتسامران حتى تبدأ وردية "روجيه" التالية. وغالباً ما يعرف "باول" أخبار المدينة من "روجيه" فهو يعرف كل شيء يحدث في هذا الشارع، بل وحتى ما يحدث داخل البيوت، وراء الأبواب المؤصدة. عرف يومها، أن "جورجينيو" غادر بالأمس فقط إلى الجيش للخدمة، وأن "باتريسا" ابنة عمدة القرية سوف يتم زفافها -في الكنيسة بعد أسبوع- على ابن صاحب أكبر مصنع أحذية في المدينة، وأن "مايكل دي أم" تم اعتقاله بسبب حوزته للمخدرات، وأن "بوب ج" سوف ينتقل إلى مدينة أخرى. كان "بول" يحب "روجيه" كثيراً ويعتبره مثل ابنه. كانا يتنادمان كثيراً في وقت الغداء حتى تحين وردية "روجيه" التالية، فينصرف ولا يأتيه إلاً مساءً حين يستعد لغلق مكتبته، فيساعده وينصرف. هكذا كانت حياة "بول" روتينية ليس فيها نوع من التجديد إلاّ ما يحدث عرضاً ونادراً، لا سيما بعد أن تركته ( جاثي ) زوجته ورحيلها لتعيش مع والديها في إحدى الأرياف البعيدة بعد وفاة ابنهما "جاريو".

كان "بول" يتمنى أن لو يقتني كاميرا تصوير خاصة به، فهو يهوى التصوير كثيراً، ولكنه لم يتمكن يوماً من اقتناء واحدة، فهي باهظة الثمن. وربما كان ولعه بالشراب هو ما يؤدي به إلى أن يهدر كل ما يتبقى في حصيلته آخر كل أسبوع. كان "بول" - بعد أن يغلق المكتبة - يذهب إلى الحانة في آخر الشارع، ويطلب شرابه "زهيد الثمن". كانت "روجينا" - إحدى العاملات في الحانة - تهيم به حباً دون أن يدري هو بذلك، فكانت تخبأ له بعض الكؤوس الإضافية سراً، فيأخذها مع بعض القبلات الطائشة مترنحاً في طريق عودته إلى منزله. ويغني في طريق عودته بصوته الذي يزعج كثيراً أحد المتسولين الذين ينامون في الشارع، لدرجة أن هذا المتسول آثر أن يرتحل من رصيفه إلى رصيفٍ آخر لا يمر به "بول" ليلاً! يُشعل "بول" سيجارته وهو يغني ثم يدخل بيته ويقع على سريره جثة هامدة، لينهض صباحاً على صوت أبو الحِناء ينقر على زجاج نافذته. هكذا كانت حياة "بول" حتى ذلك اليوم الذي دخل عليه شاب زنجي، وقف أمام استاند المجلات وبدأ يقرأ فيها، فزجره "بول" :
 ممنوع القراءة داخل المحل أيها الشاب.
 إذاً سأقرها خارج المحل.

وخطف الشباب الزنجي المجلة وركض بها سريعاً خارج المحل، حاول "بول" اللحاق به وركض خلفه مسافة طويلة، ولكنه كان سريعاً لدرجة أن اختفى بين العابرين سريعاً بينما سقطت محفظته أثناء ركضه، فتوقف "بول" لاهثاً وهو يلعن ذلك الشاب في سِرّه، وعاد إلى حيث سقطت محفظته.

عرف "بول" أنه ربما سيجد شيئاً يدل على هوية ذلك الشاب. أخذ "بول" المحفظة وقفل راجعاً إلى مكتبته. جلس وراء الكاونتر، وفتح المحفظة فوجد بها صورة للزنجي صغير يرتدي لبس لاعبي الغولف وممسكاً بكأس بطولة مدرسية، وصورة أخرى مع والدته (على ما يبدو) وبعض الصور العارية لعارضات أزياء.

نظر "بول" إلى المحفظة، وابتسم وقال: "يا له من تعس." عرف "بول" مكان الشاب، ولكنه لم يكن راغباً في إيذائه، بعد أن راء الصور. فقد أحس بطريقةٍ ما أن هذا الشاب بحاجة إلى مساعدة، وربما إلى عمل بدلاً من السرقة التي يقتات عليها. عرف "بول" كل ذلك من منظر منزله الظاهر في الصورة. إنه منزل بسيط جداً بل وربما أقل من ذلك بكثير. فقرّر أن يذهب إليه ويعرض عليه ذلك. وبينما كان "بول" يتفقد بعض الصور، دخل عليه "روجيه" بابتسامته العريضة، جلسا معاً وقصّ "بول" على "روجيه" قصّة الزنجي الذي سرق إحدى المجلات ولاذ بالفرار.أراه الصورة. فضحك "روجيه" وهو يقول:
 أمثال هؤلاء كثيرون وتعج بهم شوارع بكاديلي لا تشغل بالك بهم. دعك من هذا، ألن تأتي السيدة ( جاثي ) في عيد الكرسميس؟
 أليس قبل أن يأتي الكرسميس نفسه أولا؟
 يا عم بول إن الكرسميس على الأبواب، ألم تلاحظ أبواب البيوت في طريقك إلى هنا وقد ازدانت باللافتات الشجرية والأنوار؟
 أفعلاً الكرسميس على الأبواب؟
 تحديداً بعد يوم غد.
 يا إلهي، إن الزمن يمر بسرعة. لقد نسيت ذلك تماماً.
 ( ضاحكاً ) ألم أقل لك! لقد أصبحت عجوزاً رغم أنك لم تتجاوز السابعة والثلاثين من عمرك.
 من فضلك! عمري تحديداً خمسة وثلاثون عاماً.

ينظر الاثنان إلى بعضهما وهما يضحكان. وفي المساء يُغادر بول - بعد أن أغلق محلّه - إلى الحانة. وفي ليلة الكرسميس يُغلق بول محلّه باكراً ويُقرر الذهاب إلى بيت الزنجي. كان بول يمشي بخطوات بطيئة جداً مرتدياً معطفه الصوفي القديم، واضعاً على رقبته شالاً غامق اللون. يضع كفّيه داخل جيوب معطفه ونظراته لا تُفارق الأرض. وحينما وصل إلى المكان بدأ بول يسأل المارة عن عنوان صاحب الصورة التي كانت معه. وبعد وقتٍ ليس بالطويل، وجد بول نفسه أمام منزل قديمٍ بائس. أبوابه الخشبية خلت من الزينة كبقية الأبواب الأخرى. منظره يوحي بأنه خالٍ من السكان أو مهجور منذ سنين. وقف على باب المنزل، وكأنه يستذكر ما يتوجب عليه قوله. دق جرس الباب وما هي إلاّ ثوانٍ ويسمع بول صوت امرأة عجوز وهي تنادي من الداخل:
 من بالباب؟
 ( مُعيداً ترتيب هندامه ) أنا يا سيدتي.
ويُفتح الباب بتثاقل، وتخرج امرأة عجوز كفيفة، تتلمس طريقها بكفّيها.
 أهذا أنت يا وليم؟ كنتُ أعلم أنّك سوف تأتي لا محالة، أعرف أنك لم تكن لتترك جدتك في الكرسميس وحيدة هكذا.

وترسمت الدهشة على وجه بول، وهو يُمسك بيدها المرتعشة، ولم تُمهله السيدة العجوز حتى يتكلم، فارتمت على أحضانه وهي تذرف دموعها الجليلة لتنساب على معطفه الصوفي القديم. ولسببٍ ما، أحسّ بول أنه يجب أن يكون ذلك الـ( وليم ) فقط من أجل هذه السيدة المسكينة التي كانت تنتظره وحيدة بائسة في ليلة الكرسميس. فقبضها إليه بشدة وهو يقول:
 نعم يا جدتي، إنه أنا وليم، كان يجب أن آتي لزيارتك في هذه المناسبة.

كان المشهد مثيراً وهما يقفان على الباب محتضنين بعضهما في حنين فريدٍ من نوعه. وثلوج الشتاء تغمرهما بشال بارد. مسح بول على كتف العجوز وهو يقول لها:
 تعالي إلى الداخل يا جدتي العزيزة، إنّ الجو باردٌ هنا.

ودخلا إلى داخل البيت الذي لم يكن يُشبه بقية البيوت. فطلاء البيت باهت وجدرانه مشقوقة وتخلو من أي أنوار، ما خلا بعض الصور القديمة لرجل يرتدي لبسة لاعبي البيسبول، وأخرى في الطرف الآخر من الردهة لفتاة ورجل يقفان بجوار بعضهما في حديقةٍ عامة. أجلس بول العجوز على الأريكة وجلس إلى جوارها، وهو يتقلّدها تماماً كما ولو كانت جدته فعلاً. وشرعا يتبادلان الأحاديث وبول يُحاول المستحيل كي لا يُشعر العجوز بأنه ليس وليم الذي كانت تنتظره. ولكنها كانت تعلم أنه ليس وليم. لقد ارتضيا أن يلعبا على بعضيهما هذا الدور، فهي كانت تريد أن تشعر بأن ثمة شخص يسأل عنها في وحدتها التي تعيش فيها، وفي ظلماتها الثلاث: ظلمة عينيها وظلمة البيت وظلمة الليل. وكان بول بحاجة إلى أن يشعر بأنه شخص نافع ولو لمرة واحدة في حياته. فحبك كل منهما دوره. وبدأ بول في تجهيز العشاء للعجوز وأحضر بعض الورود والشموع والأجراس الصغيرة واحتفلا بليلة الكرسميس على طريقتهما الخاص، بشكل غاية في البساطة.

كانت العجوز تُحس بسعادة غامرة وهي تشعر بوجود أنفاس بول حولها وهو يلاطفها ويسقيها الحساء الساخن، وهو يمسح بمنديله على فمها المرتعش، وهو يتقلّدها بيديه العطوفتين. وكان بول يشعر بسعادة لم يشعر بها قط في حياته. فقد أحس لأول مرة أنه شخصٌ ذو قيمة، وأنه - ولأول مرة منذ وفاة ولده - مسؤول عن شخصٍ آخر، يرعاه ويسهر على راحته وإرضائه. وبعد أن انتهى الاثنان من العشاء قامت العجوز بتثاقل واتجهت إلى الأريكة وفردت جسمها وهي تبتسم لبول وتقول له:

 يا بُني، ليس هناك أجمل من النوم بعد وجبة دسمة كهذه.

أمالت العجوز رأسها وغطت في سُباتٍ عميق. وكان بول ما زال جالساً في مكانه على سُفرة الطعام. وهو ينظر إليها بعين الرضا والاعتزاز. فنهض بعد أن تأكد أنها قد غرقت في النوم، انتزع معطفه من خلف الكرسي وأطفأ الشموع. ولكنه أراد قبل مغادرته المنزل أن يتأكد من أن كل شيء على ما يرام. فدخل المطبخ، وتأكد من تأمين البوتوجاز، والمايكرويف. وأدار مروحة الشطف، ووضع الكؤوس والأطباق على حوض المطبخ. ثم دخل إلى الغرف وأقفل النوافذ وأعاد ترتيب فُرش السرير. وبينما همّ بالخروج من الغرفة وجد عدداً من كاميرات التصوير الجديدة وراء الباب. كانت هناك أربع صناديق لكاميرات تصوير جديدة في كيس كبير وراء الباب. أمسك بإحداها وتذكر حلمه القديم بأن يمتلك واحدة منها. ولكن نفسه تنازعته في أن يأخذها أو أن يتركها، ولكنه قرر سريعاً أن يأخذ واحدة فقط، فقد كان يبدو أنها مسروقة أيضاً. أعاد الكيس وراء الباب وخرج من الغرفة ووقف في الردهة وبدأ ينظر إلى العجوز التي ارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة جعلتّه يشعر بالارتياح، وشعر أن هذه الكاميرا التي أخذها ربما تكون ثمن تلك الابتسامة. أطفئ بول الأنوار وخرج في هدوء.

(1) الوامبو: لعبة عبارة عن بكرة لها خيط مطاطي ينتهي طرفها بحلقة يضعها اللاعب في إصبعه ويدفع بالكرة فيرتخي الخيط حتى نهاية، ثم يعود الخيط فيلتف مرّة أخرى حول البكرة لتصبح في يد اللاعب


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى