الأحد ٢٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
"تامر السعيد"..
بقلم أمل الجمل

يفتح بوابة السجان ويحفر ثغرة في قلب السينما السائدة

ربما كان السبب الجوهري وراء صُنع فيلم "يوم الأثنين", روائي قصير مدته ثماني دقائق إنتاج مستقل للمخرج "تامر السعيد ", هو محاولة وضع حد للشكوك والهواجس الكامنة في العقل الباطن لصاحبه عن قدرته في أن يبدأ خطواته على طريق عمره.. أو ربما كان محاولة للإجابة على التساؤل المقلق والمربك في أعماق كل مبدع عن مدى تملكه لأدواته كمخرج, عن المستوى الحقيقي لإمكاناته الفنية, عما إذا كان قادراً على أن يجعل الآخرين يشعروا به عندما يبدأ مشواره الإبداعي في السينما الروائية, عما إذا كان قادراً على مواصلة ذلك المشوار. لكن المفاجأة أن فيلم "يوم الأثنين" لفت الأنظار بقوة إلى مخرج يمتلك الوعي والإحساس العميق بفنه, وظل الفيلم وصاحبه يتلقيان الدعوات على مدار عامي 2005, 2006 للمشاركة في عدد كبير من المهرجانات الدولية والعربية كما نال بعض جوائزها.

" تامر السعيد " مخرج سينمائي شاب تردد اسمه كثيراً على مسامعي. عندما قابلته صدفة في أحد الإجتماعات السينمائية وجدته مُدهشاً مثل أفلامه. هو إنسان بسيط حاضر الذهن, وفنان حساس مُرتب الأفكار, خفيف الظل مليء بالتلقائية والتواضع وهو ما إنعكس في أفلامه. درس "تامر " الصحافة بجامعة القاهرة, وأثناء دراسته بالمعهد العالي للسينما, الذي أصبح مُعيداً به, قدم ثلاثة أعمال روائية قصيرة هى "18 سبتمبر", 12 دقيقة 1994, و "شارلي", 8 دقائق 1995, و" الدنيا ريشة في هوا " 12 دقيقة 1997 وهو نفس عام تخرجه.. عمل مساعدا للإخراج في عدد من الأفلام الروائية الطويلة.. عام 1999 قدم فيلمه التسجيلي الأول "العزف على الشبك " 26 دقيقة.. وهو إنتاج مصري, وجاء فيلمه التسجيلي الثاني "غير خدوني", من إنتاج "قناة الجزيرة" " قطر". ثم قرر المخرج الشاب هو وعدد من أصدقائه, من بينهم "إبراهيم البطوط" مخرج " إيتاكي", خوض تجربة السينما المستقلة, التي أصبحت تُشكل تياراً متصاعداً في السينما المصرية, لإنتاج أفكارهم وإخراج أفلامهم الروائية القصيرة بعيداً عن السينما التجارية السائدة, وعن الكيانات الإنتاجية المسيطرة.

يوم الأثنين

بطلا الفيلم زوجان عاديان, تم زواجهما عبر الصالونات, ليس عندهما مشاكل كبيرة, ولا يُوجد بينهما حباً ملتهباً كما تزعم الأفلام.. يمر الزوجان, يوم الأثنين, بحدث يبدو بسيطاً, لكنه يجعل يومهما له مذاق مختلف, يجعلهما يرتشفان المتعة ويعرفان السعادة الحقيقية للمرة الأولي.. في ذلك اليوم يخوض كل منهما, بشكل متوازي, تجربة جديدة يُحقق بها متعة لم يكن يتوقعها.. يتميز الفيلم بوحدة الحدث الذي يمر به الأثنان, لكن كل منهما يستقبله بوجهة نظره الخاصة, بعيونه وبإحساسه الخاص. لذلك قرر المخرج وكاتب السيناريو أن يروي لنا كل من الزوجين الحدث بأدق تفاصيله, فالزوج يحكي أنه كان يُريد الاستمتاع بإشعال البايب الذي طالما حلم بتدخينه، وأثناء ذلك كانت زوجته تحاول أن تصفّر, لا يدري لماذا لكنه لم يهتم؟. ثم تُعيد الزوجة سرد الحكاية برؤيتها فندرك أن صفير الأولاد في الشارع جاءها عبر الشباك فتذكرت قدرتها على التصفيّر في طفولتها وأخذت تستعيد تلك الخبرة, أنها حاولت أن تحكي لزوجها السبب لكنه كان مستغرقاً في إشعال البايب.

الحكي عند البطلة يغلب عليه طابع الحميمية, فهي تبوح بأشياء خاصة جداً عن نفسها وعن علاقتها بزوجها. تراه رجلاً طيباً, لكنه رغاي لا يستمع إليها. تُدرك أنهما لو اتحدا لأصبح حل الكلمات المتقاطعة أسهل, مع ذلك يتسابقان في حلها كل بمفرده. تعترف أن زوجها لم يضايقها يوماً أثناء الحب, لكنها لا تشعر معه بالمتعة الجنسية كما تصورها بطلات السينما. في ذات الوقت تنفي عدم تحقق المتعة بشكل نهائي, لكنها تُؤكد أنها لم تصرخ يوماً من الإحساس بالمتعة. ربما لذلك تعتقد أن اليوم الذي يُصبح فيه الزواج بدون إلتزامات شرعية سيكون أفضل, فتُعيد إلى الأذهان قصص إغتصاب ملايين الرجال لزوجاتهم تحت مسمى "الحق الشرعي".

من تقاطع السرد نكتشف كيف كان كل منهما غارقاً في تجربته وعالمه الخاص, كيف تقدر المتع الصغيرة على جعل الانسان سعيداً, كيف يُمكن لنا أن نُحقق السعادة في نفس الظروف والأجواء والأماكن التي نحيا بها شريطة أن نراها بشكل مختلف, وقبل ذلك أن نمنح أنفسنا الفرصة للتعامل معها بشكل مختلف.. أن نُمسك بتلابيب اللحظات الصغيرة العذبة في الحياة فنعيشها ونمتصها كالصبار, ألا نتركها تتسرب من بين أيدينا لأنها زادنا في مواجهة قسوة الحاضر.. يكشف لنا الفيلم أن القضية ليست فيما إذا كنا نحيا على ذيول المتعة أم لا, لكن المشكلة الحقيقية تكمن في كيفية الاستمتاع بما نمتلك, في إدراك قيمة ما بين أيدينا وهو ما يتوافق مع مطلع أغنية "عشك يابلبل دا جنة " لفريد الأطرش " والتي وظفها المخرج بذكاء على مدار أحداث الفيلم فانتهت بإنتهائه.

أثناء وعقب مشاهدة فيلم "يوم الأثنين", استغرقتني حالة من المتعة البصرية والسمعية والفكرية على كافة المستويات بدءاً من الصورة, الديجيتال, بما فيها من كادرات وزوايا تصوير وإضاءة "إبراهيم البطوط", من القدرة على الحكي بأسلوب بسيط خالي من التعقيد لكنه أسلوب جذاب وعميق, من توظيف أغنية لها دلالتها, ومن أداء خالي من الإفتعال لبطلي العمل "حنان يوسف", "وبطرس غالي", من أسلوب المونتاج وتثبيت الصورة بعض لحظات لمواصلة الحكي عن المشاعر.

السرد البصري من أصعب طرق الحكي, لكنه من أبلغها وأقواها تأثيراً, لأن ما تقوله العيون والإشارات الجسدية مازالت ألفاظ اللغة تعجز عن التعبير عنه بدقة.. فالحوار, من وجهة نظري, لا يُمكن أن يكون في نفس قوة الصورة.. ربما لذلك السبب أميل أكثر إلى السينما التي تعتمد على الصورة, إلى السينما التي لا تلجأ إلى الحوار إلا في أضيق الحدود, إلى السينما التي تستعين بالحوار لتستكمل تفصيلة يصعب أو ربما يستحيل سردها بصرياً. لكنني بعد مشاهدة فيلم "تامر السعيد " توقفت لأتأمل أسلوبه السينمائي, ولأُعيد تفكيري في إمكانية أن تُعادل أهمية الحوار نفس أهمية الصورة السينمائية في بعض الأحيان.

في ذلك الفيلم إذا عزلنا المونولوج السردي للممثلين بعيداً عن الصورة ربما نشعر أننا أمام عمل إذاعي تتزايد به مساحة الخيال, لكن الإحساس الأرجح أن هذا المونولوج الذي كتبه "تامر السعيد" ليس إلا قصة قصيرة تتنافس بقوة مع قصص رائد القصة القصيرة في مصر والوطن العربي الكاتب الراحل "يوسف إدريس".. المُدهش في فيلم "يوم الأثنين" أن الصوت والصورة كانا عنصران رئيسيان فلم يطغى أى منهما على الآخر فى نسيج الفيلم, أن الصورة السينمائية, رغم إكتمال المونولج السردي, لم تُحد من خيال المتفرج, لكنها بجمالياتها المتنوعة جعلت السرد أكثر ثراءاً وأرحب خيالاً.

غير خُدوني

يشيع بين السينمائيين تعبير مفاده أن الأفلام الجيدة تمر بحالة مثل تعتيق الشراب , كلما مرت عليها الأيام كلما إزدادت نكهتها قوة وأصبح مذاقها أكثر متعة. وهو ماينطبق على فيلم "غير خدوني", تسجيلي طويل 53 دقيقة لمخرجه " تامر السعيد ".. كلما تُشاهد الفيلم تزداد إعجاباً به. لماذا؟!. لأنه في كل مرة نُعيد قراءته من جديد, في كل مرة نكتشف فيه شيئاً إنسانياً جديداً وعميقاً يجذبنا إليه بقوة.. و"غير خدوني" هى أغنية من التراث المغربي. قام بغنائها في منتصف السبعينيات فريق " ناس الغيوان" على لسان أحد المختطفين ومنذ ذلك الحين ظلت الأغنية نشيداً للمختطفين في المغرب.
يأخذ الفيلم خمسة أصدقاء مغاربة إلى المعتقل الذي سرق تسع سنوات من عمرهم ليقصوا ما حدث.. يُعيدون فتح بوابة السجان للتنقيب في قلب الصمت عما ضاع منهم في سنوات السجن. كانوا خمسة طلاب مغاربة في الحركة اليسارية السرية "إلى الأمام", تم إعتقالهم عام 1976 دون أن يعرفوا أبداً سبباً للقبض عليهم أو للإفراج عنهم.. في سجن "قلعة مكونة" في عاصمة الورود بالمغرب أذاقهم السجانون أقسى صنوف العذاب والإهانات الوحشية.. كانوا مُرشحين للموت لكنهم عزموا على أن يتحدوا الموت, أن يحيي واحداً منهنم على الأقل حتى يحكي للوجود عما حدث لهم.

اعتمد "تامر السعيد" في أسلوب إخراجه لذلك الفيلم على التناقض البين.. فهو ينتقل بسلاسة من الحديث عن الموت إلى المظاهر المفعمة بالحياة, من صناعة الورود بألوانها المبهجة الدافئة إلى جدران السجن الباردة المليئة بالعقارب والحشرات, من الحديث عن إغتصاب حرية المعتقلين وإنتهاك إنسانيتهم إلى أول إنتخابات تشريعية حرة في المغرب, من الإحساس القاتل بالجنون جراء الحبس الإنفرادي إلى خبر صعود المغرب لأول مرة إلى بطولة الأولمبياد, من جروح ودماء المعتقلين بين جدران السجن إلى زفاف ابنة عاهل المغرب, من غرف السجن في "قلعة مكونة", ودموع المعتقلين وذكرياتهم المؤلمة إلى حوار إحدي القنوات الأوروبية مع "الملك الحسن الثاني" ينفي ـ بابتسامة عريضة فيها رقة وقسوة الجلاد ـ وجود ذلك المعتقل ويُؤكد أنه مزار سياحي وأثري.

من خلال توظيفه البارع للتناقض نجح المخرج أن يكشف زيف المسئولين بسخرية لاذعة, أن يُسجيل لقطات إنسانية مُوجعة دون أن يصل بها إلى حدود المآساة.. ولم يُغفل الفيلم الحديث عن أسر المعتقلين والمفقودين, عن مشاعرهم وحياتهم في غياب فلذات أكبادهم, عن إنكار الأهل لأبنائهم, وعدم تعرف الإبناء على أمهاتهم, هل كان الخوف أم كانت سنوات الغياب والتجاعيد حفرها الزمن والبكاء والحزن على الأرواح قبل الأجساد؟.

كان "تامر" أحياناً يترك كاميرته تدور وتغوص عميقاً, تُسجل دون توقف ودون مونتاج للأحاسيس خصوصاً عندما كان "مولاي إدريس" يحكي عن حبيبته التي توهمت بعد طول غياب أنه مات فتزوجت, توقف " إدريس" عن الحكي خافضاً بصره مقاوماً دموعه التي انحدرت من عيونه.

من أجمل المشاهد التي أبدعت مونتاجها "منى ربيع", ساعدها في ذلك إحساس وخيال المخرج, تلك اللحظة التي تُفتح فيها بوابة السجن, فهي لم تتركها تُفتح بكاملها دفعة واحدة لكنها تنتقل عدة مرات بشكل سريع بين إنفراجة البوابة واستعادة ظلمات السجن, فجاءت اللقطات تُشبه من يفتح ثغرة في بوابة الزمن ليستحضر الماضي بقوة فيراه واقعاً ملموساً أمام ناظريه.

شريط الصوت المصاحب للصورة ـ المكون من الأغنية البديعة "غير خدوني", ومن موسيقى " أمير خلف", ومن مؤثرات طبيعية ومن لحظات الصمت ـ تماماً مثل الفيلم ومثل "يوم الأثنين" من الصعب أن يمر دون أن نشعر به, ودون أن يمس قلوبنا وعقولنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى