الجمعة ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم محب الدين الخطيب

حاجتنا اللغوية إلى مجمع يُوثق به

الحاجة إلى مجمع لغوي ـ تاريخ فكرة المجمع اللغوي في مصر ـ صفات عضو المجمع اللغوي ـ المجمع اللغوي بين القديم والجدد ـ ما يجب ملاحظته في المجمع اللغوي المرتجى

« الحاجة إلى مجمع لغوي »

قاعدة مطّردة يجب علينا أن نراعيها في جميع ما نحن عازمون على القيام به من ضروب الإصلاح والتجديد، وقد جرَّب العمل بها ثلاث أمم عظمى في أدوار التاريخ الثلاثة، فكانت سبب عظمتهنّ وسرُّ تفوقهنّ على أمم الأرض: الرومانيون في الأزمنة القديمة، والعرب في الأزمنة المتوسطة، والإنكليز في الأزمنة الحاضرة. هذه القاعدة هي أن لا تهمل الأمة من تقاليدها إلا ما تبين ضررُه، وأن لا تأخذ من تقاليد غيرها وأوضاعهم إلا ما أوجبت الضرورة أخذه. فالمهارة في أخذ ما يجب أخذه وترك ما يجب تركه هي سرُّ عظمة هذه الأمم الثلاث واستفحال سلطانها.

واللغة أحد الأوضاع الجليلة الخطر في كل أمة، وهي كائن حيٌّ يجب أن تبقى له خصائصه وسجاياه المميزة له عن غيره، ويجب أن يتغذّى دائماً بما يكفل له البقاء والنماء، ويجعله صالحاً لأداء وظيفته في الحياة. وأيّما أمة تخطئ مناهج الصواب في تغذية لغتها ترتكب بذلك جريمة لا نجاء لها منها. واللعب في مصير اللغات أعظم خطراً من اللعب بمصير الأوطان، والخيانة في ذلك شرٌّ من الخيانة في هذا. ومن الخيانة ما يتمّ على أيدي أناس وهم في غفلة عن نتائج ما يعملون، وفي مثل هؤلاء هبط الوحي على قلب سيد المرسلين، من كلام رب العالمين، بأنهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

إن سلطان العربية في سجاياها الخالدة التي ما برحت مرآة كل عصر وكل جماعة وكل بيئة، رغم خلودها وثباتها ورسوخ أصولها.

أرأيت لو أني عثرت على قصيدة من قصائد بشار المفقودة، وعرضتها على أنظار قرّائي في هذه المجلة إلى جانب قصيدة للرُّبيع بن ضبع ـ دون أن أسمّي ناظميها ـ هل يشك القرّاء في أن القصيدتين من عصرين مختلفين؟ إنهم لا يشكُّون في ذلك قطّ، لأن شعر الرُّبيع مرآة صادقة لعصره وبيئته، كما أن شعر بشار مرآة صادقة لعصره وبيئته، حتى فيما حاول بشار أن ينحو فيه نحو الأعراب من شعره. مع أن سجايا اللغة في شعر الرُّبيع وبشار ما برحت محتفظة بسلطانها مستقرة في مكانتها، وكذلك الحال في شعر المتنبي ومحمود سامي البارودي وكل عبقري كانت هذه اللغة ترجمان الدقيق من خواطره والسامي من إلهاماته، فهي قد اتسعت لأغراضهم دقّة وسموّاً ـ بعد أن وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ـ فلم يخرجوا على قوانينها ولم يتمرّدوا على سجاياها.

قلت إن اللغة يجب أن تتغذّى دائماً بما يكفل لها البقاء والنماء، ويجعلها صالحة لأداء وظيفتها في الحياة. وهذا حقٌّ لا يرتاب فيه عاقل، وعليه مضى الذين سبقونا في هذه الصناعة في الدول العربيةالمتقدمة فضربوا في ذلك بسهم على قدر حاجتهم، مراعين قوانين التغذية التي لا ظغيان فيها على سجايا اللغة وخصائصها، ولا خروج فيها على أنظمتها وقوانينها. وإن الأمة التي تريد أن تجاري الأمم الراقية في أقصى ما وصلت إليه من معارف البشر لابدّ لها من أن تغذي لغتها بالألفاظ والإصطلاحات الدالة على تلك المعارف فتأخذ من ذلك على قدر الحاجة وتستعمله في مكان الحاجة، فيكون من ذلك لغة للعلم غير لغة الأدب، وأساليب للبيان يليق كل منها بما اُستُعمل له.

إن الدولة العربية في العهد العباسي لما رأت طغيان التغذية في اللغة أصبح مجلبة شرور لا يجوز الإغضاء عليها بما يرتكبه المترجمون من شحن العربية بألفاظ أعجمية قد يكون في العربية ما يغني عنها، فضلاً عن سوء ترجمتهم للإصطلاحات العلمية، وتبذّلهم في الأساليب الكتابية؛ بادر رجالُها في الحال إلى الأخذ على أيدي ضعاف المترجمين فعهدوا بمهمة تغذية اللغة من الجانب العلمي إلى علماء بُلغاء ينظرون فيما ترجمه المترجمون فيصلحون لغته، ويهذبون مصطلحاته، ويقوّمون أساليبه، احتفاظاً بخصائص العربية وسجاياها؛ ولولا ذلك وغيره من مظاهر عناية الدولة والعلماء، بل لولا كتاب الله تتلى آياته في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي، لكانت العربية اليوم كاللغة المالطية انحطاطاً وفقراً وابتذالاً.

وبعد فإن اللفظة الأجنبية في الكلام العربي، كالجندي الأجنبي في الوطن العربي. وإذا كان في الأوطان العربية نفر يعرفهم الناس لا يسوءهم وجود الجندي الأجنبي يمشي بسلاحه فوق تربة الوطن المقدّس فإن جمهور الأمة يحتقر من يرضى بذلك ويسمّي عمله بالاسم اللائق به. وإذا كان من حملة الأقلام من المنتسبين إلى الآداب العربية نفر يعرفهم الناس لا يسوءهم العدوان على سجايا العربية ولا احتلال الألفاظ الأعجمية سطور كتاباتنا فإن حكم الجمهور على هؤلاء لا يقلّ عن حكمه على أولئك، لأن الأمرين يرجعان إلى معنى واحد.

نحن نحتاج إلى ألفاظ جديدة تدلّ على المعاني الجديدة، لكنا نريدها عربية يأنس بها كلامنا، ونريدها ملائمة لخصائص لغتنا وسجاياها، وغير متمردة على قوانينها وأنظمتها، سواء كان هذا التمرد منبعثاً عن نكاية أو عن غفلة.

لهذا الغرض، وبدافع من هذه الحاجة، فكّر المفكرون في تأليف مجامعنا اللغوية وحاولوا غير مرة تحقيقها.
« تاريخ فكرة المجمع العلمي » ([1])

كان السيد عبد الله نديم أول من دعا ـ بطريق النشر ـ إلى فكرة إنشاء المجمع اللغوي، فاقترح في صحيفته ( التنكيت والتبكيت ) التي كان يصدرها في الإسكندرية سنة 1289هـ / 1881م، فأخذت الفكرة في الاختمار من ذلك العهد.

وحوالي سنة 1306هـ / 1888م، تناقلت الأفواه خبر سعي جماعة من الفضلاء في تأليف مجمع لغوي برئاسة العلامة عبد الله فكري باشا.

ثم سعى السيد توفيق البكري ـ نقيب الأشراف يومئذ ـ في تأليف مجمع سنة 1309هـ / 1892م، فتم له تأليفه برئاسته ( ويرى الأستاذ توفيق أفندي حبيب «المقتطف 72: 58» أن ذلك كان على أثر دعاية ويالككس إلى الكتابة باللغة العامية). وكان من أعضاء هذا المجمع الشنقيطي الكبير والشيخ حسن الطويل والشيخ حمزة فتح الله واسماعيل صبري باشا ومحمد بك المويلحي وغيرهم من أساطين اللغة والأدب.

وكان عمر هذا المجمع قصيراً، فإنه عقد سبع جلسات أولها يوم 21 شوال سنة 1309هـ / 18 مايو 1892م، آخرها يوم آخر رجب سنة 1310هـ / 17 فبراير سنة 1893م. وفي المذكرة التي اعتمدت عليها في كتابة هذه النبذة أن من أعضاء هذا المجمع من انخرط فيه مكرهاً فلم يشهد إلا الاجتماع الأول منه ثم انقطع عن حضور الجلسات.

والألفاظ التي وضعها هذا المجمع وأقرّها عشرون لفظة:

عشر منها من وضع رئيسه توفيق البكري وهي (مَرْحَى) لكلمة بْرافو Bravo، و(بَرْحى) لكلمة fi، و( مِدْرَة) لكلمة أفوكاتو Avocato، و(المِسَرّة) لكلمة تلفون telephone، و( عم صباحاً ) لكلمة بون جور Bon jour، و( عم مساء ) لكلمة بون سار Bon soir، و( القفّاز ) لكلمة جوانتي، و( النُمرة ) لكلمة نومروnumero، و(الوشاح) لكلمة كُردون Cordon.

وعشر من وضع السيد محمد بك المويلحي وهي (الطنف) لكلمة بَلْكون Balcon، و(الحرّاقة) لسفينة التوربيد port Torpille، و( الجديلة ) لكلمة مُودة Mode، و (بطاقة الزيارة) لكلمة كارت فيزيت Carte de Visite، و(المرَب) لكلمة كْلُوب Club، و(الحذاقة) لشهادة البكالوريا، و(العاطف) و(المعطف) للبالطو أو الباردسّو pardessue، و(حصب الطريق بالحصباء) لجملة وضع المكدام في الطريق، و(الشرطي) و(الجلواز) و(التؤتور) لرجل البوليس، و(المِشجب) للشمّاعة porlemanteau.

وقد انتقد السيد عبد الله النديم هذه الكلمات في مجلته (الأستاذ) فاختار (بَخٍ) لبرافو، و(النادي) للكلوب النهاري، و(السامر) للكلوب الليلي، و(النمط) و(الطراز) للمودة. واستحسن أن يخصّ «كردون القضاة» بالقليد لأنه لا جوهر فيه، ولم يذكر للتوربيد مرادفاً، ووافق على سائرها.

وانتقدها أيضاً صاحب الهلال فاستحسن من العشر الأولى ثماني، وخالف في اثنتين: فاختار المحامي للأفوكاتو، والرقم للنومرو. واستحسن من الثانية ستاً وخالف في أربع: فاختار النادي للكلوب، والزي للمودة، والشُّرفة للبلكون([2])، ولم يذكر للتوربيد مرادفاً.

ولما أصدر الشيخ ابراهيم اليازجي مجلة ( البيان) في القاهرة استطرد في مقالة (اللغة والعصر) إلى انتقاد هذه الألفاظ، فلم يستحسن لكلمة برافو (مرحى) ولا لكلمة في (برحى) لوجود مثل ( بخ بخ) و(به به) و(لله أنت) و(لله أبوك) إلخ للاستحسان، و(سوءة لفلان) و(قبحاً له) و(تباً له) إلخ للاستهجان. كما أنه استنكر (عم صباحاً وعم مساء) لأنهما مما أُميت استعماله قديماً مع وجود ما هو أخف منهما على الألسنة من ألفاظ التحية. وانتقد (النمرة) للنومرو ولكن لم يذكر لها مرادفاً ([3]). واختار للتوربيد الرعّاد، وفضل الجناح على الطنف للبلكون، وخص المعطف بالبالطو، والدثار بالباردسّو.

ثم أنشئ في القاهرة عام 1325هـ / 1907م، نادي دار العلوم برئاسة محمد حنفي ناصيف بك العلامة الشهير، وخصّ بعض جلسائه للبحث عما يتّبَع في وضع الألفاظ، فكانت نتيجة مباحثاته أن قرّر ما يأتي:

« يُبحث في اللغة العربية عن أسماء للمسميّات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة، فإذا لم يتيسّر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية، ويستعمل في اللغة الفصحى بعد أن يعتمده المجمع اللغوي الذي سيؤلّف لهذا الغرض ».

ثم طرأ فتور على أعمال النادي، أعقبه انتخاب محمد عاطف بركات بك (باشا) ناظر مدرسة القضاء الشرعي رئيساً له، فحاول إنهاضه بعدّة وسائل، منها أنه قرّر في الجلسة المعقودة في 17 صفر سنة 1327 إنشاء مجلة شهرية فأنشئت باسم (صحيفة نادي دار العلوم) ، وصدر أوّل عدد منها في 15 ربيع الأول من تلك السنة/ 6 ابريل سنة 1909م. ثم عنّ لهم أن يستأنفوا البحث في اللغة ووضع أسماء للمسميات الحديثة، فاستحسنوا « أن ينتخب عشرة من الأسماء الأعجمية أو العامية، فيرسل إلى كل عضو من أعضائه نسخة منها ليكتب كل عضو ما يراه مناسباً لذلك الاسم من الكلمات العربية البسيطة أو المركبة، ثم تعاد هذه الإجابات إلى النادي في موعد معيّن، وحينذاك تجتمع اللجنة العلمية للنادي فتبحث هذه الإجابات وتختار من الكلمات أقربها مناسبة لمعنى الكلمة الأعجمية أو العامية ».

ثم أخذوا في نشر ما يجتمع لديهم من هذه الألفاظ وأعلنوا أنه إذا مضى على نشرها شهر كامل ولم ترد إليهم ملاحظات اعتُبرت رأياً عاماً لجميع الأعضاء، وكان عليهم أن يصقلوها بألسنتهم وأقلامهم حتى تكون لعامّة من يشتغلون باللغة العربية. ثم بدا لهم جمع ما تشتّت من تلك الألفاظ في أعداد السنة الثانية فجمعوها ونشروها بعد تعديل فيها في العدد الثاني من السنة الثالثة مرتبة على حروف المعجم، ثم تعطّلت المجلة والنادي.

وفي سنة 1917 أقام اسماعيل بك عاصم مأدبة في داره لصاحبي المقتطف حضرها بعض الفضلاء، فاقترح بعضهم السعي في تأليف مجمع لغوي، فتم تأليفه برئاسة شيخ الجامع الأزهر ، وكان من كبار أعضائه أحمد تيمور باشا وحفني بك ناصف والشيخ أحمد الإسكندري والشيخ أحمد ابراهيم وأحمد كمال باشا وأحمد زكي باشا والشيخ مصطفى النعاني والدكتور يعقوب صرّوف. وكان يوالي اجتماعاته في دار الكتب المصرية، وألف منها لجاناً تشتغل كل لجنة منها بفرع من فروع العلوم والفنون فتضع لمصطلحاته الكلمات اللائقة بها. وحال بينه وبين الاستمرار اشتغال مصر بحركتها الوطنية بعد انتهاء الحرب العظمى. فلما جُعل عبد الحميد بك أبو هيف مديراً لدار الكتب رأى أن يسعى في استئناف المجمع أعماله فدعا أعضاءه الباقين إلى الإجتماع بدار الكتب مساء الثلاثاء 13 جمادى الثانية سنة 1344/ 29 ديسمبر 1925م، فاجتمعوا برئاسة وكيل المجمع الشيخ محمد بخيت وألّفوا منهم لجنة للسعي لدى الحكومة في الإعتراف به. ثم انتقل عبد الحميد بك أبو هيف إلى رحمة الله تعالى ورضوانه فلم يجتمع المجمع بعد ذلك.

وفي 16 ربيع الأول سنة 1340اجتمع بعض أعضاء المجمع الذي تقدّم الكلام عليه، وضموا إليهم خليطاً غير متجانس من الأدباء، وأعلنوا تأسيس مجمع لغوي لتأليف معجم عصري يجمع بين مادة المعجم العربي القديم وبين ما استعمله الأدباء المحْدثون وما يضعه المجمع نفسه من الأوضاع والمصطلحات.

قلت: إن هذه الجمعية تألفت من خليط غير متجانس ، لأن فيمن انتسب إليهم ـ ولو بالإسم ـ رجالاً يعدون من كبار أهل الأدب، كما أن فيهم من لا علم له بالقواعد الأولى من علم الصرف، بل فيهم من لايحسن مراجعة لفظة في القاموس المحيط، وكانوا يحاولون أن يحصلوا من الحكومة على اعتراف رسمي يخّولهم الحرية في العمل، ويفتح لهم باب المساعدة على ما هم فيه، فلم يظفروا ببغيتهم، فكان ذلك قاضياً على مجمعهم.
« صفات عضو المجمع اللغوي »

إن الصفة الأولى التي يجب أن تُلاحَظ في عضو المجمع اللغوي العلم بقوانين لغة العرب وتاريخ تطوّرها، والشعور بروح العصر وما يتطلبه في اللغة من أحوال. وهذه الصفة في عضو المجمع اللغوي ترجع إلى القاعدة التي قلت في صدر هذا المقال إن من الواجب علينا أن نراعيها في جميع ما نحن عازمون على القيام به من ضروب الإصلاح. وفي الحقيقة أن تلك القاعدة معيار التوازن في التجديد فإذا طغى أحد جانبها على الثاني كان في ذلك فقدُ التوازن ، وكان في ذلك السقوط. فمعرفة قوانين اللغة إذا لم تكن مقرونة بمعرفة روح العصر وما يتطلبه في اللغة من أحوال، كانت حينئذ معرفة جافة وهي ما نسميه الجمود، وقد رأينا ولا نزال نرى جناية الجمود على نهضتنا. والشعور بروح العصر وما يتطلبه في اللغة من أحوال إذا لم يكن مقروناً بمعرفة قوانين اللغة ، نتج عن ذلك تمرّد على تلك القوانين، وعبث باللغة، وكانت عاقبته الفوضى والهدم والشتات.

إن الفشل ـ الذي كان من نصيب جمعية السيد توفيق البكري ونادي دار العلوم ومجمع دار الكتب وجماعة الخليط الذي لم يكن متجانساً ـ ناشئ عن شيء واحد وهو ضياع صوت الأقلية القائلة بالتوازن بين قوانين العربية والحاجة العصرية لطغيان جلبة الجمود وتهويش الفوضى وظهورهما على صوت الإصلاح.

وماذا تنتظر من مجامع أكثر من فيها إما من هؤلاء المجددين اللذين لا يأنسون بما في معجم لسان العرب من مادة اللغة لأنهم لم يتعلموا كيفية المراجعة فيه فيكتفون بالمنجد، وهم يسمون الفوضى حرية والإباحة تجدداً والتهديم إصلاحاً. وإما من الجامدين على ما في الكتب المؤلفة في العصور المتأخرة، فلا هم رجعوا إلى ينابيع علومنا اللغوية الأولى التي دوّنها ابن جنّي ومعاصروه ومشيختهم والتابعون لهم بإحسان وكان علمهم عيناً ثرّة ستكون لنا مدداً سخياً يوم نباشر الإصلاح الحقيقي، ولا هم عرفوا ما يقتضيه روح العصر فسدّوا حاجة الناس فيه وساعدوهم على نيل مبتغاهم بما يحفظ للغة سجاياها الأزلية الخالدة.

فالصفة التي ينبغي أن تنشد في عضو المجمع اللغوي قبل غيرها هي المقدرة على حفظ هذا التوازن بين قوانين اللغة ومقتضى الزمان.
« المجمع اللغوي بين القديم والجديد »

أنا مع القائلين بالتجديد إلى أقصى حد تقتضيه حاجتنا ونهضتنا، وما طرأ على عقيدتي هذه وهنٌ قط في يوم من الأيام. إذ لا يُعقل أن تكون صفحات الحياة البشرية في تغير، وحاجاتها في تفاوت واختلاف، ثم يأبى عاقل أن يأخذ بمقتضيات هذا التغيير في صفحات الحياة، ويصرّ على تجاهل ذلك التفاوت والإختلاف في حاجاتها.

ولكن لفظ (التجديد) كلفظ (الاستقلال) ولفظ (حق الأمم في تقرير المصير) صار يطلق على معاني تكاد تكون متناقضة؛ فمن الواجب على المهتمين بأمر التجديد أن يحددوا معناه ليتفاهموا في مدلوله ويكونوا من أمرهم فيه على بينة فلا يدني منهم الحنظلة من فمه وهو يحسبها فاكهة حلوة، ولا يتناول السمّ مخدوعاً باسم آخر أطلق عليه.

للتجديد في حركتنا الأدبية الإصلاحية معنيان:

المعنى الذي يفهمه الإنكليزي والألماني وأفهمه أنا معهما، وهو أن أوضاع الأمور ممثِّلة لكيانها الأدبي، وبقاء هذا الكيان متوقف على أن تحتفظ منه بكل ما ليس مضرّاً، وأن لا نضيف إليه من أوضاع الأغيار إلا ما كان ضرورياً. فإن لأوضاع الإنكليز طابعاً خاصاً بهم كما أن لأوضاع الألمان طابعاً خاصاً بهم، وترى كُلاً منهما متجلياً في جميع ما يصدر عن هؤلاء وأولئك من صناعات وأعمال وحركات، وإنك إذا كنت من قرّاء كتبهم تكاد تلمس الأوصاف الخاصة بطابع كل منهم بادية في ذوق الطباعة وفي نوع الورق وفي شكل التجليد، مع أن الحضارتين ترجعان إلى أصل واحد. وأذكر أنني قرأت مرّة فصلاً كتبه الأديب التركي الكبير سزائي بك ابن سامي باشا بعد إقامته الطويلة في بلاد الإنكليز يذكر فيه تمسّك الإنكليز بما ليس مضرّاً من أوضاعهم وأذواقهم، واقتناعهم بأن ما عندهم من ذلك لا يعلو عليه شيء من أمثاله في الأمم الأخرى، حتى أنهم أقنعوا فتيانهم بأن للجمال الإنكليزي معاني من الرقة واللطف لا توجد في أمم الأرض.

وهم مع شدة تمسّكهم بما يمتاز به كيانهم الأدبي لا يفتأون يراقبون بكل وسائل المراقبة ما يحدث عند غيرهم من تقدم في الصناعة ووسائل القوة، فلا يكاد غيرهم يخطو في ذلك خطوة حتى يأخذوا هم أيضاً بها ويحاولوا أن يزيدوا عليها. فالتجديد عندي أن نأخذ بالضروري من أسباب القوة والتقدم على هذا النحو، مع الاحتفاظ بما ليس مضرّاً من أوضاعنا وتقاليدنا، لتبقى لنا الشخصية القومية التي نمتاز بها وتعصمنا عن أن نذوب فيمن هو أقوى منا. أما فكرة الجامعة الإنسانية فليس لها محل في كتاب الإيمان العصري الذي تدين به الأمم القوية، وستبقى كذلك من الآن إلى ألف سنة أخرى فيجب على الأمم الضعيفة أن تبتعد عن هذا المرض القاتل جهد طاقتها.

والمعنى الثاني من معاني التجديد هو الذي يريد أصحابه أن يقنعونا بأن المدنية الأوروبية كلٌّ لا يجوز أن نأخذ ببعض عناصره دون بعض. وهؤلاء إذا قالوا (رجعية) فإنما يريدون الإسلام، وإذا قالوا (القديم البالي) فيعنون الأوضاع العربية التي يتكوّن منها كياننا الأدبي. وبعض هؤلاء صريح إلى حد أن يقول « كما يجب على المصري أن يضحي نفسه في سبيل مصر يجب على مصر أن تضحي نفسها في سبيل العالم ». والبعض الآخر منهم أكثر خبثاً وأشدّ تحفّظاً فلا يسمح لنفسه أن ينطلق إلى هذا الحد ولكنه يحاول أن يهدم من صدرونا وقلوبنا حرمة كياننا الأدبي، وأن يصوّر ماضينا لأحداثنا بصورة كاذبة يسهل معها على الجيل الآتي أن يكفر بالشرق ويؤمن بالغرب، وأن يجعل مصر وغير مصر من أوطاننا قرباناً يذبحه بين أيدي جبابرة القوة والتسلط في القارة الأوربية. فيجتمع هؤلاء عندئذ بسلامة موسى اجتماعاً فعلياً في حفلة تضحية مصر وغير مصر من الأوطان الشرقية في سبيل القسم القوي الجشع من ممالك العالم.

وهناك فريق ثالث يعيش في زماننا ولكنه لا يجهد فكره في معرفة هذه الأمور، ولا يميّز بين تجديد وتجديد، فينصّب نفسه لعداوة المعنيين جميعاً. وما دام هذا الفريق صادّاً عن التجديد النافع المعقول فإن نتيجة ذلك أن نبقى ضعافاً فتتم التضحية من سبيل آخر. ثم إن هذا الفريق بإنكاره التجديد المعقول النافع ينفّر الشباب عن كيانهم القومي، ويقذف بهم إلى الناحية الأخرى التي نسمع منها دعوة السوء ونداء التطرف والتفريط.

إن الحكومة المصرية تفكّر الآن في تأسيس مجمع لغوي، وسيكون هذا المجمع تجاه مذاهب ثلاثة هذه آراء أصحابها في التجديد، وسيكون حكماً على هذا المجمع وموقفه منا ومن حركتنا الإصلاحية، بحسب العناصر التي يتكوّن منها والرجال الذين يكون المجمع تحت تأثيرهم ومسيّراً بأيديهم.
« ما يجب ملاحظته في المجمع اللغوي المرتجى »

إذا أرادت وزارة المعارف المصرية أن يكون المجمع اللغوي المنوي تأسيسه حاصلاً على ثقة الأقطار العربية والإسلامية، فيجب أن تختار رجاله من أهل هذا الشأن، المتضلعين بعلوم العربية، العرفين بحاجة العصر، الجانحين إلى الترقي باللغة في مدارج قواعدها ومقاييسها، متجنبين الثورات الهادمة والجمود المميت.

ولا نحسب المجمع يحتاج إلى اعتماد كبير في ميزانية وزارة المعارف إذا اتبعت في تكوينه طريقة دمشق في تكوين مجمعها، فإن الأعضاء الموظفين في مجمع دمشق أقل عدداً من أصابع اليد الواحدة، ومنهم يتألف مكتب المجمع، ويضم إليهم أعضاء شرف يحضرون جلساتهم ويعملون معهم، ووراء هؤلاء أعضاء مراسلون في الشرق والغرب يشاركونهم في الرأي ويمدونهم بالبحوث العلمية بين حين وآخر.

وقد يظن بعض القراء أن ( المعجم) أول ما ينتظر صدوره عن المجمع اللغوي، والحقيقة ليست كذلك، فإن بيننا وبين المعجم الذي نحن في حاجة إليه عقبات كثيرة لا نجتازها بالبحث سنين طويلة لإكمال الناقص من معجمنا بوضع ما يدلّ على المسميات الحديثة.

ثم إن كثيراً من الأوضاع الجديدة لا يكفي فيه علم العلماء، بل لا بد فيه من تأييد الدولة وتشجيعها: فالجيش ـ مثلاً ـ بأفراده وجماعاته ونداءاته وأسلحته وأدواته يحتاج إلى أسماء ومصطلحات لا سبيل لها إلى المعجم ما لم تقرّها الدولة وتستعملها في ثكناتها ودواوينها، فتصقلها الألسنة وتتداولها الصحف، وقد جرّبتْ دمشق مثل هذا العمل في سنتي استقلالها (1919ـ 1920) فخطت فيه خطوات واسعة. وبغداد تقوم بمثل ذلك الآن قياماً محموداً. فإذا وُجد لمصر مجمع لغوي مؤلف من أساطين اللغة والأدب الموثوق بعلمهم كان ذلك فاتحة عهد جديد لتعاون القاهرة ودمشق وبغداد على عمل عظيم يكون فيه لمصر مقام يناسب فضل الرجال القائمين بهذه المهمة وما يبذلونه من مساعي لإبلاغ لغة الضاد المقام الذي هي أهل به. والله الموفق.


مجلة الزهراء، ج 5، م 4، رجب 1346 هـ ، ص 257 ـ 269.

الهوامش

(1) ـ تلقيت أكثر ما ورد في هذه النبذة من مذكرة كتبها أعلم رجالنا في هذا الموضوع.

(2) ـ الشرفة: حلية من الحجارة تجعل منفصلة بعضها عن بعض على أعلى المساجد والقصور فلا ترادف البلكون.

)3) ـ كان من رأيه أن يوضع لها (الرقم) وقد صرح به في مقالات له أخرى.

عن موقع الفسطاط


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى